Yenişehir Wiki
Advertisement
Bakınız

D . Şablon:İşaratül İcaz bakınız


RNK: İŞARATÜ’L-İ’CAZ - İşarat'ül-İ'caz/Arabi
Risale:Beşinci Parça (Rumuzat-ı Semaniye)
İşarat'ül-İ'caz/Tenbih
İşarat'ül-İ'caz/İfadetü’l-Meram
İşarat'ül-İ'caz/Kur’an’ın Tarifi
İşarat'ül-İ'caz/Fatiha Suresi
İşarat'ül-İ'caz/Bakara Suresi 1- 2- 3. âyetler
İşarat'ül-İ'caz/Bakara Suresi 1- 2- 3. âyetler
İşarat'ül-İ'caz/Bakara Suresi 4-5. âyetler
İşarat'ül-İ'caz/Bakara Suresi 6. âyet
İşarat'ül-İ'caz/Bakara Suresi 7. âyet
İşarat'ül-İ'caz/Bakara Suresi 8. âyet
İşarat'ül-İ'caz/Bakara Suresi 9-10. âyetler
İşarat'ül-İ'caz/Bakara Suresi 11-12. âyetler
İşarat'ül-İ'caz/Bakara Suresi 13. âyet
İşarat'ül-İ'caz/Bakara Suresi 14-15. âyetler
İşarat'ül-İ'caz/Bakara Suresi 16. âyet
İşarat'ül-İ'caz/Bakara Suresi 17-18-19-20. âyetler
İşarat'ül-İ'caz/Bakara Suresi 21-22. âyetler .
İşarat'ül-İ'caz/Bakara Suresi 23-24. âyetler
İşarat'ül-İ'caz/Bakara Suresi 25. âyet
İşarat'ül-İ'caz/Bakara Suresi 26-27. âyetler
İşarat'ül-İ'caz/Bakara Suresi 28. âyet
İşarat'ül-İ'caz/Bakara Suresi 29. âyet
İşarat'ül-İ'caz/Bakara Suresi 30. âyet
İşarat'ül-İ'caz/Bakara Suresi 31-32-33. âyetler
Ecnebi Feylesofların Kur’an Hakkındaki Beyanatları
Mehmed Kayalar’ın Bir Müdafaası
Dua (İşaratü’l-İ’caz)
Fihrist (İşaratü’l-İ’caz)

كليات رسائل النور

إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز

تأليف

بديع الزمان سعيد النّورسي

تحقيق

إحسان قاسم الصالحي

مقدمة[]

بِسْم الله الرّحمن الرّحيم

المقدمة [1]

الدكتور محسن عبدالحميد

استاذ التفسير والفكر الاسلامي

جامعة بغداد


الحمـدلله رب العـالميـن، والصـلاة والسلام على من اُنزل عليه القرآن الحكيم محمد بن عبدالله خاتم الانبياء والرسل، وعلى آله واصحابه والتابعين لهم باحسان الى يوم الدين.

اما بعد:

فيكاد يجمع المنصفون من العلماء والدارسين المطلعين على تطور اوضاع المسلمين في العصور الاخيرة، ان الاستاذ الجليل بديع الزمان سعيد النورسى، كان شخصية اسلامية كبيرة، صادق الايمان، عظيم الاخلاص، عزيز النفس، عارفاً بحقائق التوحيد، نابغة من نوابغ الزمان، غزير العلم، نافذ الفكر، داعية ثبتاً الى الله تعالى على بصيرة، حمل هموم المسلمين منذ شبابه، وقضى حياته في الجهاد الدائب في سبيل توضيح عقيدة الاسلام وبيان علل احكامه، ودحض الافكار المنحرفة والفلسفات الجاحدة المناقضة له والتخطيط العملي لاجل انقاذ المسلمين من الغزو الفكري الجارف الذي تعرضوا له منذ اوائل القرن الرابع عشر الهجري، بل قبله.

ولقد لقى، رحمه الله تعالى في سبيل ذلك مالقى، مما ليس جزاؤه الا عند الله تعالى البصير بعباده الصالحين واوليائه الصادقين وعلمائه المجاهدين، الذين صدقوا العهد مع الله تعالى، ولم يخشوا فيه سبحانه لومة لائم.

وهذا الكتاب الذي بين يديك - قارئي العزيز - جليل القدر، رصين السبك، قوي الحجة، يمثل اجلى تمثيل القدرة السَرَيانية الفائقة للاستاذ النورسى، وراء المعاني الدقيقة في كتاباته كلها، لاسيما العلمية المختصة منها. ولقد كانت تلك موهبة عبقرية، وهبه الله تعالى اياه، لينظر في كتاب الله تعالى من خلالها ببصيرة نافذة، ومعرفة كلامية وبلاغية عميقة، وذوق ذاتي رفيع، ومنهج عقلي سديد، يلتمس الكشف عن الحقيقة، ويبغي ايصال الانسان الى اقتناع كامل بكون هذا القرآن معجزاً، بحيث يجد العقلاء والفصحاء في انفسهم ضرورة الايمان والاعتراف بانه الكتاب الحق الذي نزل من عند علام الغيوب على رسوله الاكرم محمد بن عبدالله عليه افضل الصلاة وازكى التسليم، كي يضع الانسانية على طريق دعوة الحق، وينور بصيرتها بنور الايمان، وادراك اليقين للوصول الى العبودية الخالصة لرب العالمين.

لقد استطاع الاستاذ النورسى ان يصقل موهبته الفذة بدراسة العلوم الاسلامية والفلسفات القديمة والعلوم الانسانية والصرفة المعاصرة، زيادة على اطلاعه الواسع على الادب والبلاغة العربية في كتب امثال الجاحظ والزمخشري والسكاكي لاسيما كتب النحوي البلاغي الكبير الامام عبد القاهر الجرجاني حيث آمن بنظريته المشهورة في النظم واعجب بها ايما اعجاب في هذا الكتاب.

ولم تكن نظرية النظم جديدة اخترعها الجرجاني من غير مقدمات، وانما لفت النظر اليها الجاحظ في كتابه نظم القرآن والواسطي في كتابه اعجاز القرآن في نظمه والباقلاني في كتابه اعجاز القرآن غير ان الجرجاني شرحها شرحا نحويا بيانيا وافيا مترابطا وصاغ منها نظرية متكاملة تقوم على اساس عدم الفصل بين اللفظ ومعناه وبين الشكل والمضمون وقرر ان البلاغة في النظم لافي الكلمة المفردة ولا في مجرد المعاني، دون تصوير الالفاظ لها. وبناء على ذلك فانه يعرّف النظم بانه: تعليق

الكلمة بعضها على بعض ، وجعل بعضها بسبب من بعض، اي تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه واصوله وتعرف مناهجه فلا تزيغ عنها.

وكأني بالاستاذ النورسى درس نظرية النظم هذه دراسة متقنة ثم ظهر له ان المفسرين الذين سبقوه كالزمخشري والرازي وابي السعود لم يحاولوا تطبيقها من حيث هي منظومة متكاملة تشمل ترتيب السور والآيات والالفاظ سورة بعد سورة وآية بعد آية ولفظا بعد لفظ، بتفاصيلها الكاملة فاراد ان يقتدي بهؤلاء المفسرين العظام فيؤلف تفسيراً يطبق فيه نظرية النظم تطبيقاً تفصيلياً شاملاً من حيث المباني والمعاني ومن حيث المعارف اللغوية والعقلية والذوقية، الكلية منها والجزئية، والتي اعتمد عليها في الكشف عن تفاصيل المنظومة القرآنية التي بها يظهر الاعجاز، وتتكشف دقائق خصائص الاسلوب القرآني التي خالفت خصائص التعبير العربي البليغ قبله، والتي حيرت البلغاء واخرست الفصحاء، ليحق عليهم التحدي المعجز الى يوم القيامة.

ولم تتوجه جهود النورسى الى بيان نظرية النظم، مقدمة لاثبات اعجاز القرآن البلاغي فحسب، بل اتجهت كذلك الى التغلغل في معاني الآيات، حيث اراد بناءها تفصيلاً على المرتكزات العقلية للوصول الى اظهار العقائد الاسلامية وارتباطها بحقائق الوجود.

ومن الواضح جدا لمن تأمل في الكتاب وترتيبه، انه كان يريد ان يؤلف تفسيراً كاملاً في هذا الاتجاه. ولو قدر للاستاذ - رحمه الله تعالى - ان ينهي عمله العظيم هذا كاملاً، اذن لقدّم تفسيراً بلاغياً وعقلياً كاملاً شاملاً، كان جديراً بان يأخذ منه عمره كله حيث كان من المحقق ان يحوي حينئذ عشرات المجلدات الضخام ، لو انه مشى في ضوء منهجه هذا الذي نقرأه في هذا الكتاب.

ولكن الله سبحانه وتعالى قدّر له الافضل من ذلك اذ وفقه لعمل اجلّ من ذلك واعظم. عمل استطاع فيه ان يضع مسلمي بلده في ظروف عصره في مواجهة القرآن الكريم، دون اشغالهم بقضايا بلاغته واعجازه اللغوي والتي لم تكن مشكلة عصره

من خلال التحقيق في جزئيات دقيقة لا يقوى على فهمها الا الخواص جداً. وكان من المؤكد حينئذ ان يبقى الجمهور الاعظم من المسلمين في عصره بمعزل عن الاستفادة من مواهبه الفذة وحماسه الايماني المنقطع النظير، وكذلك بمعزل عن الصراع الفكري الحضاري الرهيب غير المتكافئ مع الغزو الفكري المادي الجاحد، الذي بدأ يتسلل رويداً رويداً الى الحياة الاسلامية حتى تصدر السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والفن والاعلام في كثير من بلاد الاسلام.

من اجل ذلك، وقف النورسى عند هذا المجلد من التفسير، ودفعته ظروف عصره وبلده الى اتون الصراع، ولكن في قالب جديد ممثلا بـسعيد الجديد سمتُه الهدوء، والتدرج، والبناء، والنفوذ المحكم الى عقول المسلمين وقلوبهم دون صراخ عاطفي او تهريج مدمر، او صدامات فوقية، لم يكن الوضع الاسلامي يومئذ مهيئا لها ويقوى فيها على مجابهة الاعداء الاقوياء في الداخل والخارج.

لقد كان اسلوب رسائل النور في وضوحه الحاسم، وهدوئه العلمي الباهر، وبيانه الذوقي الرفيع، وحججه العقلية الدامغة هو البديل العصري الذكي لاسلوب اثبات اعجاز القرآن اللغوي والبياني والعقلي من خلال نظرية النظم، لان ما اثاره الاعداء لم يكن يتصل بالطعن في بلاغة القرآن او مناقشة ما يتعلق باعجازه او بتناسب سوره وآيه وكلماته. وانما كان يركز على شن هجوم عام شامل على اصول الايمان، وحكمة التشريعات، ومحاولة تفكيك النظام الاخلاقي الذي جاء به القرآن الكريم.

لقد وعى الاستاذ النورسى التغييرات الهائلة التي احدثها الصراع الجديد فتوجّه اليها بحقائق القرآن التي قدمها من خلال اصول المنطق العقلي الفطري وعلوم ومعارف عصره.

انه استطاع ان يثبت من خلال جزء كامل من هذا الكتاب اعجاز القرآن الكريم وبرهن للدارسين وطلاب الحقيقة، انه من السهل ان يستمر في ضوء منهجه العلمي والعقلي والذوقي الرفيع الى النهاية، اذن فليكن هذا كافيا، وليتوجه بكليته وبقية حياته العامرة الى القضية الاساس، وهي انقاذ ايمان المسلمين في عصر الصراع الاعلامي الرهيب، فأنتج في هذا المجال ايما انتاج من خلال عشرات الكتب والرسائل التي وجهها الى النشئ الجديد، لإلحاق الهزيمة العقيدية والفكرية باعداء الاسلام من الملاحدة وارباب التغريب.

على انني اظلم هذا الكتاب اذا ادعيت انه خلا من منهج مواجهة الصراع الجديد، بل ازعم هنا - على قدر ما لي من علم بافكار النورسى من خلال قراءتى لبعض رسائله في عهده الجديد - انه مامن فكرة شرحها او بسطها او مثَّل عليها الا تجد لها بذوراً موجزة او مفصلة في هذا الكتاب العلمي الرصين الذي بين يديك، لاسيما في عرض اصول العقائد الاسلامية باسلوب عصري علمي. غير انه اتجه في كتابه هذا الى مخاطبة خاصة تلامذته من خلال دمج المصطلحات الكلامية القديمة ببدايات منهجه الجديد الذي استقر عليه فيما بعد في رسائل النور.

ولعل هذا هو سر تسمية رسائل النور بانها تفسير حقيقي للقرآن الكريم، والحق ان تفسير القرآن ومخاطبة المسلمين بآياته لم يبارح قط فكر النورسى الى آخر لحظة من لحظات حياته الحافلة بالمحن والاحزان، والعلم والدعوة الى التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

ان نشر هذا الكتاب بثوبه الجديد هذا سيضع نموذجاً تحليلياً بلاغياً رائعاً امام المهتمين بالدراسات الاعجازية والبلاغية والنقدية المعاصرة. لاسيما في الاوساط العلمية. وسيجد المهتمون بدراسات العقائد الاسلامية من وجهة المنطق العقلاني زادهم فيه من خلال المباحث العقلية والعلمية العميقة التي قدمها الاستاذ تعليقاً على الايات التي حللها من اوائل سورة البقرة.

لقد احسن الاستاذ الفاضل احسان قاسم الصالحي بتحقيقه هذا الكتاب من جديد، حيث اغناه بتدقيقاته المفيدة وشروحه القيمة في الحواشي، وهذا فضل يكمل به افضاله السابقة على قراء العربية حين قضى سنوات عدة في ترجمة مجموعة متنوعة من رسائل النور التي دبجها يراع الامام الممتحن سعيد النورسى حجة الاسلام بحق في حياة تركيا الحديثة.

حياته العامرة الى القضية الاساس، وهي انقاذ ايمان المسلمين في عصر الصراع الاعلامي الرهيب، فأنتج في هذا المجال ايما انتاج من خلال عشرات الكتب والرسائل التي وجهها الى النشئ الجديد، لإلحاق الهزيمة العقيدية والفكرية باعداء الاسلام من الملاحدة وارباب التغريب.

على انني اظلم هذا الكتاب اذا ادعيت انه خلا من منهج مواجهة الصراع الجديد، بل ازعم هنا - على قدر ما لي من علم بافكار النورسى من خلال قراءتى لبعض رسائله في عهده الجديد - انه مامن فكرة شرحها او بسطها او مثَّل عليها الا تجد لها بذوراً موجزة او مفصلة في هذا الكتاب العلمي الرصين الذي بين يديك، لاسيما في عرض اصول العقائد الاسلامية باسلوب عصري علمي. غير انه اتجه في كتابه هذا الى مخاطبة خاصة تلامذته من خلال دمج المصطلحات الكلامية القديمة ببدايات منهجه الجديد الذي استقر عليه فيما بعد في رسائل النور.

ولعل هذا هو سر تسمية رسائل النور بانها تفسير حقيقي للقرآن الكريم، والحق ان تفسير القرآن ومخاطبة المسلمين بآياته لم يبارح قط فكر النورسى الى آخر لحظة من لحظات حياته الحافلة بالمحن والاحزان، والعلم والدعوة الى التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

ان نشر هذا الكتاب بثوبه الجديد هذا سيضع نموذجاً تحليلياً بلاغياً رائعاً امام المهتمين بالدراسات الاعجازية والبلاغية والنقدية المعاصرة. لاسيما في الاوساط العلمية. وسيجد المهتمون بدراسات العقائد الاسلامية من وجهة المنطق العقلاني زادهم فيه من خلال المباحث العقلية والعلمية العميقة التي قدمها الاستاذ تعليقاً على الايات التي حللها من اوائل سورة البقرة.

لقد احسن الاستاذ الفاضل احسان قاسم الصالحي بتحقيقه هذا الكتاب من جديد، حيث اغناه بتدقيقاته المفيدة وشروحه القيمة في الحواشي، وهذا فضل يكمل به افضاله السابقة على قراء العربية حين قضى سنوات عدة في ترجمة مجموعة متنوعة من رسائل النور التي دبجها يراع الامام الممتحن سعيد النورسى حجة الاسلام بحق في حياة تركيا الحديثة.

فجزى الله الاستاذ النورسى خير الجزاء ونفع المسلمين بعلمه وحججه الدامغة وكلماته النورانية الصادقة في خدمة كتاب الله تعالى وسنة رسوله الاكرم صلى الله عليه وسلم.

وفي ختام هذه الكلمات ادعو الله تعالى ان يوفق المحقق الكريم الى تقديم ترجمة كاملة لرسائل النور الى قراء العربية المجيدة. [2]

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

د. محسن عبدالحميد

كلية التربية - جامعة بغداد

2 شعبان 1407هـ



[1]   ثبتنا مقدمة الدكتور محسن عبد الحميد التى قدّمها مشكوراً للطبعة الاولى المطبوعة في العراق سنة 1409هـ  - 1989م - المحقق .


[2]   لقد استجاب المولى الكريم هذا الدعاء وامثاله من الدعوات الخالصة لاخوة كرام بررة فوفقنا  لترجمة كاملة لكليات رسائل النور وطبعها ونشرها، فالحمدلله اولاً وآخراً - المحقق.


هذا التحقيق[]

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

هذا التحقيق [1]

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد؛

ففي ايام قاحلة وشهور عجاف اكرمني الله العلي القدير بقراءة هذا التفسير الجليل قراءة لا ارجو من ورائها سوى شرح للصدر، وتغذية للروح وتنضير للذهن.

كررت قراءته مرات ومرات، فاطفأ - باذن الله - ظمأ القلب بعذبٍ برود.. ولكن..

ولكن لمست انه بحاجة الى تنسيق جديد وتحقيق سديد ليسهل تناوله ولا يتعذر فهمه لكل من يريد ان يستفيد.

وشاء القدر الإلهي ان يأتيني اخ كريم بنسخة مخطوطة منه واخر بطبعته الاولى، وقد كنت احتفظ بترجمته التركية وبطبعته الثانية والاخيرة.. فاستجمعت العناصر الاولى للتحقيق. فايفاءاً لشكره تعالى على ما أنعم عليّ واعداداً لنسخة جيدة من هذا التفسير الجليل هممت ان اقوم بتحقيقه، ولكن..

ولكن قصوري، وقلة خبرتي، وضخامة الموضوع، وجلال المقام، وخشية الزلل.. كانت تكّفني عن القيام بالتحقيق.. بيد ان النظر الى ما عند الله، وفضله العميم، والثقة به، وحسن القصد اليه في خدمة كتابه العزيز.. كانت تدفعني الى العمل.. فتخليت عن الإحجام ولازمت الإقدام متوكلاً على العلي العلام، وسرت بخطوات متئدة، كالآتي:

اول:قابلت بين النسخ التي توفرت لديّ وهي:

أ - نسخة بخط (الملا عبدالمجيد النورسي) [2] مصححة من قبل المؤلف نفسه. فأعتبرتها الأساس في التحقيق [3].

ب - الطبعة الاولى من الكتاب، المطبوع سنة 1334 في مطبعة (اوقاف اسلامية) باستانبول ومصححة من قبل المؤلف وعليها بعض الهوامش بخط يده. وقد رمزت اليها بـ(ط1).

ج - مخطوط بخط السيد (طاهر بن محمد الشوشي) [4] انتهى منه سنة 1373هـ، وضم فيه تعليقات واستدراكات جيدة على النسّاخ، مع وضع لعناوين صغيرة لاهم الموضوعات في الصفحة، وقد رمزت اليه بـ(ش). فكل اضافة او تعليق مذيل بـ(ش) هو منه.

د - الترجمة التركية له، والتي قام بها (الملا عبد المجيد النورسى) ونَشرَتْها (دار سوزلر في استانبول) سنة (1976). وقد رمزت اليها بـ(ت).

هـ - تحقيق قام به الشيخ صدرالدين البدليسي، حيث وضع بعض الهوامش وصحح اخطاء مطبعية، فرمزت اليها بـ(ب).

و - الطبعة الاخيرة المطبوعة في مؤسسة الخدمات الاجتماعية في بيروت سنة 1394 (1974) وقد لاحظت فيها:

1- ترجمة السيد عاصم الحسيني لمقدمة الكتاب التي كتبها الاستاذ النورسى بالتركية، اقتصرت على قسمٍ منها، فاجريتُ فيها تغييرات طفيفة لتفي بمراد المؤلف، ثم اتتمت ترجمة بقية المقدمة.

2- كلمة ثناء او (تقريظ) للشيخ صدرالدين البدليسي، وهي كلمة قيمة لبيان ظروف تأليف التفسير، ومقارنته مع تفاسير اخرى مشهورة، فأبقيتها كما هي.

3- هناك في ختام الكتاب ثلاث عشرة شهادة من شهادات الفلاسفة وعلماء اوربا حول أحقية القرآن، اهملتُها لركاكة ترجمتها اولاً ولعدم عثوري على اصولها كي اترجمها مجدداً، ووضعت بدلاً منها ما قدّمه الاستاذ الدكتور عمادالدين خليل مشكوراً فصلاً من كتابه القيم قالوا عن الاسلام وهو الفصل الاول الخاص بالقرآن الكريم، فألحقناه كاملاً بالكتاب، فجزاه الله خيراً على عمله الجليل.

ثاني:وبعد المقابلة او في اثنائها صححت الاخطاء المطبعية والاملائية، مع تشكيل وضبط الكثير من الكلمات، ثم عزوت الآيات الكريمة الى سورها. وخرّجت الاحاديث الشريفة الواردة فيه من الكتب المعتمدة المتوفرة لديّ، وبمساعدة الاخ الكريم فلاح عبد الرحمن. وتركنا قسما من الاحاديث كما هو، لعل الله يهئ لنا من المصادر الحديثية ما نتمكن من تخريجه، او يرشدنا اليه علماؤنا الافاضل.

ثالث:راجعت امهات القواميس كالمحيط والمصباح ومختار الصحاح وغيرها لتفسير بعض ما استغلق عليّ من كلمات..

رابعاً: استخرجت الامثال الواردة فيه، وقابلتها مع اصولها في مجمع الامثال للميداني.

خامس:وضحت بعض ما أُبهم عليّ من العبارات، استناداً الى الترجمة التركية، حيث جاءت فيها تلك العبارات اكثر وضوحا. وادرجتها في الهامش مع تذييلها بـ(ت) ورقم الصفحة.

سادس:استشكلت عليّ امور نحوية ومسائل لغوية. اضطرتني الى مراجعة امهات الكتب اللغوية كالمغني والاشموني وغيرهما، حتى اطمأن القلب وحصلت القناعة التامة بان ما اقره الاستاذ النورسى هو الصواب، او فيه جواز، وان ما الفته وتعلمته من قواعد النحو ما هو الا النزر اليسير من بحر محيط عظيم بل ما هو الا الوجه الشائع من بين وجوه كثيرة.

وبعد الفراغ من العمل بتوفيق الله سبحانه وتعالى، وضعت كل ماقمت به بين يدي اخي الاستاذ الدكتور محسن عبد الحميد ليدلني على عثراتي ويبصرني على ثغرات العمل؛ اذ هو الذي صاحَبَ الرازي سنين، ولازم الالوسى سنين اخرى، وخَبَر اصول التفسير وضوابطه درسا وتدريساً لسنين طويلة، ومازال، فكلل جهدي جزاه الله خيراً بمقدمة وافية شافية.

وبعد:

فلقد بذلت ما بوسعى في تحقيق الكتاب، ولست زاعما اني اوفيت حقه، ولكن حسبي انني حاولت، وبذلت ما استطعت ابتغاء ان يكون من العمل الصالح عندالله، ورجاء ان تنالي دعوة خالصة ممن ينتفع به.

والله نسأل ان يوفقنا الى حُسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.

وصلّ اللّهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


احسان قاسم الصالحي

ليلة النصف من شعبان سنة 1407


[1] ابقيت هذه المقدمة للتحقيق على ما هي عليه في الطبعة الاولى المطبوعة في العراق سنة 1409هـ - 1993م. الاّ ما استوجب من حذف واضافة ليوافق هذه الطبعة.- المحقق.

[2] وهو شقيق الاستاذ النورسى، كان مدرساً للغة العربية، ثم مفتياً ، ثم مدرساً للعلوم الاسلامية في المعهد العالي في قونيا، ترجم كثيراً من رسائل النور الى العربية، وترجم اشارات الاعجاز والمثنوى العربي النوري من العربية الى التركية. توفي سنة 1967 عن ثلاث وثمانين سنة من العمر. تغمده الله برحمته الواسعة.

[3] هذه النسخة مع مجموعتين كامتلتين من كليات رسائل النور المستنسخة باليد والمصححة من قبل المؤلف قد بعثها المؤلف سنة 1951م الى مدينة "أورفة " داخل صندوقين، وهي محفوظة الأن لدى الدكتور عبدالقادر بادللي، الذي تتلمذ على الأستاذ النورسي وزاره مرات كثيرة، وسعى في نشر الرسائل وما زال وترجم "المثنوي العربي النوري " ورسائل اخرى الى اللغة التركية، وله مصنفات عدة منها: حياة الأستاذ النورسي (3مجلدات) ومصادر الآيات والأحاديث الشريفة الواردة في رسائل النور، وغيرهما. مع مقالات كثيرة. وهو الذي يسّر لنا الإطلاع على النسخة الأصلية لـ "إشارات الإعجاز " فجزاه الله خيراً على عمله النبيل.

[4] وهو من قرية "شوش " التابعة لقضاء "عقرة " في شمالي العراق. قرأ العلوم الاسلامية وتضلّع بها. نذر خطه الجميل لرسائل النور، ولاسيما لاشارات الاعجاز، حيث كتب منها اربع نسخ علاوة على ما استنسخه من الرسائل المترجمة في وقته حتى كان يستنسخ بعضها في ضوء القمر. من تأليفاته "رياض النور " في سيرة الرسول الاعظم صلى الله عليه وسلم في ثلاثة عشر ألف بيت باللغة الكردية. توفي سنة 1962 عن اربع واربعين سنة من العمر. أسكنه الله فسيح جناته.



مقدمة الترجمة التركية[]

تنبيه

لقد تم تأليف تفسير اشارات الاعجاز في السنة الاولى من الحرب العالمية الاولى على جبهة القتال بدون مصدر او مرجع. وقد اقتضت ظروف الحرب الشاقة وما يواكبها من حرمان أن يُكْتب هذا التفسير في غاية الايجاز والاختصار لاسباب عديدة .

وقد بقيت الفاتحة والنصف الاول من التفسير على نحو اشد اجمالا واختصارا:

أول:لان ذلك الزمان لم يكن يسمح بالايضاح، نظراً الى ان (سعيداً القديم) كان يعبّر بعبارات موجزة وقصيرة عن مرامه.

ثاني:كان (سعيد) يضع درجة افهام طلبته الاذكياء جداً موضع الاعتبار. ولم يكن يفكر في فهم الآخرين .

ثالث:لما كان يبيّن أدق وأرفع ما في نظم القرآن من الايجاز المعجز، جاءت العبارات قصيرة ورفيعة.

بيد انني أجَلت النظر فيه الآن بعين (سعيد الجديد). فوجدت ان هذا التفسير بما يحتويه من تدقيقات، يعدّ بحق تحفة رائعة من تحف (سعيد القديم) بالرغم من اخطائه وذنوبه.

ولما كان ( اي سعيد القديم ) يتوثب لنيل مرتبة الشهادة اثناء الكتابة، فيكتب مايعنّ له بنية خالصة، ويطبق قوانين البلاغة ودساتير علوم العربية، لم استطع ان اقدح في اي موضع منه، اذ ربما يجعل الباري عز وجل هذا المؤلَّف كفارة لذنوبه ويبعث رجالاً يستطيعون فهم هذا التفسير حق الفهم.

ولولا موانع الحرب العالمية، فقد كانت النيّة تتجه الى ان يكون هذا الجزء وقفاً على توضيح الاعجاز النظمي من وجوه اعجاز القرآن ، وان تكون الاجزاء الباقية كل واحد منها وقفاً على سائر اوجه الاعجاز.

ولو ضمت الاجزاء الباقية حقائقَ التفسير المتفرقة في الرسائل لأصبح تفسيراً بديعاً جامعاً للقرآن المعجز البيان .

ولعل الله يبعث هيئة سعيدة من المنورين تجعل من هذا الجزء ومن الكلمات و المكتوبات الست والستين، بل المائة والثلاثين من اجزاء رسائل النور مصدراً، وتكتب في ضوئه تفسيراً من هذا القبيل.(*)

سعيد النورسي


(*) ان هذا التفسير القيم بين دفتيه نكاتٍ [1] بلاغية دقيقة، قد لايفهمها كثير من القراء، ولايعيرون لها اهتمامهم، ولاسيما ما جاء ضمن الآيتين اللتين تصفان حال الكفار والآيات الأثنتى عشرة الخاصة بالمنافقين.

ان ذكر نكات دقيقة في تلك الآيات والاقتصار على بيان دقائق دلالات الفاظها وبدائع اشاراتها باهتمام بالغ، من دون تفصيل لماهية الكفر، مع تطرق يسير الى الشبهات التي يلتزمها المنافقون - خلافاً لما جرى في سائر الآيات من تحقيق وتفصيل - اقول ان سبب ذلك كله نلخصه في نكات ثلاث:

النكتة الاولى:

لقد احسّ سعيد القديم - بفيض من القرآن الكريم - انه سيظهر في هذا الزمان المتأخركفار لا يهتدون بكتاب ومنافقون من الاديان السابقة، كما ظهروا في بداية الاسلام، فاكتفى ببيان النكات الدقيقة لتلك الآيات من دون ان يخوض في حقيقة

مسلكهم وبيان نقاط ارتكازهم، بل تركها مجملة دون تفصيل، لئلا يعكّر صفو اذهان القراء الكرام. ومن المعلوم ان نهج رسائل النور هو: عدم ترك أثرٍ سئٍ مهما كان في ذهن القارئ، اذ تجيب اجوبة قاطعة على الشبهات التي يثيرها اعداء الاسلام من دون ان تذكر الشبهة نفسها - بخلاف سائر العلماء - فتسد بهذا دخول اية شبهة كانت في ذهن القارئ. فانتهج سعيد القديم في تفسيره هذا مسلك رسائل النور، فأولى اهتمامه بالجانب البلاغي لتلك الآيات وبيان الفاظها واشاراتها لئلا يكدّر الاذهان ويعكر صفوها.

النكتة الثانية:

لما كانت قراءة كل حرف من القرآن الكريم فيها عشر حسنات أو مائة حسنة أو ألفاً من ثمرات الآخرة أو الوفاً منها، فلا يعدّ اذن ايضاح سعيد القديم لنكات دقيقة تخص كلمات القرآن الكريم اسرافاً في الكلام، اذ رغم دقة الاهداب وصغر بؤبؤ العين فإن لهما اهمية عظمى. فلقد احسّ سعيد القديم في النكات البلاغية مثل هذه الاهمية، لذا لم تثنه شراسة المعارك وهول الحرب في الجبهة الامامية عن املاء ادق النكات القرآنية على تلاميذه .

النكتة الثالثة:

ان الترجمة التركية لهذا التفسير لم توف بلاغته الفائقة حق الوفاء، بل جاءت مختصرة في مواضع عدة. وسنلحق بها - باذن الله - التفسير العربي رفعاً لهذا النقص ما لم يكن من مانع. فيرجى بذل المستطاع ليكون طبعه مطابقاً للاصل محافظاً على توافقاته الرائعة التي لم تمسها ارادة انسان، وذلك لئلا تضيع علامات قبوله.


سعيد النورسي


[1] لنكتة: هى مسألة لطيفة اُخرجت بدقة نظر وإمعان فكر، وسميت المسألة الدقيقة نكتة لتأثير الخواطر في استنباطها - "التعريفات للجرجاني".



افادة المرام[]

اقول:لما كان القرآنُ جامعاً لأشتات العلوم وخطبةً لعامة الطبقات في كل الاعصار، لا يتحصّل له تفسير لائق من فهم الفرد الذي قلما يخلُص من التعصب لمسلكه ومشربه؛ اذ فهمُه يخصُّه ليس له دعوة الغير اليه إلاّ ان يُعدّيه [1] قبول الجمهور. واستنباطُه - لا بالتشهي - له العمل لنفسه فقط، ولا يكون حجةً على الغير إلاّ ان يصدّقه نوعُ اجماع.

فكما لابد لتنظيم الاحكام واطرادها ورفع الفوضى - الناشئة من حرية الفكر مع اهمال الاجماع - من وجود هيئة عالية من العلماء المحققين الذين - بمظهريتهم لأمنية العموم واعتماد الجمهور - يتقلدون كفالة ضمنية للامة، فيصيرون مظهر سرَّ حجِّيةِ الاجماع الذي لاتصير نتيجةُ الاجتهاد شرعاً ودستوراً الاّ بتصديقه وسكّته[2]؛ كذلك لابد لكشف معاني القرآن وجمع المحاسن المتفرقة في التفاسير وتثبيت حقائقه - المتجلية بكشف الفن [3] وتمخيض الزمان - من انتهاض هيئة عالية من العلماء المتخصصين، المختلفين في وجوه الاختصاص، ولهم مع دقةِ نظر وُسْعةُ [4] فكرٍ لتفسيره.

نتيجة المرام :

انه لابد ان يكون مفسر القرآن ذا دهاء عال واجتهاد نافذ وولاية كاملة. وماهو الآن إلاّ الشخص المعنوي المتولد من امتزاج الارواح وتساندها وتلاحق الافكار وتعاونها وتظافر القلوب واخلاصها وصميميتها، من بين تلك الهيئة. فبسر للكل حكمٌ ليس لكلٍ كثيراً مايُرى آثارُ الاجتهاد وخاصةُ الولاية، ونورُه وضياؤها [5]، من جماعة خَلَتْ منها افرادُها.

ثم اني بينما كنت منتظراً ومتوجهاً لهذا المقصد بتظاهر هيئة كذلك - وقد كان هذا غاية خيالي من زمان مديد - اذ سنح لقلبي من قبيل الحس قبل الوقوع تقرّب زلزلة عظيمة [6]، فشرعتُ - مع عجزي وقصوري والاغلاق في كلامي - في تقييد ما سنح لي من اشارات اعجاز القرآن في نظمه وبيان بعض حقائقه، ولم يتيسر لي مراجعة التفاسير. فان وافقها فبِها ونِعْمَتْ والاّ فالعُهدة عليّ.

فوقعتْ هذه الطامة الكبرى.. ففي اثناء اداء فريضة الجهاد كلما انتهزتُ فرصة في خط الحرب قيدتُ مالاح لي في الاودية والجبال بعبارات متفاوتة باختلاف الحالات. فمع احتياجها الى التصحيح والاصلاح لايرضى قلبي بتغييرها وتبديلها؛ اذ ظهرتْ في حالة من خلوص النية لا توجد الآن، فاعرضها لأنظار اهل الكمال لا لأنه تفسير للتنزيل، بل ليصير - لو ظفر بالقبول - نوعَ مأخذٍ [7] لبعض وجوه التفسير. وقد ساقني شوقي الى ماهو فوق طوقي، فان استحسنوه شجعوني على الدوام.

ومن الله التوفيق.

سعيد النورسي


[1] عدّى الشئ: اجازه وأنفذه.

[2] سكة: شارة الدولة الموضوعة على مسكوكاتها.

[3] العلم الحديث.

[4] وُسعة واتساع وسعة بمعنى الطاقة والقدرة.

[5] نور الاجتهاد وضياء الولاية.


[6] لقد اخبرنا مراراً في اثناء الدرس وقوع زلزلة عظيمة (بمعنى الحرب العمومية فوقعت كما اخبرنا).

حمزة . محمد شفيق . محمد مهرى. (هؤلاء من تلاميذ المؤلف).

[7] المصدر والمرجع.


لمعة من تعريف القرآن[]

فان قلت: القرآن ما هو؟

قيل لك: هو الترجمةُ الازلية لهذه الكائنات، والترجمانُ الابدي لألسنتها التاليات للآيات التكوينية، ومفسّرُ كتاب العالَم.. وكذا هو كشافٌ لمخفيات كنوز الاسماء المستترة في صحائف السموات والارض.. وكذا هو مفتاحٌ لحقائق الشؤون المضْمَرة في سطور الحادثات.. وكذا هو لسان الغيب في عالم الشهادة..وكذا هو خزينةٌ للمخاطبات الازلية السبحانية والالتفاتات الابدية الرحمانية.. وكذا هو أساسٌ وهندسةٌ وشمسٌ لهذا العالم المعنوي الاسلامي.. وكذا هو خريطةٌ للعالم الأُخروي.. وكذا هو القولُ الشارح والتفسيرُ الواضح والبرهان القاطع والترجمان الساطع لذات الله وصفاته واسمائه وشؤونه.. وكذا هو مربٍّ للعالم الانساني، وكالماء وكالضياء للانسانية الكبرى التي هي الاسلامية.. وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر، وهو المرشد المهدي الى ما خُلِقَ البشرُ له.. وكذا هو للانسان: كما انه كتابُ شريعةٍ كذلك هو كتاب حكمةٍ، وكما انه كتابُ دعاء وعبودية كذلك هو كتابُ امرٍ ودعوة، وكما انه كتابُ ذكرٍ كذلك هو كتابُ فِكر، وكما انه كتابٌ واحد لكن فيه كتبٌ كثيرةٌ في مقابلة جميع حاجات الانسان المعنوية، كذلك هو كمنزل مقدسٍ مشحون بالكتب والرسائل . حتى انه قد أبرز لمشْرَب كلِّ واحدٍ من اهل المشارب المختلفة، ولمسلك كلِّ واحدٍ من اهل المسالك المتباينة من الاولياء والصديقين ومن العرفاء والمحققين رسالةً لائقةً لمذاق ذلك المشرب وتنويره، ولمساق ذلك المسلك وتصويره حتى كأنه مجموعة الرسائل.

سعيد النورسي


مقاصد القرآن الاربعة[]

بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيْم

(اَلرَّحْمنُ * عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ * خَلَقَ الاِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ )

فنحمده مصلين على نبيه محمد الذي ارسله رحمة للعالمين وجعل معجزته الكبرى الجامعة برموزها واشاراتها لحقائق الكائنات باقية على مر الدهور الى يوم الدين وعلى آله عامة واصحابه كافة.

أما بعد؛ فاعلم!

اولاً: ان مقصدنا من هذه الاشارات تفسير جملة من رموز نظْمِ القرآن؛ لأن الاعجاز يتجلى من نظمه. وما الاعجاز الزاهر الاّ نقشُ النظم.

وثانياً: ان المقاصد الاساسية من القرآن وعناصره الاصلية اربعة: التوحيد والنبوة والحشر والعدالة؛ لانه:

لما كان بنو آدم كركبٍ وقافلةٍ متسلسلةٍ راحلةٍ من أودية الماضي وبلاده، سافرةٍ في صحراء الوجود والحياة، ذاهبةٍ الى شواهق الاستقبال، متوجهةٍ الى جنّاته، فتهتز بهم المناسبات وتتوجه اليهم الكائنات. كأنه اَرسلَتْ حكومةُ الخِلقة فَنَّ الحكمةِ مستنطقا وسائلاً منهم بـ "يا بني آدم! مِن أين؟ الى أين؟ ماتصنعون؟ مَنْ سلطانكم؟ مَنْ خطيبكم؟"

فبينما المحاورة، اذ قام من بين بني آدم - كأمثاله الأماثل من الرسل اولي العزائم - سيّدُ نوعِ البشر محمّد الهاشمي صلى الله عليه وسلم وقال بلسان القرآن:

"ايها الحكمة [1]! نحن معاشر الموجودات نجئ بارزين من ظلمات العدم بقدرة سلطان الازل، الى ضياء الوجود.. ونحن معاشر بني آدم بُعِثْنا بصفة المأمورية ممتازين من بين اخواننا الموجودات بحمل الامانة.. ونحن على جناح السفر من طريق الحشر

الى السعادة الابدية، ونشتغل الآن بتدارك تلك السعادة وتنمية الاستعدادات التي هى رأسُ مالِنا.. وانا سيُّدُهم وخطيبهم. فها دونكم منشوري! وهو كلام ذلك السلطان الأزلي تتلألأ عليه سكّةُ الاعجاز. والمجيب عن هذه الاسئلة الجوابَ الصواب ليس الا القرآنُ، ذلك الكتاب..

كان [2] هذه الاربعة عناصره الاساسية.

فكما تتراءى هذه المقاصد الاربعة في كله، كذلك قد تتجلى في سورةٍ سورة، بل قد يُلْمَح بها في كلامٍ كلام، بل قد يُرْمَز اليها في كلمةٍ كلمة؛ لان كل جزء فجزء كالمرآة لكلٍ فكلٍ متصاعداً، كما ان الكل يتراءى في جزءٍ فجزءٍ متسلسلا.

ولهذه النكتة - اعني اشتراك الجزء مع الكل - يُعرّف القرآنُ المشخَّصُ كالكلي ذي الجزئيات؟.

ان قلت : ارني هذه المقاصد الاربعة في "بسم الله" وفي "الحمد لله".

قلت:لما اُنزل (بسم الله) لتعليم العباد كان "قُلْ" مقدَّراً فيه. وهو الأُمّ في تقدير الاقوال القرآنية [3]. فعلى هذا يكون في "قل"اشارة الى الرسالة.. وفي (بسم الله) رمز الى الالوهية.. وفي تقديم الباء تلويحٌ الى التوحيد [4].. وفي (الرحمن) تلميحٌ الى نظام العدالة والاحسان.. وفي (الرحيم) ايماء الى الحشر.

وكذلك في (الحمد لله) اشارةٌ الى الالوهية.. وفي لام الاختصاص رمزٌ الى التوحيد.. وفي (رب العالمين) ايماء الى العدالة والنبوة ايضا؛ لان بالرسل تربيةُ نوع البشر.. وفي (مالك يوم الدين) تصريح بالحشر.

حتى ان صَدَف (اِنَّا اَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) [5] يتضمن هذه الجواهر. هذا مثالا فانسج على منواله.


[1] اى: ايها الفن المسمى بالحكمة. والفن يطلق على كل علم، والحكمة: علم يبحث عن حقائق الاشياء على ما هى عليه في الوجود بقدر الطاقة البشرية، فهى علم نظرى غير آلي (التعريفات).

الى السعادة الابدية، ونشتغل الآن بتدارك تلك السعادة وتنمية الاستعدادات التي هى رأسُ مالِنا.. وانا سيُّدُهم وخطيبهم. فها دونكم منشوري! وهو كلام ذلك السلطان الأزلي تتلألأ عليه سكّةُ الاعجاز. والمجيب عن هذه الاسئلة الجوابَ الصواب ليس الا القرآنُ، ذلك الكتاب..


[2] جواب لما .. (المؤلف).

[3] اى: يا محمد! قل هذا الكلام وعلّمه الناس (ت: 13)

[4] حيث يفيد الحصر. (ت: 13)

[5] وهى من اقصر السور القرآنية.


الفاتحة[]

(بِسْمِ الله)[]

كالشمس يضئ نَفْسَه كغيرِه، فاستغنى. حتى ان باءه متعلقة بالفعل المفهوم من معناها - اي: استعين به، او المفهوم عرفاً، أي: أتَيمّن به، أو بما يستلزمه "قل" المقدَّر من "أقرأ" - المؤخّر للاخلاص والتوحيد [1].

اما "الاسم" فاعلم! ان لله اسماء ذاتية، واسماء فعلية متنوعة كالغفار والرزاق والمحيي والمميت وأمثالها. وتنوّعُها وتكثُّرها بسبب تعدد نسبة القدرة الازلية الى انواع الكائنات [2]. فكأن (بسم الله) استنزالٌ لتأثير وتعلق القدرة ليكون ذلك التعلقُ روحاً مُمدّاً لكسب العبد.

(الله) لفظة الجلال نسخةٌ جامعة لجميع الصفات الكمالية لدلالتها التزاماً عليه؛ بسر استلزام ذاته تعالى لصفاته بخلاف سائر الأَعلام، لعدم الاستلزام.


(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)[]

وجه النظم: ان لفظ الجلال كما يتجلى منه الجلال بسلسلته، كذلك يتراءى الجمال بسلسلته من (الرحمن الرحيم). اذ الجلال والجمال اصلان تسلسل منهما - بتجليهما في كل عالم - فروعٌ: كالامر والنهي، والثواب والعذاب، والترغيب والترهيب، والتسبيح والتحميد، والخوف والرجاء الى آخره. .

وايضا كما ان لفظ الجلال اشارة الى الصفات العينية والتنزيهية؛ كذلك "الرحيم"ايماء الى الصفات الغيرية الفعلية؛ و"الرحمن" رمز الى الصفات السبع التي هي لا عينٌ ولاغيرٌ؛ اذ "الرحمن" بمعنى الرزاق، وهو عبارة عن اعطاء البقاء . والبقاءُ تكررُ الوجود. والوجود يستلزم صفة مُمَيِّزة وصفة مُخَصِّصَة وصفة مُؤَثِّرَة، وهي العلم والارادة والقدرة. والبقاء الذي هو ثمرة اعطاء الرزق يقتضي عُرفاً ثبوت البصر والسمع والكلام؛ اذ لابد للرزاق من البصر ليرى حاجة المرزوق إن لم يَطلب، ومن السمع ليستمع كلامه إن طلب، ومن الكلام ليتكلم مع الواسطة إن كانت . وهذه الست تستلزم السابعة التي هي الحياة.

ان قلت : تذييل "الرحمن" الدال على النِعَمِ العظيمة بـ "الرحيم" الدال على النعم الدقيقة يكون صنعة التدلّي. والبلاغة في صنعة الترقِّي من الادنى الى الاعلى؟

قلت:تذييلٌ للتتميم كالاهداب للعين واللجام للفرس.. وايضا لما توقفت العظيمةُ على الدقيقة، كانت الدقيقة ارقى كالمفتاح للقفل واللسان للروح.. وايضا لما كان هذا المقام مقام التنبيه على مواقع النِعَمِ كان الأخفى أجدر بالتنبيه، فيكون صنعةُ التدلِّي في مقام الامتنانِ والتعدادِ صنعةَ الترقِّي في مقام التنبيه.

ان قلت : "الرحمن" و"الرحيم" كامثالهما بمبادئها محالٌ في حقه تعالى كرقَّةِ القلب. وان اُريد منها النهايات [3]فما حكمة المجاز؟

قلت:هي حكمة المتشابهات [4]؛ وهي التنزلات الالهية الى عقول البشر؛ لتأنيس الاذهان وتفهيمها، كمن تكلم مع صبيّ بما يألفه ويأنس به. فان الجمهور من الناس يجتنون معلوماتهم عن محسوساتهم ولا ينظرون الى الحقائق المحضة الا في مرآة متخيلاتهم ومن جانب مألوفاتهم.. وايضا المقصود من الكلام: افادةُ المعنى، وهي لاتتم الا بالتأثير في القلب والحس، وهو لايحصل الا بإلباس الحقيقة اسلوبَ مألوف المخاطب وبه يستعد القلب للقبول.


(الحَمْدُ)[]

وجه النظم مع ما قبله: ان "الرحمن" و"الرحيم" لما دلّتا على النِعَم استوجبتا تعقيب الحمد. ثم ان (الحمد لله) قد كُرِّرَت في أربع سُوَرٍ من القرآن [5]، كل واحدة منها ناظرة الى نعمة من النعم الاساسية التي هي: النشأة الاولى، والبقاء فيها؛ والنشأة الاُخرى، والبقاء بعدها. [6]

ثم وجه نظمه في هذا المقام، أي جعله فاتحةَ فاتحةِ القرآن هو: انه كتصوّر العلة الغائية [7] المقَدَّم في الذهن؛ لان الحمدَ صورةٌ اجمالية للعبادة التي هي نتيجةٌ للخِلقة، والمعرفةِ التي هي حكمةٌ وغايةٌ للكائنات. فكأن ذكره تصورٌ للعلة الغائية.. وقد قال عز وجل (وماخلقتُ الجنَّ والإِنس الاّ ليعبدون) [8]

ثم ان المشهور من معاني الحمد اظهار الصفات الكمالية.

وتحقيقه:ان الله سبحانه خلق الانسان وجعله نسخة جامعة للكائنات، وفهرستة [9] لكتاب العالَم المشتمل على ثمانية عشر الف عالَم، وأودع في جوهره انموذجاً من كل عالَم تجلى فيه اسمٌ من اسمائه تعالى. فاذا صرفَ الانسانُ كل مااُنعِمَ عليه الى ماخُلِقَ لأجله ايفاءً للشكر العرفي - الداخل تحت الحمد - وامتثالاً للشريعة التي هي جلاء لصدأ الطبيعة، يصيرُ كلُّ انموذجٍ مشكاةً لعالَمِهِ ومرآةً له وللصفة المتجلية فيه والاسم المتظاهر منه. فيكون الانسان بروحه وجسمه خلاصةَ عالمَيْ الغيب والشهادة، ويتجلى فيه ما تجلى فيهما.

فبالحمد يصير الانسان مظهراً للصفات الكمالية الالهية. يدل على هذا قول محي الدين العربي [10] في بيان حديث (كُنْتُ كَنْزَاً مَخْفِيًّا فَخَلًقْتُ الْخَلْقَ لِيَعْرِفُوني) [11] أي : فخلقت الخلق ليكون مرآةً أشاهِدُ فيها جمالي.

(لله) أي الحمد مختص ومستحق للذات [12] الاقدس المشخص الذي يُلاحَظ بمفهوم "الواجب الوجود" [13] اذ قد يلاحظ المشخص بأمر عام. وهذه اللام متعلقة بمعنى نفسها،كأنها تشربت معنى متعلقها [14]. وفي اللام اشارة الى الاخلاص والتوحيد.

(رَبِّ) أي الذي يربّي العالم بجميع اجزائه، التي كلٌ منها كالعالم عالَم؛ وذرَّاتهُ كنجومه متفرِّقةٌ متحرِّكة بالانتظام.

واعلم! ان الله عز وجل عيّن لكل شئ نقطةَ كمالٍ وأودع فيه ميلاً اليها، كأنه أمَرَه أمراً معنويا ان يتحرك به اليها، وفي سفره يحتاج الى ما يُمدُّه ودفع ما يَعوقهُ، وذلك بتربيته عز وجل. لو تأملت في الكائنات لرأيتها كبني آدم طوائف وقبائل يشتغل كلٌ منفرداً ومجتمعاً بوظيفته التي عيَّنَها له صانِعُه ساعياً مُجدّاً مطيعا لقانون خالقه. فما اعجب الانسان كيف يشذّ!

(الْعَالَمِينَ) الياء والنون إما: علامة للاعراب فقط كـ "عشرين وثلاثين".. أو للجمعية؛ لأن اجزاء العالم عَوالم.. أو العالمُ ليس منحصراً في المنظومة الشمسية. قال الشاعر:

الَحَمْدُ لله كَمْ لله مِنْ فَلَكٍ تَجرِي النّجُومُ بِهِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ

وآثرَ جمعَ العقلاء مثل (رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) [15] اشارةً الى ان نظرَ البلاغة يصوّر كل جزء من أجزاء العالم بصورةِ حيّ عاقلٍ متكلِّم بلسان الحال. اذ العالَم اسمُ مايُعلَمُ به الصانعُ ويشهدُ عليه ويشير اليه. فالتربية والإعلامُ يُومِيان - كالسجود - الى انها كالعقلاء.


(الْرَّحْمن الْرَّحِيمِ)[]

وجه النظم: انهما اشارتان الى أساسَيْ التربية؛ اذ "الرحمن" لكونه بمعنى الرزاق يلائم جلب المنافع؛ و"الرحيم" لكونه بمعنى الغفار يناسب دفع المضار وهما الاساسان للتربية.


(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)[]

اي يوم الحشر والجزاء.

وجه النظم: انه كالنتيجة لسابقه؛ اذ الرحمة من أدلة القيامة والسعادة الابدية؛ لان الرحمة انما تكون رحمةً، والنعمة نعمةً إذا جاءت القيامة وحصلت السعادة الابدية. وإلاّ فالعقلُ الذي هو من اعظم النِعَم يكون مصيبةً على الانسان، والمحبة والشفقة اللتان هما من ألطف انواع الرحمة تتحولان ألماً شديداً بملاحظة الفراق الابدي.

إن قلت : ان الله تعالى مالكٌ لكل شئ دائما فما وجه الاختصاص؟ [16]

قلت:للاشارة الى ان الاسباب الظاهرية التي وضَعَها الله تعالى في عالم الكون والفساد لإظهار عظمته - أي لئلا يُرى في ظاهر نظر العقل مباشرةُ يد القدرة بالامور الخسيسة في جهة مُلْك الأشياء - ترتفع في ذلك اليوم وتتجلّى ملكوتيةُ كل شئ صافيةً شفّافةً، بحيث يَرى ويَعرف كلُ شئ سيِّدَه وصانِعَه بلا واسطة. وفي التعبير بلفظ "اليوم" إشارة الى امارة حدسية من امارات الحشر بناء على التناسب البيّن بين اليوم والسنة، وعمر البشر ودوران الدنيا. كالكائن بين اَمْيال الساعة العادّة للثواني والدقائق والساعات والايام. فكما ان مَن يرى ميلاً أتمَّ دَوْرَه يحدس في نفسه ان من شأن الآخر أيضاً ان يتم دوره وإن كان بمهلة؛ كذلك ان من يرى القيامة النوعية المكررة في أمثال اليوم والسنة يتحدس بتولد ربيع السعادة الأبدية في صبح يوم الحشر للإنسان الذي شخصُه كنوعٍ.

والمراد من (الدّين) إمّا الجزاء، أي يوم جزاء الأعمال الخيرية والشرية، أو الحقائق الدينية، أي يوم طلوعها وظهورها وغلبة دائرة الاعتقاد على دائرة الاسباب؛ لأن الله عز وجل أودع بمشيئته في الكائنات نظاماً يربط الاسباب بالمسببات وألجأ الانسان بطبيعته ووهمه وخياله الى ان يراعي ذلك النظام ويرتبط به. وكذا وجّه كل شئ اليه وتَنَزَّه عن تأثير الاسباب في مُلكه. وكلّف الانسان اعتقاداً وايماناً بان يراعي تلك الدائرة بوجدانه وروحه ويرتبط بها. ففي الدنيا دائرة الاسباب غالبة على دائرة الاعتقاد؛ وفي الأُخرى تتجلى حقائق العقائد غالبة على دائرة الاسباب.

واعلم! ان لكلٍ من هاتين الدائرتين مقاماً معيناً وأحكاماً مخصوصة، فلابد ان يُعطى كلٌّ حقّه. فمن نظر في مقام دائرة الاسباب بطبيعته ووهمه وخياله ومقاييس

الاسباب، الى دائرة الاعتقاد اضطر الى الاعتزال. ومن نظر في مقام الاعتقاد ومقاييسه بروحه ووجدانه الى دائرة الاسباب أنتج له توكلا تَنْبَلِياً [17] وتمرداً في مقابلة المشيئة النظامة.


( اِيَّاكَ نَعْبُدُ )[]

في "الكاف" نكتتان:

احداهم:تضمن الخطاب بسر الالتفات [18] للاوصاف الكمالية المذكورة، اذ ذكرها شيئاً شيئاً يحرّك الذهن ويُعدّه ويملأُهُ شوقاً ويهزه للتوجه الى الموصوف. فـ"اياك" أي: يامن هو موصوف بهذه الصفات.

والاخرى:ان الخطاب يشير الى وجوب ملاحظة المعاني في مذهب البلاغة ليكون المقروء كالمُنْزَل، فينجر طبعاً وذوقاً الى الخطاب. فـ "ايّاك" يتضمن الامتثال بـ(أُعْبُدْ رَبَّكَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ). [19]

والتكلم مع الغير في (نعبد) لوجوه ثلاثة:

أي نعبد نحن معاشر أعضاء وذرّات هذا العالم الصغير - وهو أنا - بالشكر العرفي الذي هو إطاعة كلٍ لما أُمر به.. ونحن معاشر الموحّدين نعبدك باطاعة شريعتك.. ونحن معاشر الكائنات نعبد شريعتك الكبرى الفطرية[20] ونسجد بالحيرة والمحبة تحت عرش عظمتك وقدرتك.

وجه النظم: ان "نعبد" بيان وتفسير لـ "الحمد" ونتيجة ولازم لـ (مالك يوم الدين).

واعلم! ان تقديم "اياك" للاخلاص الذي هو روح العبادة. وان في خطاب الكاف رمزاً الى علة العبادة لان من اتصف بتلك الاوصاف الداعية الى الخطاب استحق العبادة.

(وَاِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) هذه كـ (ايَّاك نعبد) باعتبار الجماعات الثلاث:

اي نحن معاشر الاعضاء ومعاشر الموحِّدين ومعاشر الكائنات نطلب منك التوفيق والاعانة على كل الحاجات والمقاصد التي أهمها عبادتك.

كرَّرَ "اياك" لتزييد لذة الخطاب والحضور.. ولأن مقام العيان أعلى وأجلّ من مقام البرهان.. ولأن الحضور أدعَى الى الصدق وبأن لايكذب.. ولاستقلال كلٍّ من المقصدين.

واعلم! ان نظم "نستعين" مع "نعبد":

كنظم الاجرة مع الخدمة، لأن العبادة حق الله على العبد، والاعانة إحسانُه تعالى لعبده. وفي حصر "اياك" إشارة الى ان بهذه النسبة الشريفة التي هي العبادة والخدمة له تعالى يترفَّعُ العبد عن التذلل للاسباب والوسائط، بل تصير الوسائطُ خادمةً له وهو لايعرف الا واحدا، فيتجلى حُكْمُ دائرة الاعتقاد والوجدان كما مر. ومن لم يكن خادما له تعالى بحق يصير خادماً للاسباب ومتذللاً للوسائط. لكن يلزم على العبد وهو في دائرة الاسباب ان لايهمل الاسباب بالمرة لئلا يكون متمردا في مقابلة النظام المودع بحكمته ومشيئته تعالى، لأن التوكل في تلك الدائرة عطالة كما مر.

وكنظم المقدِّمة مع المقصود لأن الاعانة والتوفيق مقدمة العبادة.


(اِهْدِنَا)[]

وجه النظم: انه جواب العبد عن سؤاله تعالى كأنه يسأل: أيّ مقاصدك أعلَقُ بقلبك؟ فيقول العبد: اهدنا.

واعلم! ان "اهدنا" بسبب تعدد مراتب معانيه - بناء على تنوّع مفعوله الى الهادين والمستهدين والمستزيدين وغيرهم - كأنه مشتق من المصادر الاربعة لفعل الهداية. فاهدنا باعتبار معشر "ثبّتنا"، وبالنظر الى جماعة "زدنا"، وبالقياس الى طائفة "وفّقنا" والى فرقة "اَعْطنا".. وأيضا ان الله تعالى بحكم (أعْطَى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [21] هدانا بإعطاء الحواس الظاهرة والباطنة، ثم هدانا بنصب الدلائل الآفاقية والأنفسية، ثم هدانا بارسال الرسل وانزال الكتب، ثم هدانا أعظم الهداية بكشف الحجاب عن الحق فظهر الحق حقا والباطل باطلا.

اللَّهُمَّ اَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اِتِّبَاعَهُ وَاَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلاً وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ.


(الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[]

اعلم! أن الصراط المستقيم هو العدل الذي هو ملخص الحكمة والعفة والشجاعة اللاتي هي أوساطٌ للمراتب الثلاث للقوى الثلاث.

توضيحه:

ان الله عز وجل لما اسكن الروحَ في البدن المتحوِّل المحتاج المعروض للمهالك أودع لإدامتها فيه قوىً ثلاثا.

إحداه:القوة الشهوية البهيمية الجاذبة للمنافع.

وثانيته:القوة الغضبية السَبُعية الدافعة للمضرات والمخرِّبات.

وثالثته:القوة العقلية الملكية المميزة بين النفع والضر.

لكنه تعالى - بحكمته المقتضية لتَكمُّل البشر بسر المسابقة - لم يحدِّد بالفطرة تلك القوى كما حدد قوى سائر الحيوانات، وإن حدَّدَها بالشريعة؛ لأنها تنهي عن الافراط والتفريط وتأمر بالوسط، يصدع عن هذا (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) [22]. وبعدم التحديد الفطري يحصل مراتب ثلاث: مرتبة النقصان وهي التفريط، والزيادة وهي الافراط ، والوسط وهي العدل.

فتفريط القوة العقلية الغباوة والبلادة، وافراطها الجربزة [23] الخادعة والتدقيق في سفاسف الامور، ووسطها الحكمة. (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [24]

اعلم! انه كما تنوع اصل هذه القوة الى تلك المراتب، كذلك كل فرع من فروعها يتنوع الى هذه الثلاث. مثلا: في مسألة خَلق الافعال: مذهبُ أهل السنة وسطُ الجبر والاعتزال [25]، وفي الاعتقاد: مذهبُ التوحيد وسط التعطيل والتشبيه.. وعلى هذه القياسُ.

وتفريط القوة الشهوية الخمودة وعدم الاشتياق الى شئ، وافراطها الفجور بأن يشتهي ما صادف حَلَّ أو حَرُمَ، ووسطها العفةُ بأن يرغب في الحلال ويهرب عن الحرام. وقس على الاصل كل فرع من فروعاته من الاكل والشرب واللبس وأمثالها.

وتفريط القوة الغضبية الجبانة أي الخوف مما لايُخاف منه والتوهم، وافراطها التهوّر الذي هو والدُ الاستبداد والتحكم والظلم، ووسطها الشجاعة أي بذل الروح بعشق وشوق لحماية ناموس [26] الاسلامية واعلاء كلمة التوحيد. وقس عليها فروعها..

فالاطراف الستة ظلمٌ والاوساط الثلاثة هي العدل الذي هو الصراط المستقيم، اي العملُ بـ (فَاسْتَقِمْ كَما اُمِرْتَ)[27] ومَن مرَّ على هذا الصراط يمر على الصراط الممتد على النار.


(صِرَاطَ الَّذِينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)[]

اعلم! ان نظم درر القرآن ليس بخيط واحد بل النظم - في كثيرٍ - نقوش تحصل من نسج خطوطِ نسبٍ متفاوتة قُرباً وبُعداً، ظهوراً وخفاء. لان أساس الاعجاز بعد الايجاز هذا النقش. مثلا: صراط الذين انعمت عليهم يناسب:

(الحمد لله) لان النعمة قرينة الحمد..

و(رب العالمين) لان كمال التربية بترادف النِعَم..

و(الرحمن الرحيم) لان المنعم عليهم - اعني الانبياء والشهداء والصالحين - رحمةٌ للعالمين ومثال ظاهر للرحمة..

و(مالك يوم الدين) لان الدين هو النعمة الكاملة..

و(نعبد) لانهم الائمة [28]..

و(نستعين) لانهم الموفقون..

و(اهدنا) لانهم الاسوة بسر (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [29]..

و(الصراط المستقيم) لظهور انحصار الطريق المستقيم في مسلكهم. هذا مثال لك فقس عليه. .

وفي لفظ "الصراط" إشارة الى ان طريقهم مسلوكة محدودة الاطراف مَن سلكها لايخرج عنها.

وفي لفظ "الذين" - بناء على انه موصول، ومن شأن الموصول ان يكون معهوداً نَصْبَ العين للسامع - اشارة الى علو شأنهم وتلألؤهم في ظلمات البشر، كأنهم معهودون نصب العين لكل سامع وإن لم يتحرَّ ولم يطلب.. وفي جمعيته رمز الى إمكان الاقتداء بهم وحقانية مسلكهم بسر التواتر اذ (يَدُ الله مَعَ الْجَمَاعَةِ) [30]..

وفي صيغة "انعمت" اشارة الى وسيلة طلب النعمة.. وفي نسبتها شافع له كأنه يقول: ياالهي! من شأنك الانعامُ وقد أنعمْتَ بفضلك، فأنْعِمْ عليّ وان لم استحق..

وفي "عليهم" اشارة الى شدة اعباء الرسالة وحمل التكليف، وايماء الى انهم كالجبال العالية تتلقى اعباء الرسالة وحمل التكليف، وايماء الى انهم كالجبال العالية تتلقى شدائد المطر لإفاضة الصحارى. وما أجمل في (الذين انعمت عليهم) يفسره (فَاُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ اَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِييِّنَ والصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء والصَّالِحِينَ) [31] اذ القرآن يفسر بعضه بعضا.


ان قلت : مسالك الانبياء متفاوتة وعباداتهم مختلفة؟

قيل لك: ان التبعية في اصول العقائد والاحكام؛ لانها مستمرة ثابتة دون الفروعات التي من شأنها التغير بتبدل الزمان. فكما ان الفصول الاربعة ومراتب عمر الانسان تؤثر في تفاوت الادوية والتلبّس، فكم من دواء في وقت يكون داء في آخر؛ كذلك مراتب عمر نوع البشر تؤثر في اختلاف فروعات الاحكام التي هي دواء الارواح وغذاء القلوب.


(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمَْ) .[]

وجه النظم: اعلم! ان هذا المقام لكونه مقام الخوف والتخلية يناسب المقامات السابقة؛ فينظر بنظر الحيرة والدهشة الى مقام توصيف الربوبية بالجلال والجمال، وبنظر الالتجاء الى مقام العبودية في "نعبد"، وبنظر العجز الى مقام التوكل في "نستعين"، وبنظر التسلي الى رفيقه الدائمي أعني مقام الرجاء والتحلية، اذ اوّل ما يتولد في قلب من يرى أمراً هائلا حِسُّ الحيرة ثم ميلُ الفرار ثم التوكلُ عند العجز ثم التسلي بعد ذلك الامر.

ان قلت : ان الله عز وجل حكيم غني فما الحكمة في خلق الشر والقبح والضلالة في العالم؟

قيل لك: اعلم! ان الكمال والخير والحسن في الكائنات هي المقصودة بالذات وهي الكليات؛ وان الشر والقبح والنقصان جزئيات بالنسبة اليها قليلة تبعية مغمورة في الخلقة، خلقها خالقها منتشرة بين الحسن والكمال، لا لذاتها، بل لتكون مقدمة، وواحداً قياسياً، لظهور - بل لوجود - الحقائق النسبية للخير والكمال.

ان قلت : فما قيمة الحقائق النسبية حتى اُستُحسن لأجلها الشرّ الجزئي؟

قيل لك: ان الحقائق النسبية هي الروابط بين الكائنات.. وهي الخطوط المنسوج منها نظامها.. وهي الاشعة المنعكس منها وجود واحد لانواعها. وان الحقائق النسبية أزيدُ بألوفٍ من الحقائق الحقيقية؛ اذ الصفات الحقيقية لذاتٍ لو كانت سبعة كانت الحقائق النسبية سبعمائة. فالشر القليل يُغْتَفَر بل يُسْتَحْسَن لاجل الخير الكثير؛ لان في ترك الخير الكثير - لان فيه شراً قليلاً - شراً كثيراً. وفي نظر الحكمة اذا قابل الشر القليل شراً كثيراً صار الشر القليل حسناً بالغير، كما تقرر في الاصول في الزكاة والجهاد.

وما اشتهر من: "ان الاشياء انما تُعْرَف باضدادها" معناه: ان وجود الضد سبب لظهور ووجود الحقائق النسبية للشئ. مثلا: لو لم يوجد القبح ولم يتخلل بين الحسن لما تظاهر وجود الحسن بمراتبه الغير [32] المتناهية.

ان قلت: ما وجه تفاوت هذه الكلمات الثلاث: فعلاً، واسم مفعولٍ، واسمَ فاعلٍ، في: "انعمت" و "المغضوب" و "الضالين"؟

وأيضاً ما وجه التفاوت في ذكر: صفة الفرقة الثالثة، وعاقبة الصفة في الفرقة الثانية، وعنوان صفة الفرقة الاولى باعتبار المآل؟

قيل لك: اختار عنوان النعمة؛ لان النعمة لذةٌ تميل النفس اليها.. وفعلاً ماضيا للاشارة الى ان الكريم المطلق شأنه ان لايسترد مايعطى.. وأيضاً رمز الى وسيلة المطلوب بإظهار عادة المنعم، كأنه يقول: لأن من شأنك الانعام وقد أنعَمْتَ فأنْعِم عليّ.

أما (غير المغضوب) فالمراد منه: الذين تجاوزوا بتجاوز القوة الغضبية فظلموا، وفسقوا بترك الاحكام كتمرد اليهود. ولما كان في نفس الفسق والظلم لذة منحوسة وعزة خبيثة لا تتنفر منه النفس ذَكَرَ القرآنُ عاقبته التي تُنَفِّر كلَّ نفسٍ وهي نزول غضبه تعالى.. واختار الاسم الذي من شأنه الاستمرار اشارة الى ان العصيان والشر انما يكون سمة اذا لم ينقطع بالتوبة والعفو.

أمّا

(ولا الضَّالين)[]

فالمراد منه: الذين ضلوا عن الطريق بسبب غلبة الوهم والهوى على العقل والوجدان ووقعوا في النفاق بالاعتقاد الباطل كسفسطة النصارى. اختار القرآن نفسَ صفتهم لان نفسَ الضلالة أَلَمٌ، ينفر النفس ويجتنب منه الروح وإن لم يرَ النتيجة.. وإسماً لأن الضلالة انما تكون ضلالة اذا لم تنقطع. [33]


واعلم! ان كل الالم في الضلالة وكل اللذة في الايمان.

فإن شئت تأمل في حال شخص، بينما اخرجَتْه يدُ القدرة من ظلمات العدم وألقَتْهُ في الدنيا - تلك الصحراء الهائلة - اذ يفتح عينيه مستعطفا، فيرى البليات والعلل كالاعداء تتهاجم عليه، فينظر مسترحماً الى العناصر والطبائع فيراها غليظة القلب بلا رحمة قد كشرت عليه الاسنان؛ فيرفع رأسه - مستمداً - الى الاجرام العلوية فيراها مهيبة ومدهشة تهدده كأنها مرامي [34] نارية من أفواه هائلة تمر حواليه؛ فيتحير ويخفض رأسه متستراً ويطالع نفسه؛ فيسمع الوفَ صيحاتِ حاجاته وأنين فاقاته، فيتوحش، فينظر الى وجدانه ملتجأً؛ فيرى فيه الوفاً من آمال متهيجةٍ ممتدةٍ لاتُشبعها الدنيا.

فبالله عليك كيف حال هذا الشخص ان لم يعتقد بالمبدأ والمعاد والصانع والحشر؟ أتظن جهنم أشدَّ عليه من حاله وأحرقَ لروحه؟ فإن له حالة تركبت من الخوف والهيبة والعجز والرعشة والقلق والوحشة واليتم واليأس؛ لأنه اذا راجع قدرته يراها عاجزة ضعيفة؛ واذا توجه الى تسكين حاجاته يراها لاتسكت؛ واذا صاح واستغاث لايُسْمَع ولا يُغاث فيظن كل شئ عدواً، ويتخيل كل شئ غريبا فلا يستأنس بشئ؛ ولا ينظر الى دوران الاجرام الاّ بنظر الخوف والدهشة والتوحش المزعجة للوجدان.

ثم تأمل في حال ذلك الشخص اذا كان على الصراط المستقيم واستضاء وجدانهُ وروحُه بنور الايمان، كيف ترى انه اذا وضع قدمه في الدنيا وفتح عينيه فرأى تهاجم العاديات الخارجية يرى اذاً "نقطة استناد" يستند اليها في مقابلة تلك العاديات، وهي معرفة الصانع فيستريح. ثم اذا فتش عن استعداداته وآماله الممتدة الى الأبد يرى "نقطة استمداد" يستمد منها آماله وتتشرب منها ماء الحياة وهي معرفة السعادة الابدية. واذ يرفع رأسه وينظر في الكائنات يستأنس بكل شئ وتجتني عيناه من كل زهرة اُنسية وتحبّبا، ويرى في حركات الأجرام حكمةَ خالقها ويتنزّه بسيرها وينظر نظر العبرة والتفكر. كأن الشمس تناديه: أيها الأخ! لاتتوحش مني فمرحبا بقدومك! نحن كلانا خادمان لذاتٍ واحد، مطيعان لأمره. والقمر والنجوم والبحر وأخواتها يناجيه كلٌ منها بلسانه الخاص وترمز اليه: بأهلاً وسهلاً، أما تعرفنا ؟ كلنا مشغولون

بخدمة مالكك فلا تضجر ولا تتوحش ولا تخف من تهديد البلايا بنعراتها، فان لجام كلٍ بيد خالقك.

فذلك الشخص في الحالة الاولى يحس في أعماق وجدانه ألماً شديداً فيضطر للتخلص منه وتهوينه وابطال حسه بالتسلي، بالتغافل، بالاشتغال بسفاسف الأمور، ليخادع وجدانه وينام روحُه؛ والا احس بألمٍ عميق يحرق أعماق وجدانه. فبنسبة البُعْدِ عن الطريق الحق يتظاهر تأثير ذلك الالم.

وأما في الحالة الثانية فهو يحس في قعر روحه لذةً عالية وسعادة عاجلة كلما أيقظ قلبه وحرَّك وجدانه وأحسّ روحه استزاد سعادة واستبشر بفتح أبواب جنات روحانية له.

اَللَّهُمَّ بِحُرْمَةِ هذِهِ السُّورَةِ اِجْعَلْنَا مِنْ اَهْلِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.


[1] ان الافعال المذكورة المتعلقة بالباء، تقدّر مؤخراً للحصر ليتضمن الاخلاص والتوحيد (ت: 14)

[2] اى بسبب علاقة القدرة الازلية وتعلّقها بانواع الكائنات وافرادها (ت: 14)

[3] اى: إن قصد الإنعام الذي هو نتيجة ولازم لمعنى حقيقتهما (ت: 16)

[4] التى محال استعمال معناها الحقيقي بحقه تعالى، كاليد (ت: 16)

[5] وهى: الانعام، الكهف، سبأ، فاطر.

[6] قال ابو اسحق الاسفراينى رحمه الله: في سورة "الأنعام " كل قواعد التوحيد. ولما كانت نعمه تعالى مما تفوت الحصر إلاّ انها ترجع اجمالاً الى ايجاد وابقاء في النشأة الاولى، وايجاد وابقاء في النشأة الآخرة. وقد اشير في "الفاتحة " "الكهف " الى الابقاء الاول، وفي "سبأ " الى الايجاد الثانى، وفي "فاطر " الى الابقاء الثانى، فلهذا ابتدأت هذه السور الخمس بالتحميد (حاشية شهاب على سورة الانعام ج 4 ص2)(ب)

[7] اى يكون المعلوم لأجلها.

[8] سورة الذاريات: 56 .

[9] فهرس وفهرست كلمة معربة.

[10] محي الدين بن عربي: 560 - 638 هـ /1165 - 1240 م

هو محمد بن علي بن محمد ابن عربي، ابو بكر الحاتمي الطائي الأندلسي، المعروف بمحي الدين بن عربي، الملقب بالشيخ الأكبر: فيلسوف، من أئمة المتكلمين في كل علم. ولد في مرسيه (بالاندلس) وانتقل الى اشبيلية. وقام برحلة فزار الشام وبلاد الروم والعراق والحجاز. وانكر عليه اهل الديار المصرية «شطحات» صدرت عنه، فعمل بعضهم على إراقة دمه. وحبس، فسعى في خلاصه علي بن فتح البجائي فنجا. واستقر في دمشق، فتوفي فيها له نحو اربعمائة كتاب ورسالة، منها (الفتوحات المكية) في التصوف وعلم النفس و(فصوص الحكم).

الاعلام 6/281 فوات الوفيات 2/241 ميزان الاعتدال 3/108 جامع كرامات الاولياء 1/118 شذرات الذهب 5/190.

[11] لا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف، الاّ ان علي القارئ قال: ولكن معناه صحيح، مستفاد من قوله تعالى(وما خلقت الجن والانس إلاّ ليعبدون) اى ليعرفونى، كما فسره ابن عباس رضى الله عنهما (باختصار عن كشف الخفاء 2/132).

[12] جعل كلمة "الذات" اسماً للحقيقة فزال التأنيث.

[13] الذى يكون وجوده من ذاته ولا يحتاج الى شئ اصلاً.

[14] بعد حذف متعلقها (ت: 17)

[15] سورة يوسف: 4.

[16] في مالك يوم الدين (ت: 19)

[17] التنبل والتنبال:البليد الكسلان. ج تنابلة. والمقصود هنا مذهب الجبرية.

[18] الالتفات: هو العدول عن الغيبة الى الخطاب او التكلم، او على العكس (التعريفات).

[19] اصل الحديث رواه البخارى ومسلم، وفيه: ما الاحسان؟ قال: ان تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فانه يراك (متفق عليه) ورواية الطبرانى: اُعبدالله كأنك تراه. وهو حديث صحيح (صحيح الجامع الصغير 1049)

[20] اى ننقاد ونخضع ونطيع.

[21] سورة طه: 50.

[22] سورة هود: 112

[23] الجُربُز (بالضم):الخب الخبيث، والمصدر: الجربزة.

[24] سورة البقرة: 269

[25] الجبرية: افراط حيث يحرم الانسان من العمل. والمعتزلة تفريط حيث يمنح التأثير للانسان. اما اهل السنة فهو الوسط، حيث يمنح بداية تلك الافعال الى الارادة الجزئية ونهاياتها الى الارادة الكلية (ت: 24)

[26] الناموس: ما يحميه الرجل من اسمه وصيته وشرفه. وفي (التعريفات): هو الشرع الذى شرعه الله.

[27] سورة هود: 112

[28] لانهم الائمة في العبادة (ت: 25)

[29] سورة الأنعام: 90

[30] رواه الطبرانى والترمذي وحسّنه بلفظ: "يد الله على الجماعة" (كشف الخفاء 2/391) وصححه محقق الجامع الصغير (7921) وعزاه للحاكم والبيهقى في الاسماء عن ابن عمر رضى الله عنهما وابن عاصم عن اسامة بن شريك.

[31] سورة النساء: 69

[32] يقول البغدادى: "لا تدخل الألف واللام على (غير)؛ لان المقصود من ادخال (أل) على النكرة تخصيصها بشئ معين. فإذا قيل (الغير) اشتملت هذه اللفظة على ما لا يحصى، ولم تتعرف بـ(أل) كما انها لم تتعرف بالاضافة، فلم يكن لإدخال (أل) عليها من فائدة ".

وجاء في المصباح المنير، في مادة (غير) مانصه: "يكون وصفاً للنكرة، تقول: جاءنى رجل غيرك، وقوله تعالى: (غير المغضوب عليهم) انما وصف بها المعرفة، لأنها اشبهت المعرفة باضافتها الى المعرفة، فعوملت معاملتها. ومن هنا اجترأ بعضهم فأدخل عليها الألف واللام؛ لأنها لمّا شابهت المعرفة، باضافتها الى المعرفة، جاز ان يدخلها ما يعاقب الاضافة، وهو الالف واللام...

وارتضى مؤتمر المجمع اللغوى، المنعقد بالقاهرة في دورته الخامسة والثلاثين، في شهر شباط (فبراير) 1969 الرأى القائل: "ان كلمة غير الواقعة بين متضادين تكتسب التعريف من المضاف اليه المعرفة، ويصح في هذه الصورة، التى تقع فيها بين متضادين، وليست مضافة، ان تقترن بـ(أل)، فتستفيد التعريف ". (باختصار عن معجم الاخطاء الشائعة لمحمد العدنانى).

[33] إذ انقطاعها اشارة الى دخولها ضمن العفو (ت: 29)

[34] قنابل وقذائف.

السورة الاولى من الزَّهْرَاوَيْنِ[]

بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم


السورة الاولى من الزَّهْرَاوَيْنِ (1)

ان قلت: ان في القرآ ن الموجز المعجز أشياء مكررة تكراراً كثيراً في الظاهر كالبسملة و(فبأي آلاء) الخ.. و(ويل يومئذ) الخ.. وقصة موسى وأمثالها، مع ان التكرار يُمِلُّ وينافي البلاغة.

قيل لك: (مَا كُلُّ مَا يَتَلأْلأُ يُحْرِقُ) فان التكرار قد يُمِلُّ، لا مطلقاً. بل قد يُستحسن وقد يُسأم. فكمَا أن في غذاء الانسان ماهو قُوت كلما تكرر حلا وكان آنس، وما هو تفكّه ان تكرر مُلَّ وان تجدد اُستُلِذّ، كذلك في الكلام ما هو حقيقة وقوت وقوّة للافكار وغذاء للارواح كلما استعيد اُستحسن واستؤنس بمألوفه كضياء الشمس. وفيه ماهو من قبيل الزينة والتفكه، لذتُه في تجدّد صورتِه وتلوّن لباسه.

اذا عرفت هذا فاعلم! انه كما ان القرآن بمجموعه قوتٌ وقوّة للقلوب لايُمَلُّ على التكرار بل يُستحلى على الإكثار منه، كذلك في القرآن ماهو روح لذلك القوت كلما تكرر تلألأ(2) وفارت اشعة الحق والحقيقة من اطرافه، وفي ذلك البعض ماهو أسّ الأساس والعقدة الحياتية والنور المتجسد بجسدٍ سرمدي كـ﴿بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيْم﴾. فيا هذا شاور مذاقك ان كنت ذا مذاق!..

هذا بناء على تسليم التكرار، والاّ فيجوز ان تكون قصة موسى مثلا مذكورة في كل مقامٍ لوجهٍ مناسب من الوجوه المشتملة هي

عليها. فان قصة موسى أجدى من تفاريق العصا (3) أخذَها القرآن بيده البيضاء فضةً فصاغتها ذهباً، فخرت سحرةُ البيان ساجدين لبلاغته.

وكذا في (البسملة) جهات: من الاستعانة والتبرك والموضوعية بل الغايتية والفهرستية للنقط الاساسية في القرآن.

وأيضا فيها مقامات: كمقام التوحيد ومقام التنزيه ومقام الثناء ومقام الجلال والجمال ومقام الاحسان وغيرها.

وايضا فيها احكام ضمنية: كالاشارة الى التوحيد والنبوة والحشر والعدل اعني المقاصد الاربعة المشهورة، مع ان في اكثر السور يكون المقصود بالذات واحداً منها، والباقي استطراديا. فلِمَ لايجوز ان يكون لجهة او حُكمٍ او مقام منها مناسبة مخصوصة لروح السورة وتكون موضوعاً للمقام بل فهرستة اجمالية باعتبار تلك الجهات والمقامات؟




_____________________________

((1) عن ابى أمامة الباهلى رضى الله عنه، قال: سمعت رسول اللهyيقول: اقرأوا القرآن، فانه يأتى يوم القيامة شفيعاً لاصحابه، اقرأوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران...الخ الحديث. رواه مسلم.

(2) كالمسك ما كررته يتضوع (ت:31).

(3) انك خير من تفاريق العصا، مثل يضرب فيمن نفعه أعمّ من نفع غيره (مجمع الامثال للميدانى).


1 تفسير الاية[]

تفسير الاية (1) {الــمۤ }


الـۤـــمۤ (1)


اعلم! ان ههنا مباحث اربعة:

المبحث الاول:

ان الاعجاز قد تنفّس من اُفق ﴿الـۤـم﴾ لأن الاعجاز نور يتجلى من امتزاج لمعات لطائف البلاغة. وفي هذا المبحث لطائف كل منها وإن دقَّ لكن الكل فجرٌ صادق.

منها: ان ﴿الـۤـم﴾ مع سائر اخواتها في أوائل السور تنصّف كل الحروف الهجائية التي هي عناصر كل الكلمات. فتأمل!.

ومنها: ان النصف المأخوذ اكثر استعمالاً من المتروك.

ومنها: ان القرآن كرر من المأخوذ ماهو اَيْسَرُ على الألسنة كالألف واللام.

ومنها: انه ذكر المقطّعات في رأس تسع وعشرين سورة عدة الحروف الهجائية.(1)

ومنها: ان النصف المأخوذ ينصّف كل ازواج أجناس طبائع الحروف من المهموسة والمجهورة والشديدة والرخوة والمستعلية والمنخفضة والمنفتحة وغيرها، واما الاوتار فمن الثقيل القليل كالقلقلة؛ ومن الخفيف الكثير كالذلاّقة.(2)

ومنها: ان النصف المأخوذ من طبائعها ألطفُ سجيةً.

ومنها: ان القرآن اختار طريقاً في المقطعات من بين اربعة وخمسمائة احتمال، لا يمكن تنصيف طبائع الحروف الا بتلك الطريق، لان التقسيمات الكثيرة متداخلة ومشتبكة ومتفاوتة. ففي تنصيف كلٍ غرابة عجيبة.

فمن لم يجتن نور الاعجاز من مزج تلك اللمعات فلا يلومنّ الاّ ذوقه.

المبحث الثاني:

اعلم ان ﴿الـۤـم﴾ كقرع العصا يوقظ السامعَ ويهزُّ عِطفه بأنه - بغرابته - طليعةُ غريبٍ وعجيبٍ.

وفي هذا المبحث ايضاً لطائف:

منها: ان التهجي وتقطيع الحروف في الاسم اشارة الى جنس ما يتولد منه المسمى.

ومنها: ان التقطيع اشارة الى ان المسمى واحد اعتباريّ لا مركب مزجي.

ومنها: ان التهجي بالتقطيع تلميح الى إراءة مادة الصنعة؛ كإلقاء القلم والقرطاس لمن يعارضك في الكتابة. كأن القرآن يقول: (أيها المعاندون المدّعون! انكم امراء الكلام، هذه المادة التي بين أيديكم هي التي أصنع فيها ما أصنع).

ومنها: ان التقطيع المرمز الى الاهمال عن المعنى يشير الى قطع حجتهم بـ (إنّا لانعرف الحقائق والقصص والاحكام حتى نقابلك).

فكأن القرآن يقول: (لا أطلب منكم إلاّ نظم البلاغة فجيئوا به مفتريات).

ومنها: ان التعبير عن الحروف باسمائها من رسوم أهل القراءة والكتابة(3)، ومن يسمعون منه الكلام امّيّ مع محيطه، فنظراً الى السجية - مع ان اول ما يتلقاهم خلاف المنتظر - يرمز إلى: (ان هذا الكلام لايتولد منه بل يُلقى اليه).

ومنها: ان التهجي أساس القراءة ومبدؤها(4) فيومئ الى أن القرآن مؤسس لطريق خاص ومعلم لأمّيين.

ومن لم ير نقشاً عالياً من انتساج هذه الخيوط - وإن دقّ البعض - فهو دخيل في صنعة البلاغة فليقلِّد فتاوى أهلها.

المبحث الثالث:

ان ﴿الـۤـم﴾ إشارة إلى نهاية الايجاز، الذي هو ثاني أساسَي الاعجاز.

وفيه لطائف:

منها: ان ﴿الـۤـم﴾ يرمز ويشير ويومئ ويُلَوِّح ويلَمِّح بالقياس التمثيلي المتسلسل الى: (ان هذا كلام الله الأزلي نزل به جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام). لانه كما ان الاحكام المفصلة في مجموع القرآن قد ترتسم في سورة طويلة إجمالا؛ وقد تتمثل سورة طويلة في قصيرة إشارة؛ وقد تندرج سورة قصيرة في آية رمزاً؛ وقد تندمج آية في كلام واحد تلويحاً؛ وقد يتداخل كلام في كلمة تلميحاً، وقد تتراءى تلك الكلمة الجامعة في حروف مقطعة، كـ (سين لام ميم).. كالقرآن في البقرة، والبقرة في الفاتحة، والفاتحة في (بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيْم) و

(بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيْم) في البسملة المنحوتة(5)؛ كذلك يجوز ذلك في ﴿الـۤـم﴾ أيضا.

فبالاستناد الى هذا القياس التمثيلي المتسلسل، وباشارة ﴿ذلك الكتاب﴾ يتجلى من ﴿الـۤـم﴾: (هذا كلام الله الأزلي نزل به جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام).

ومنها: ان الحروف المقطعة كالشفرة الإلهية أبرقها الى رسوله الذي عنده مفتاحها. ولم يتطاول يدُ فكر البشر اليه بعد.

ومنها: ان ﴿الـۤـم﴾ اشارة الى شدة ذكاوة المنزَل عليه رمزاً الى ان الرمز له كالتصريح.(6)

ومنها: ان التقطيع اشارة الى ان قيمة الحروف ليست في معانيها فقط بل بينها مناسبات فطرية كمناسبة الاعداد، كشَفَها علم أسرار الحروف.

ومنها: ان ﴿الـۤـم﴾ خاصة، اشارة بالتقطيع الى المخارج الثلاثة من الحلق والوسط والشفة، وترمز تلك الاشارة الى إجبار الذهن للدقة، وشق حجاب الأُلفة؛ ليلجأ الى مطالعة عجائب ألوان نقش خلقة الحروف.

فيا من صبغ يده بصنعة البلاغة! ركِّب قطعاتِ هذه اللطائف وانظرها واحدة، واستمع، لتقرأ عليك: (هذا كَلاَمُ الله).

المبحث الرابع:

ان ﴿الـۤـم﴾ مع أخواتها لما برزت بتلك الصورة كانت كأنها تنادى: (نحن الائمة؛ لا نقلد أحداً وما اتبعنا إماماً، وأُسلوبنا بديع، وطرزنا غريب).

وفيه لطائف:

منها: ان من ديدن الخطباء والفصحاء التأسي بمثال والنسج على منوال والتمشي في طريق مسلوكة، مع انها لم يطمثهن قبله إنس ولا جان.

ومنها: ان القرآن بفواتحه ومقاطعه بقي بعدُ كما كان قبلُ، لم يماثل ولم يقلَّد مع تآخذ أسباب التقليد والتأسِّي من شوق الأودَّاء وتحدي الاعداء. ان شئت شاهداً فهذه ملايين من الكتب العربية! هل ترى واحداً منها يوازيه، أو يقع قريباً منه؟ كلا! بل الجاهل العاميّ أيضاً اذا قاسها معه وقابله بها ناداه نظره بـ (أن هذا ليس في مرتبتها). فإما هو تحت الكل وهو محال بالضرورة، وإما هو فوق الكل وهو المطلوب، فهو نصيبه من درْك الاعجاز.

ومنها: ان من شأن صنعة البشر انها تظهر اول ماتظهر خشنة ناقصة من وجوه، يابسة من الطلاوة، ثم تتكمل وتحلو. مع ان اسلوب القرآن لما ظهر ظهر بطلاوة و طراوة وشبابية، وتحدّى مع الافكار المعمرين - بتلاحق الافكار وسرقة البعض عن البعض - وغلبهم فأعلن بالغلبة: (انه من صُنع خالق القوى والقدر).

فيا من استنشق نسيم البلاغة! أفلا يجتنى نحلُ ذهنك عن ازهار تلك المباحث الاربعة شَهْدَ: (اَشْهَدُ اَنَّ هذَا كَلاَمُ الله)؟

______________________________

(1) عدة حروف الهجاء تسع وعشرون مع الالف الساكنه.

(2) فذكر من (المهموسة) وهي ما يضعف الاعتماد على مخرجه، ويجمعها (ستشحثكخصفه) نصفها وهي الحاء والهاء والصاد والسين والكاف. ومن البواقي (المجهورة) نصفها يجمعه (لن يقطع أمر) ومن (الشديدة) الثمانية المجموعة في (اجدت طبقك) اربعة يجمعها. ومن البواقي (الرخوة) عشرة يجمعها (حمس على نصره) ومن المطبقة التي هي الصاد والضاد والطاء والظاء نصفها. ومن البواقي (المنفتحة) نصفها. ومن (القلقلة) وهي حروف تضطرب عند خروجها ويجمعها (قد طبج) نصفها الاقل لقلتها. ومن (اللينتين) الياء لأنها أقل ثقلاً، ومن (المستعلية) وهي التي يتصعد الصوت بها في الحنك الاعلى وهي سبعة: القاف والصاد والطاء والخاء والغين والضاد والظاء نصفها الاقل، ومن البواقي (المنخفضة) نصفها... (تفسير البيضاوي).

(3) كالتعبير عن الحروف (أ، ل) بألف لام، فهذا التعبير باسماء الحروف هو من اصول اهل القراءة والكتابة (ت:34)

(4) اى ان التهجى يخص المبتدئين بالقراءة (ت:34)

(5) المقصود: النحت اللغوى.

(6) اى لكمال ذكائه يفهم ماهو رمز وايماء وامر خفى، كالصريح (ت:35


2 تفسير الاية[]

ذلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)


مـقـدمـة

اعلم! ان من اساس البلاغة الذي به يبرق حسن الكلام تجاوب الهيئات وتداعي القيود وتآخذها على المقصد الاصلي، وامداد كلٍّ بقدْرِ الطاقة للمقصد، الذي هو كمجمع الاودية او الحوض المتشرب من الجوانب، بأن تكون مصداقاً وتمثالاً لما قيل:

عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ وَكُلٌّ اِلَى ذَاكَ الْجَمَال يُشِيرُ

مثلا: تأمَّل في آية ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ﴾(سورة الانبياء:46) المسوقة للتهويل المستفاد من التقليل بسر انعكاس الضد من الضد. أفلا ترى التشكيك في (إن) كيف يمد التقليل، والمسّ بدل الاصابة في (مسّت) كيف يشير الى القلة والتروّح فقط، والمرتّية والتحقير في جوهرِ وصيغةِ وتنوينِ (نفحةٌ) كيف تلوِّح بالقلة، والبعضية في (مِن) كيف تومئ إليها، وتبديل النكال بالـ (عذاب) كيف يرمز اليها، والشفقة المستفادة من الـ(ربّ) كيف تشير اليها، وقس؟!.. فكلٌ يمد المقصد بجهته الخاصة. وقس على هذه الآية أخواتها. وبالخاصة ﴿الـۤـم ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين﴾ لأن هذه الآية ذُكرت لمدح القرآن واثبات الكمال له.

ولقد تجاوب وتآخذ على هذا المقصد: القَسَم بـ﴿الـۤـم﴾ على وجه، واشارة (ذلك) ومحسوسيته وبُعديته، والألف واللام في (الكتاب)، وتوجيه اثباته بـ (لاريب فيه). فكلٌ كما يمد المقصد ويلقي إليه حصته يرمز ويشفّ من تحته عن ما يستند اليه من الدليل وإن دقّ.

فان شئت تأمل في القَسَم بـ ﴿الـۤـم﴾ إذ إنه كما يؤكد، كذلك يشعر بالتعظيم الموجّه للنظر الموجب لانكشاف ماتحته من اللطائف المذكورة ليبرهن على الدعوى المرموز اليها.

وانظر الاشارة في ﴿ذلك﴾ المختصة بالرجوع الى الذات معالصفات لتعلم انها كما تفيد التعظيم - لانها اما اشارة الى المشار اليه بـ (الم) او المبشّر به في التوراة والانجيل - كذلك تلوّح بدليلها؛ اذ ما أعظم ما أقسم به! وما أكمل ما بشَّر به التوراة والانجيل!.. ثم أمعن النظر في الاشارة الحسية الى الأمر المعقول لترى انها كما تفيد التعظيم والاهمية؛ كذلك تشير الى ان القرآن كالمغناطيس المنجذب اليه الأذهانُ، والمتزاحم عليه الأنظارُ المجْبِر لخيالِ كلٍ على الاشتغال به. فتظاهر بدرجة - تراه العيون من خلفها اذا راجعت الخيال - يرمز بلسان الحال الى وثوقه بصدقه وتبرّيه عن الضعف والحيلة الداعيين الى التستر.. ثم تفكّر في البُعدية المستفادة من (ذلك)؛ اذ انها كما تفيد علوّ الرتبة المفيد لكماله؛ كذلك تومئ الى دليله بأنه بعيد عن ما سلك عليه أمثاله. فإما تحت كلٍ وهو باطل بالاتفاق، فهو فوق الكل.

ثم تدبر في (ال) ﴿الكتاب﴾؛ لانها كما تفيد الحصر العرفي المفيد للكمال؛ تفتح باب الموازنة وتلمِّح بها الى ان القرآن كما جمع محاسن الكتب قد زاد عليها فهو أكملها..

ثم قف على التعبير بـ (الكتاب) كيف يلوّح بأن الكتاب لايكون من مصنوع الامّيّّ الذي ليس من أهل القراءة والكتابة.

أما ﴿لاريب فيه﴾ ففيه وجهان:

إرجاع الضمير إلى الحكم، أو إلى الكتاب:

فعلى الاول -كما عليه المفتاح(1) - يكون بمعنى يقيناً، وبلا شك، فيكون جهة وتحقيقا لاثبات كماله.

وعلى الثاني - كما عليه الكشاف(2)- يكون تأكيداً لثبوت كماله.

وعلى الكل يناجي من تحت (لاريب) بـ ﴿وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله﴾ ويرمز الى دليله الخاص..

والاستغراق في (لا) بسبب اعدام الريوب الموجودة ينشد:

وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً وَافَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ (3)

ويشير الى ان المحل ليس بقابلٍ لتولّد الشكوك؛ اذ أقام على الثغور امارات تتنادى من الجوانب وتطرد الريوب المتهاجمة عليه.

وفي ظرفية ﴿فيه﴾ والتعبير بـ (في) بدل أخواتها اشارة الى انفاذ النظر في الباطن. والى ان حقائقه تطرد وتطيّر الأوهامَ المتوضعة على سطحه بالنظر الظاهر.

فيا من آنس قيمة التركيب من جانب التحليل، وأدرك فرق الكلّ عن كلٍ! انظر نظرة واحدة الى تلك القيود والهيئات لترى كيف يلقي كلٌ حصته الى المقصد المشترك مع دليله الخاص، وكيف يفور نورُ البلاغة من الجوانب.

اعلم! انه لم يربط بين جمل (الـۤـــمۤ.. ذلك الكتاب.. لاريب فيه.. هدى للمتقين) بحلقات العطف لشدة الاتصال والتعانق بينها، وأخذِ كلٍ بحجز سابقتها وذيل لاحقتها. فان كل واحدة كما انها دليلٌ لكلٍ بجهة؛ كذلك نتيجة لكلِ واحدة بجهة اخرى. ولقد انتقش الاعجاز على هذه الآية بنسج اثني عشر من خطوط المناسبات المتشابكة المتداخلة..

ان شئت التفصيل تأمل في هذا:

﴿الـۤـــم﴾ فانها تومئ بالمآل الى: (هذا متحدًّى به، ومن يبرز الى الميدان؟) ثم تلوح بأنه معجز..

وتفكر في ﴿ذلك الكتاب﴾ فانها تصرح بأنه ازداد على أخوته وطمَّ عليها. ثم تلمح بأنه مستثنى ممتاز لايماثل..

ثم تدبر في ﴿لاريب فيه﴾ فانها كما تُفصح عن انه ليس محلا للشك تعلن بأنه منوّر بنور اليقين..

ثم انظر في ﴿هدى للمتقين﴾ اذ انها كما تهدى اليك انه يُري الطريق المستقيم؛ تفيدك انه قد تجسم من نور الهداية.

فكل منها باعتبار المعنى الأول برهان لرفقائها وباعتبار المعنىالثاني نتيجة لكل منها.

ونذكر على وجه المثال ثلاثا من الروابط الثنتي عشرة لتقيس عليها البواقي:

فـ﴿الـۤـم﴾ أي: هذا يتحدّى كل معارض، فهو أكمل الكتب، فهو يقيني؛ اذ كمال الكتاب باليقين، فهو مجسَّم الهداية للبشر..

ثم ﴿ذلك الكتاب﴾ اي: هو ازداد على أمثاله فهو معجز - او - اي: هو ممتاز ومستثنى؛ إذ لاشك فيه؛ اذ إنه يُري السبيل السويّ للمتقين..

ثم ﴿هدى للمتقين﴾ اي: يرشد الى الطريق المستقيم، فهو يقيني، فهو ممتاز، فهو معجز.. وعليك باستنباط البواقي.

أما ﴿هدى للمتقين﴾ فاعلم! ان منبع حسن هذا الكلام من أربع نقط:

الاولى: حذف المبتدأ، اذ فيه اشارة الى ان حكم الاتحاد مسلَّم. كأن ذات المبتدأ في نفس الخبر. حتى كأنه لاتغاير بينهما في الذهن أيضا.

والثانية: تبديل اسم الفاعل بالمصدر، اذ فيه رمز الى ان نور الهداية تجسَّمَ فصار نفس جوهر القرآن؛ كما يتجسم لونُ الحمرة فيصير قرْمِزاً.(4)

والثالثة: تنكير ﴿هدى﴾ اذ فيه إيماء الى نهاية دقة هداية القرآن حتى لايُكْتنه كُنْهها، والى غاية وسعتها حتى لايُحاط بها علماً. اذ المنكورية إما بالدقة والخفاء، وإما بالوسعة الفائتة عن الاحاطة. ومن هنا قد يكون التنكير للتحقير وقد يكون للتعظيم.

والرابعة: الايجاز في ﴿للمتقين﴾ بدل (الناس الذين يصيرون متقين به) أوجز بالمجاز الاول اشارة الى ثمرة الهداية وتأثيرها، ورمزاً الى البرهان (الإِنِّيّ)(5) على وجود الهداية. فان السامع في عصر يستدل بسابقه كما يستدل به لاحقه.

ان قلت: كيف تتولد البلاغة الخارجة عن طوق البشر بسبب هذه النقط القليلة المعدودة؟

قيل لك: ان في التعاون والاجتماع سراً عجيباً. لأنه اذا اجتمع حسنُ ثلاثة اشياء صار كخمسة، وخمسة كعشرة، وعشرة كأربعين بسر الانعكاس. اذ في كل شئ نوع من الانعكاس ودرجة من التمثيل. كما اذا جمعت بين مرآتين تتراءى فيهما مرايا كثيرة، أو نوَّرتَهما بالمصباح يزداد ضياء كل بانعكاس الأشعة؛ فكذلك اجتماع النكت والنقط. ومن هذا السر والحكمة ترى كل صاحب كمال وصاحب جمال يرى من نفسه ميلاً فطرياً الى ان ينضم الى مثيله ويأخذ بيد نظيره ليزداد حسناً الى حسنه. حتى ان الحجر مع حَجَريته اذا خرج من يد المعقِّد الباني في السقف المحدب يميل ويُخضع رأسَه ليماسّ رأس أخيه ليتماسكا عن السقوط. فالانسان الذي لايدرك سر التعاون لهو أجمد من الحجر؛ اذ من الحجر من يتقوس لمعاونة اخيه!.

ان قلت: من شأن الهداية والبلاغة البيان والوضوح وحفظ الاذهان عن التشتت، فما بال المفسرين في امثال هذه الآية اختلفوا اختلافاً مشتتاً، واظهروا احتمالات مختلفة، وبينوا وجوه تراكيب متباينة، وكيف يعرف الحق من بينها؟

قيل لك: قد يكون الكل حقاً بالنسبة الى سامعٍ فسامعٍ؛ اذ القرآن ما نزل لأهل عصرٍ فقط بل لأهل جميع الأعصار، ولا لطبقة فقط بل لجميع طبقات الانسان، ولا لصنف فقط بل لجميع أصناف البشر. ولكلٍ فيه حصة ونصيب من الفهم. والحال أن فهم نوع البشر يختلف درجة درجة.. وذوقَه يتفاوت جهة جهة.. وميلَه يتشتت جانباً جانباً.. واستحسانه يتفرق وجهاًً وجهاً.. ولذته تتنوع نوعاً نوعاً.. وطبيعته تتباين قسما قسما. فكم من أشياء يستحسنها نظرُ طائفة دون طائفة، وتستلذها طبقة ولا تتنزل اليها طبقة. وقس!..

فلأجل هذا السر والحكمة أكْثَرَ القرآنُ من حذف الخاص للتعميمليقدِّر كلٌ مقتضى ذوقه واستحسانه. ولقد نظم القرآن جُمَله ووضعها في مكان ينفتح من جهاته وجوه محتملة لمراعاة الافهام المختلفة ليأخذ كلُ فهمٍ حصته. وقس!.. فإذاً يجوز أن يكون الوجوه بتمامها مرادة بشرط أن لا تردها علوم العربية، وبشرط ان تستحسنها البلاغة، وبشرط ان يقبلها علم أصول مقاصد الشريعة.

فظهر من هذه النكتة ان من وجوه اعجاز القرآن نظمه وسبكه في اسلوب ينطبق على افهام عصر فعصر.. وطبقة فطبقة.

______________________________

(1) (مفتاح العلوم) للعلامة سراج الدين ابى يعقوب يوسف بن ابى بكربن محمد بن علي السكاكى المتوفى سنة 626هـ. ويعدّ كتابه هذا اوسع ما كتب في البيان في زمانه، وله شروح كثيرة.

(2) (الكشاف عن حقائق التنزيل) للامام العلامة ابى القاسم جارالله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي المتوفي سنة 538هـ.

(3) للمتنبي في ديوانه 4/246.

(4) قرمز: بالكسر، صبغ ارمنى يكون من عصارة دود.

(5) البرهان الانيّ واللّمي: اصطلاحان يرد شرحهما، فالانّي -بتشديد النون- مصدر صناعي مأخوذ من (ان) المشبهة بالفعل التى تدل على الثبوت والوجود. اما اللمّي، فهو مصدر صناعي مأخوذ من كلمة (لِمَ) للعلية. وفي (التعريفات): الاستدلال من العلة الى المعلوم برهان لمّي ومن المعلوم الى العلّة برهان إنّي


3 تفسير الاية[]

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغِيْبِ ويُقِيمُونَ الصَّلوةَ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)


﴿اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾

اعلم! أن وجه نظم المحصل مع المحصل انصباب مدح القرآن الى مدح المؤمنين وانسجامه به؛ اذ انه نتيجة له، وبرهان إنّيّ عليه، وثمرة هدايته، وشاهد عليه. وبسبب تضمن التشويق اشارة الى جهة حصة هذه الآية من الهداية، والى انها مثال لها.

اما وجه (الذين) مع (المتقين) فتشييع التخلية بالتحلية التي هي رفيقتها أبداً؛ اذ التزيين بعد التنزيه، ألا ترى ان التقوى هي التخلي عن السيئات وقد ذكرها القرآن بمراتبها الثلاث، وهي: ترك الشرك، ثم ترك المعاصي، ثم ترك ماسوى الله. والتحلية فعل الحسنات: إما بالقلب او القالب او المال. فشمس الاعمال القلبية (الايمان)، والفهرستة الجامعة للاعمال القالبية (الصلاة) التي هي عماد الدين، وقطب الاعمال المالية (الزكاة) اذ هي قنطرة الاسلام.

اعلم! ان ﴿اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ مع انه اذا نظرت الى مقتضى الحال ايجاز، الا انه اذا وازنت بينه وبين مرادفه وهو (المؤمنون) تظنه إطنابا؛ فأبدل (ال) بـ)الذين) الذي من شأنه الاشارة الى الذات بالصلة فقط(1)، كأنه لاصفة له الا هي للتشويق على الايمان، والتعظيم له؛ والرمز الى ان الايمان هو المنار على الذات قد تضاءلت تحته سائر الصفات.. وأبدل (مؤمنون) بـ(يؤمنون) لتصوير وإظهارِ تلك الحالة المستحسنة في نظر الخيال، وللاشارة الى تجدده بالاستمرار وتجلّيه بترادف الدلائل الآفاقية والأنفسية، فكلما ازدادت ظهوراً ازدادوا إيمانا.

﴿بِالْغَيْبِ﴾ أي بالقلب، اي بالاخلاص بلا نفاق. ومع الغائبية.. وبالغائب.. وبعالم الغيب..

واعلم! ان الايمان هو النور الحاصل بالتصديق بجميع ما جاء به النبي عليه السلام تفصيلا في ضروريات الدين واجمالا في غيرها.

ان قلت: لايقتدر على التعبير عن حقائق الايمان من العوام من المائة الا واحد؟

قيل لك: ان عدم التعبير ليس عَلَماً على عدم الوجود. فكما ان اللسان كثيراً ما يتقاصر عن ان يترجم عن دقائق مافي تصورات العقل؛ كذلك قد لايتراءى بل يتغامض عن العقل سرائر مافي الوجدان، فكيف يترجم عن كل مافيه؟ ألا ترى ذكاء السكاكي(2) ذلك الامام الداهي قد تقاصر عن اجتناء دقائق ماأبرزته سجية امرئ القيس (3)، او بدويّ آخر؟ فبناء على ذلك، الاستدلال على وجود الايمان في العامي يثبت بالاستفسار والاستيضاح منه. بأن تستفسر من العاميّ بالسؤال المردّد بين النفي والاثبات هكذا: أيها العامي! أيمكن في عقلك أن يكون الصانع الذي كان العالم بجهاته الست في قبضة تصرفه أن يتمكّن(4) في جهة من جهاته أو لا؟ فإن قال: لا. فنفي الجهة ثابتٌ في وجدانه، وذلك كافٍ. وقس على هذا..

ثم ان الايمان - كما فسّره السعد(5) - نور يقذفه الله تعالى في قلبمن يشاء من عباده، أي بعد صرف الجزء الاختياري. فالايمان نور لوجدان البشر وشعاع من شمس الازل يضئ دفعةً ملكوتيةَ الوجدان بتمامها. فينشر اُنسية له مع كل الكائنات.. ويؤسس مناسبة بين الوجدان وبين كل شئ.. ويلقي في القلب قوة معنوية يقتدر بها الانسان ان يصارع جميع الحوادث والمصيبات.. ويعطيه وُسْعةً يقتدر بها ان يبتلع الماضي والمستقبل. وكما ان الايمان شعاع من شمس الأزل(6)؛ كذلك لمعة من السعادة الابدية أي الحشر. فينمو بضياء تلك اللمعة بذور كل الآمال، ونواة كل الاستعدادات المودعة في الوجدان، فتنبت ممتدة الى الابد، فتنقلب نواة الاستعداد كشجرة طوبى.

﴿وَيُقِيمُونَ الصَّلوةَ﴾

اعلم! ان وجه النظم أظهر من الشمس في رابعة النهار. وان في تخصيص (الصلاة) من بين حسنات القالب إشارة الى أنها فهرستة كل الحسنات وانموذجها ومَعْكسها. كالفاتحة للقرآن، والانسان للعالم. لاشتمالها على نوع صومٍ وحج وزكاة وغيرها، ولاشتمالها على انواع عبادات المخلوقات، الفطرية والاختيارية من الملائكة الراكعين الساجدين القائمين، ومن الحجر الساجد، والشجر القائم، والحيوان الراكع..

ثم انه أقام (يقيمون) مقام (المقيمين) لإحضار تلك الحركة الحياتية الواسعة والانتباه الروحاني الإلهي في العالم الاسلامي الى نظر السامع. ووضع تلك الوضعية المستحسنة والحالة المنتظمة من نواحي نوع البشر نصب عين الخيال، ليهيج ويوقظ ميلان السامع للتأسِّي؛ إذ من تأمل في تأثير النداء بالآلة المعروفة(7) في نفرات العسكر المنتشرين المغمورين بين الناس وتحريك النداء لهم دفعة، والقاء انتباه فيهم، وافراغهم في وضع مستحسن، وجمعهم تحت نظام مستملح يرى في نفسه اشتياقا لأن ينساب اليهم. فهكذا الاذان المحمَّدي بين الانسان في صحراء العالم (ولله المَثَلُ الاعْلَى)..

وإنما لم يقتصر في مسافة الايجاز على (يصلّون) بل اتمها بـ ﴿يقيمون الصلاة﴾ للاشارة الى اهمية مراعاة معاني (الاقامة) في الصلاة من تعديل الاركان، والمداومة، والمحافظة، والجد، وترويجها في سوق العالم. تأمل!

ثم ان الصلاة نسبة عالية، ومناسبة غالية، وخدمة نزيهة بين العبد وسلطان الازل، فمن شأن تلك النسبة ان يعشقها كل روح.. وأركانها متضمنة للأسرار التي شرحها أمثال (الفتوحات المكية)، فمن شأن تلك الأسرار أن يحبها كل وجدان.. وانها دعوة صانع الازل الى سرادق حضوره خمس دعوات في اليوم والليلة لمناجاته التي هي في حكم المعراج. فمن شأنها ان يشتاقها كل قلب.. وفيها ادامة تصور عظمة الصانع في القلوب وتوجيه العقول اليها لتأسيس اطاعة قانون العدالة الالهية، وامتثال النظام الرباني. والانسان يحتاج الى تلك الادامة من حيث هو إنسان لانه مدنيّ بالطبع.. فيا ويلَ من تركها! وياخسارة من تكاسل فيها! وياجهالة من لم يعرف قيمتها! فسحقاً وبعداً وافّاً وتفًّاً(8) لنفسِ مَن لم يستحسنها.

﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾.

وجه النظم: انه كما ان الصلاة عماد الدين وبها قوامه؛ كذلك الزكاة قنطرة الاسلام وبها التعاون بين أهله.

ثم ان من شروط ان تقع الصدقة موقعها اللائق:

ان لايسرف المتصدق فيقعد ملوماً.. وان لايأخذ من هذا ويعطي لذاك؛ بل من مال نفسه.. وان لايمنّ فيستكثر.. وان لايخاف من الفقر.. وان لايقتصر على المال، بل بالعلم والفكر والفعل أيضا.. وان لايصرف الآخذ في السفاهة، بل في النفقة والحاجة الضرورية.

لذاك؛ بل من مال نفسه.. وان لايمنّ فيستكثر.. وان لايخاف من الفقر.. وان لايقتصر على المال، بل بالعلم والفكر والفعل أيضا.. وان لايصرف الآخذ في السفاهة، بل في النفقة والحاجة الضرورية.

فلإِحسان هذه النكت، واحساس هذه الشروط تصدَّق القرآن على الأفهام بإيثار ﴿ومما رزقناهم ينفقون﴾ على (يتصدقون) او (يزكّون) وغيرهما؛ إذ أشار بـ (من) التبعيض الى رد الاسراف.. وبتقديم ﴿مما﴾ الى كونه من مال نفسه.. وبـ(رزقنا) الى قطع المنة. أي: ان الله هو المعطي وانت واسطة.. وبالاسناد الى (نا) الى: (لاَتَخَفْ مِنْ ذِي الْعَرْشِ اِقْلاَلاً)(9).. وبالاطلاق الى تعميم التصدق للعلم والفكر

وغيرهما. وبمادة ﴿ينفقون﴾ الى شرط صرف الآخذ في النفقة والحاجات الضرورية.

ثم ان في الحديث الصحيح (الزَّكاةُ قَنْطَرَةُ الاِسْلاَمِ)(10) أي: الزكاة جسر يغيث المسلمُ أخاه المسلم بالعبور عليها؛ اذ هي الواسطة للتعاون المأمور به، بل هي الصراط في نظام الهيئة الاجتماعية لنوع البشر، وهي الرابطة لجريان مادة الحياة بينهم، بل هي الترياق للسموم الواقعة في ترقيات البشر.

نعم! في (وجوب الزكاة) و(حرمة الربا) حكمة عظيمة، ومصلحة عالية، ورحمة واسعة؛ اذ لو أمعنت النظر في صحيفة العالم نظراً

تاريخياً وتأملت في مساوي جمعية البشر لرأيت اسّ أساس جميع اختلالاتها وفسادها، ومنبع كل الاخلاق الرذيلة في الهيئة الاجتماعية كلمتين فقط:

إحداهما: (اِنْ شَبِعْتُ فلا عليَّ اَن يموتَ غيرِي من الجُوعِ).

والثـانيـة: (اِكْتَسِبْ اَنْتَ لآكُلَ اَنَا. واتْعَبْ انتَ لأَستريحَ اَنَا).

فالكلمة الاولى الغدارة النَهِمَة الشنعاء هي التي زلزلت العالم الانسانيَّ فاشرف على الخراب. والقاطعُ لعرق تلك الكلمة ليس الاّ (الزكاة).

والكلمة الثانية الظالمة الحريصة الشوهاء هي التي هارت بترقِّيات البشر فأوشك أن تنهار بها في نار الهَرْج والمَرْج. والمستأصِلُ والدواء لتلك الكلمة ليس إلاّ (حرمة الربا). فتأمل!..

اعلم! ان شرط انتظام الهيئة الاجتماعية ان لا تتجافى طبقات الانسان، وان لاتتباعد طبقةُ الخواص عن طبقة العوام، والأغنياء عن الفقراء بدرجة ينقطع خيط الصلة بينهم. مع ان باهمال وجوب الزكاة وحرمة الربا انفرجت المسافة بين الطبقات، وتباعدت طبقات الخواص عن العوام بدرجة لا صلة بينهما، ولا يفور من الطبقة السفلى الى العليا إلاّ صدى الاختلال، وصياح الحسد، وأنين الحقد والنفرة بدلا عن الاحترام و الاطاعة والتحبب، ولا يفيض من العليا على السفلى بدل المرحمة والاحسان والتلطيف إلاّ نار الظلم والتحكم، ورعد التحقير. فأسفاً!.. لأجل هذا قد صارت (مزيةُ الخواص) التي هي سبب التواضع والترحم سبباً للتكبّر والغرور. وصار (عجزُ الفقراء) و(فقرُ العوام) اللذان هما سببا المرحمة عليهم والاحسان اليهم سبباً لأسارتهم وسفالتهم.. وان شئت شاهداً فعليك بفسادِ ورذالةِ حالة العالم المدنيّ، فلك فيه شواهد كثيرة. ولا ملجأ للمصالحة بين الطبقات والتقريب بينها الاّ جعل الزكاة - التي هي ركن من اركان الاسلامية - دستوراً عالياً واسعاً في تدوير الهيئة الاجتماعية.

__________________________________

(1) لأن (الذين) من الاسماء المبهمة، لذا فان صلته هى التى تميّزه وتعينه (ت:43).

(2) ابو يعقوب يوسف بن ابي بكر (ت 626هـ/ 1228م) من اعلام البلاغة، مؤلف كتاب (المفتاح) الذي يعد أوسع ما كتب في البيان في زمانه وله شروح كثيرة. وضع علوم البلاغة في قالبها العلمي. مولده ووفاته بخوارزم .

(3) (497 - 545م) هو امرؤ القيس بن حُجر بن الحارث الكندي، اشهر شعراء العرب على الاطلاق، يماني الاصل، مولده بنجد ووفاته في انقرة، وقد جُمع بعض ما ينسب اليه من الشعر في ديوان صغير. (الاعلام 2/12).

(4) يتحيز في مكان.

(5) هو مسعود بن عمر بن عبد الله، ولد بتفتازان بخراسان في 712 (أو 727هـ) وتوفي في سمرقند 793هـ.. إمام في العربية والمنطق والفقه،، سعى لإحياء العلوم الاسلامية بعد كسوفها بغزو المغول فألف كثيراً من امهات الكتب. حتى انه يعد الحد الفاصل بين العلماء المتأخرين والمتقدمين. من كتبه (تهذيب المنطق) و(شرح المقاصد) و (شرح العقائد النسفية) و (المطول).. وكتابه (التلويح في كشف حقائق التنقيح) في الاصول شرح فيه كتاب (التوضيح في حل غوامض التنقيخ) للعلامة عبيد الله ابن مسعود المحبوبي (ت747هـ)

(6) تعبير مألوف بحق الله جلّ جلاله المنور لكل شئ في الادب التركى والفارسى بخلاف الادب العربى.

(7) البوق العسكرى.

(8) الاف والتف: وسخ الاذن والاظفار، ثم استعملا عند كل شئ يُضجر منه (الزاهر للانباري).

(9) اصل الحديث: عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، قال: دخل النبيyعلى بلال وعنده صُبرة من تمر، فقال: (ما هذا يا بلال؟) قال: اُعدُّ ذلك لأضيافك. قال: (أما تخشى ان يكون لك دُخان في نار جهنم؟! انفق بلال! ولا تخشَ من ذي العرش اقلالاً).

قال المنذري في الترغيب والترهيب: رواه البزار باسناد حسن والطبراني في الكبير وذكر فيه زيادة. والحديث اورده الهيثمي في المجمع وقال: اسناده حسن، وحسّنه الحافظ ابن حجر. والحديث صحيح بطرقه (صحيح الجامع الصغير رقم 1508 وصحيح الترغيب برقم 912، والمشكاة برقم 1885) ومع هذا ضعفه العراقي رحمه الله تعالى.

(10) اورده الهيثمي في المجمع (3/62) وقال: رواه الطبراني في الكبير والاوسط ورجاله موثقون إلاّ بقية مدلس وهو ثقة، واورده المنذري في الترغيب والترهيب (1/517) وقال: رواه الطبراني... وفيه ابن لهيعة، والبيهقي وفيه بقية بن الوليد. والحديث ضعفه محقق الجامع الصغير برقم 3191 في ضعيف الجامع الصغير.

4 تفسير الاية[]

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ اِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

اعلم! ان القرآن أرسل النظم - أي لم يعيّن بوضع امارةٍ وجهاً من وجوه التراكيب في كثير من أمثال هذه الآية، لسرٍ لطيف، هو منشأ الايجاز الذي هو منشأ الاعجاز، وهو:

ان البلاغة هي مطابقة مقتضى الحال. والحال: ان المخاطبين بالقرآن على طبقات متفاوتة، وفي اعصار مختلفة. فلمراعاة هذه الطبقات، ولمجاورة هذه الاعصار، ليستفيد مخاطب كل نوعٍ ماقُدِّرَ له من حصته، حذف القرآنُ في كثيرٍ للتعميم والتوزيع، واطلق في كثيرٍ للتشميل والتقسيم، وارسل النظم في كثير لتكثير الوجوه، وتضمين الاحتمالات المستحسنة في نظر البلاغة والمقبولة عند العلم العربي ليفيض على كلِ ذهنٍ بمقدار ذوقه. فتأمل!..

ثم ان وجه نظم هذه الآية بسابقتها: التخصيص بعد التعميم. ليعلن على رؤوس الاشهاد شرفَ مَنْ آمن من اهل الكتاب، وليردّ يد استغناء اهله في أفواههم، وليأخذ يد امثال (عبد الله بن سلام)(1)، ويشوِّق غيره لان يأتم به.. وأيضا التنصيص على قسْمَي المتقين(2) للتصريح بشمول هداية القرآن لكافة الامم، والتلويح لعموم رسالة محمد عليه السلام لقاطبة الملل.. وايضا التفصيل بعد الاجمال لشرح اركان الايمان المندمجة في صَدَف ﴿يؤمنون بالغيب﴾ اذ دل على الكتب والقيامة صراحة، وعلى الرسل والملائكة ضمنا.

ثم ان القرآن لم يوجز هنا بنحو (والمؤمنين بالقرآن) لترصيع هذا المعنى بلطائف وتزيين ذيوله بنكت، فآثر ﴿والذين يؤمنون بما أُنزل اليك﴾.

اذ في (الذين) رمز الى ان وصف الايمان هو مناط الحكم وان الذات مع سائر الصفات تابعة له ومغمورة تحته.(3)

وفي ﴿يؤمنون﴾ بدل (المؤمنين) الدال على الثبوت في زمان، تلويح الى تجدد الايمان بتواتر النزول وتكرر الظهور مستمرا.

وفي (ما) الابهام، إيماء الى ان الايمان مجملا قد يكفي، والى تشميل الايمان للوحي الظاهر والباطن وهو الحديث.

وفي ﴿انُزل﴾ باعتبار مادته اشارة الى ان الايمان بالقرآن هو الايمان بنزوله من عند الله. كما ان الايمان بالله هو الايمان بوجوده، وباليوم الآخر هو الايمان بمجيئه. وبالنظر الى صيغته الماضوية - مع انه لم يتم النزول اذ ذاك - اشارة الى تحققه المنزلة بمنزلة الواقع مع ان مضارعية (يؤمنون) تتلافى مافي ماضويته(4). بل لاجل هذا التنزيل ترى في اساليب التنزيل كثيرا ما يبتلع الزمان الماضي المستقبل ويتزيا المضارع بزيّ الماضي، اذ فيه بلاغة لطيفة. لان من سمع الماضي فيما لم يمض بالنسبة اليه اهتز ذهنه، وتيقظ انه ليس وحده، وتذكر ان خلفه غيره من الصفوف بمسافات. حتى كأن الاعصار مدارج والاجيال صفوف قاعدون خلفها. وتنبّه ان الخطاب والنداء الموجه اليه بدرجة من الشدة والعلوّ يسمعه كل الاجيال. وهو خطبة الهية انصت لها كلُّ الصفوف في كل الاعصار. فالماضي حقيقة في الكثير - في أكثر الأزمان - ومجازٌ في القليل - في أقلها(5) - ومراعاة الاكثر أوفى لحق البلاغة.

وفي ﴿اليك﴾ بدل (عليك) رمز الى ان الرسالة وظيفة كُلِّف بها النبي عليه السلام وتحمَّلها بجزئه الاختياري.. وإيماء الى علّوه بخدمة جبرائيل بالتقديم اليه؛ اذ في (على) شمّ اضطرار وعلوّ واسطة النزول.. وفي خطاب (اليك) بدل (الى نحو محمد) تلويح الى ان محمداً عليه السلام ماهو إلاّ مخاطب والكلام كلام الله.. وايضا معنى الخطاب تأكيد وتصوير لمعنى النزول الذي هو الوحي الذي هو القرآن الذي هو خطاب الله معه الذي هو الخاصة النافذة في الكل. فكشف هذا الجزء الحجاب عن حصته من تلك الخاصة. فظهر ان هذا الكلام بالنظر الى اشتماله على هذه اللطائف المذكورة في نهاية الايجاز.

﴿وما اُنزل من قبْلِك﴾

اعلم! ان امثال هذه التوصيفات تتضمن تشويقاً، يتضمن أحكاما انشائية. كآمنوا كذا وكذا ولا تفرقوا.

ثم ان في هذا النظم والربط اربع لطائف:

إحداها:

عطف المدلول على الدليل. اي: (ياأيها الناس اذا آمنتم بالقرآن فآمنوا بالكتب السابقة ايضا، اذ القرآن مصدِّق لها وشاهد عليها) بدليل ﴿مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾(سورة البقرة:97).

والثانية:

عطف الدليل على المدلول، أي: (ياأهل الكتاب اذا آمنتم بالانبياء السابقين والكتب السالفة لزم عليكم ان تؤمنوا بالقرآن وبمحمد عليه السلام، لانهم قد بشّروا به، ولأن مدار صدقهم، ونزولها ومناط نبوتهم يوجد بحقيقته وبروحه في القرآن بوجه اكمل وفي محمد عليه السلام بالوجه الأظهر. فيكون القرآن كلام الله بالقياس الاَوْلَوِي، ومحمَّد عليه الصلاة والسلام رسوله بالطريق الأولى).

والثالثة:

ان فيه اشارة الى ان مآل القرآن - اعني الاسلامية الناشئة في زمان السعادة - كشجرة أصلها ثابت في أعماق الماضي، منتشرة العروق متشربة عن منابع حياتها وقوتها، وفرعها في سماء الاستقبال ناشرة أغصانها مثمرة. أي اخذت الاسلامية بقرني الماضي والاستقبال.

والرابعة:

ان فيه اشارةً الى تشويق اهل الكتاب على الايمان وتأنيسهم، والتسهيل عليهم. كأنه يقول: (لايشقنّ عليكم الدخول في هذا السلك، اذ لاتخرجون عن قشركم بالمرة بل انما تكملون معتقداتكم، وتبنون على ماهو مؤسس لديكم) اذ القرآن معدِّل ومكمِّل في الاصول والعقائد، وجامع لجميع محاسن الكتب السابقة واصول الشرائع السالفة. إلا انه مؤسِّس في التفرعات التي تتحول بتأثير تغير الزمان والمكان؛ فكما تتحول الادوية والالبسة في الفصول الاربعة، وطرز التربية والتعليم في طبقات عمر الشخص؛ كذلك تقتضي الحكمة والمصلحة تبدل الاحكام الفرعية في مراتب عمر نوع البشر. فكم من حكم فرعي كان مصلحة في زمان، ودواء في وقت طفولية النوع، لايبقى مصلحة في آخر، ودواء عند شبابية النوع. ولهذا السر نَسخَ القرآن بعض الفروع. اي بيّن انقضاء اوقات تلك الفروع ودخول وقت آخر.

وفي ﴿من قبلك﴾ لطائف:

اعلم! انه ما من كلمة في التنزيل يأبى عنها مكانها، أو لم يرض بها، أو كان غيرُها أولى به. بل مامن كلمة من التنزيل إلا وهي كدرٍّ مرصَّعٍ مرصوص متماسك بروابط المناسبات؛ فان شئت مثالا تأمل في: ﴿من قبلك﴾ كيف ترى اللطائف المتطايرة من جوانب هذه الآية توضّعت على هذه الكلمة الفذة.

فان ﴿من قبلك﴾ تشربتْ وتلونت - فتُرشِّح وتُرمز بخمس لطائفالمناسبات المنعكسة من المقاصد الخمسة المندمجة في مسألة النبوة المسوقة لها هذه الآية.

اما المقاصد المندمجة فهي: ان محمداً عليه السلام نبي، وانه اكمل الانبياء، وانه خاتم الانبياء، وانه مرسل لكافة الاقوام، وان شريعته ناسخة لجميع الشرائع، وجامعة لمحاسنها.

اما وجه انعكاس المقصد الاول في تلك الكلمة، فهو:

ان (من قبلك) انما يقال اذا اتحد المسلك وكان الطريق واحداً. فكأن هذه الكلمة تترشح: بأن الحجج على نبوة مَن قبله وصدق كتبهم، حجةٌ بمجموعها بتنقيح المناط(6) وتحقيق المناط بالقياس الأولى على نبوة محمد عليه السلام ونزول كتابه. فكأن جميع معجزاتهم معجزة فذة على صدق محمد عليه السلام.

واما وجه انعكاس المقصد الثاني، وهو الاكملية فيها، فهو:

ان (من قبلك) بناء على ملاحظة عادة (ان السلطان يخرج في اخريات الناس).. وعلى قاعدة التكمل في نوع البشر المقتضية لاكملية المربي الثاني عن المربي الاول.. وعلى اغلبية مهارة وزيادة الخلف على السلف، تلوح بان محمداً عليه السلام سلطان الانبياء، اكمل من كلهم. كما ان القرآن أجمع وأجمل(7) من كتبهم.

واما وجه تشربها من المقصد الثالث وهو الخاتمية فهو:

ان (من قبلك) بسر قاعدة (ان الواحد اذا تكثَّر تسلْسَلَ لايسكن، وان الكثير اذا اتحدّ استقرّ لاينقطع) وباشمام المفهوم المخالف تلمح بانه عليه السلام خاتم الانبياء.

واما وجه انصباغها من المقصد الرابع وهو عموم الدعوة فهو:

ان (من قبلك) المفيدة (انك خَلَفُهم وكلٌ منهم سلفك) بسر قاعدة (ان الخلف يأخذ تمام وظيفة السلف ويقوم مقامه) تشير بأنه اذا كان كل منهمسلفك فانت نائب الكل، ورسول جميع الامم. نعم لايكون إلاّ كذلك!.. اذ الفطرة حاكمة له، والحكمة قاضية به؛ لانه كانت امم العالم الانساني قبل زمان السعادة في غاية التباعد والاختلاف مادة ومعنى، واستعداداً وتربيةً؛ ماكفت لهم التربية الواحدة وما شملت الدعوة المفردة. ثم لما انتبه العالم الانساني بزمان السعادة بعده، وتمايل الى الاتحاد بمداولة الافكار، ومبادلة الطبائع، واختلاط الاقوام، وتحري البعض عن حال البعض حتى تمخض الزمان بكثرة طرق المخابرة والمناقلة؛ فصارت الكرة كمملكة وهي كولاية وهي كبلدة، واتصل الرحم بين اهل الدنيا؛ كَفَت الدعوة الواحدة والنبوة الفريدة للكافة.

واما وجه إشمامها بالمقصد الخامس فهو:

ان (من قبلك) المومية من (من) الى (الى)، ومن (الى) الى الاغناء(8). اي (انتهت الرسالة بقدومك اذ اَغْنَتْ شريعتُك) ترمز بأن شريعته عليه السلام ناسخة بالانتهاء وجامعة بالاغناء.

واعلم! ان الامارة لنظر البلاغة على تشرب هذه الكلمة لهؤلاء اللطائف هي:

ان هذه المقاصد الخمسة كالانهار الجارية تحت هذه الآيات، حتى يفور هذا بكماله في آية.. وينبع ذاك بتمامه في أُخرى.. ويتجلى ذلك بشَرَاشيره(9) في آخرة. فأدنى ترشِّحٍ على السطح يومي بتماس عروق الكلمة بها. وايضا تتسنبل هذه المعاني في آيات مسوقة لها.

﴿وَبِالاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾

اعلم! ان مآل هذه الآية هوالمقصد الرابع من المقاصد الاربعة المشهورة وهو (مسألة الحشر). ثم انا قد استفدنا من نظم القرآن

عشرة براهين عليها، ذكرناها في كتاب آخر(10) فناسب تلخيصها هنا. وهي:

ان الحشر حق؛ لان في الكائنات نظاماً اكمل قصدياً.. وان في الخلقة حكمة تامة.. وان لا عبثية في العالم.. وان لا اسراف في الفطرة.. والمزكي لهؤلاء الشواهد الاستقراء التام بجميع الفنون التي كل منها شاهدُ صدق على نظام نوع موضوعه.. وايضا ان في كثير من الانواع مثل اليوم والسنة وغيرهما قيامة مكررة نوعية.. وايضا جوهر استعداد البشر يرمز الى الحشر.. وايضا عدم تناهي آمال البشر وميوله يشير اليه.. وايضا رحمة الصانع الحكيم تلوح به.. وايضا لسان الرسول الصادق عليه السلام يصرّح به.. وأيضا بيان القرآن المعجز في أمثال ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ اَطْوَاراً﴾( سورة نوح: 14) ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾( سورة فصلت: 46) يشهد له. تلك عشرة كاملة، مفاتيح للسعادة الابدية وأبواب لتلك الجنة.

اما بيان البرهان الاول: فهو انه لو لم تنجر الكائنات الى السعادة الابدية لصار ذلك النظام الذي اتقن فيه صانعُه اتقاناً حَيَّرَ فيه العقول صورةً ضعيفة خادعة، وجميع المعنويات والروابط والنسب في النظام هباء منثوراً. فليس نظام ذلك النظام الاّ اتصاله بالسعادة، اي ان النكت والمعنويات في ذلك النظام انما تتسنبل في عالم الآخرة. والاّ لانطفأ جميع المعنويات، وتقطّع مجموع الروابط، وتمزّق كل النسب، ويتفتت هذا النظام؛ مع ان القوة المندمجة في النظام تنادي باعلى صوتها: ان ليس من شأنها الانقضاض والانحلال.

وأما البرهان الثاني: فهو ان تمثال العناية الازلية الذي هو الحكمة التامة، التي هي رعاية المصالح والحِكَم في كل نوع، بل في كل جزئي - بشهادة كل الفنون - يبشر بقدوم السعادة الابدية. والاّ لَزِمانكار هذه الحكم والفوائد التي اجبرتنا البداهةُ على الاقرار بها؛ اذ حينئذ تكون الفائدة لا فائدة.. والحكمة غير حكمة.. والمصلحة عدم مصلحة. وإن هذا الاّ سفسطة.

واما البرهان الثالث المفسر للثاني: فهو ان الفن يشهد ايضا ان الصانع اختار في كل شئ الطريق الاقصر، والجهة الاقرب، والصورة الأخف والأحسن. فيدل على ان لاعبثية. فيدل على انه جدّي حقيقي. وماهو الا بمجئ السعادة الابدية. والاّ لتنزل هذا الوجود منزلة العدم الصرف. وتحول كل شئ عبثاً محضاً.. سبحانك ماخلَقْتَ هذا عَبَثاً.

أما البرهان الرابع الموضح للثالث: فهو ان لا اسراف في الفطرة بشهادة الفنون. فان تقاصر ذِهْنُك عن ادراك حِكَم الانسان الاكبر وهو (العالم) فأمعن النظر في العالم الاصغر وهو (الانسان). فان فن منافع الاعضاء قد شرح واثبت: ان في جسد الانسان تقريبا ستمائة عظم كلّ لمنفعة.. وستة آلاف عصب هي مجارٍ للدم كلّ لفائدة.. ومائة واربعة وعشرين ألف مسامة وكوّة للحجيرات التي تعمل في كل منها خمس قوى من الجاذبة والدافعة والممسكة والمصوّرة والمولّدة كل منها لمصلحة. واذا كان العالَمُ الاصغر كذا فكيف يكون الانسان الاكبر انقصَ منه؟ واذا كان الجسد الذي لا اهمية له بالنسبة الى لبّه بتلك الدرجة من عدم الاسراف فكيف يُتصور اهمال جوهر الروح؟ واسرافٌ كل آثاره من المعنويات والآمال والافكار؟ اذ لولا السعادة الابدية لتقلصت كل المعنويات وصارت اسرافاً. فبالله عليك أيمكن في العقل ان يكون لك جوهرة قيمتها الدنيا، فتهتم بصدَفها وغلافها حتى لاتخلي ان يصل الغبار اليه، ثم تأخذ الجوهرة فتكسّرها شذراً مذراً(11) وتمحو آثارها؟ كلا ثم كلا! ماتهتم بالغلاف إلاّ لأجل مافيه.. وايضا اذا افهمتك قوةُ البنية في شخص وصحة أعضائه واستعداده، استمرار بقائه وتكمله؛ أفلا تفهّمك الحقيقةُالثابتة الجارية في روح الكائنات، والقوةُ الكاملة المومية بالاستمرار في الانتظام، والكمال المنجر الى التكمل في النظام: مجئ السعادة الابدية من باب الحشر الجسماني؟ اذ هي المخلصة للانتظام عن الاختلال، والواسطة للتكمل وانكشاف تلك القوة المؤبدة.

واما البرهان الخامس والحدس المرمز الى القصد: فهو ان وجود نوع قيامات مكررة نوعية في كثير من الانواع يشير الى القيامة العظمى وان شئت تمثُلَ الرمزِ في مثال، فانظر في ساعتك الاسبوعية، فكما ان فيها دواليب مختلفة دوارة متحركة محركة للابر والاَمْيال العادّة واحدة منها للثواني. وهي مقدمة ومخبرة لحركة ابرة الدقائق. وهي مُعدّة ومُعلنة لحركة ميل الساعات. وهي محصلة ومؤذنة لحركة الابرة التي تعد ايام الاسبوع. فاتمام دورة السابقة يشير بأن اختها اللاحقة تتم دورها؛ كذلك ان لله تعالى ساعةً كبرى دواليبُها الافلاكُ تعدّ أميالها الايام والسنين وعمر البشر وبقاء الدنيا، نظير الثواني والدقائق والساعات والايام في ساعتك. فمجئ الصبح بعد كل ليلة، والربيع بعد كل شتاء - بناء على حركة تلك الساعة - يشير اشارة خفية ويرمز رمزا دقيقا بتولد صبح ربيع الحشر من تلك الساعة الكبرى.

ان قلت: القيامة النوعية لاتحشر الاشخاص باعيانهم فكيف ترمز بالقيامة الكبرى لعود الاشخاص هناك باعيانهم؟

قيل لك: ان شخص الانسان كنوع غيره، اذ نور الفكر اعطى لآمال البشر وروحه وُسْعة وانبساطاً بدرجة وسِعَت الازمنة الثلاثة، لو ابتلع الماضي والمستقبل مع الحال لم تمتلء آماله؛ لان نور الفكر صيّر ماهيته علوية، وقيمته عمومية، ونظره كلياً، وكماله غير محصور، ولذته دائمية، وألمه مستمراً. اما فرد النوع الآخر فماهيته جزئية، وقيمته شخصية، ونظره محدود، وكماله محصور، ولذته آنية، وألمه دفعيّ، فوجود نوع قيامة في الانواع، كيف لايشير بالقيامة الشخصية العمومية للانسان؟

واما البرهان السادس الملوّح: فهو عدم تناهي استعدادات البشر. نعم ان تصورات البشر وافكاره التي لاتتناهى ، المتولدة من آماله الغير المتناهية ، الحاصلة من ميوله الغير المضبوطة، الناشئة من قابلياته الغير المحدودة، المستترة في استعداداته الغير المحصورة، المزروعة في جوهر روحه الذي كرمه الله تعالى؛ كل منها يشير في ماوراء الحشر الجسماني باصبع الشهادة الى السعادة الابدية وتمد نظرها اليه. فتأمل!

وأما البرهان السابع المبشر: فهو ان رحمة الرحمن الرحيم تبشر بقدوم اعظم الرحمة اعني السعادة الابدية؛ اذ بها تصير الرحمة رحمة، والنعمة نعمة. وبها تخلص الكائنات من النياحات المرتفعة من المأتم العموميّ المتولد من الفراق الابدي المصيّر للنعم نقماً. اذ لو لم يجئ روحُ النِعَم أعني السعادة الابدية، لتحول جميع النعم نقما؛ وللزم المكابرة في انكار الرحمة الثابتة بشهادة عموم الكائنات بالبداهة وبالضرورة..

فيا ايها الحبيب الشفيق(12) العاشق! انظر الى ألطف آثار رحمة الله أعني المحبة والشفقة والعشق؛ ثم راجع وجدانك لكن بعد فرض تعقب الفراق الابدي والهجران اللايزالي عليها، كيف ترى الوجدان يستغيث.. والخيال يصرخ.. والروح يضجر من انقلاب تلك المحبة والشفقة - اللتين هما أحسن وألطف انواع الرحمة والنعمة - اعظم مصيبة عليك واشد بلاء فيك؟ أفيمكن في العقل ان تساعد تلك الرحمة الضرورية لهجوم الفراق الابدي والهجران اللايزاليّ على المحبة والشفقة؟ لا! بل من شأن تلك الرحمة ان تسلِّط الفراقَ الابدي على الهجران اللايزليّ، والهجران اللايزاليّ على الفراق الابدي والعدم عليهما.

واما البرهان الثامن المصرّح: فهو لسان محمد عليه السلامالصادق المصدوق، ولقد فتح كلامه أبواب السعادة الابدية، على ان إجماع الانبياء من آدمهم الى خاتمهم عليهم السلام على هذه الحقيقة حجة حقيقية قطعية على هذا المدعى. ولأمر مّا اتفقوا.

واما البرهان التاسع: فهو اخبار القرآن المعجز؛ اذ التنزيل المصدق اعجازه بسبعة اوجه(13) في ثلاثة عشر عصرا دعواه عين برهانها. فاخباره كشاف للحشر الجسماني ومفتاح له.

واما البرهان العاشر، المشتمل على ألوف من البراهين التي تضمنها كثير من الآيات مثل ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أطْواراً﴾ المشير الى (قياس تمثيلي). و﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبيد﴾ المشير الى (دليل عدليّ) وغيرهما. فلقد فتح القرآن في أكثر الآيات كُوّاتٍ(14) ناظرة الى الحشر.

اما القياس التمثيلي المشار اليه بالآية الاولى:

فانظر في وجود الانسان فانه ينتقل من طور الى طور.. من النطفة الى العلقة.. ومنها الى المضغة.. ومنها الى العظم واللحم.. ومنه الى الخلق الجديد. ولكلٍّ من تلك الاطوار قوانين مخصوصة، ونظامات معيّنة، وحركات مطّردة يشفّ كلٌّ منها عن قصدٍ وارادةٍ واختيارٍ.. ثم تأمل في بقائه فإن هذا الوجود يجدد لباسه في كل سنة، ومن شأنه التحلل والتركب. اي انقضاض الحجيرات وتعميرها ببدل ما يتحلل من المادة اللطيفة الموزعة على نسبة مناسبة الاعضاء التي يحضرها صانعُها بقانون مخصوص. ثم تأمل في أطوار تلك المادة اللطيفة الحاملة لأرزاق الاجزاء. كيف تنتشر في اقطار البدن انتشاراً تحير فيه العقول. وكيف تنقسم بقانون التقسيم المعين على مقدار حاجات الاعضاء؛ بعد ان تلخصت تلك المادة بنظام ثابت، ودستور معين، وحركة عجيبة من اربع مصفاتات، وانطبخت في اربعة مطابخ بعد اربعة انقلابات عجيبة؛ المأخوذة تلك المادة من القوت المحصل من المواليد المنتشرة في عالم العناصر بدستور منتظم؛ونظام مخصوص، وقانون معين. وكل من القوانين والنظامات في تلك الاطوار يشف عن سائقٍ وقصدٍ وحكمةٍ. كيف لا، ولو تأملت من قافلة تلك المادة اللطيفة في ذرة مثلا، مستترة في عنصر الهواء تصير بالآخرة جزءاً من سواد عين (الحبيب)؛ لعلمت ان تلك الذرة وهي في الهواء معيّنة كأنها موظفة مأمورة بالذهاب الى مكانها الذي عيُنّ لها؛ اذ لو نظرت إليها بنظر فنيّ تيقنت ان ليست حركتها (اتفاقية عمياء) (بتصادف اعمى)، بل تلك الذرة ما دخلت في مرتبة الا تبعت نظاماتها المخصوصة، وماتدرجت الى طور الا عملت بقوانينه المعينة، وما سافرت الى طبقة الا وهي تساق بحركة عجيبة منتظمة. فتمر على تلك الاطوار حتى تصل الى موضعها. مع انها لاتنحرف قطعا مقدار ذرة عن هدف مقصدها.

والحاصل: ان من تأمل في النشأة الاولى لم يبق له تردد في النشأة الاخرى، ولقد قال النبي عليه الصلاة والسلام (عجباً لمن يرى النشأة الاولى كيف ينكر النشأة الاخرى).

نعم! كما ان جمعَ نفراتِ عسكرِ فرقةٍ أُذِنَ لهم بالاستراحة والانتشار اذا دعوا بالآلة المعروفة - فيتسللون عن كل طرف ومكمن، فيجتمعون متحدين تحت لوائهم - يكون أسهل وأسهل من جلبهم أول الامر الى الانتظام تحت السلاح؛ كذلك ان جمعَ الذرات التي حصلت بينها المؤانسة والمناسبة بالامتزاج في وجودٍ واحدٍ اذا نوديتْ بصُور اسرافيل فينساب الكل من كل فج عميق ملبِّية لأمر خالقها يكون أسهل وأمكن في العقل من انشائها وتركيبها أول المرة.

أما بالنسبة الى القدرة فأعظم الاشياء كأصغرها. ثم الظاهر ان المعاد يعاد باجزائه الاصلية والفضولية معا. كما يشير اليه كبر أجسام اهل الحشر(15) وكراهة قصّ الاظفار والاشعار ونحوها للجُنُب، وسنّيةدفنها(16). والتحقيق: ان عجب الذَنَب يكفي ان يكون بذراً ومادةً لتشكله.(17)

وأما الدليل الذي لوح به ﴿وما ربك بظلام للعبيد﴾:

فاعلم! أنّا كثيراً ما نرى الظالم الفاجر الغدّار في غاية التنعم، ويمرّ عمُره في غاية الطيب والراحة. ثم نرى المظلوم الفقير المتدين الحسن الخلق ينقضي عمره في غاية الزحمة(18) والذلة والمظلومية، ثم يجئ الموتُ فيساوي بينهما. وهذه المساواة بلا نهاية تُري ظلماً. والعدالة والحكمة الإلهيتان اللتان شهدت عليهما الكائناتُ منزّهتان عن الظلم؛ فلابد من مجمعٍ آخر ليرى الاول جزاءه والثاني ثوابه فيتجلى العدالة الإلهية. وقس على هاتين الآيتين نظائرهما. هذا..

أما وجه النظم في اجزاء ﴿وبالآخرة هم يوقنون﴾

فاعلم! ان مناط النكت: (الواو)، ثم تقديم (بالآخرة) ثم الالف واللام فيها، ثم التعبير بهذا العنوان، ثم ذكر (هم)، ثم ذكر (يوقنون) بدل (يؤمنون).

واما (الواو) ففيها التخصيص بعد التعميم، للتنصيص على هذا الركن من الايمان، اذ هو أحد القطبين اللذين تدور عليهما الكتب السماوية.

واما تقديم ﴿بالاخرة﴾ ففيه حصر، وفي الحصر تعريض بأن أهل الكتاب بناء على قولهم ﴿لن تمسَّنا النارُ اِلاّ أيّاماً مَعْدُودةً﴾( سورة البقرة:80) ونفيهم اللذائذ الجسمانية، آخرتهم آخرة مجازية اسمية، ماهي بحقيقة الآخرة.

واما الالف واللام فللعهد. اي اشارة الى المعهود بالدوران على ألسنة كل الكتب السماوية.. وفي العهد لمحٌ الى انها حق واشارة الى الحقيقة المعهودة الحاضرة بين اهداب العقول بسبب الدلائل الفطرية المذكورة.. وفي العهد حينئذ رمز الى انها حقيقة.. واما التعبير بعنوان (الآخرة) الناعتة للنشأة فلتوجيه الذهن الى النشأة الاولى، لينتقل الى امكان النشأة الاخرى.

واما ﴿هم﴾ ففيه حصر وفي الحصر تعريض بأن إيمان من لم يؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام من أهل الكتاب ليس بيقين، بل انما يظنونه يقينا.

وأما ذكر ﴿يوقنون﴾ بدل (يؤمنون) مع ان الايمان هو التصديق مع اليقين، فليضع الاصبع على مناط الغرض قصداً لإطارة الشكوك؛ اذ القيامة محشر الريوب.. وايضا بالتنصيص ينسد طرق التعلل بـ(انا مؤمنون فليؤمن من لم يؤمن).

___________________________

(1) صحابي، أسلم عند قدوم النبىyالمدينة، وكان اسمه (الحصين) فسماه رسول اللهyعبدالله. شهد مع عمر رضى الله عنه فتح بيت المقدس والجابية، وأقام بالمدينة الى ان توفي سنة 43هـ. (الاصابة 4725، الاستيعاب 2/382).

(2) المذكورين في هذه الآية والتى سبقتها (ت: 50)

(3) حتى كأن لا صفة لهم مميزة الاّ الايمان (ت: 52)

(4) اى ماضوية (اُنزل). بمعنى ان الذى لم يتم نزوله، ان لم يكن داخلاً ضمن شمولية (اُنزل) فهو ضمن شمولية (يؤمنون) (ت:52).

(5) فالماضى حقيقة ثابتة لدى كثير من الناس في اغلب الازمان، بينما يكون مجازاً لدى القليلين في اقل الازمان.

(6) اصطلاح اصولى في مباحث العلة: فتنقيح المناط: تهذيب العلة مما علق بها من الاوصاف التى لا مدخل لها في العلية. اما تحقيق المناط: فهو الاجتهاد في تحقيق العلة الثابتة بالنص او بالاجماع او بأي مسلك آخر، في واقعة غير التى ورد فيها النص.

(7) واشمل (ش).

(8) اى: ان (من) يفيد معنى الابتداء، والابتداء لابد له من انتهاء - اى (الى) - والانتهاء يدل على عدم الحاجة او الاغناء (ت:56)

(9) بشراشيره: بأجمعه.

(10) هذه البراهين مذكورة في رسالة (لاسيمات) من المثنوى العربى النورى ومفصلة في الكلمة التاسعة والعشرين وموضحة بنور تجليات الاسماء الحسنى في الكلمة العاشرة (الحشر).

(11) شذراً مذراً: اى ذهبوا في كل وجه، فالمراد المبالغة في الكسر والتجزئة (ش).

(12) الحبيب من طلاب المؤلف.

(13) تفصيل هذه الاوجه في الكلمة الخامسة والعشرين (المعجزات القرآنية).

(14) الكوة: الخرق في الحائط. ج: كواء وكوى وكوات.

(15) عن ابى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول اللهy: ضرس الكافر - أو ناب الكافر - مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث. رواه مسلم (4/2189).

(16) (ادفنوا ماءكم واشعاركم واظفاركم، لاتلعب بها السحرة) مسند الفردوس 1/102. وانظر الفتح الكبير 2/375. كنـز العمال 17245. جمع الجوامع رقم 885.

(17) عن ابى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله y: كل ابن آدم يأكله التراب الاّ عجب الذنب، منه خُلق ومنه يركّب. رواه مسلم وابو داود وابن ماجه. والعجب: اصل الذنب.

(18) التعب والمشقة والضيق.

5 تفسير الاية[]

اُولئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَاُولئِكَ هُم المُفْلِحُونَ (5)


﴿اُولئِك عَلَى هُدىً مِنْ رَبٍّهِمْ﴾

اعلم! ان المظان التي تتلمع فيها النكت: هي نظمها مع سابقتها، ثم المحسوسية في (اولئك)، ثم البُعْدية فيها، ثم العلو في (على)، ثم التنكير في (هدى)، ثم لفظ (من)، ثم التربية في (ربهم).

اما النظم، فاعلم! ان هذه(1) مرتبطة بسابقتها بخطوط مناسبات. منها الاستيناف أي(2) جواب لثلاثة اسئلة مقدرة:

منها: السؤال عن المثال،كأن السامع بعدما سمع ان القرآن من شأنه الهداية لاشخاص من شأنهم - بسبب الهداية - الاتصاف بأوصافٍ، أحبَّ أن يراهم وهم بالفعل تلبسوا بتلك الاوصاف متكئين على ارائك الهداية. فأجاب مُريئاً للسامع بقوله ﴿اُولئِك عَلَى هُدىً مِنْ رَبٍّهِمْ﴾.

ومنها: السؤال عن العلة ، كأن السائل يقول: ما بال هؤلاء استحقوا الهداية واختصوا بها؟ فأجاب: بأن هؤلاء الذين امتزجت واجتمعت فيهم تلك الاوصاف - إن تأملت - لجديرون بنور الهداية.

فان قلت: التفصيل السابق أجلى للعلة من الاجمال في (اولئك)؟

قيل لك: قد يكون الاجمال اوضح من التفصيل لاسيما اذا كان المطلوب متولداً من المجموع؛ اذ بسبب جزئية ذهن السامع، والتدرج في اجزاء التفصيل، وتداخل النسيان بينها، وتجلي العلة من مزج الاجزاء قد لايُتفطن لتولد العلة. فالاجمال في (اولئك) لاجل الامتزاج أجلى للعلية.

ومنها: السؤال عن نتيجة الهداية وثمرتها، والنعمة واللذة فيها. كأن السامع يقول: ما اللذة والنعمة؟ فاجاب بأن فيها سعادة الدارين. أي ان نتيجة الهداية نفسها وثمرتها عينها، اذ هي بذاتها نعمة عظمى ولذة وجدانية، بل جنة الروح؛ كما ان الضلالة جهنمها. ثم بعد ذلك تثمر الفلاح في الآخرة.

واما المحسوسية في ﴿اُولئِك﴾ فاشارة الى ان ذكر الاوصاف الكثيرة سبب للتجسم في الذهن، والحضور في العقل، والمحسوسية للخيال. فمن العهد(3) الذِكري ينفتح باب الى العهد الخارجي، ومن العهد الخارجي ينتقل الى امتيازهم، وينظر الى تلألئهم في نوع البشر كأنه من رفع رأسه وفتح عينيه لا يتراءى له الا هؤلاء.

واما البُعدية في ﴿اُولئِك﴾ مع قُربيتهم في الجملة فللاشارة الى تعالي رتبتهم؛ اذ الناظر الى البعداء لا يرى الا اطولهم قامة، مع ان حقيقة البعد الزماني والمكاني اقضى لحق البلاغة؛ اذ هذه الآية كما ان عصر السعادة لسان ذاكر لها وهي تنزل، كذلك كلٌّ من الاعصار الاستقبالية كأنه لسان ذاكر لها، وهي شابة طرية كأنها اذ ذاك نزلت لا انها نزلت ثم حكيت.فاوائل الصفوف المشار اليهم بـ (اولئك) يتراؤن من بُعْدٍ. ولأجل الرؤية مع بُعدهم يُعلم عظمتهم وعلوّ رتبتهم.

واما لفظ ﴿عَلَى﴾ فاعلم! ان سر المناسبة بين الاشياء صيَّر اكثر الامور كالمرايا التي تتراءى في أنفسها؛ هذه في تلك وتلك في هذه. فكما ان قطعة زجاجة تريك صحراء واسعة؛ كذلك كثيراً ماتذكِّرك كلمةٌ فذة خيالا طويلا، وتمثل نصب عينيك هيئة كلمة حكاية عجيبة. ويجول بذهنك كلام في عالم المثال المثالي. كما ان لفظ (بارَزَ) يفتح لك معركة الحرب، ولفظ (ثمرة) في الآية يفتح لك باب الجنة وقس! فعلى هذا لفظ (على) للذهن كالكُوَّة الى اسلوب تمثيلي هو ان هداية القرآن بُراقٌ إلهي أهداه للمؤمنين ليسلكوا، وهم عليه في الطريق المستقيم سائرين الى عرش الكمالات.

واما التنكير في ﴿هُدى﴾ فيشير الى انه غير ﴿هدى للمتقين﴾ اذ المنكّر المكرر غير الاول في الاغلب(4). فذاك مصدر وهذا حاصل بالمصدر.. وهو صفة محسوسة قارة(5) كثمرة الاول.

واما لفظ ﴿من﴾ فيشير الى ان الخلق والتوفيق في اهتدائهم - المكسوب لهم - من الله.(6)

واما لفظ الـ (رب) فيشير الى ان الهداية من شأن الربوبية فكما يربيهم بالرزق يغذيهم بالهداية.

﴿وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾

اعلم! ان مظان تحري النكت هي: عطف (الواو)، ثم تكرار (اولئك)، ثم (ضمير الفصل)، ثم الالف واللام، ثم إطلاق (مفلحون) وعدم تعيين وجه الفلاح.

اما العطف فمبني على المناسبة؛ اذ كما ان ﴿اولئك﴾ الاول اشارة الى ثمرة الهداية من السعادة العاجلة؛ فهذه اشارة الى ثمرتها من السعادة الآجلة. ثم انه مع ان كلاً منهما ثمرة لكل ما مر، الا ان الأَولى أَن ﴿اولئك﴾ الاول يرتبط عِرْقُه بـ﴿الذين﴾ الاول، الظاهر انهم المؤمنون من الأميين، ويأخذ قوته من اركان الاسلامية، وينظر الى ما قبل ﴿وبالآخرة هم يوقنون﴾. و ﴿اولئك﴾ الثاني ينظر برمز خفي الى ﴿الذين﴾ الثاني، الظاهر انهم مؤمنو اهل الكتاب. ويكون مأخذه اركان الايمان واليقين بالآخرة. فتأمل!

واما تكرار ﴿اولئك﴾ فاشارة الى استقلال كل من هاتين الثمرتين في العلة الغائية للهداية والسببية لتميزهم ومدحهم، الا ان الأولى ان يكون ﴿اولئك﴾ الثاني اشارة الى الاول مع حكمه كما تقول: ذلك عالموذلك مكرّم.

واما ضمير الفصل فمع انه تأكيد الحصر الذي فيه تعريض بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالنبيّ عليه السلام، فيه نكتة لطيفة وهي: ان توسط ﴿هم﴾ بين المبتدأ والخبر من شأنه أن يحول المبتدأ للخبر الواحد موضوعاً لاحكام كثيرة يُذكَر البعضُ ويُحال الباقية على الخيال؛ لان ﴿هم﴾ ينَبِّه الخيال على عدم التحديد ويشوّقه على تحري الاحكام المناسبة. فكما انك تضع زيداً بين عيني السامع فتأخذ تغزل منه الاحكام قائلا: هو عالم، هو عامل، هو كذا وكذا. ثم تقول قس! كذلك لما قال ﴿اولئك﴾ ثم جاء ﴿هم﴾ هيّج الخيال لان يجتني ويبتني بواسطة الضمير أحكاماً مناسبة لصفاتهم،كـ: اولئك هم على هدى.. هم مفلحون.. هم فائزون من النار.. هم فائزون بالجنة.. هم ظافرون برؤية جمال الله تعالى الى آخره.

وأما الألف واللام فلتصوير الحقيقة.كأنه يقول: ان أحببت أن ترى حقيقة المفلحين، فانظر في مرآة ﴿اولئك﴾ لتمثل لك.. أو لتمييز ذواتهم، كأنه يقول: الذين سمعت أنهم من أهل الفلاح ان أردت ان تعرفهم فعليك بـ﴿اولئك﴾ فهم هم.. او لظهور الحكم وبداهته نظير (والده العبد) اذ كون والده عبداً معلوم ظاهر..

وأما إطلاق (مفلحون) فللتعميم؛ اذ مخاطب القرآن على طبقات مطالبهم مختلفة. فبعضهم يطلب الفوز من النار.. وبعض إنما يقصد الفوز بالجنة.. وبعض انما يتحرى الرضاء الالهي.. وبعض مايحب الا رؤية جماله.. وهلم جرّا.. فاطلق هنا لتعم مائدة احسانه فيجتني كلٌّ مشتهاه.

___________________________________

(1) ان هذه الاية (ش)

(2) أي انها جواب

(3) حيث ذكرت اوصافهم فاصبحت معهودة (ت:65).

(4) حيث ان النكرة اذا كررت بصورة معرفة، فتلك المعرفة هى عين تلك النكرة، اما اذا ذكرت النكرة نكرة فلا تكون عين النكرة في الاغلب (ت:67).

(5) قارة: ثابتة.

(6) اذ الاهتداء، اى سلوك طريق الصواب، هو ضمن اختيارهم وداخل كسبهم، مع ان الهداية التى هى صفة ثابتة، فهى من الله تعالى (ت:67).

6 تفسير الاية[]

اِنًّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَاَنْذَرْتَهُمْ اَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لايُؤْمِنُونَ (6)

وجه النظم:

اعلم! ان للذات الاحديِّ في عالم صفاته الازلية تجلِّيَيْن جلاليّ وجماليّ. فبتجليهما في عالم صفات الافعال يتظاهر اللطف والقهر والحسن والهيبة. ثم بالانعطاف في عالم الافعال يتولد التحلية والتخلية والتزيين والتنزيه. ثم بالانطباع في العالم الأُخروي من عالم الآثار يتجلى اللطف جنة ونوراً، والقهر جهنم وناراً. ثم بالانعكاس في عالم الذكر ينقسم الذكر الى الحمد والتسبيح. ثم بتمثلهما في عالم الكلام يتنوع الكلام الى الأمر والنهي. ثم بالارتسام في عالم الارشاد يقسمانه الى الترغيب والترهيب والتبشير والانذار. ثم بتجليهما على الوجدان يتولد الرجاء والخوف.. وهكذا. ثم ان من شأن الارشاد ادامة الموازنة بين الرجاء والخوف، ليدعو الرجاء الى ان يسعى بصرف القوى، والخوف الى ان لايتجاوز بالاسترسال فلا ييأس من الرحمة فيقعد ملوماً، ولا يأمن العذاب فيتعسف ولا يبالي. فلهذه الحكمة المتسلسلة مارغّب القرآن إلاّ وقد رهَّب، وما مدح الابرار الا وقرنه بذمّ الفجار.

ان قلت: فلِمَ لم يعطف هنا كما عطف في ﴿اِنَّ الابْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَاِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾( سورة الانفطار: 13-14).؟

قيل لك: ان حسن العطف ينظر الى حسن المناسبة، وحسن المناسبة يختلف باختلاف الغرض المسوق له الكلام. ولما اختلف الغرض هنا وهنالك، لم يستحسن العطف هنا؛ اذ مدحُ المؤمنين منجر ومقدمة لمدح القرآن، ونتيجة له، وسيق له. وأما ذم الكافرين فللترهيب لايتصل بمدح القرآن.

ثم انظر الى اللطائف المندمجة في نظم اجزاء هذه الآية!

فأولا: استأنس بـ﴿إنّ﴾ و﴿الذين﴾ فانهما أجْوَلُ وأسْيَرُ ما يصادفك في منازل التنزيل. ولأمر مّا أكثر القرآنُ من ذكرهما؛ اذ معهما من جوهر البلاغة نكتتان عامتان غير ماتختص كل موقع.

أما ﴿إنّ﴾ فان من شأنها ان تثقب السطح نافذة الى الحقيقة، وتوصل الحكم اليها؛ كأنها عرق الدعوى اتصلت بالحق. مثلا: ان هذا كذا.. أي الحكمُ وهذه الدعوى ليست خيالية ولا مبتدعة ولا اعتبارية ولا مستحدثة؛ بل هي من الحقائق الجارية الثابتة. وما يقال من أن (إنّ) للتحقيق فعنوان لهذه الحقيقة والخاصية. والنكتة الخصوصية هنا هي أن (إنّ) الذي شأنه رد الشك والانكار مع عدمهما في المخاطب للاشارة الى شدة حرص النبي عليه السلام على ايمانهم.

واما ﴿الذين﴾ فاعلم! ان (الذي) من شأنه الاشارة الى الحقيقة الجديدة التي أحس بها العقل قبل العين، وأخذت في الانعقاد ولم تشتد، بل تتولد من امتزاج أشياء وتآخذ أسباب مع نوع غرابة. ولهذا ترى من بين وسائط الاشارة والتصوير في الانقلاب المجدد للحقائق لفظ (الذي) أسيرَ على الالسنة وأكثر دورانا. فلما ان تجلى مؤسس الحقائق وهو القرآن، اضمحل أنواعٌ ونقضت فصولُها وتشكلت انواع اُخر وتولدت حقائق اخرى. اما ترى زمان الجاهلية كيف تشكلت الانواع على الروابط الملّية وتولدت الحقائق الاجتماعية على العصبيات القومية؟ فلما ان جاء القرآن قطع تلك الروابط وخرب تلك الحقائق فأسس بدلاَ عنها انواعاً، فصولها الروابط الدينية. فتأمل!.. فلما أشرق القرآن على نوع البشر تزاهر بضيائه واثمر بنوره قلوب فتحصلت حقيقة نورانية هي فصل نوع المؤمنين. ثم لخبث بعض النفوس تعفنت في مقابلة الضياء تلك النفوسُ فتولدت حقيقة سمّية هي خاصة نوع مَن كفر(1)..

وايضا بين (الذين) و(الذين) تناسب.(2)

اعلم! ان الموصول كالالف واللام يستعمل في خمسة معان اشهرها العهد. فـ(الذين) هنا اشارة الى صناديد الكفر امثال ابي جهل

وابي لهب وأُمية بن خلف وقد ماتوا على الكفر. فعلى هذا في الآية إخبار عن الغيب. وامثال هذا لمعاتٌ يتولد منها نوعٌ من الاعجاز من الانواع الاربعة للاعجاز المعنوي.

واما لفظ ﴿كفروا﴾ فاعلم! ان الكفر ظلمة تحصل من انكار شئ مما عُلِمَ ضرورةً مجئ الرسول عليه السلام به.

ان قلت: ان القرآن من الضروريات وقد اُختلف في معانيه؟

قيل لك: ان في كل كلام من القرآن ثلاث قضايا:

احداها: (هذا كلام الله).

والثانية: (معناه المراد حق)؛ وانكار كلٍّ من هاتين كفر.

والثالثة: (معناه المراد هذا)؛ فان كان مُحْكَماً أو مفسراً فالايمان به واجب بعد الاطلاع، والانكار كفر. وان كان ظاهراً، او نصاً يحتمل معنى آخر، فالانكار بناء على التأويل - دون التشهّي - ليس بكفر(3). ومثل الآية الحديث المتواتر؛ الا ان في انكار القضية الاولى من الحديث تأملا.(4)

ان قلت: الكفر جهل وفي التنزيل ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ اَبْنَاءهُمْ﴾(سورة البقرة:146) فما التوفيق؟

قيل لك: ان الكفر قسمان:

جهليّ ينكِر لأنه لا يعلم. والثاني جحودي تمردي يعرف لكن لايقبل، يتيقّن لكن لايعتقد، يصدِّق لكن لايـذعن وجدانُه. فتأمل!..

ان قلت: هل في قلب الشيطان معرفة؟

قيل لك: لا، اذ بحكم صنعته الفطرية يشتغل قلبُه دائما بالاضلال ويتصور عقلُه دائماً الكفر للتلقين فلا ينقطع هذا الشغل، ولا يزول ذلك التصور عن عقله حتى تتمكن فيه المعرفة.

ان قلت: الكفر صفة القلب فكيف كان شدّ الزُنّار - وقد قيس عليه (الشَّوْقَة)(5)- كفراً؟

قيل لك: ان الشريعة تعتبر بالامارات على الامور الخفية حتى اقامت الاسباب الظاهرية6) مقام العلل. ففي شد الزُنَّار المانع بعضُ نوعه عن اتمام الركوع، وإلباس (الشَوْقَة) المانعة عن تمام السجود علامة الاستغناء عن العبودية، والتشبه بالكفرة المومِئ باستحسان مسلكهم وملّيتهم. فما دام لم يُقطَع بانتفاء الامر الخفي يُحكَم بالامر الظاهر.

ان قلت: اذا لم يُجدِ الانذار فلِمَ التكليف؟

قيل لك: لإلزام الحجة عليهم.(7)

ان قلت: الاخبار عن تمردهم يستلزم امتناع ايمانهم فيكون التكليف بالمحال؟

قيل لك: ان الاخبار وكذا العلم والارادة لا تتعلق بكفرهم مستقلا مقطوعاً عن السبب، بل انما تتعلق بكفرهم باختيارهم. كما يأتيك تفصيله. ومن هنا يقال: (الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار).

ان قلت: ايمانهم بعدم ايمانهم(8) محال عقليّ يشبه (الجذر الاصم الكلاميّ).؟(9)


قيل لك: انهم ليسوا مكلفين بالتفصيل حتى يلزم المحال.

ثم في ايراد ﴿كفروا﴾ فعلاً ماضياً، اشارة الى انهم اختاروا الكفر بعد تبين الحق فلذا لايفيد الانذار.

واما ﴿سواء﴾ فمجاز عن: (انذارك كعدم الانذار في عدم الفائدة او في صحة الوقوع) اي لاموجب للانذار ولا لعدمه.

واما ﴿عليهم﴾ ففيه ايماء الى انهم اخلدوا الى الارض فلا يرفعون رؤوسهم ولا يصغون الى كلام آمرهم.. وفيه أيضا رمز الى انه ليس سواء عليك، لان لك الخير في التبليغ؛ اذ ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إلاّ البَلاغُ﴾(سورة المائدة:99).

واما ﴿ءَاَنذرتهم ام لم تنذرهم﴾ فالهمزة واَمْ هنا في حكم (سواء حرفي)، تأكيد لسواء الاول. أو تأسيس نظراً الى اقتسامهما المعنيين المذكورين للمساواة.

ان قلت: فلِمَ عبّر عن المساواة بصورة الاستفهام؟

قيل لك: اذا اردت ان تنبه المخاطب على عدم الفائدة في فعل نفسه بوجه لطيف مقنع لابد ان تستفهم ليتوجه ذهنُه الى فعله فينتقل منه الى النتيجة فيطمئن.. ثم العلاقة بين الاستفهام والمساواة تضمنه لها؛ اذ السائل يتساوى في علمه الوجود والعدم.. وايضا كثيرا مايكون الجواب هذه المساواة الضمنية.

ان قلت: لِمَ عبّر عن الانذار في (أنذرتهم) بصورة الماضي؟

قيل لك: لينادي (يا محمد قد جرَّبْتَ) فقس!

ان قلت: لِمَ ذكر ﴿ام لم تنذرهم﴾ مع ان عدم فائدة عدم الانذار ظاهر؟

قيل لك: كما قد ينتج الانذار اصراراً، كذلك قد يجدي السكوت انصاف المخاطب.

ان قلت: لِمَ انذر بالترهيب فقط مع انه بشير نذير؟

قيل لك: اذ الترهيب هو المناسب للكفر، ولان دفع المضار أولى من جلب المنافع وأشد تأثيراً، ولأن الترهيب هنا يهز عِطف الخيال ويوقظه لان يتلقى ويجتني بعد قوله ﴿لايؤمنون﴾ (أبشّرتهم ام لم تبشرهم).

ثم اعلم! كما ان لكل حكمٍ معنى حرفياً ومقصدا خفياً؛ كذلك لهذا الكلام معان طيارة ومقصد سيق له هو تخفيف الزحمة، وتهوين الشدة عن النبي عليه السلام، وتسليته بتأسّيه بالرسل السالفين. اذ خوطب اكثرهم بمثل هذا الخطاب، حتى قال نوح بعده ﴿لا تَذَرْ عَلَى الاَرْضِ مِنَ الْكَافِرينَ دَيَّاراً﴾(سورة نوح:26).. ثم لأن آيات القرآن كالمرايا المتناظرة، وقصص الانبياء كالهالة للقمر تنظر الى حال النبي عليه السلام؛ كان كأن هذا الكلام يقول: هذا قانون فطريّ الهيّ يجب الانقياد له.

واعلم بعد هذا التحليل!

ان مجموع هذه الآية الى ﴿ولهم عذاب عظيم﴾ سيقت: مشيرةً بعقودها الى تقبيح الكفر وترذيله، والتنفير منه والنهي الضمني عنه، وتذليل أهله، والتسجيل عليهم، والترهيب عنه، وتهديدهم.. منادية(10) بكلماتها بأن في الكفر مصائب عظيمة، وفوات نِعَم جسيمة، وتولد آلام شديدة، وزوال لذائذ عالية.. مصرحةً بجملها بأن الكفر أخبث الاشياء وأضرها.

اذ أشار بلفظ ﴿كفروا﴾ بدل (لم يؤمنوا) الى انهم بعدم الايمان وقعوا في ظلمة الكفر الذي هو مصيبة تفسد جوهر الروح وايضا هو معدن الآلام.

وبلفظ ﴿لايؤمنون﴾ بدل (لايتركون الكفر) الى انهم مع تلك الخسارة سقط من ايديهم الايمان الذي هو منبع جميع السعادات.

وبلفظ ﴿ختم الله على قلوبهم﴾ الى ان القلب والوجدان - الذي حياته وفرحه وسروره وكمالاته بتجلي الحقائق الالهية بنور الايمان - بعدما كفروا صار كالبناء الموحش الغير المعمور المشحون بالمضرات والحشرات، فاُقْفِل واُمْهِر(11) على بابه ليُجتَنب، وتُرك مفوضاً للعقارب والافاعي.

وبلفظ ﴿وعلى سمعهم﴾ الى فوات نعمة عظيمة سمعية بسبب الكفر؛ اذ السمع من شأنه - اذا استقر خلف صماخه نورُ الايمان واستند اليه - الاحتساس بنداء كل العالم وفهم اذكارها، وسمع صياح الكائنات وتفهم تسبيحاتها.. حتى ان السمعَ ليسمعُ من ترنمات هبوب الريح، ومن نعرات رعد الغيم، ومن نغمات امواج البحر، ومن صرخات دقدقة الحجر، ومن هزجات نزول المطر، ومن سجعات غناء الطير كلاماً ربانياً، ويفهم تسبيحا علويا، كأن الكائنات موسيقية عظيمة له، تهيّج في قلبه حزناً علوياً وعشقاً روحانياً فيحزن بتذكر الأحباب والانيس فيكون الحزن لذة؛ لا بعدم الاحباب فيكون غماً.. واذا اظلم ذلك السمع بالكفر صار اصم من تلك الاصوات اللذيذة، ولايسمع من الكائنات إلا نياحات المأتم ونعيات الموت، فلا يلقي في القلب الا غم اليتمة - اي عدم الاحباب - ووحشة الغربة - اي عدم المالك والمتعهد - فبناء على هذا السر أحل الشرع بعض الاصوات وهو ماهيّج عشقاً علوياً وحزناً عاشقياً، وحرّم بعضها وهو ما انتج اشتهاء نفسياً وحزناً يتمياً، ومالم يُرِكَ الشرع فمَيِّزْه بتأثيره في روحك ووجدانك.

وبكلمة ﴿وَعلى ابصارهم غشاوة﴾ الى زوال نعمة جسيمة بسبب الكفر؛ اذ البصر من شأنه اذا استضاء نوره واتصل بنور الايمان الساكن خلف شُبيكته ممداً ومحركاً له كان كل الكائنات كجنة مزينة بالزهر والحور، ويصير نور العين نحلا تطير عليها فتجتنى من تلكالازاهير عصارة العبرة والفكرة والانسية والاستيناس والتحبب والتهنئة، فتأخذ حميلتها فتتخذ في الوجدان شهد الكمالات.. واذا أظلم - العياذ بالله - ذلك البصرُ بالكفر طمس، وصارت الدنيا في نظره سجناً، وتسترت عنه الحقائق وتوحشت عليه الكائنات وتلقى الى قلبه آلاماً تحيط بوجدانه من الرأس الى القدم..

وبلفظ ﴿ولهم عذاب عظيم﴾ الى ثمرة شجرة زقوم الكفر في العالم الاخروي من عذاب جهنم ومن نكال الغضب الالهي. هذا.

واما (لايؤمنون) فتأكيد لـ(سواء) ينص على جهة المساواة.

__________________

(1) فلأجل الاشارة الى هذه الحقيقة الكفرية، ذكر (الذين) (ت:72).

(2) لأن كلاً منهما يدلان على حقيقة مضادة للاخرى (ت:72).

(3) واختلاف المفسرين ليس الاّ في هذا القسم (ت:73)

(4) اى ثبوت صحته وتواتره (ت:73)

(5) القبعة.

(6) التى هى ليست عللاً (ت:74)

(7) اذ يمكنهم ان يقولوا لم نبلّغ بالتكليف ولا علم لنا به، ويكون هذا مدار نجاتهم من الجزاء (ت:74)

(8) كما في (لايؤمنون) وامثالها من الآيات (ت:74).

(9) مغلطة الجذر الاصم هى هذه: قيل ان اجتماع النقيضين واقع، لانه لو قال قائل كل كلامي في هذه الساعة كاذب والحال انه لم يقل في تلك الساعة غير هذا الكلام، فلا يخلو من ان يكون هذا الكلام، صادقاً أوكاذباً. وعلى التقديرين يلزم اجتماع النقيضين. اما اذا كان صادقاً فيلزم كذب كلامه في تلك الساعة، وهذا الكلام مما تكلم به في تلك الساعة ولم يتكلم بغيره؛ فيلزم كذب كلامه. والتقدير انه صادق فيلزم اجتماع النقيضين وان كان كاذباً يلزم ايضاً اجتماع النقيضين لانه يلزم ان يكون بعض افراد كلامه صادقاً في تلك الساعة لكن ما وجد عنه في تلك الساعة سوى هذا الكلام فيلزم صدقه، والمفروض كذبه فيلزم اجتماع النقيضين. وهذه المغلطة مشهورة تحير جميع العلماء في حلّها.(ب)

(10) بالنصب، عطف على قوله: مشيرةً. وكذا مصرحة.

(11) اى ختم على بابه. والمهر- بالضم - هو الختم الذى يطبع ويوقع به. والكلمة اعجمية استعملها تفنناً. وله من الحسن مقام(ش)


7 تفسير الاية[]

حتَمَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى اَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ

وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)


مـقدمـة

اعلم! انه لزمنا ان نقف هنا حتى نستمع لما يتكلم به المتكلمون؛ اذ تحت هذه الآية حرب عظيمة بين اهل الاعتزال واهل الجبر واهل السنة والجماعة. ومثل هذه الحرب تستوقف النُظّار. فناسب ان نذكر اساسات لتستفيد منها:

ان مذهب اهل السنة والجماعة هو الصراط المستقيم، وماعداه إما افراط او تفريط.

منها: انه قد تحقق (اَنْ لا مُؤَثِّرَ فِي الْكَوْنِ اِلاّ الله) فإذاً لا تفويض.(1)

ومنها: (ان الله حكيم) فلا يكون الثواب والعقاب عبثين فحينئذ لا اضطرار. فكما ان التوحيد يدفع في صدر الاعتزال؛ كذلك التنزيه يضرب على فم الجبر.

ومنها: ان لكل شئ جهتين: جهة مُلكية هي قد تكون حسنة وقد تكون قبيحة تتوارد عليها الاشكال كظهر المرآة. وجهة ملكوتية تنظر الى الخالق. وتلك شفافة في كل شئ كوجه المرآة. فخلقُ القبيح ليس قبيحاً؛ اذ الخلق من جهة الملكوتية حسن، ولان خلقه لتكميل المحاسن فيحسن بالغير. فلا تصغ الى سفسطة الاعتزال!

ومنها: ان الحاصل بالمصدر(2) أمر قارٌ مخلوق جامد لا يشتق منه الصفات(3). واما المصدر فمكسوب نسبيّ اعتباريّ يشتق منه

الصفات. فلا يكون خالق القتل قاتلا.. فَذَرْ اهلَ الاعتزالِ في خوضهم يَلْعَبُون!..

ومنها: ان الفعل الظاهريّ في الاغلب نتيجة لافعال متسلسلة منتهية الى ميلان النفس الذي يسمّى (بالجزء الاختياري). فتدور المنازعات على هذا الاساس.

ومنها: ان الارادة الكلية الالهية ناظرة بعادته تعالى الى الارادة الجزئية للعبد، فلا اضطرار.

ومنها: ان العلم تابع للمعلوم، فلا يتبعه المعلوم حتى يدور. فلا يُتعلل في العمل باحالة مقاييسه على القدر.

ومنها: ان خلق الحاصل بالمصدر متوقف على كسب المصدر بجريان عادة الله تعالى باشتراطه به. والنواة في كسب المصدر والعقدة الحياتية فيه هي الميلان، فبحلّه تنحل عقدة المسألة.

ومنها: ان الترجح بلا مرجح محال دون الترجيح بلا مرجح فلا تُعلّلُ أفعالُه تعالى بالاغراض؛ بل اختياره تعالى هو المرجح.

ومنها: ان الامر الموجود لابد له من مؤثر وإلا لزم الترجح بلا مرجح وهو محال كما مر. واما الامر الاعتباري(4) فتخصصه بلا مخصص لا يلزم منه المحال.

ومنها: ان الموجود يجب ان يجب ثم يوجد(5). واما الامر الاعتباري فالترجح بلا انتهاء الى حد الوجوب كاف فلا يلزم ممكن بلا مؤثر.

ومنها: ان العلم بوجود شئ لايستلزم العلم بماهيته، وعدم العلم بالماهية لايستلزم العدم. فعدم التعبير عن كُنهِ الاختيار لاينافي قطعية وجوده.

واذا تفطنت لهذه الاساسات فاستمع لما يُتلى عليك:

فنحن معاشر اهل السنة والجماعة نقول: يا اهل الاعتزال! ان العبد ليس خالقاً للحاصل بالمصدر كالحاصل من المصدر(6)، بل هو مصدر المصدر فقط(7)؛ اذ (لا مؤثر في الكون الا الله)، والتوحيد هكذا يقتضي. ثم نقول: يا اهل الجبر! ليس العبد مضطراً بل له جزء اختياري لان الله حكيم. وهكذا يقتضي التنزيه.

فان قلتم: كلما يُشرّح الجزء الاختياري بالتحليل لايظهر منه الا الجبر.

قيل لكم:

اولاً: ان الوجدان والفطرة يشهدان ان بين الامر الاختياري والاضطراري امرا خفيا فارقا، وجودُه قطعي. فلا علينا ان لانعبِّر عنه.

وثانياً: نقول ان الميلان ان كان امراً موجوداً -كما عليه الاشاعرة - فالتصرف فيه امر اعتباري بيد العبد(8)؛ وان كان الميلان امرا اعتباريا -كما عليه الماتريدية - فذلك الامر الاعتباري ثبوته وتخصصه لايستلزم العلة التامة الموجبة(9) فيجوز التخلف(10). فتأمل!

والحاصل: ان الحاصل بالمصدر موقوف عادة على(11) المصدر الذي اساسه الميلان الذي هو - او التصرف فيه - ليس موجوداً حتى يلزم(12) من تخصصه مرة هذا ومرة ذاك ممكن بلا مؤثر، او ترجح بلا مرجح.. ولامعدوماً ايضاً حتى لايصلح ان يكون شرطا لخلقالحاصل بالمصدر او سبباً للثواب والعقاب.

ان قلت: العلم الازلي والارادة الازلية ينحيان على الاختيار بالقلع؟(13)

قيل لك: ان العلم بفعلٍ باختيارٍ لاينافي الاختيار(14).. وايضا ان العلم الازلي محيط كالسماء لا مبدأ للسلسلة كرأس زمان الماضي حتى تسند اليه المسببات متغافلا عن الاسباب موهما خروجها.. وايضا ان العلم تابع للمعلوم، أي على أي كيفية يكون المعلوم، كذلك يحيط به العلم، فلا يستند مقاييس المعلوم الى اساسات القدر.. وايضا ان الارادة لاتتعلق بالمسبب فقط مرة وبالسبب مرة اخرى حتى لاتبقى فائدة في الاختيار والسبب؛ بل تتعلق تعلقاً واحداً بالمسبب وبسببه. وعلى هذا السر لو قتل شخص شخصاً بالبندقة مثلا، ثم فرضنا عدم السبب والرمي هل يموت ذلك الشخص في ذلك الآن ام لا؟ فاهل الجبر يقولون: لو لم يُقتل لمات ايضا لتعدد التعلق والانقطاع بين السبب والمسبب.. واهل الاعتزال يقولون: لم يمت، لجواز تخلف المراد عن الارادة عندهم.. واما اهل السنة والجماعة فيقولون: نتوقف ونسكت؛ اذ فرض عدم السبب يستلزم فرض عدم تعلق الارادة والعلم بالمسبب ايضا، اذ التعلق واحد. فهذا الفرض المحال جاز ان يستلزم محالا. فتأمل!



مقدمة اخرى

اعلم! ان الطبيعيين يقولون: ان للاسباب تأثيراً حقيقياً. . والمجوس يقولون: ان للشر خالقاً آخر.. والمعتزلة يدّعون: ان الحيوان خالق لإفعاله الاختيارية. وأساس هذه الثلاثة مبنية على وهمٍ باطلٍ، وخطأ محض، وتجاوز عن الحد وقياس مع الفارق، خدعهموشبطهم(15)؛ اذ ذهبوا ظناً منهم الى التنزيه فوقعوا في شَرَك الشِرك. وان شئت التفصيل فاستمع لمسائل تطرد ذلك الوهم:

منها: انه كما ان استماع الانسان وتكلمه وملاحظته وتفكره جزئية تتعلق بشئ فشئ على سبيل التعاقب؛ كذلك همتُه جزئية لاتشتغل بالاشياء إلا على سبيل التناوب.

ومنها: ان قيمة الانسان بنسبة ماهيته.. وماهيته بدرجة همته.. وهمته بمقدار اهمية المقصد الذي يشتغل به.

ومنها: ان الانسان الى اي شئ توجّه يفنى فيه وينحبس عليه. ومن هذه النقطة ترى الناس - في عرفهم - لايسندون شيئا خسيساً وأمراً جزئيا الى شخص عظيم وذاتٍ عال؛ بل الى الوسائل ظناًً منهم ان الاشتغال بالامر الخسيس لايناسب وقاره، وهو لايتنزل له ولا يسع الامر الحقير همته العظيمة، ولا يوازن الامر الخفيف مع همته العظيمة.

ومنها: ان من شأن الانسان - اذا تفكر في شئ لمحاكمة احواله - ان يتحرى مقاييسه وروابطه واساساته، أولاً في نفسه، ثم في ابناء جنسه.. وان لم يجد ففي جوانبه من الممكنات. حتى ان واجب الوجود الذي لايشبه الممكنات بوجه من الوجوه اذا تفكر فيه الانسان تلجؤه القوة الواهمة لان يجعل هذا الوهم السئ المذكور دستوراً، والقياس الخادع منظاراً له. مع ان الصانع جل جلاله لاينظر اليه من هذه النقطة؛ اذ لا انحصار لقدرته.

ومنها: ان قدرته وعلمه وارادته جل جلاله كضياء الشمس - ولله الْمَثَلُ الاعْلى - شاملة لكل شئ، وعامة لكل امر. فلا تقع في الانحصار ولاتجئ في الموازنة. فكما تتعلق باعظم الاشياء كالعرش؛ تتعلق باصغرها كالجوهر الفرد.. وكما خلق الشمس والقمر؛ كذلك خلق عينَي البرغوث والبعوضة.. وكما اودع نظاماً عالياً في الكائنات؛ كذلك اوقعنظاماً دقيقاً في امعاء الحيوانات (الخردبينية)(16).. وكما ربط الاجرام العلوية والنجوم المعلَّقة بقانونه المسمى بالجاذب العمومي؛ كذلك نظّم الجواهر الفردة بنظير ذلك القانون كأنه مثال مصغر لها. اذ بتداخل العجز تتفاوت مراتب القدرة. فمن امتنع عليه العجزُ تتساوى في قدرته الاشياء، اذ العجز ضد القدرة الذاتية. فتأمل!

ومنها: ان اول ماتتعلق به القدرة ملكوتية الاشياء وهي شفّافة حسنة في الكل كما مر. فكما انه جل جلاله جعل وجه الشمس مجلىً ووجه القمر مستضيئا؛ كذلك صير ملكوتية الليل والغيم حسنة منيرة.

ومنها: ان مقياس عظمته تعالى وميزان كمالاته وواسطة محاكمة اوصافه لايسعها ذهنُ البشر، ولا يمكن له الا بوجه(17)، بل انما هو بما يتحصل من جميع مصنوعاته.. وبما يتجلى من مجموع آثاره.. وبما يتلخص من كل افعاله. نعم الذرة تكون مرآةً ولا تكون مقياساً.

واذا تفطنت لهذه المسائل فاعلم! ان الواجب تعالى لايقاس على الممكنات، اذ الفرق من الثرى الى الثريا. ألا ترى اهل الطبيعة والاعتزال والمجوس - بناء على تسلط القوة الواهمة بهذا القياس على عقولهم - كيف التجأوا الى اسناد التأثير الحقيقي الى الاسباب، وخلق الافعال للحيوان، وخلق الشر لغيره تعالى؟ يظنون ويتوهمون ان الله تعالى بعظمته وكبريائه وتنزّهه كيف يتنزل لهذه الامور الخسيسة والاشياء القبيحة؟ فسحقاً لهم! كيف صيروا العقل اسيراً لهذا الوهم الواهي هـذا؟.. ياهذا ! هذا الوهم قد يتسلط على المؤمن ايضا من جهة الوسوسة فتجنَّب!.



اما تحليل كلمات هذه الآية ونظمها:

فاعلم! ان ربط ﴿ختم﴾ بـ (لايؤمنون) وتعقيبه به نظير ترتبالعقاب على العمل. كأنه يقول لما افسدوا الجزء الاختياري ولم يؤمنوا عوقبوا بختم القلب وسدّه. ثم لفظ (الختم) يشير الى استعارة مركبة تومئ الى اسلوب تمثيلي يرمز الى ضربِ مَثَلٍ يصوِّر ضلالتهم؛ اذ المعنى فيه منع نفوذ الحق الى القلب. فالتعبير بالختم يصور القلب بيتاً بناه الله تعالى ليكون خزينة الجواهر، ثم بسوء الاختيار فسد وتعفن وصار ما فيه سموما فاُغلق واُمهر ليُجتنب.

واما ﴿الله﴾ فاعلم! ان فيه التفاتاً من التكلم الى الغيبة. ومع نكتة الالتفات ففي مناسبة لفظ (الله) مع متعلق (لايؤمنون) في النية، أعني لفظ (بالله)، اشارة الى لطافة، هي انه لما جاء نور معرفة الله اليهم فلم يفتحوا باب قلبهم له تولى عنه مغضباً واغلق الباب عليهم.

واما ﴿على﴾ فاعلم! ان فيه - بناء على كون الختم متعدياً بنفسه - اشارة الى تضمين ختم (وسم)، كأنه يقول: جعل الله الختم وسماً وعلامةً على القلب يتوسمه الملائكة.. وفي (على) أيضا ايماء الى ان المسدود الباب العلوي من القلب لا الباب السفلي الناظر الى الدنيا.

واما ﴿قلوبهم﴾ قدّمه على السمع والبصر لانه هو محل الايمان.. ولان اول دلائل الصانع يتجلى من مشاورة القلب مع نفسه، ومراجعة الوجدان الى فطرته، لانه اذا راجع نفسه يحس بعجز شديد يلجؤه الى نقطة استناد، ويرى احتياجاً شديداً لتنمية آماله فيضطر الى نقطة استمداد، ولا استناد ولا استمداد الا بالايمان.. ثم ان المراد بالقلب اللطيفة الربانية التي مظهر حسيّاتها الوجدان، ومعكس افكارها الدماغ، لا الجسم الصنوبري. فاذاً في التعبير بالقلب رمز الى ان اللطيفة الربانية لمعنويات الانسان كالجسم الصنوبري لجسده. فكما ان ذلك الجسم ماكينة حياتية تنشر ماء الحياة لأقطار البدن، واذا انسد وسكن جمد الجسد؛ كذلك تلك اللطيفة تنشر نور الحياة الحقيقية لاقطار الهيئة المجسمة من معنوياته واحواله وآماله. واذا زال نور الايمان - العياذ بالله - صارت ماهيته التي يصارع بها الكائنات كشبحٍ لاحراك به واظلم عليه.

واما ﴿وعلى سمعهم﴾ كرر (على) للاشارة الى استقلال كلٍ بنوع من الدلائل. فالقلب بالدلائل العقلية والوجدانية. والسمع بالدلائل النقلية والخارجية، وللرمز الى ان ختم السمع ليس من جنس ختم القلب.. ثم ان في افراد السمع مع جمع جانبيه ايجازاً ورموزاً الى ان السمع مصدر، لعدم الجفن له.. والى ان المُسمِع فرد.. وان المسموع للكل فرد.. وانه يسمع فرداً فرداً.. ولاشتراك الكل كأن اسماعهم بالاتصال صارت فرداً.. ولاتحاد الجماعة وتشخصها يتخيل لها سمع فرد.. والى اغناء سمع الفرد عن استماع الكل فحق السمع في البلاغة الافراد.. لكن القلوب والابصار مختلفة متعلقاتهما، ومتباينة طرقهما، ومتفاوتة دلائلهما، ومعلمهما على انواع، وملقّنهما على اقسام. فلهذا توسط المفرد بين الجمعين. وعقّب القلب بالسمع لان السمع ابٌ لملكاته، واقرب اليه، ونظيره في تساوي الجهات الست عنده.

واما ﴿وعلى ابصارهم غشاوة﴾ فاعلم! ان في تغيير الاسلوب باختيار الجملة الاسمية اشارة الى ان جنانَ البصر التي يجتني منها دلائله ثابتة دائمة بخلاف حدائق السمع والقلب؛ فانها متجددة.. وفي اسناد الختم الى الله تعالى دون الغشاوة اشارة الى ان الختم جزاء كسبهم، والغشاوة مكسوبة لهم، ورمز الى ان في مبدأ السمع والقلب اختياراً، وفي مبدأ البصر اضطراراً ومحل الاختيار غشاوة التعامي. وفي عنوان الغشاوة اشارة الى ان للعين جهة واحدة. وتنكيرها للتنكير، أي التعامي حجاب غير معروف حتى يُتَحفظ منه.. قدّم ﴿على ابصارهم﴾ ليوجه العيون الى عيونهم اذ العين مرآة سرائر القلب.

وأما ﴿ولهم عذاب عظيم﴾ فاعلم! انه كما اشار بالكلمات السابقة الى حنظلات تلك الشجرة الملعونة الكفرية في الدنيا؛ كذلك اشار بهذه الى حنظلة جانبها الممتد الى الآخرة وهي زقّوم جهنّم..

ثم ان سجية الاسلوب تقتضي (وعليهم عقاب شديد). ففي ابدال (على) باللام و(العقاب) بالعذاب و(الشديد) بالعظيم، مع ان كلا منها يليق بالنعمة رمز الى نوعِ تهكم توبيخيّ تعريضيّ؛ كأنه ينعي بهم: ما منفعتهم، ولا لذتهم، ولا نعمتهم العظيمة الا العقاب؛ نظير (تَحِيَّةُ بَيْنهمْضَرْبٌ وَجِيعُ). و﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ اَلِيمٍ﴾(سورة آل عمران: 21).

اذ اللام لعاقبة العمل وفائدته. فكأنه يتلو عليهم (خذوا اجرة عملكم).

وفي لفظ (العذاب) رمز خفي الى ان يذكرهم استعذابهم واستلذاذهم بالمعاصي في الدنيا فكأنه يقرأ عليهم (ذوقوا مرارة حلاوتكم).

وفي لفظ الـ (عظيم) اشارة خفية الى تذكيرهم حال صاحب النعمة العظيمة في الجنة فكأنه يلقنهم: انظروا الى ماضيعتم على انفسكم من النعمة العظيمة، وكيف وقعتم في الالم الاليم. ثم ان (عظيم) تأكيد لتنوين (عذاب).

ان قلت: ان معصية الكفر كانت في زمان قليل والجزاء أبديّ غير متناه فكيف ينطبق هذا الجزاء على العدالة الالهية؟ وإنْ سُلِّم، فكيف يوافق الحكمة الأزلية؟ وان سُلِّم، فكيف تساعده المرحمة الربانية؟

قيل لك: مع تسليم عدم تناهي الجزاء، ان الكفر في زمان متناهٍ جناية غير متناهية بست جهات:

منها: ان من مات على الكفر لو بقي أبدا لكان كافراً أبداً لفساد جوهر روحه، فهذا القلب الفاسد استعد لجناية غير متناهية.

ومنها: ان الكفر وان كان في زمان متناه لكنه جناية على غير المتناهي، وتكذيب لغير المتناهي أعني عموم الكائنات التي تشهد على الوحدانية.

ومنها: ان الكفر كفرانٌ لنعمٍ غير متناهية.

ومنها: ان الكفر جناية في مقابلة الغير المتناهي وهو الذات والصفات الالهية.

ومنها: ان وجدان البشر - بسر حديث (لاَ يَسَعُني اَرْضِي وَلا سَمائي)(18)-وان كان في الظاهر والملك محصوراً ومتناهياً لكن ملكوتيته بالحقيقة نشرت ومدت عروقها الى الأبد. فهو من هذه الجهة كغير المتناهي وبالكفر تلوث واضمحل.

ومنها: ان الضد وان كان معانداً لضده لكنه مماثل له في أكثر الأحكام. فكما ان الايمان يثمر اللذائذ الأبدية، كذلك من شأن الكفر ان يتولد منه الآلام الأبدية.

فمن مزج هذه الجهات الست يستنتج ان الجزاء الغير المتناهي انما هو في مقابلة الجناية الغير المتناهية وما هو إلاّ عين العدالة.

ان قلت: طابق العدالة(19) لكن اين الحكمة الغنية عن وجود الشرور المنتجة للعذاب؟

قيل لك: كما قد سمعت مرة أخرى انه لايُترك الخير الكثير لتخلل الشر القليل لأنه شر كثير. اذ لما اقتضت الحكمة الالهية تظاهر ثبوت الحقائق النسبية التي هي أزيد بدرجات من الحقائق الحقيقية - ولا يمكن هذا التظاهر الا بوجود الشر؛ ولا يمكن توقيف الشر على حدّه ومنع طغيانه الا بالترهيب؛ ولا يمكن تأثير الترهيب حقيقة في الوجدان الا بتصديق الترهيب وتحقيقه بوجود عذاب خارجي؛ اذ الوجدان لا يتأثر حق التأثر -كالعقل والوهم - بالترهيب الا بعد ان يتحدس بالحقيقة الخارجية الأبدية بتفاريق الامارات - فمن عين الحكمة بعد التخويف من النار في الدنيا وجود النار في الآخرة.

ان قلت: قد وافق الحكمة فما جهة المرحمة فيه؟

قلت: لا يتصور في حقهم إلاّ العدم أو الوجود في العذاب، والوجود - ولو في جهنم - مرحمةٌ وخيرٌ بالنسبة الى العدم إن تأملت في وجدانك؛ اذ العدم شر محض، حتى ان العدم مرجع كل المصائب والمعاصي ان تفكرت في تحليلها. واما الوجود فخير محض فليكن في جهنم.. وكذا ان من شأن فطرة الروح - اذا علم ان العذاب جزاء مزيل لجنايته وعصيانه - ان يرضى به لتخفيف حمل خجالة الجناية ويقول: هو حق، وانا مستحق. بل حباً للعدالة قد يلتذ معنى! وكم من صاحب ناموس في الدنيا يشتاق الى اجراء الحد على نفسه ليزول عنه حجاب خجالة الجناية. وكذا ان الدخول وان كان الى خلود دائم وجهنم بيتهم أبدا، لكن بعد مرور جزاء العمل دون الاستحقاق يحصل لهم نوع اُلفة وتطبّع مع تخفيفات كثيرة مكافأةً لأعمالهم الخيرية. اشارت اليها الأحاديث. فهذا مرحمة لهم مع عدم لياقتهم.

__________________________________

(1) كما يقول اهل الاعتزال من ان العبد خالق لافعاله (ت:79)

(2) كالألم والموت الحاصلين بالضرب والقتل (ت:79)

(3) اى لايشتق من الجامد اسم الفاعل كما هو معلوم في علم الصرف (ت:80)

(4) هو الذى لا وجود له الاّ في عقل المعتبر مادام معتبراً (التعريفات).

(5) اى لا يأتى الى الوجود شئ مالم يكن وجوده واجباً. فعند تعلق الارادتين الجزئية والكلية في شئ يكون وجود الشئ واجباً، فيوجد حالاً (ت:80)

(6) اى ليس خالقاً للأثر الحاصل بالمصدر، وهو الذى يطلق عليه الكسب (ت:81)

(7) فليس بيد العبد الاّ الكسب (ت:81)

(8) اى تحويل ذلك الميلان من فعل الى آخر (ت:81)

(9) بحيث لا تبقى الحاجة الى الارادة الكلية (ت:81) والعلة التامة: هى جملة ما يتوقف عليه وجود الشئ (التعريفات).

(10) اذ كثيراً لا يقع الفعل بوقوع الميلان (ت:81)

(11) على عادة الله الجارية (ت:81)

(12) فيحتاج الى مؤثر (ت:81)

(13) اى يزيلان الاختيار ويقضيان عليه.

(14) لان المؤثر هو القدرة وليس العلم الذى هو تابع للمعلوم (ت:82)

(15) لقد وردت هذه الكلمة مصروفة في عدة مواضع من الكتاب، ولعلها: (شطّ) بمعنى: أفرط وتباعد عن الحق، او (شيّط) من شاط اى: هلك.

(16) اي المجهرية التى لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة.

(17) اى لايمكن للانسان ان يستوعب اوصافه الجليلة الاّ بما يتحصل له من مشاهدة مصنوعاته سبحانه وتعالى.

(18) الحديث «ما وسعني سمائي ولا ارضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن». ذكره في الاحياء بلفظ مقارب. قال العراقي في تخريجه: لم ار له أصلاً (كشف الخفاء للعجلوني2/195 باختصار). وقال السيوطي في الدرر المنتثرة: قلت اخرج الامام احمد في الزهد عن وهب بن منبه: ان الله فتح السموات لحزقيل حتى نظر الى العرش فقال حزقيل: سبحانك ما اعظمك يارب! فقال الله: ان السموات والارض ضعفن ان يسعنني ووسعني قلب المؤمن الوادع اللين اهـ . قال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية: وذكرُ جماعةٍ له من الصوفية لا يريدون حقيقة ظاهره من الاتحاد والحلول لأن كلاً منهما كفر، وصالحو الصوفية اعرف الناس بالله وما يجب له وما يستحيل عليه، وانما يريدون بذلك ان قلب المؤمن يسع الايمان بالله ومحبته ومعرفته. ا هـ .

(19) اى ان الجزاء الابدى للكافر طابق العدالة.


8 تفسير الاية[]

وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ امَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤمِنِينَ (8)


وجه النظم:

انه كما يُعطف المفرد على المفرد للاشتراك في الحكم، والجملة على الجملة للاتحاد في المقصد؛ كذلك قد تُعطف القصة على القصة للتناسب في الغرض. ومن الأخير عطف قصة المنافقين على الكافرين. أي عطف ملخص اثنتي عشرة آية على مآل آيتين؛ اذ لما افتتح التنزيل بثناء ﴿ذلك الكتاب﴾ فاستتبع ثمرات ثنائه من مدح المؤمنين، فاستردف ذم اضدادهم بسر (انما تعرف الأشياء باضدادها) ولتتم حكمة الارشاد، ناسَبَ تعقيب المنافقين تكميلا للاقسام.

ان قلت: لِمَ أوجز في حق الكافرين كفراً محضاً بآيتين واطنب في النفاق باثنتي عشرة آية؟

قيل لك: لنكات؛

منها: ان العدوّ اذا لم يُعْرَف كان اضرَّ. واذا كان مخنساً كان أخبث. واذا كان كذاباً كان أشد فساداً. واذا كان داخلياً كان أعظم ضرراً؛ اذ الداخلي يفتت الصلابة ويشتِّت القوة بخلاف الخارجي فانه يتسبب لتشدد الصلابة العصبية. فأسفاً! ان جناية النفاق على الاسلام عظيمة جداً. وما هذه المشوشية(1) الاّ منه. ولهذا أكثر القرآن من التشنيع عليهم.

ومنها: ان المنافق لاختلاطه بالمؤمنين يستأنس شيئاً فشيئاً، ويألف بالايمان قليلا قليلا، ويستعد لأن يتنفر عن حال نفسه بسبب تقبيح أعماله وتشنيع حركاته؛ فتتقطر كلمة التوحيد من لسانه الى قلبه.

ومنها: ان المنافق يزيد على الكفر جناياتٍ اُخَر كالاستهزاءوالخداع والتدليس والحيلة والكذب والرياء.

ومنها: ان المنافق في الأغلب يكون من أهل الكتاب ومن أهل الجربزة الوهمية فيكون حيّالا دسّاساً ذا ذكاء شيطانيّ، فالاطناب في حقه أعرق في البلاغة.

أما تحليل كلمات هذه الآية، فاعلم! ان ﴿مِن الناس﴾ خبر مقدم لـ ﴿مَن﴾ على وجه.

ان قلت: كون المنافق انسانا بديهيٌّ....؟

قيل لك: اذا كان الحكم بديهياً يكون الغرض واحداً من لوازمه وهنا هو التعجيب. كأنه يقول كون المنافق الرذيل انساناً عجيب؛ اذ الانسان مكرّم، ليس من شأنه ان يتنزل الى هذه الدركة من الخسة.

ان قلت: فَلِمَ قدّم؟

قيل لك: من شأن انشاء التعجب الصدارة وليتمركز النظر على صفة المبتدأ التي هي مناط الغرض وإلا لانتظر ومرّ الى الخبر.

ثم ان عنوان ﴿الناس﴾ يترشح منه لطائف:

منها: انه لم يفضحهم بالتعيين، بل سترهم تحت عنوان (الناس) إيماءً الى ان سترهم وعدم كشف الحجاب عن وجوههم القبيحة أنسب بسياسة النبيّ عليه السلام؛ اذ لو فضحهم بالتشخيص لتوسوس المؤمنون؛ اذ لايُؤْمَن من دسائس النفس. والوسوسة تنجر الى الخوف والخوف الى الرياء والرياء الى النفاق.. ولأنه لو شنّعهم بالتعيين لقيل ان النبي عليهِ السلام متردد لايثق باتباعه.. ولان بعضا من الفساد لو بقي تحت الحجاب لانطفأ شيئاً فشيئاً واجتهد صاحبُه في اخفائه ولو رُفع الحجاب - فبناءً على ما قيل (اِذا لمْ تسْتَحِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ)(2)-لَيقول فليكن ما كان، ويأخذ في النشر ولا يبالي.

ومنها: ان التعبير بـ﴿الناس﴾ يشير الى انه مع قطع النظر عن سائر الصفات المنافية للنفاق فأعمّ الصفات أعني: الانسانية أيضاً منافية له؛ اذ الانسان مكرم ليس من شأنه هذه الرَذالة.

ومنها: انه رمز الى ان النفاق لا يختص بطائفة ولا طبقة بل يوجد في نوع الانسان أية طائفة كانت.

ومنها: انه يُلَوِّح بان النفاق يخلّ بحيثية كل من كان انساناً فلابد ان يتحرك غضب الكل عليه، ويتوجه الكل الى تحديده، لئلا ينتشر ذلك السمّ؛ كما يخلّ بناموس طائفة ويهيِّج غضبهم شناعةُ فرد منهم.

وأما ﴿مَن يقول آمنا﴾

فان قلت: لِمَ افرد (يقول) وجمع (آمنا) مع ان المرجع واحد؟

قيل لك: فيه اشارة الى لطافة ظريفة هي:

اظهار ان المتكلم مع الغير متكلم وحده فـ (يقول): للتلفظ وحده و(آمنا) لأنه مع الغير في الحكم.. ثم ان هذا حكاية عن دعواهم ففي صورة الحكاية اشارة الى رد المحكيّ بوجهين، كما ان في المحكيّ اشارة الى قوته بجهتين؛ اذ (يقول) يرمز بمادته الى ان قولهم ليس عن اعتقاد وفعل، بل يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.. وبصيغته يومئ الى ان سبب استمرار مدافعتهم وادعائهم مراآة الناس لامحرك وجداني.. وفي الدعوى ايماء منهم بصيغة الماضي الى: (إنّا معاشر أهل الكتاب قد آمنا قبل فكيف لانؤمن الآن).. وفي لفظ (نا) رمز منهم الى: (انّا جماعة متحزبون لسنا كفرد يَكذِب أو يُكذَّب).

وأما ﴿بالله وباليوم الآخر﴾ فاعلم! ان للتنزيل ان يأخذ المحكيّ بعينه، أو يتصرف فيه بأخذ مآله، أو تلخيص عبارته: فعلى الأول ذكروا الأول والآخر من أركان الايمان اظهاراً للقوي، ولما هو أقرب لأن يُقبَل منهم، وأشاروا الى سلسلة الأركان بتكرار الباء مع القرب. وعلى الثاني بأن يكون كلامه تعالى؛ ففي ذكر القطبين فقط اشارة الىان أقوى ما يدّعونه أيضاً ليس بايمان؛ اذ ليس ايمانهم بهما على وجههما. وكرر الباء للتفاوت؛ اذ الايمان بالله ايمان بوجوده ووحدته، وباليوم الآخر بحقيته ومجيئه كما مرّ.

واما ﴿وما هم بمؤمنين﴾

فان قلت: لِمَ لم يقل (وما امنوا) الأشبه بـ (آمنا)؟

قيل لك: لئلا يُتوهم التناقض صورة(3)، ولئلا يرجع التكذيب الى نفس (آمنا) الظاهر انشائيته المانعة من التكذيب. بل ليرجع النفي والتكذيب الى الجملة الضمنية المستفادة من (آمنا)، وهي (فنحن مؤمنون).. وأيضا ليدل باسمية الجملة على دوام نفي الايمان عنهم.

ان قلت: لِمَ لا يدل على نفي الدوام مع ان (ما) مقدم؟

قيل لك: ان النفي معنى الحرف الكثيف، والدوام معنى الهيئة الخفيفة، فالنفي أغمس وأقرب الى الحكم.

ان قلت: ما نكتة(4) الباء على خبر ما؟

قيل لك: ليدل على انهم ليسوا ذواتاً أهلاً للايمان وإن آمنوا صورة، اذ فرقٌ بين (ما زيد سخيا) و(ما زيد بسخي)؛ اذ الأول: لهوائية الذات، معناه: زيد لايسخو بالفعل وان كان أهلا ومن نوع الكرماء. وأما الثاني: فمعناه زيد ليس بذاتٍ قابل للسماحة وليس من نوع الأسخياء وإن أحسن بالفعل.

___________________________________

(1) شوّش الامر: خلطه، صيّره مضطرباً.

(2) هذا المثل اصله حديث نبوى رواه البخارى عن ابى مسعود عقبة بن عمرو الانصارى رضى الله عنه قال: قال رسول اللهy: (ان مما ادرك الناسُ من كلام النبوة الاولى: اذا لم تستح فاصنع ما شئت).

(3) اي بين (آمنا) التى جاءت في الآية، وبين (وما آمنوا) المذكورة في السؤال.

(4) نكتة في غاية الدقة (المؤلف).


9-10 تفسير الاية[]

يُخادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ اِلاَّ اَنْفُسَهُمْ

وَمَا يَشْعُرُونَ (9) في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا

وَلَهُمْ عَذَابٌ اَلِيمٌ بِمَا كانُوا يَكْذِبُونَ (10)


اعلم! ان وجه النظم: اشارات جملها: الى التوبيخ على النفاق.. ثم تشنيعه.. ثم تقبيحهم.. ثم التهديد عليه.. ثم ترهيبهم.. ثم التعجب منهم.. ثم بيان مقصدهم من قولهم المذكور... ثم بيان علة قولهم.. ثم بيان أول الجنايات الأربع الناشئة من النفاق وهي الخداع، والافساد، وتسفيه المؤمنين، والاستهزاء بهم.. ثم تمثيل جناياتهم وحيلهم باسلوب استعارة تمثيلية هكذا: بان صوّر معاملتهم مع احكام الله تعالى ومع النبي عليه السلام والمؤمنين - باظهارهم الايمان لأغراض دنيوية مع تبطّن الكفر، ومعاملة الله والنبي والمؤمنين معهم باجراء أحكام المؤمنين عليهم استدراجا، مع انهم أخبث الكفرة عند الله - بصورة خداع شخصين، أو الصياد مع الصيد الذي يحس الصياد بالخروج عن القاصعاء ثم يفر من النافقاء.(1)

أما نظم جمل الجناية الأولى من ﴿يخادعون﴾ الى ﴿بما كانوا يكذبون﴾ فانظر الى ما تضمنت من النتائج المتسلسلة المترتبة في الجمل السبع، وهي: تحميقهم بطلب المحال.. ثم تسفيههم باضرار أنفسهم بنية المنفعة.. ثم تجهيلهم بعدم التمييز بين الضر والنفع.. ثم ترذيلهم بخبث الطينة ومرض معدن الصحة وموت منبع الحياة.. ثم تذليلهم بتزييد المرض في طلب الشفاء.. ثم تهديدهم بألم محض يولد ألماً صرفاً.. ثم تشهيرهم بين الناس بأقبح العلامات أعني الكذب.

وأما اتساقُ وانتظام تلك الجمل السبع وانصباب الحكم فيما بينها فهو: أنك كما اذا اردت زجر واحد عن شئ ونصحه تقول له اولاً:

ياهذا! ان كان لك عقل فهذا محال.. ثم: ان كنت تحب نفسك فهذا يضرها.. ثم: ان كان لك حسّ فلِمَ لاتميز بين الضر والنفع؟. ثم: إن لم يكن لك اختيار فلا اقل من ان تعرف فساد سجيتك، وفيها مرض يحرِّف الحقيقة، ويريك الحلو مراً.. ثم: ان تطلب الشفاء فهذا يزيد مرضك ولايشفي، مثلك كمثل من ابتلى بداء السهر فاجتهد في النوم فانتج له قلقا طيّر نعاسه أيضا، أو كمن أصيب قلبه بداء (المرق)(2) فاغتمّ لوجود المصيبة حتى صير المصيبة مصيبتين.. ثم: ان تتحرَّ اللذة فهذا فيه ألم شديد ينتج ألماً أشد ليس كأمثاله التي فيها لذة مزخرفة.. ثم: ان لم تنتبه ولم تنزجر لا يبقى الا ان يوسمَ على خرطومك بوسم قبيح، وتُعلَن بين الناس لمنع سراية فسادك الى الناس؛ كذلك ان الله تعالى قال لزجر المنافقين ﴿يخادعون الله﴾ بدل (يخادعون النبيّ) لتحميقهم، أي: كيف يخادعون النبيّ عليه السلام والنبيّ مبلِّغ عن الله تعالى، فحيلتهم راجعة الى الله، والاحتيال مع الله تعالى محال، وطلب المحال حمق. ومثل هذا الحمق مما يُتعجب منه.. ثم اتبعه ﴿وما يخدعون الا انفسهم﴾ لتسفيههم، أي: ليس في فعلكم نفع بل فيه ضرر، وضرره يعود على أنفسكم، فكأنكم تخادعون أنفسكم.. ثم عقّبه ﴿وما يشعرون﴾ لتجهيلهم أي: ايّها الجهلاء! قد صرتم أضلّ من الحيوان، كالاحجار الجامدة لاتحسون بالفرق بين الضر والنفع.. ثم اردفه ﴿في قلوبهم مرض﴾ لترذيلهم بانفساد الجوهر، أي: ان لم يكن لكم اختيار فلا أقل من أن تعرفوا المرض مرضاًً، وان سجيتكم فسدت. وان النفاق والحسد مرض في الروح من شأنه تحريف الحقيقة وتغييرها حتى تظنون الحلو مراً والمرّ حلواً والسوداء بيضاء والأبيض أسود فلا تتبعوه.. ثم زاد ﴿فزادهم الله مرضاً﴾ لتذليلهم، أي: إن كنتم تطلبون بهذا الدواء والتشفي من غيظكم وحسدكم فهذا داء لا يزيدكم الا مرضا على مرض. فأنتم كمن كَسرَ احدٌ يدَه فأراد الانتقام فضرَبَه بتلك اليد المكسورة فازداد كسراً على كسر.. ثم قال ﴿ولهمعذاب أليم﴾ لتهديدهم، أي: ان تتحروا اللذة فما نفاقكم هذا الا فيه ألم شديد عاجل ينتج ألماً أشد آجلا، ليس كسائر المعاصي التي فيها نوع من اللذة السفلية العاجلة.. ثم أتمه بقول ﴿بما كانوا يكذبون﴾ لتوسيمهم بأشنع الوسم، أي: ان لم تنتبهوا ولم تنتهوا لم يبق الا ان تُشَهَّروا بين الناس بالكذب المانع للاعتماد لئلا يتعدى مرضكم.

أما وجه النظم بين أجزاء كل جملة:

ففي الأُولى: أعني جملة ﴿يخادعون الله والذين آمنوا﴾ هو:

ان في التعبير عن عملهم بالخداع مع المضارعية، لاسيما من باب المشاركة، خصوصاً مع اقامة لفظة (الله) مقام النبيّ واقامة (الذين آمنوا) مقام (المؤمنين) تنصيصاً وتصريحاً بمحالية غرضهم من حيلتهم، وجعل المحالية نصب العين بصورة تتنفر عنها النفوس وترتعد، اذ فيما في الخداع من الاستعارة التمثيلية ما يوقظ النفرة.. وفيما في المضارعية من التصوير مع الاستمرار ما يَشْمَئِزّ منه القلب.. وفيما في المشاركة من المشاكلة نظِير ﴿وجَزَاؤا سيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾( سورة الشورى: 40) ما ينتج عدم انتاج حيلتهم؛ اذ في باب المشاركة فعل الفاعل سبب لفعل المفعول، وهنا فعل المفعول صار سبباً لعقم خداع الفاعل وعدم تأثيره، بل جعل الخداع صورة واهية كانعكاس المقصد فيما اذا استهزيتَ بأحدٍ لجهله، مع أنه مستبطنٌ علماً ومستخفٍ استهزاءً بك.. وفيما في التصريح بلفظة (الله) من التنصيص على محالية الغرض - اذ خداع النبي عليه السلام ينجر اليه تعالى - ما يشيط العقلَ عن الحيلةِ.. وما في (الذين آمنوا) من جعل الصلة مداراً، اشارة الى ان المنافقين يتحببون اليهم بصفة الايمان ويهيِّجون عرق ايمانهم للتحبب والتداخل فيهم.. وفيه ايماء أيضا الى ان جماعة المؤمنين المنورين عقولهم بنور الايمان لا تتستر عنهم الحيلة فينتج أيضا عقم حيلتهم..

وفي الثانية: أعني جملة ﴿وما يخدعون الا أنفسهم﴾ هو:

ان في هذا الحصر اشارة الى كمال سفاهتهم بعكس العمل في معاملتهم كمن رمى حجراً الى جدار فانثنى لكسر رأسه؛ اذ رشوا النبال لضرر المؤمنين فاُصيبت أنفسهم فكأنهم يخادعون بالذات ذواتهم.. وفي تبديل (يضرون) بـ﴿يخدعون﴾ اشارة الى نهاية سفاهتهم، اذ يوجد في أهل العقل من يضر نفسه قصداً ولا يوجد من يخادع نفسه عمداً الا ان يكون حماراً في صورة انسان. وفي عنوان (انفسهم) رمز خفي الى أن نفاقهم وحيلتهم لما كان لحظّ نفسانيّ وغرض نفسيّ انتج نقيض مطلوبهم لنفسهم.

ان قلت: هذا الحصر يومئ الى ان خداعهم ما ضر الاسلام والمسلمين مع ان الاسلام ما رأى من شئ ضرراً مثل ما رأى من أنواع النفاق وشعباته المنتشرة كالسّم في عناصر العالم الاسلاميّ؟

قيل لك: وما تراه من الضرر المتعدي والسمّ الساري انما هو من طبيعتهم المتفسدة وفطرتهم المتفسخة ووجدانهم المتعفن نظير سراية المرض؛ وليس نتيجة حيلتهم وخداعهم باختيارهم اذ يريدون خداع الله والنبي وجماعة المؤمنين، والله عالم بكل شئ والنبي عليه السلام يوحى اليه، وجماعة المؤمنين لاتستطيع الحيلة ان تتستر عنهم مدة مديدة فهم لاينخدعون. فثبت انهم لا يخدعون الا أنفسهم فقط.

وفي الثالثة: أعني جملة ﴿وما يشعرون﴾ أي لا يحسون، هو:

ان في هذه الفذلكة تجهيلا أيّ تجهيل لهم، لأنها تشعر بأنهم إن كانوا عقلاء فهذا ليس من شأن العقل، وإن كانوا حيوانات يتحركون بميل نفسانيّ فشأنهم ان يحسوا ويشعروا بمثل هذا الضرر المحسوس. فثبت انهم صاروا مثل جمادات لا اختيار لها.

وفي الرابعة: أعني جملة ﴿في قلوبهم مرض﴾ هو:

ان سوقها يفيد انهم لما لم يعملوا بمقتضى المحاكمة العقلية والشعور الحسيّ ظهر أن في روحهم مرضاً فلا أقل من ان يعرفوا انه مرض ليجتنبوا عن القضايا ولايحكموا عليها؛ اذ من شأن المرض تغيير الحقيقة وتشويه المزين وتحلية المرّ كما مر.. وفي لفظ ﴿في﴾

رمز الى ان حسدهم وحقدهم مرض في ملكوت القلب وهي اللطيفة التي مر ذكرها.. وفي عنوان (القلب) اشارة الى انه كما ان جسم القلب اذا مرض اختل جميع أفعال البدن؛ كذلك اذا مرض معنى القلب بالخداع والنفاق انحرف كل أفعال الروح عن منهج الاستقامة اذ هو منبع الحياة ومَاكِنَتُها.. وفي تقديم ﴿في قلوبهم﴾ على ﴿مرض﴾ ايماء الى الحصر بجهتين، ومن الايماء اشارة بطريق التعريض الى ان الايمان نور، شأنه أن يعطي لجميع أفعال الانسان وآثاره صحة واستقامة.. وأيضاً في ايماء الحصر رمز الى ان الفساد في الأساس فلا يجدي تعمير الفروعات.. وفي لفظ (المرض) رمز الى قطع عذرهم وإلقامهم الحجر بان الفطرة مهيأة للحقيقة. وما الفساد والخراب الاّ مرض عارض.. وفي تنوين التنكير اشارة الى انه في مكمن عميق لا يرى حتى يداوى.

وفي الخامسة: أعني جملة ﴿فزادهم الله مرضاً﴾ هو:

انهم حينما لم يعرفوا انه مرض حتى يتجنبوا منه بل طلبوه مستحسنين له زادهم الله تعالى؛ اذ (مَن طلب وَجَد).. وفي (الفاء) التي هي للتعقيب السببي - مع ان وجود المرض ليس سببا لزيادته - رمزٌ الى انهم لما لم يشخصوا المرض فلم يتحروا وسائل الشفاء بل توسلوا بأسباب الزيادة كمن يضارب خصماً غالباً بيده العليلة صاروا كأنهم طلبوا الزيادة فزادهم الله مرضاً بقلبِ أملهم يأساً مزعجا، بسبب ظفر المؤمنين، وقلب خصومتهم حقداً محرقاً للقلب بسبب غلبة المؤمنين، فتولد من مرضَي اليأس والحقد داء الخوف وعلة الضعف ومرض الذلة فاستولت على القلب.

ثم ان الله تعالى لم يقل (فزاد الله مرضهم) بل جعل المفعول تمييزاً للإشارة الى ان المرض الباطنيّ القلبيّ سرى الى الظاهر أيضاً وتعدى الى جميع الأفعال، فكأن هذا الداء الخبيث استولى على وجودهم فكأن وجودهم نفس الداء فزيادة جراحات المرض

ونفطاته(3) زيادة لنفس ذواتهم؛ اذ (اِشْتَعَلَ الْبَيْتُ ناراً) يفيد ان النار سرت الى تمام البيت حتى كأن تمام الْبَيْت نار تلتهب بخلاف (اِشْتَعَلتَ نَارُ الْبَيْتِ) فانه يصدق بتلهب النار من أيّ جانب كان.

وفي السادسة: أعني جملة ﴿ولهم عذاب اليم﴾ هو:

ان (اللام) التي هي للنفع، اشارة الى انه لو كان لهم منفعة لكانت البتة ألماً معذباً دنيوياً، أو عذاباً اخروياً مؤلماً، وكونه منفعة من المحال، فمحال لهم المنفعة.. وفي وصف العذاب بالأليم أي المتألم، مع ان الأليم هو الشخص رمز الى ان العذاب استولى على وجودهم وأحاط بذواتهم ونفذ في بواطنهم بحيث تحولوا بنفس العذاب، وصار العذاب عين ذواتهم، كانقلاب الفحم جمرة نار بنفوذ النار(4). فاذا نظر الخيال الى صورة العذاب واستمع من جوانبه أنيناً وتألماً وعويلاً تتولد من الحياة المتجددة تحت العذاب يتخيل ان العذاب هو الذي يئنّ ويتألم. فما أشد التهديد لمن تأمل!. .

وفي السابعة: أعني جملة ﴿بما كانوا يكذبون﴾ هو:

ان في تعليق العذاب من بين جناياتهم المذكورة بالكذب فقط اشارة الى شدة شناعة الكذب وقبحه وسماجته. وهذه الاشارة شاهد صدق على شدة تأثير سمّ الكذب؛ اذ الكذب أساس الكفر، بل الكفر كذب ورأس الكذب، وهو الأُولى من علامات النفاق. وما الكذب الا افتراء على القدرة الالـهية، وضد للحكمة الربانية.. وهو الذي خرّب الأخلاق العالية.. وهو الذي صيّر التشبثات العظيمة كالشبحات المنتنة.. وبه انتشر السمّ في الاسلام.. وبه اختلت احوال نوع البشر.. وهو الذي قيّد العالم الانساني عن كمالاته، واوقفه عن ترقياته.. وبه وقع أمثال مسيلمة الكذاب في أسفل سافلي الخسة.. وهو الحمل الثقيل على ظهر الانسان فيعوقه عن مقصوده.. وهو الاب للرياء والأم للتصنع.. فلهذه الأسباب اُختص بالتلعين والتهديد والنعي النازل من فوق العرش..

فيا أيّها الناس! لاسيما ايّها المسلمون! ان هذه الآية تدعوكم الى الدّقة!

فان قلتم: ان الكذب للمصلحة عفو؟

قيل لكم: اذا كانت المصلحة ضروريةً قطعية، مع انه عذر باطل؛ اذ تقرر في اصول الشريعة: ان الأمر الغير المضبوط (أي الذي لايتحصل بسبب كونه قابلا لسوء الاستعمال) لا يصير علة ومداراً للحكم، كما ان المشقة لعدم انضباطها ما صارت علة للقصر، بل العلةُ السفر. ولئن سلّمنا فغلبة الضرر على منفعة شئ تفتى بنَسخه وتكون المصلحةُ في عدمه. وما ترى من الهَرْج والمَرج في حال العالم شاهد على غلبة ضرر عذر المصلحة. الا ان التعريض والكناية ليسا من الكذب. فالسبيل مَثْنَى: إما السكوت؛ اذ (لايلزم من لزومِ صدقِ كلِّ قولٍ قولُ كلِّ صدق). وإما الصدق؛ اذ الصدق هو أساس الاسلامية، وهو خاصة الايمان، بل الايمان صدق ورأسه.. وهو الرابط لكل الكمالات.. وهو الحياة للأخلاق العالية.. وهو العرق الرابط للأشياء بالحقيقة.. وهو تجلّي الحق في اللسان.. وهو محور ترقي الانسان.. وهو نظام العالم الاسلامي.. وهو الذي يُسرع بنوع البشر في طريق الترقي - كالبرق - الى كعبة الكمالات.. وهو الذي يصيّر اخمد الناس وافقره أعزّ من السلاطين.. وبه تفوّق أصحابُ النبيّ عليه الصلاة والسلام على جميع الناس.. وبه ارتفع (سَيّدنا محمد الهاشميّ) عليه الصلاة والسلام الى أعلى عليي مراتب البشر.

_________________________________

(1) كلاهما من جحرة اليربوع، يظهر الاولى ويخفى الثانية (ش)

(2) المرق: كلمة اعجمية تعنى الاهتمام واللهفة والامل وحب التطلع.

(3) نفطاته: بثراته.

(4) بنفوذ النار فيها (ش).



11-12 تفسير الاية[]

وَاِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الارْض قالُوا انّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)

أَلا اِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُون (12)


اعلم! ان وجه نظم هذه الآية بما قبلها هو:

ان الله تعالى لما ذكر الأُولى من الجنايات الناشئة عن نفاقهم وهي ظلمهم أنفسهم وتجاوزهم على حقوق الله تعالى بنتائجها المتسلسلة المذكورة، عقّبها بثانية الجنايات؛ وهي تجاوزهم على حقوق العباد وايقاعهم الفساد بينهم مع تفرعاتها..

ثم ان (اذا قيل) كما انه مربوط باعتبار القصة بـ (يقول) في (ومن الناس من يقول) وباعتبار المآل بـ(يخادعون)؛ كذلك يرتبط باعتبار نفسه بـ (يكذبون). وتغير الأسلوب من الحِملية الى الشرطية امارة ورمز خفي الى مقدَّر بينهما كأنه يقول: (لهم عذاب اليم بما كانوا يكذبون؛ إذ إذا كذبوا فتنوا، واذا فتنوا أفسدوا، واذا نوصحوا لم يقبلوا، واذا قيل لهم لاتفسدوا الخ).

وأما وجه النظم بين الجمل الصريحة والضمنية في هذه الآية: فهو عين النظم والربط في ما أمثّل لك وهو:

انك اذا رأيت أحداً يسلك في طريق تنجر الى هلاكه، فاولاً تنصحه قائلا له: مذهبك هذا ينهار بك في البوار فتجنَّب. وان لم ينته بنُهاه تعود عليه بالزجر والنهي والنعي وتؤيد نهيَك وتديمَه في ذهنه إما بتخويفه بنفرة العموم، واما بترقيق قلبه بالشفقة الجنسية كما سيأتيك بيانهما. فان كان ذلك الشخص متعنتا لجوجاً مصراً ألدَّ راكباً متن الجهل المركّب فهو لايسكت بل يدافع عن نفسه، كما هو شأن كل مفسد يرى فساده صلاحا؛ اذ الانسانية لا تخلى ان يرتكب الفساد من حيث هو فساد.. ثم يستدل ويدعي بأن طريقي هذا حق، ومعلوم انهكذلك؛ فلا حق لك في النصيحة فلا احتياج الى نصيحتك.. بل انت محتاج الى التعلم.. فما السبيل السويّ إلاّ سبيلنا، فلا تعرض بوجود طريق أصوب.. وان كان ذلك الشخص اللجوج ذا الوجهين يكون كلامه ذا اللسانين؛ يداري الناصح لإلزامه بوجه، ويتحفظ على مسلكه بآخر فيقول: أنا مصلح أي ظاهراً كما تطلب وباطناً كما اعتقد.. ثم من شأنه تأييد وتأكيد دعواه بأن الصلاح من صفتي المستمرة، لا اني كنت صالحا الآن بعد فسادي قبل.. ثم اذا كان ذلك الشخص متمردا ًومتنمراً(1) ومصراً في نشر مذهبه، وترويج مسلكه، وتزييف ناصحه وتعريض أهل الحق بهذه الدرجة، ظهر انه لايجدي له دواء، ولم يبق إلا آخر الدواء، أعني: المعالجة لعدم السراية وما هذه المعالجة الا تنبيه الناس واعلامهم بانه مفسد لا صلاح فيه؛ اذ لا يستعمل عقله ولا يستخدم شعوره حتى يحس بهذا الشئ الظاهر المحسوس.

فاذا تفهمت الحلقات المسردة في هذا المثال تفطنت ما بين الجمل المنصوصة والمرموزة اليها بالقيود في ﴿واذا قيل لهم﴾ الى آخره. فان فيما بينها نظما فطريا بايجاز يحمرّ(2) من تحته الاعجاز.

واما نظم هيئات كل جملة جملة:

فاعلم! ان جملة ﴿واذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض﴾ القطعية في ﴿اذا﴾ اشارة الى لزوم النهي عن المنكر ووجوبه..

وبناء المفعول في ﴿قيل﴾ رمز الى ان النهي فرض كفاية على العموم..

وفي لام ﴿لهم﴾ ايماء الى ان النهي لابد ان يكون على وجه النصيحة دون التحكم، والنصيحة على وجه اللطف دون التقريع..

و ﴿لاتفسدوا﴾ فذلكة وخلاصة لصورة قياس استثنائي(3) أي لا تفعلوا هكذا، والاّ نشأ منه الهَرْج والمَرْج، فينقطع خيط الاطاعة،

فيتشوش نظام العدالة، فتنحلّ رابطة الاتفاق، فيتولد منه الفساد، فلا تفعلوا لئلا تفسدوا..

ولفظ ﴿في الأرض﴾ تأييد وتأكيد للنهي وادامة للزجر، اذ نهى الناصح موقت لابد من ادامته في ذهن المنصوح بتوكيل وجدانه ليزجره دائما من تحته. وهو اما بتحريك عرق الشفقة الجنسية، واما بتهييج عرق التنفر من نفرة العموم.. و﴿في الأرض﴾ هو الذي يوقظ العرقين وينعشهما؛ اذ لفظ ﴿في الارض﴾ يناجيهم بان فسادكم هذا يسري الى نوع البشر فأيّ حقد وغيظ لكم على جميع الناس الذين فيهم المعصومون والفقراء والذين لاتعرفونهم، أفلا تتوجعون لهم ولمَ لاتترحمون بهم؟ هب ان ليست لكم تلك الشفقة الجنسية فلا أقل من أن تلاحظوا ان حركتكم هذه تجلب عليكم معنى نفرة العموم.

فان قلت: أيّ غرض لهم بالعموم وكيف ينجر فسادهم الى الكل؟

قيل لك: كما ان من نظر بمرآة البصر السوداء رأى كل شئ اسود قبيحاً. كذلك من احتجبت بصيرتُه بالنفاق وفسد قلبُه بالكفر رأى كل شئ قبيحاً مبغوضاً، يحصل في قلبه عناد وحقد مع كل البشر بل كل الكائنات.. ثم كما ان انكسار سنّ من ضرخ(4) من دولاب من ساعة يتأثر به الكل كلياً أو جزئياً؛ كذلك بنفاق الشخص يتأثر نظام هيئة البشر التي انتظمت بالعدالة والاسلامية والاطاعة. فأسفاً قد تظاهرت سمومهم المتسلسلة حتى انتجت هذه السفالة.

وأما جملة ﴿قالوا انما نحن مصلحون﴾ ففي (قالوا) بدل (لايقبلون النصيحة) الظاهر من السياق اشارة الى انهم يدّعون ويدعون الى مسلكهم.

وفي ﴿انما﴾ خاصيتان:

الاولى: ان مدخوله لابد ان يكون معلوماً حقيقة أو ادعاء. ففيهارمز الى تزييف الناصح واظهار ثباتهم على جهلهم المركب.

والثانية: الحصر ففيها اشارة الى ان صلاحهم لايشوبه فساد فليسوا كغيرهم؛ ففي الاشارة رمز الى التعريض بالمؤمنين.

وفي اسمية ﴿مصلحون﴾ بدل (نصلح) اشارة الى ان الصلاح صفتنا الثابتة المستمرة فحالنا هذه عين الاصلاح بالاستصحاب.. ثم انهم ينافقون في هذا الكلام أيضا اذ يتبطنون خلاف مايظهرون فباطناً يدعون فسادهم صلاحاً وظاهراً يراؤن أن عملهم لصلاح المؤمنين ومنفعتهم.

وأما جملة ﴿ألا انهم هم المفسدون ولكن لايشعرون﴾ فاعلم! انهم لما ادرجوا في معاطف الجملة السابقة معاني: من ترويج مسلكهم ودعوى ثبوت الصلاح لهم، وان الصلاح صفتهم المستمرة.. وانهم منحصرون عليه.. وان الفساد لايشوب صلاحهم.. وان هذا الحكم ظاهر معلوم.. ومن تعريضهم بالمؤمنين ومن تجهيلهم للناصح؛ أجابهم القرآن الكريم بهذه الجملة المتضمنة لأحكامٍ من اثبات الفساد لهم، وانهم متحدون مع حقيقة المفسدين.. وان الفساد منحصر عليهم.. وان هذا الحكم حقيقة ثابتة.. ومن تنبيه الناس على شناعتهم.. ومن تجهيلهم بنفي الحس عنهم كأنهم جمادات. وان شئت فانظر:

الى ﴿ألا﴾ التي للتنبيه كيف تزيِّف بتنبيهها ترويجَهم الناشئ من دعواهم المترشح من (قالوا)..

والى (إنّ) التي للتحقيق كيف ترد دعواهم المعلومية بـ(انما)، كأن (إنّ) تقول حالهم في الحقيقة والباطن فساد، فلا يجديهم الصلاح ظاهراً.

والى الحصر في (هم) كيف يقابل تعريضهم الضمنيّ في (انما) و(نحن) والى تعريف (المفسدون) - الذي معناه حقيقة المفسدين ترى في ذاتهم فهم هي - كيف يدافع حصرهم المستفاد من (انما) أيضا.

والى ﴿ولكن لايشعرون﴾ كيف يدافع تزييفهم الناصح وانهم ليسوامستحقين للنصيحة بدعوى المعلومية. فتأمل!

_______________________________

(1) اي غضباً، غير ان ظاهر السياق والمذاق متنمرداً، اي كائناً كالنمرود (ش).

(2) يشعّ ويضئ.

(3) ما يكون عين النتيجة او نقيضها مذكوراً فيه بالفعل (التعريفات).

(4) ضرخ يقرب من معنى دولاب.


13 تفسير الاية[]

وَاِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ

السُّفَهاءُ أَلا اِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لايَعْلَمُونَ (13)


اعلم! ان وجه نظم هذا النوع بالنوع الأول:

من حيث انهما نصيحة وارشاد؛ عطف الأمر بالمعروف والتحلية والترغيب، على النهي عن المنكر والتخلية والترهيب..

ومن حيث انهما من الجناية؛ عطف تسفيههم للمؤمنين وغرورهم على افسادهم، كما ربط افسادهم بفسادهم اللاتي كل منها غصن من شجرة زقّوم النفاق.

واما وجه النظم بين جمل هذه الآية:

فاعلم! انه لما قيل: ﴿واذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس﴾ وأشير بهيئاتها الى وجوب النصيحة على سبيل الكفاية بايمان خالص اتباعا للجمهور الذين هم الناس الكُمّل ليأمرهم الوجدان دائما بهذا الامر، حكى وقال: ﴿قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء﴾ اشارة الى تمردهم وغرورهم ودعواهم انهم على الحق كما هو شأن كل مبطل يرى باطله حقا ويعلم جهله علما؛ اذ بالنفاق تفسَّد قلبُهم، وبالفساد نشأ غرورٌ وميلُ افساد، وبحكم التفسّد تمردوا، وبحكم الافساد يقول بعضهم لبعض متناجيا بالاضلال، وبحكم الغرور يرون شدة الديانة وكمال الايمان المقتضيين للاستغناء والقناعة سفالة وسفاهة وفقراً. ثم بحكم النفاق ينافقون في كلامهم هذا أيضاً؛ اذ ظاهره: كيف نكون كالسفهاء ولسنا مجانين ونحن أخيار كما تطلبون؟ وباطنه كيف نكون كالمؤمنين الذين أكثرهم فقراء وهم في نظرنا سفهاء تحزبوا من اَوْباش(1) الاقوام؟ وعليك التطبيق بين دقائق الجزئين من الشرطية. ثم القمهم الحجر بقوله: ﴿ألا انهم هم السفهاء﴾؛ اذ من كان متمرداً بهذه الدرجة وجاهلا بجهله فحقهم الاعلان بين الخلق وتشهيرهم بانحصارالسفاهة وانه من الحقائق الثابتة، وان تسفيههم لسفاهة أنفسهم.. ثم قال: ﴿ولكن لايعلمون﴾ اشارة الى انهم جاهلون بجهلهم فيكون جهلا مركباً فلا يجديهم النصيحة، فلابد ان يعرض عنهم صفحاً؛ اذ لا يفهم النصيحة الا من يعلم جهلَه.

وأما وجه النظم في هيئات كل جملة جملة:

ففي جملة ﴿واذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس﴾ لفظ ﴿اذا﴾ بجزميته رمز الى لزوم الارشاد بالامر بالمعروف.. وبناء المفعول في ﴿قيل﴾ ايماء الى ان وجوب النصيحة على سبيل الكفاية كما مر..

ولفظ ﴿آمنوا﴾ بدل (اخلصوا في ايمانكم) اشارة الى ان الايمان بلا إخلاص ليس بايمان..

ولفظ ﴿كما آمن﴾ تلويح بالأسوة الحسنة وحسن المثال ليخلصوا على منواله..

وفي لفظ ﴿الناس﴾ نكتتان: وهما السبب في جعل الوجدان آمراً بالمعروف دائما؛ اذ ﴿كما آمن السفهاء﴾ يترشح بـ(فاتبعوا جمهور الناس اذ مخالفة الجمهور خطأ من شأن القلب ان لا يقدم عليه)، وأيضا يلوح بانهم هم الناس فقط كأن من عداهم ليسوا بانسان الا صورة، إما بترقى هؤلاء في الكمالات وانحصار حقيقة الانسانية عليهم وإما بتدني اولئك عن مرتبة الانسانية.

اما جملة ﴿قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء﴾ التي مآلها: لا نقبل النصيحة كيف نكون كهؤلاء الأذلاّء؛ اذ هم في نظرنا سفهاء ولا نقاس نحن معاشر أهل الجاه عليهم.. ففي لفظ ﴿قالوا﴾ رمز الى تبرئة النفس وترويج المسلك والاستغناء عن النصيحة والغرور والدعوى.. وفي لفظ ﴿أنؤمن﴾ بالاستفهام الانكاريّ اشارة الى شدة تمردهم في جهلهم المركب، كأنهم بصورة الاستفهام يقولون: ايها الناصح راجع وجدانك هل ترى انصافك يقبل ردّنا.؟ ثم ان في متعلق (قالوا) وجوهاً ثلاثة مترتبة؛ أي: قالوا لأنفسهم، ثم لأبناء جنسهم، ثم لمرشدهم، كماهو شأن كل متنصح اذا نصحه الناصح، فاول الأمر يشاور مع نفسه، ثم يحاور مع ابناء جنسه، ثم يراجعك بنتيجة محاكمتهم. فعلى هذا لما قيل لهم ما قيل راجعوا قلوبهم المتفسدة ووجدانهم المتفسخ فاشارت عليهم بالانكار، فقالوا مترجمين عما في ضميرهم، ثم راجعوا بنظر الافساد الى اخوانهم، فاشاروا عليهم أيضاً بالانكار فأخذوا بنجواهم ومحاورتهم، ثم رجعوا بطريق الاعتذار والسفسطة الى الناصح فشاغبوا وقالوا: (بيننا فرق لانقاس عليهم إذ هم فقراء مضطرون مجبورون فشدتهم في الديانة وتصوّفهم بالاضطرار. اما نحن فأهل عزة وجاه) فبحكم الغرور يحيلون الناصح على انصافه. وبحكم الخداع والحيلة يتكلمون بكلام ذي لسانين، أي ايها المرشد! لاتظننا سفهاء ولانكون كالسفهاء في نظركم، بل نفعل كما يفعل المؤمنون الخلص. مع ان مرادهم باطناً: لانكون كهؤلاء المؤمنين الفقراء؛ اذ لا اعتداد بهم في نظرنا. ففي هذا اللفظ رمز خفيّ الى فسادهم وافسادهم وغرورهم ونفاقهم..

﴿كما آمن السفهاء﴾ أي الذين تظنونهم الناس الكاملين هم في نظرنا اذلاء فقراء مجبورون مع كثرتهم، كلٌ منهم سفيهُ قوم. ففي دعواهم الفرق في القياس اشارة الى ان الاسلامية كهف المساكين وملجأ الفقراء وحامية الحق وحافظة الحقيقة ومانعة الغرور وقامعة التكبّر، وما مقياس الكمال والمجد الاّ هي.. وأيضاً في الفرق اشارة الى ان سبب النفاق في الأغلب هو الغرض والغرور والتكبر كما يفسره: ﴿وما نَريٰكَ اتَّبَعَكَ اِلاَّ الَّذيِنَ هُمْ اَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾( سورة هود: 27). وأيضاً في الفرق اشارة خفية الى ان الاسلامية لاتصير وسيلة التحكم والتغلب في أيدي أهل الدنيا والجاه؛ بل انما هي واسطة لإِحقاق الحق في أيادي أهل الفقر والضرورة خلاف سائر الأديان. ويشهد على هذه الحقيقة التأريخُ.

أما جملة ﴿ألا انهم هم السفهاء﴾ فاعلم! ان القرآن الكريم انما أكثر من التشديد والتشنيع على النفاق لأجل ان أكثر بليات العالم الاسلامي من أنواع النفاق.. ثم ان لفظ ﴿ألا﴾ للتنبيه وتشهير سفاهتهم علىرؤوس الأشهاد، ولاستشهاد فكر العموم على سفاهتهم. وأصل معنى ﴿ألا﴾ ألا تعلمون انهم سفهاء؟ أي: فاعلموا.. ثم ان (انّ) مرآة الحقيقة ووسيلة اليها كأنه يقول: راجعوا الحقيقة لتعلموا ان سفسطتهم الظاهرية لا أصل لها. ثم لفظ (هم) للحصر لرد تبرئة أنفسهم، ودفع تسفيههم للمؤمنين الذي اشاروا اليه بـ﴿كما آمن السفهاء﴾ أي ان السفيه مَن ترك الآخرة بالغرور والغرض واللذة الفانية دون من أشترى الباقي بترك الهوسات(2) الفانية. ثم ان الألف واللام في (السفهاء) لتعريف الحكم أي معلوم انهم سفهاء. وللكمال أي كمال السفاهة فيهم.

أما ﴿ولكن لايعلمون﴾ ففيه اشارات ثلاث:

احداها:

ان تمييز الحق عن الباطل وتفريق مسلك المؤمنين عن مسلكهم محتاج الى نظر وعلم، بخلاف افسادهم وفتنتهم، فانه ظاهر يحس به مَن له أدنى شعور. ولهذا ذيّل الآية الأولى بـ﴿ولكن لا يشعرون﴾.

والثانية:

ان ﴿لايعلمون﴾ وأمثالها من فواصل الآيات من ﴿لايعقلون﴾ و ﴿لايتفكرون﴾ و ﴿لايتذكرون﴾ وغيرها تشير الى ان الاسلامية مؤسسة على العقل والحكمة والعلم. فمن شأنها ان يقبلها كل عقل سليم لا كسائر الأديان المبنية على التقليد والتعصب. ففي هذه الاشارة بشارة كما ذكرت في موضع آخر.

والثالثة:

الإعراض عنهم وعدم الاهتمام بهم، اذ النصيحة لا تجديهم، اذ لايعلمون جهلَهم حتى يتحرّوا زوالَه.

____________________________

(1) سفلة الناس واخلاطهم.

(2) الهوس: طرف من الجنون وخفة العقل والمقصود هنا الاغراض النفسية وامانيها.


14-15 تفسير الاية[]

تفسير الاية (14-15)

أربعاء, 11/13/2013 - 14:34 |    alabasi

واِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا امَنَّا وَاِذَا خَلَوْا اِلَى شَياطِينِهِمْ قَالُوا اِنَّا مَعكُمْْ

اِنَّمَا نحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اَلله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُون (15)


اعلم! ان وجه نظم مآل هذه الآية بمآل سابقتها: عطف الجناية الرابعة، أعني الاستهزاء والاستخفاف على الجنايات السابقة من التسفيه والافساد والفساد.

وان وجه النظم بين جملها هو انه: كما ان للايمان الذي هو نقطة استنادٍ عن الآلام ونقطة استمداد للآمال ثلاث خواص حقيقية:

إحداها: عزة النفس الناشئة من (نقطة الاستناد)، ومن شأن عزة النفس عدم التنزّل للتذلّل.

والثانية: الشفقة التي من شأنها عدم التذليل والتحقير.

والثالثة: احترام الحقائق ومعرفة قيمتها، لأن صاحب غالي القيمة ذو حقيقة، وعنده الجوهر الفريد، وعدم الاستخفاف بالحقيقة لأنه أيضاً رزين؛ كذلك لضد الايمان، أعني النفاق اضدادُ خواصِه الثلاث، فخواص النفاق الناشئة منه: ذلة النفس، وميل الإِفساد، والغرور بتحقير الغير.

اذا عرفت هذا، فاعلم! ان النفاق يولِّد ذلةَ النفس وهي تنتج التذللَ، وهو الرياءَ وهو المداهنةَ وهي الكذبَ. فأشار اليه بقوله: ﴿واذا لقوا الذين امنوا قالوا آمنا﴾..

ثم لما كان النفاق مفسداً للقلب وفساده ينتج يُتْمَ الروحِ أي عدم الصاحب والحامي والمالك فيتولد الخوف وهو يلجؤه الى التستر، اشار اليه بلفظ ﴿واذا خلوا﴾..

ثم لما كان النفاق قاطعا للرحم وقطعُه يزيل الشفقة، وزوالها ينتج الافسادَ وهو الفتنةَ وهي الخيانةَ وهي الضعفَ وهو يضطره الى

الالتجاء الى ظهير ومستند، أشار اليه بلفظ ﴿الى شياطينهم﴾..

ثم لما كان النفاق جهلا تردديا انتج تذبذب الطبيعة وهو عدم الثبات وهو عدم المسلك وهو عدم الأمنية بهم وهو يجبرهم على تجديد عهدهم، أشار الى هذه السلسلة بلفظ ﴿قالوا إنّا معكم﴾..

ثم لما احتاجوا الى الاعتذار استخفّوا بالحقيقة لخفتهم، ورخّصوا غالي القيمة لعدم قيمتهم، وأهانوا بالعالي لهون نفسهم وضعفها الذي ينشأ منه الغرور فقال: ﴿قالوا انما نحن مستهزؤن﴾..

ثم بينما كان السامع منتظراً من انصباب الكلام مقابلةَ المؤمنين لهم رأى ان الله قابلهم بدلاً عن المؤمنين اشارة الى تشريفهم، ورمزاً الى ان استهزاءهم في مقابلة جزاء الله تعالى كالعدم، وايماءً الى حمقهم وزجرهم وردهم؛ اذ كيف يُستَهْزأُ بمن كان الله حاميه؟ فقال تعالى: ﴿الله يستهزئُ بهم﴾ أي يعاقبهم على استهزائهم أشد جزاء بصورة استخفاف وتهكمٍ بهم في الدنيا والآخرة مع الاستمرار التجدديّ.. وجملة ﴿ويمدهم في طغيانهم يعمهون﴾ كشف وتفصيل وتصوير لجزاء استهزائهم بطرز الاستهزاء.

أما وجه نظم هيئات كل جملة جملة:

فاعلم! ان جملة ﴿اذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا﴾ التي سيقت في مداهنتهم؛ قطعية ﴿اذا﴾ فيها ايماءٌ الى الجزم والتعمد والقصد، أي عزموا بعمد وقصد ملاقاتهم.. ولفظ ﴿لقوا﴾ ايماء الى انهم تعمدوا مصادفتهم في الطرق بين ظهراني الناس.. ولفظ ﴿الذين امنوا﴾ بدل (المؤمنين) اشارة الى مباشرتهم معهم وتماسهم بهم، والى ان ارتباطهم معهم بصفة الايمان، والى ان مدار النظر بين أوصاف المؤمنين صفة الايمان فقط.. ولفظ ﴿قالوا﴾ تلويح الى انهم يقولون بأفواههم ماليس في قلوبهم، وان قولهم للتصنع والرياء والمداهنة ودفع التهمة والحرص على جلب منافع المؤمنين والاطلاع على أسرارهم.. ولفظ ﴿آمنا﴾ بلا تأكيد مع اقتضاء المقام اياه، وبايراده جملة فعلية، اشارة الى ان ليس في قلوبهم مشوق وعشق محرك ليتشددواويتجلدوا في كلامهم.. وأيضاً ان في ترك التأكيد ايماء الى تشددهم في دفع التهمة عنهم، كأنهم يقولون: انكاركم ليس في موقعه بل في منزلة العدم، اذ لسنا أهلاً للتهمة.. وأيضاً فيه رمز الى ان التأكيد لايروج عنهم.. وأيضا فيه لمح الى ان هذا الحجاب الرقيق الضعيف على الكذب اذا شدد تمزق.. وأيضا في فعليته اشارة الى انه لايمكن لهم ان يدعوا الثبات والدوام، وانما غرضهم من هذا التصنع الاشتراك في منافع المؤمنين والاطلاع على اسرارهم بادعاء حدوث الايمان.

وأما جملة ﴿واذا خلوا الى شياطينهم قالوا انا معكم﴾ فـ(الواو) الجامعة في ﴿واذا﴾ ايماء الى ان هذا الكلام سيق لبيان ان لامسلك لهم، ولبيان تذبذبهم المفصل بهاتين الشرطيتين.. والجزمية في ﴿اذا﴾ رمز الى انهم بحكم الفساد والافساد يرون الالتجاء وظيفةً ضرورية.. ولفظ ﴿خلوا﴾ اشارة الى انهم بحكم الخيانة يتخوفون، وبحكم الخوف يتسترون.. ولفظ ﴿الى﴾ بدل (مع) المناسب لِـ(خلوا) اشارة الى انهم بحكم العجز والضعف يلتجئون، وبحكم الفتنة والافساد يوصلون اسرار المؤمنين الى الكافرين.. ولفظ (الشياطين) اشارة الى ان رؤساءهم كالشياطين متسترون موسوسون، والى انهم كالشياطين يضرون، والى انهم على مذهب الشياطين لايتصورون الاّ الشر.

وأما جملة ﴿قالوا إنّا معكم﴾ المسوقة لتبرئة ذمتهم وتجديد عهدهم وثباتهم في مسلكهم، فاعلم! انه أكد مع غير المنِكر هنا، وترك التأكيد مع المنِكر هناك(1) اشارةً ودلالةً على عدم الشوق المحرك في قلب المتكلم هناك ووجوده هنا. أما اسمية هذا وفعلية ذاك، فلأن المقصود اثبات الثبوت والدوام في ذا، والحدوث في ذلك.

أما ﴿انما نحن مستهزؤن﴾ فاعلم! انه لم يعطف، اذ الوصل انما هو بالتوسط بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع. مع ان هذه الجملة بدلٌ بجهة وتأكيد بجهة وهما من كمال الاتصال، وجوابُ سؤالٍ مقدَّر بجهة أخرى، وهو من كمال الانقطاع لخبرية الجواب وانشائية

السؤال في الأغلب.. أما وجه التأكيد ويقرب منه البدل فهو: ان مآلها اهانة الحق وأهله فيكون تعظيما للباطل وأهله وهو مآل ﴿إنّا معكم﴾.. وأما وجه الجوابية للسؤال المقدر فكأن شياطينهم يقولون لهم: (ان كنتم معنا وفي مسلكنا فما بالكم توافقون المؤمنين؟ فإما انتم في مذهبهم او لامذهب لكم) فاعتذَروا مجيبين بـ﴿إنما نحن مستهزؤن﴾ فصرحوا بانهم ليسوا من الاسلام في شئ، وأشاروا بحصر ﴿انما﴾ الى انهم ليسوا مذبذبين بلا مذهب معلوم، وباسمية ﴿مستهزؤن﴾ الى ان الاستهزاء شأنهم وصفتهم. ففعلهم هذا ليس بالجد.

وأما جملة ﴿الله يستهزئ بهم﴾ فاعلم! انها لم توصل بسوابقها بل فصلت فصلا؛ لأنها لو عطفت فإما على ﴿نما نحن مستهزؤن﴾ وهو يقتضي ان تكون هذه أيضاً تأكيداً لـ﴿انا معكم﴾.. وإما على ﴿قالوا﴾ وهو يقتضي ان تكون هذه أيضاً مقولا لهم.. وإما على ﴿قالوا﴾ وهو يقتضي ان تكون هذه أيضاً مقيدة بوقت الخلوة مع ان استهزاء الله بالدوام.. وإما على ﴿اذا خلوا﴾ وهو يقتضي ان تكون هذه من تتمة صفة تذبذبهم.. وإما على ﴿اذا لقوا﴾ وهو يستلزم ان يكون الغرض منهما واحداًً. مع ان الأول لبيان العمل، والثاني للجزاء، واللوازم باطلة، فالوصل لايصح. فلم يبق الا ان تكون مستأنفة جواباً لسؤال مقدّر. ثم ان في هذا الاستيناف ايماءً ورمزاً الى ان شناعتهم وخباثتهم بلغت درجة تجبر روح كل سامعٍ وراءٍ ان يسأل بـ(كيف جزاء مَن هذا عمله؟).

ثم ان الافتتاح بلفظة ﴿الله﴾ مع ان ذهن السامع كان منتظراً لتلقي مقابلة المؤمنين معهم، اشارة الى تشريف المؤمنين وترحمه عليهم، اذ قد قابل بدلا عنهم.. وأيضاً رمز الى زجرهم؛ اذ لايُستهزأ بمن استناده بعلاّم الغيوب.. وأيضاً ايماء بالاقتطاع وعدم النظر الى تقرر استهزائهم الى ان استهزاءهم كالعدم بالنظر الى جزائه.. ثم ان التعبير عن نكايات الله تعالى معهم بالاستهزاء - الذي لايليق بشأنه تعالى - للمشاكلة في الصحبة، وللرمز الى ان النكاية جزاء للاستهزاء ونتيجة ولازمة له، مع أن المراد لازم الاستهزاء، أعني التحقير.. وأيضاً

ايماء الى ان استهزاءهم الذي لا يفيد بل يضر عين استهزاء الله تعالى معهم؛ كمن يظن انه يستهزئ بك مع انك تراه كالمجنون تريد ان يتكلم ولو بشتمك لتضحك منه، فاستهزاؤه بعض استهزائك.

ثم في ﴿يستهزئ﴾ مضارعا مع ان السابق ﴿مستهزؤن﴾ اسم فاعل اشارة الى ان نكايات الله تعالى وتحقيراته تتجدد عليهم ليحسوا بالألم ويتأثروا به؛ اذ ما استمر على نسق يقلّ تأثيره بل قد يعدم. ولذا قيل شرط الاحساس الاختلاف.

أما ﴿ويمدهم في طغيانهم يعمهون﴾ أي توسلوا بأسباب الضلالة وطلبوها فأعطاهم الله تعالى.. ففي لفظ (يمد) رمز الى رد الإعتزال، وفي تضمّن (يمد) للاستمداد ايماء الى ردّ الجبر، أي اختاروا بسوء اختيارهم واستمدوا، فأمدّهم الله تعالى وأرخى عنانهم.. وفي اضافة الطغيان الى (هم) أي ان لهم فيه اختياراً رمز الى رد عذرهم بالمجبورية.. وفي الطغيان اشارة الى ان ضررهم متعد استغرق المحاسن كالسيل وهدم أساس الكمالات فلم يبق الاّ غثاء أحوى. و﴿ يعمهون﴾ أي: يتحيرون ويترددون. وفيه اشارة الى انه لامسلك لهم وليس لهم مقصود معين.

_________________________________

(1) اى في الآية: (قالوا آمنا) بلا تأكيد.


16 تفسير الاية[]

أربعاء, 11/13/2013 - 15:17 |    alabasi

اُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَما

رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)


اعلم! ان وجه نظمها بسابقتها هو:

ان هذه الآية فذلكة واجمال للتفاصيل السابقة، وتصوير لها بصورة عالية مؤثرة. وتخصيص اسلوب التجارة للتمثيل، لأجل ان المخاطبين في الصف الأول قد ذاقوا حلو التجارة ومرّها برحلتي الصيف والشتاء.

ووجه المناسبة هو أن نوع البشر اُرسل الى الدنيا لا للتوطن فيها، بل ليتّجروا في رأس مالهم من الاستعدادات والقابليات ليزرعوا ثم يتصرفوا في غلاّتها.

ثم ان وجه النظم بين جمل هذه الآية هو:

انها ترتبت ترتبا فطريّاً سلساً على نسق اسلوب التمثيل وهو هذا: ان تاجراً مغبونا مخذولاً أعطي له رأسُ مالٍ غالٍ فاشترى به السموم وما يضره، فتصرف فيه، فلم يربح ولم يفد؛ بل ألقاه في خسارة على خسارة، فأضاع رأس ماله، ثم أضل الطريق؛ بحيث لا يستطيع ان يرجع.

أما نظم هيئات جملة جملة:

فلفظ ﴿اولئك﴾ موضوع لاحضار المحسوس البعيد: أما الإحضار فإشارة الى أن من شأن كل سامع اذا سمع تلك الجنايات المذكورة ان يحصل شيئاً فشيئاً في قلبه نفرة وغيظ يتشدد تدريجاً بحيث يريد ان يراهم ليتشفّى الغيظ منهم، ويقابلهم بالنفرة والتحقير.. وأما المحسوسية فرمز الى أن الاتصاف بهذه الاوصاف العجيبة يجسّمهم في الذهن حتى صاروا محسوسين نصب الخيال. ومن المحسوسية رمز الى علة الحكم بسر إنجرار المعصية الى المعصية.. وأما البُعدية فاشارة الى شدة بُعدهم عن الطريق الحق، ذهبوا الى حيث لايرجعون، فالذهاب في أيديهم دون الإياب.

ولفظ ﴿الذين﴾ إشارة الى ان هذا نوع من التجارة عجيب خبيث تحدَّثَ وطَفِقَ ان يصير أساساً ومسلكا يمر عليه ناس؛ اذ قد مر ان الموصول اشارة الى الحقائق الجديدة التي اخذت في الانعقاد.

ولفظ ﴿اشتروا﴾ اشارة الى رد اعتذارهم بـ (ان فطرتنا هكذا). فكأن القرآن الكريم يقول لهم: لا!. ولقد أعطاكم الله أنفاسَ العمر رأسَ مالٍ، وأودع في روحكم استعداد الكمال، وغرس في وجدانكم نواة الحقيقة وهي الهداية الفطرية لتشتروا السعادة فاشتريتم بدلها - بل بتركها - اللذائذ العاجلة والمنافع الدنيوية فاخترتم بسوء اختياركم مسلك الضلالة على منهج الهداية، فافسدتم الهداية الفطرية، وضيعتم رأس مالكم.

ولفظ ﴿الضلالة بالهدى﴾ فيه اشارة الى انهم خسروا خسارة على خسارة. اذ كما خسروا بالضلالة؛ كذلك خسروا بترك النعمة العظيمة التي هي الهداية.

أما جملة ﴿فما ربحت تجارتهم﴾ فاعلم! ان في تخصيص نفي الربح - مع انهم كما قد خسروا فقد أضاعوا رأس المال أيضاً - اشارة الى من شأن العاقل ان لايقدم على تجارة لاربح فيها، فضلاً عما فيها خسارة واضاعة رأس المال.. ثم في اسناد الفعل الى التجارة مع ان الأصل (فما ربحوا في تجارتهم) اشارة الى ان تجارتهم هذه بجميع أجزائها وكل أحوالها وقاطبة وسائطها لا فائدة فيها لا جزئياً ولا كليا؛ لا كبعض التجارات التي لايكون في محصلها وفذلكتها ربح، ولكن في أجزائها فوائد، ولوسائط خدمتها استفادات.. أما هذه فشرّ محض وضرر بحت. ونظير هذا الاسناد (نامَ لَيْلُهُ) بدل (نام في الليل)؛ اذ الأول يفيد ان ليله أيضا ساكن وساكت كالنائم لا يحرِّك ليلته شئ ولا يموِّجه طارق.

وأما جملة ﴿وما كانوا مهتدين﴾ أي كما خسروا وأضاعوا المال؛ كذلك قد اضلوا الطريق، فترشيح وتزيين كسابقتها لأسلوب (اشتروا).. وأيضاً فيها رمز خفيّ الى (هدى للمتقين) في رأس السورة. كأنه يقول: اعطى القرآن الكريم الهداية فما قبل هؤلاء


17-18 تفسر الاية[]

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا اَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ

ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لايُبْصِروُن (17)

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)


إعلم! ان أساس اعجاز القرآن الكريم في بلاغة نظمه. وبلاغة النظم على قسمين:

قسم كالحلية وقسم كالحلّة:

فالأول: كاللآلئ المنثورة والزينة المنشورة والنقش المرصع. ومعدنه الذي يتحصل منه هو توخّي المعاني النحوية الحرفية فيما بين الكلم، كإذابة الذهب بين أحجار فضة. وثمرات هذا النوع هي اللطائف التي تعهد بيانها فن المعاني..

والقسم الثاني: هو كلباس عال وحلة فاخرة قدّت من اسلوب على مقدار قامات المعاني، وخيطت من قطعات خيطاً منتظماً فيلبس على قامة المعنى أو القصة أو الغرض دفعة. وصناع هذا القسم والمتكفل به فن البيان.. ومن أهم مسائل هذا القسم التمثيل. ولقد أكثر القرآن الكريم من التمثيلات الى ان بلغت الألف؛ لأن في التمثيل سراً لطيفاً وحكمة عالية؛ اذ به يصير الوهم مغلوباً للعقل، والخيال مجبوراً للانقياد للفكر، وبه يتحول الغائب حاضراً، والمعقول محسوساً، والمعنى مجسماً، وبه يجعل المتفرق مجموعاً، والمختلط ممتزجا، والمختلف متحداً، والمنقطع متصلا، والأعزل مسلّحا. وان شئت التفصيل فاستمع معي لما يترنم به صاحب دلائل الاعجاز في أسراربلاغته(1)؛ حيث قال:

فصل في مواقع التمثيل وتأثيره

اعلم! ان مما اتفق العقلاء عليه: ان التمثيل اذا جاء في أعقاب المعاني أو برزت هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية الى صورته،كساها ابهةً، وكسبها منقبةً، ورفع من أقدارها، وشب من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب اليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفاً، وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفاً.

فان كان مدحاً كان أبهى وأفخمَ، وأنبلَ في النفوس وأعظمَ، وأهزَّ للعِطْف، وأسرعَ للإلف، وأجلبَ للفرح، وأغلبَ على الممتدح، وأوجَبَ شفاعة للمادح، واقضى له بغرّ المواهب والمنائح، وأسيرَ على الألسن واذكرَ، وأولى بان تعلقه القلوب وأجدرَ.

وإن كان ذماًْ كان مَسُّه أوجعَ، ومِيسمه ألذَع، ووقعه أشدَّ، وحدُّه احدَّ.

وإن كان حجاجاً كان برهانه انورَ، وسلطانه اقهرَ، وبيانه ابهَر.

وإن كان افتخاراً كان شأوه ابعدَ، وشرفه اجدَّ، ولسانه ألدَّ.

وإن كان اعتذاراً كان الى القلوب اقربَ، وللقلوب أخلبَ، وللسخائم اسلّ، ولغرب الغضب افلَّ، وفي عُقَد العقود انفثَ، وعلى حسن الرجوع أبعثَ. وإن كان وعظاً كان أشفى للصدر، وادعى الى الفكر، وأبلغ في التنبيه والزجر، وأجدر بأن يَجْلي الغياية(2)، ويبصر الغاية، ويبرئ العليل، ويشفي الغليل... وهكذا الحكم اذا استقريت فنون القول وضروبه، وتتبعت أبوابه وشعوبه. (انتهى)

ثم ان في الآيات الآتية دلائل اعجاز واسرار بلاغة فذكرناها هنا لمناسبتها لمسائل المقدمة الآتية.

فمثال التمثيل في مقام المدح ما ذكره القرآن الكريم في وصف الصحابة من:

﴿وَمَثَلهُمْ فِي الاْنْجِيلِ كَزَرْعٍ اَخْرَجَ شَطْئَهُ فَازَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاستَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾( سورة الفتح: 29) وقس نظائره..

وفي مقام الذم:

﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ ان تَحْمِل عَلَيه يَلْهَثْ أو تَتْركْه يَلْهَثْ﴾( سورة الاعراف: 176) و ﴿مَثَل الذين حُمّلوا التورية ثم لم يحملوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحْمِلُ أسفاراً﴾( سورة الجمعة: 5) و ﴿اِنَّا جَعَلْنَا في اَعْنَاقِهِمْ اَغْلاَلاً فَهِيَ اِلَى الاْذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ﴾( سورة يس: 8) وقس.

وفي مقام الاحتجاج والاستدلال:

﴿مَثَلهم كمثل الذي استَوقَدَ ناراً﴾ و ﴿او كَصَيِّبٍ مِن السماءِ فيه ظُلُماتٌ الى آخره و ﴿ومَثَلُ الذين كفروا كَمَثلِ الذي يَنْعِق بما لا يسمع الاّ دعاءً ونداءً﴾ ( سورة البقرة: 171) و﴿مثل الذين اتخذوا مِن دون الله اولياءَ كمثلِ العنكبوتِ اتخذتْ بيتاً﴾( سورة العنكبوت: 41) و﴿أنزل من السماء ماءً فسالتْ أوديةٌ بقَدَرها فاحتملَ السيلُ زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاءَ حليةٍ أو متاع زَبَدٌ مِثْلُه﴾( سورة الرعد: 17)و﴿ضَرَبَ الله مثلاً رجلاً فيه شركاءُ مُتَشاكِسون ورجُلاً سَلَما لِرَجُلٍ هل يستويان مثلا﴾( سورة الزمر: 29)وقس عليه.

ونظير مثال الافتخار - وان لم يسمّ افتخاراً - بيان عظمته تعالى وكمالاته الإلهية قوله تعالى: ﴿وما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِه والأرضُ جَميعاً قَبْضَتُه يومَ القيامةِ والسمواتُ مطويّاتٌ بِيَمِينِهِ سبحانه وتعالى عما يشركون﴾( سورة الزمر: 67)وقس عليه.

ومثال التمثيل في مقام الاعتذار لايوجد الا حكايات أهل الأعذار الباطلة للاحتجاج عليهم كقوله:

﴿وقالوا قُلُوبُنا في اكنّة مما تدعونا اليه وفي اذانِنا وَقْرٌ ومِنْ بَيننا وبينك حِجَابٌ﴾( سورة فصلت: 5) وقس...

ومن الشعر:

لاتَحْسَبُوا اَنَّ رَقْصِي بيْنَكُمْ طَرَبٌ فَالطّيْرُ يَرْقُصُ مَذبُوحاً مِنَ الاْلَمِ

ومثاله من الوعظ في وصف نعيم الدنيا ما ذكره القرآن الكريم من:

﴿كمثل غَيْثٍ أعْجَبَ الكفار نَبَاتُه ثم يَهيجُ فتريه مُصْفرّاً ثم يكون حُطاماً﴾(سورة الحديد:20)و﴿أَلَم تَرَ ان الله انزَل مِن السماءِ ماءً فَسَلكه ينابيعَ في الأرضِ ثم يُخرِجُ بهِ زَرْعا مُختلفاً ألوانُه﴾(سورة الزمر:21)و﴿اِنّا عَرَضْنا الأمانةَ على السمواتِ والأرضِ والجبالِ فأَبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشفقنَ مِنها وحَمَلَها الإِنسانُ إِنه كانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾(سورة الاحزاب:72)و﴿لو أنزلْنا هذا القرآنَ على جَبَلٍ لرأيتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِن خَشْيَةِ الله وتِلكَ الامثالُ نَضْرِبُها للناسِ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرونَ﴾(سورة الحشر:21)و﴿فَمَالَهُمْ عَن التَذْكِرِةِ مُعْرِضِينَ كَأنهُم حَمُرٌ مُستَنْفِرةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرة﴾(سورة المدثر:49-50-51)و﴿مثل الذين يُنفِقونَ أَموالَهُمْ في سبيل الله كَمَثلِ حَبةٍ اَنْبَتَتْ سَبْعَ سنابلَ في كلِّ سُنْبلة مائةُ حَبَّة﴾(سورة البقرة:261)و﴿كمثل جَنَّة بِرَبْوة اَصابها وابل﴾(سورة البقرة:265)..

وفي احباط العمل الصالح بالايذاء والرياء:

﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُم أن تكون له جنةٌ مِن نَخيلٍ وأَعْنابٍ تجري من تحتها الأنهارُ له فيها مِن كلِّ الثَّمَراتِ وأَصابَه الكِبَرُ وله ذُريةٌ ضُعَفاء فأصابَها إعصارٌ فيه نارٌ فاحْتَرَقَتْ﴾(سورة البقرة:266)و﴿مثلُ الذينَ كَفَروا بِرَبِّهِمْ اعمالُهم كَرَمادٍ اشتدتْ به الريحُ في يومٍ عاصفٍ لايَقدِرونَ مِما كَسَبوا عَلى شيءٍ ذلك هو الضلالُ البعيدُ﴾(سورة ابراهيم:18).

ومثاله من طبقات الكلام في مقام الوصف:

﴿ثمَّ استوى الى السماءِ وهي دخانٌ فقالَ لها وللأرض ائتيا طَوْعاً أو كرهاً قَالتا أَتَيْنا طائِعين﴾(سورة فصلت:11)و﴿قيلَ يا أرضُ ابلَعي ماءَك ويا سماءُ اقلعي وغيضَ الماء وقُضِيَ الأمر واستوتْ على الجُوديّ وقيلَ بُعداً للقومِ الظالِمين﴾(سورة هود:44)و﴿اَلَمْ تَرَ كيفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كلمةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ اصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء تُؤتي أُكُلَها كلَّ حِينٍ بإِذنِ رَبِّها﴾(سورة ابراهيم:24-25)و﴿ومثلُ كلمةٍ خبيثةٍ كشجرةٍ خبيثةٍ اجتُثَّتْ مِن فوقِ الأرضِ مَالَها مِن قَرارٍ﴾(سورة ابراهيم:26)..

ومن الشعر:

والليل تجري الدراري في مجرته كالروض تطفو على نهر ازاهيره(3)

اعلم! ان في كل آية من هذه الآيات التمثيلية طبقاتٍ ومراتبَ وصوراً وأساليبَ متنوعة. كلٌ منها - في كلٍ منها - كفيل وضامن لطائفة من الحقائق. وكما انك اذا أخذت قوارير من فضة وزيّنتها بذوب الذهب، ثم نقشتها بجواهرَ، ثم صيّرتها ذوات نور(4) بإدراج (الكتريق)(5) ترى فيها طبقات حسن وانواعَ زينة؛ كذلك في كل من تلك الآيات من المقصد الأصليّ الى الأسلوب التمثيليّ قد شرعت اشارات ومُدّت رموز الى مقامات كأن أصل المقصد تدحرج على المراتب وأخذ من كلٍ لوناً وحصة حتى صارت تلك الكلمات من جوامع الكلمات بل من جمع الجوامع.


فصل ومقدمة

اعلم! ان المتكلم كما يفيد المعنى ثم يُقْنِع العقل بواسطة الدليل؛ كذلك يلقي الى الوجدان حسِّياتٍ بواسطة صور التمثيل فيحرك في القلب الميل أو النفرة ويهيئُه للقبول. فالكلام البليغ ما استفاد منه العقلوالوجدان معاً، فكما يتداخل الى العقل يتقطر الى الوجدان أيضا. والمتكفل لهذين الوجهين التمثيلُ؛ اذ هو يتضمن قياساً وينعكس به في مرآة الممثل القانون المندمج في الممثل به. فكأنه دعوى مدلَّل. كما تقول في رئيس يكابد البلايا لراحة رعيته: (الجبل العالي يتحمّل مشاقّ الثلج والبَرَد، وتخضرّ من تحته الأودية).

ثم ان أساس التمثيل هو التشبيه. ومن شأن التشبيه تحريك حسّ النفرة أو الرغبة أو الميلان أو الكراهية أو الحيرة أو الهيبة؛ فقد يكون للتعظيم أو التحقير أو الترغيب أو التنفير أو التشويه أو التزيين أو التلطيف الى آخره... فبصورة الأسلوب يوقَظ الوجدان وينبَّه الحسُّ بميلٍ أو نفرة.

ثم ان مما يحوِّج الى التمثيل عمق المعنى ودقته ليتظاهر بالتمثيل، أو تفرّق المقصد وانتشاره ليرتبط به. ومن الأوّل متشابهات القرآن الكريم؛ اذ هي عند أهل التحقيق نوع من التمثيلات العالية وأساليب لحقائق محضة ومعقولات صرفة؛ ولأن العوام لايتلقون الحقائق في الأغلب الاّ بصورة متخيلة، ولا يفهمون المعقولات الصرفة الاّ بأساليب تمثيلية لم يكن بدّ من المتشابهات كـ﴿اِسْتوى عَلَى الْعَرْشِ﴾(سورة الاعراف:54) لتأنيس اذهانهم ومراعاة أفهامهم.

ثم اني استخرجت - فيما مضى من الزمان - من اسّ اَساس البلاغة مقدِّمة لبيان اعجاز القرآن الكريم ثنتي عشرة مسألة. كل منها خيط لحقائق(6). ولما ذكرت هذه الآيات التمثيلية هنا -دفعةً- ناسب تلخيص تلك المسائل فنقول وبالله التوفيق:

المسألة الأولى:

ان منشأ نقوش البلاغة انما هو نظم المعاني دون نظم اللفظ كما جرى عليه اللفظيون المتصلفون، وصار حب اللفظ فيهم مرضاً مزمناً الى ان رد عليهم عبد القاهر الجرجاني(7) في دلائل الاعجاز واسرار البلاغة، وحصر على المناظرة معهم أكثر من مائة صحيفة.

ونظمُ المعاني: عبارة عن توخي المعاني النحوية فيما بين الكلمات. اي اذابة المعاني الحرفية بين الكلم لتحصيل النقوش الغريبة. وان أمعنت النظر لرأيت ان المجرى الطبيعيّ للأفكار والحسيات انما هو نظم المعاني. ونظم المعاني هو الذي يشيّد بقوانين المنطق.. وأسلوب المنطق هو الذي يتسلسل به الفكر الى الحقائق.. والفكر الواصل الى الحقائق هو الذي ينفذ في دقائق الماهيات ونسبها.. ونسب الماهيات هي الروابط للنظام الأكمل.. والنظام الأكمل هو الصَدَف للحُسن المجرد الذي هو منبع كل حسن.. والحسن المجرد هو الروضة لأزاهير البلاغة التي تسمى لطائف ومزايا.. وتلك الجنة المزهرة هي التي يجول ويتنزّه فيها البلابل المسمّاة بالبلغاء وعشاق الفطرة.. واولئك البلابل نغماتهم الحلوة اللطيفة انما تتولد من تقطيع الصدى الروحاني المنتشر من أنابيب نظم المعاني.

والحاصل: ان الكائنات في غاية البلاغة قد أنشأها وأنشدها صانعُها فصيحةً بليغة، فكل صورة وكل نوع منها - بالنظام المندمج فيه - معجزة من معجزات القدرة. فالكلام اذا حذا حذو الواقع، وطابق نظمُه نظامَه حاز الجزالة بحذافيرها. والاّ فإن توجَّه الى نظم اللفظ وقعَ في التصنع والرياء كأنه يقع في أرض يابسة وسراب خادع.

والسرّ في الانحراف عن طبيعة البلاغة انه:

لما انجذب واستعرب العجم بجاذبة سلطنة العرب صارت صنعة اللفظ عندهم اهمّ، وفسد بالاختلاط مَلَكة الكلام المُضَريّ التي هي أساس بلاغة القرآن الكريم، وتلون معكس أساليب القرآن الكريم؛ وانما معدنها من حسّيات قوم (مُضَر) ومزاجهم. فاستهوى حب اللفظ كثير من المتأخرين.

تذييل: تزيين اللفظ انما يكون زينة اذا اقتضته طبيعةُ المعاني. وشعشعة صورة المعنى انما تكون حشمةً له اذا أَذِن به المآل. وتنوير الاسلوب انما يكون جزالة اذا ساعده استعدادُ المقصود. ولطافة التشبيه انما تكون بلاغة اذا تأسّست على مناسبة المقصود وارتضى به المطلوب. وعظمةُ الخيال وجولانُه انما تكون من البلاغة اذا لم تؤلمالحقيقةَ ولم تثقل عليها ويكون الخيال مثالا للحقيقة متسنبلا عليها. وان شئت الأمثلة الجامعة لتلك الشرائط فعليك بتلك الآيات التمثيلية المذكورة.

المسألة الثانية:

ان السحر البياني اذا تجلى في الكلام صيّر الأعراض جواهرَ والمعانيَ أجساما والجمادات ذواتِ أرواح والنباتاتِ عقلاءَ، فيوقِع بينها محاورة قد تنجرّ الى المخاصمة، وقد تُوصل الى المطايبة فترقص الجمادات في نظر الخيال. وان شئت مثالا فادخل في هذا البيت.

يُنَاجِيني الإِخْلاَفُ مِنْ تَحْتِ مَطْلِهِ فَتَخْتَصِمُ الآمَالُ وَالْيَأْسُ في صَدْرِي(8)

او استمع معاشقة الارض مع المطر في:

تَشَكَّى الاْرْضُ غَيْبَتَهُ اِلَيْهِ وَتَرْشُفُ مَاءَهُ رَشْفَ الرُضاب(9)

فهذه الصورة انما تسنبلت على تصوّت الأرض اليابسة بنزول المطر بعد تأخر. ولابد في كل خيال من نواة من الحقيقة نظير هذا المثال، ولابد في زجاجة كل مجاز من سراج الحقيقة، والاّ كانت بلاغته الخيالية خرافة بلا عرق لا تفيد الاّ حيرة.

المسألة الثالثة:

اعلم! ان كمال الكلام وجماله وحُلته البيانية باسلوبه. واسلوبه صورة الحقائق وقالب المعاني المتخذ من قطعات الاستعارة التمثيلية. وكأن تلك القطعات (سيِمُوطُوغْرَاف)(10) خياليّ؛ كإراءة لفظ (الثمرة) جنتها وحديقتها. ولفظ (بارز) معركة الحرب. ثم ان التمثيلات مؤسسة على سرّ المناسبات بين الأشياء، والانعكاسات في نظام الكائنات، واخطار امور اموراً؛ كإخطار رؤية الهلال في الثريا في ذهن ابناء النخلة غصنَها الأبيض بالقدم المتقوس بتدلي العنقود(11). وفي التنزيل حَتى﴿عادَ كالعُرجُون القديم﴾(سورة يس:39).

ثم ان فائدة اسلوب التمثيل كما في الآيات المذكورة هي: ان المتكلم بواسطة الاستعارة التمثيلية يُظهر العروق العميقة، ويوصل المعاني المتفرقة. واذا وضع بيد السامع طرفاً امكنَ له ان يجرّ الباقي الى نفسه، وينتقل اليه بواسطة الاتصال، فبرؤية بعضٍ يتدرج شيئاً فشيئاً - ولو مع ظلمة - الى تمامه. فمن سمِع من الجوهريِّ ما قال في وصف الكلام البليغ: (الكلام البليغ ما ثقبته الفكرةُ).. ومن الخمّار ما قال فيه: (ما طُبخ في مراجل العلم).. ومن الجمَّال ما قال فيه: (ما اخذتَ بخطامه واَنَخْتَهُ في مَبْرك المعنى) ينتقل الى تمام المقصد بملاحظة الصنعة.

ثم ان الحكمة في تشكل الاسلوب هي: ان المتكلم بارادته ينادي ويوقظ المعانيَ الساكنة في زوايا القلب كأنها حفاة عراة. فيخرجون ويدخلون الخيال، فيلبسون ما يجدون من الصور الحاضرة بسبب الصنعة أو التوغل أو الألفة أو الأحتياج، ولا أقل من لفِّ منديلٍ من تلك الصنعة برأسه، أو الانصباغ بلون مّا. وما تجده في ديباجة الكتب من براعة الاستهلال من اظهر امثلة هذه المسألة.

ثم ان اسلوب الكلام قد يكون باعتبار خيال المخاطَب كما في أساليب القرآن الكريم فلا تنسَ. ثم ان مراتب الاسلوب متفاوتة فبعضها ارقّ من النسيم اذا سرى يرمز اليه بهيئات الكلام. وبعضها اخفى من دسائس الحرب لايشمه الاّ ذو دهاء في الحرب؛ كاستشمام الزمخشري(12) من ﴿مَنْ يُحْيي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾(سورة يس:78)

(مَن يبرز الى الميدان). وان شئت فتأمل في الآيات المذكورة تر فيها مصداق هذه المسائل بألطف وجه. وان شئت زُرِ الامامَ البوصيريَّ(13) وانظر كيف كتب (رَضـَتَتَهُ)(14) باسلوب الحكيم في قوله:

وَاسْتَفْرغِ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنٍ قَدِ امْتَلأَتْ مِنَ الْمَحَارِمِ وَالْزِمْ حِمْيَةَ النَّـدَم

ورمز الى الاسلوب بلفظ الحمية. او استمع هدهد سليمان كيف أومأ الى هندسته(15) بقوله: ﴿الاّ يَسْجُدُوا لله الَّذِي يُخْرِج الْخَبْءَ في السَّموَاتِ والارضِ﴾(سورة النمل:25).

المسألة الرابعة:

اعلم! ان الكلام انما يكون ذا قوّة وقدرة اذا كان اجزاؤه مصداقا لما قيل:

عِبَاراتُنا شَتى وَحسْنُكَ وَاحِدٌ وَكُلٌّ اِلَى ذَاكَ الْجَمَالِ يُشير

بان تتجاوب قيودات الكلام ونظمه وهيئته، ويأخذ كلٌ بيد الآخر ويظاهره، ويمد كلٌ بقَدَرِه الغرضَ الكليِّ مع ثمراته الخصوصية. كأن الغرض المشترك حوض يتشرب من جوانبه الرطبة، فيتولد من هذه المجاوبة المعاونةَ، ومنها الانتظام، ومنه التناسب، ومنه الحسن والجمال الذاتي. وهذا السر من البلاغة يتلألأ من مجموع القرآن لا سيما في ﴿الـم ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين﴾ كما سمعتَه مع التنظير بقوله: ﴿ولئن مسَّتهم نفحةٌ من عذاب ربك﴾

(سورة الانبياء:46).

المسألة الخامسة:

اعلم! ان غناء الكلام وثروته ووسعته هو انه كما أن أصل الكلام يفيد أصل المقصد؛ كذلك كيفياته وهيئاته ومستتبعاته تشير وترمز وتلوح الى لوازم الغرض وتوابعه وفروعه، فكأنما تتراءى طبقة بعد طبقة ومقاما خلف مقام. وان شئت مثالا تأمل في ﴿واذا قيل لهم لاتفسدوا في الارض﴾ الى آخره. و﴿واذا لقوا الذين آمنوا﴾ الى آخره، على الوجه المفسَّر سابقا.

المسألة السادسة:

اعلم! ان المعاني المجتناة من خريطة الكلام المأخوذة المنقوشة (بفُوطُغْراف) التلفظ على أنواع مختلفة ومراتب متفاوتة. فبعضها كالهواء يُحسّ به ولايُرى.. وبعضها كالبخار يُرى ولا يُؤْخذ.. وبعضها كالماء يُؤخذ ولاينضبط.. وبعضها كالسبيكة ينضبط ولايتعين.. وبعضها كالدّرّ المنتظم والذهب المضروب يتشخص، ثم بتأثير الغرض والمقام قد يتصلب الهوائي. وقد تعتور على المعنى الواحد الحالات الثلاث. ألا ترى انه اذا أثر أمر خارجي في وجدانك يتهيج قلبُك؟ فيثير الحسيات فيتطاير معانٍ هوائية فيتولد ميولٌ، ثم يتحصل بعضها، ثم يتشكل من ذلك البعض قسم، ثم ينعقد من ذلك القسم بعض. ففي كل من هذه الطبقات يتوضع وينعقد البعض، ويبقى البعض الآخر معلّقا كمعلقية بعض الصوت عند تشكل الحروف، والتبن عند انعقاد الحبوب. فمن شأن البليغ ان يفيد بصريح الكلام ما تعلق به الغرضُ واقتضاه المقام، وطلبه المخاطب. ثم يحيل الطبقات الأُخر - بمقدار نسبة درجة القرب من الغرض - على دلالة القيود، واشارة الفحوى، ورمز الكيفيات، وتلويح مستتبعات التراكيب، وتلميح الأساليب، وإيماء أطوار المتكلم. ثم ان من تلك المعاني المعلقة معاني حرفية هوائية ليس لها ألفاظ مخصوصة، ولا لها وطن معين بل كالسيَّاح السيَّار؛ قد يستتر في كلمة وقد يتشربه كلام وقد يتداخل في قصة، فان عصرتَ تقطَّر. كالتحسر في ﴿اِنِي وَضَعْتُها اُنْثى﴾(سورة آلعمران:36) والتأسف في (لَيْتتَ الشَّبَابَ..الخ). والاشتياق والتمدح والخطاب والاشارة والتألم والتحير والتعجب والتفاخر وغير ذلك. ثم ان شرط حسن المعاشرة بين تلك المعاني المتزاحمة تقسيم العناية والاهتمام على نسبة خدمتها للغرض الاساسيّ. وان شئت مثالاً لهذه المسألة فمن رأس السورة الى هنا مثال بيّن على الوجهى المشروح سابقاً.

المسألة السابعة:

اعلم! ان الخيال المندمج في اسلوب لابد ان يتسنبل على نواة حقيقة، ويكون كالمرآة في ان ينعكس به - في المعنويات - القوانينُ والعلل المندرجة في سلسلة الخارجيات.

وفلسفة النحو التي هي المناسبات المذكورة في كتبه أيضاً من هذا القبيل؛ كما يقال: الرفع للفاعل لأن القوي يأخذ القوي. وقس عليه..

المسألة الثامنة:

اعلم! ان سيبويه(16) نصّ على ان الحروف التي تعدد معانيها كـ(من) و (الى) و(الباء) وغيرها، أصل المعنى فيها واحد لايزول؛ لكن باعتبار المقام والغرض قد يتشرب معنى معلقاً، ويجذبه الى جوفه، فيصير المعنى الأصلي صورة واسلوباً لمسافره. وكذلك ان العارف بفقه اللغة اذا تأمل عَرف ان اللفظ المشترك في الأغلب معناه واحد، ثم بالمناسبات وقع تشبيهات.. ثم منها مجازات.. ثم منها حقائق عرفية.. ثم يتعدد. حتى ان اسم (العين) التى معناه الواحد البصر أو المنهل، يطلق على الشمس أيضاً(17) بالرمز الى ان العالم العلويَّ ينظر الى العالم السفليِّ بها، او ان ماء الحياة الذي هو الضياء يسيل من ذلك المنبع في الجبل الأبيض المشرف وقس!..

المسألة التاسعة:

اعلم! ان أعلى مراتب البلاغة الذي يُعجِز الارادةَ الجزئية والفكر الشخصيّ والتصور البسيط: هو ان يحافظ ويراعي وينظر المتكلم دفعةً نسب قيود الكلام وروابط الكلمات وموازنة الجمل التي يُظهِر كلٌ مع الآخر نقشاً متسلسلاً الى النقش الأعظم. حتى كأن المتكلم استخدم عقولا الى عقله كالباني لقصر يضع الأحجار المتلونة بوضعية تحصل بها نقوشٌ غريبة من مناظرة وموازاة الكل مع الكل كـ(العين)(18) في الخط المشترك بين (الخلفاء الراشدين). ومن اظهر مسائل هذه المسألة قوله تعالى: ﴿الـم ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين﴾ على ما سمعت سابقا..

وأيضاً من أسباب علوّ الكلام أن يكون كشجرة النسب يتسلسل متناسلا الى المقاصد التي تتدلى على المقام والغرض.. وأيضاً من أسباب رفعة طبقة الكلام أن يكون مستعداً لاستنباط كثير من الفروع والوجوه كقصة موسى على نبينا وعليه السلام.

المسألة العاشرة:

اعلم! ان سلاسة الكلام المنتجة للطافته وحُلْوه هو ان تكون المعاني والحسيات المندمجة فيه ممتزجة تتحد أو مختلفة تنتظم؛ لئلا تتشرب الجوانب قوّة الافادة والغرض، بل يجذب المركزُ القوّةَ من الأطراف.. وأيضاً من السلاسة ان يتعين المقصد.. وأيضاً منه ان يتظاهر ملتقى الأغراض.

المسألة الحادية عشرة:

اعلم! ان سلامة الكلام التي هي سبب صحته وقوّته هي: ان يكون الكلام بحيث يشير الى المبادئ والدلائل، ويرمز الى اللوازم والتوابع، وبقيود الموضوع والمحمول وكيفياتهما يومئ الى رد الاوهام ودفع الشبهات؛ كأن كل قيد جواب لسؤال مقدّر. وان شئت مثالا فعليك بفاتحة الكتاب.

المسألة الثانية عشرة:

اعلم! ان الأساليب على ثلاثة أنواع:

أحدها:

الاسلوب المجرد، الذي لونه واحد، وخاصته الاختصار والسليقية والسلامة والاستقامة فهو أملس سوي، ومحل استعماله المعاملات والمحاورات والعلوم الآلية. وان شئت مثالا سلساً منه فعليك بكتب السيّد الجرجاني.

والثاني:

الاسلوب المزين، وخاصته التزيين والتنوير، وتهييج القلب بالتشويق أو التنفير. والمقام المناسب له الخطابيات كالمدح والذم وغيرهما والاقناعيات ونظائرهما. واذا تحرّيت المثال المزيّن فادخل في دلائل الاعجاز واسرار البلاغة ترَ فيهما جناناً مزينة.

والثالث:

الاسلوب العالي، وخاصته الشدة والقوّة والهيبة والعلوية الروحانية. ومقامه المناسب الإلهيات والأصول والحكمة. وإن شئت مثلا بيناً وتمثالاً معجِزاً فعليك بـ (القرآن) فان فيه ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بليغ..

(انتهى الفصل بتلخيص).

  • * *

ثم اعلم! ان مدار النظر في آيتنا هذه، وهي ﴿مثلهم كمثل الذي استوقد﴾ الخ..:

أوّلاً: نظمها بسابقها.. وثانياً: النظم بين جملها.. وثالثاً: نظم كيفية جملة جملة؛ فمع استحضار مامضى:

اعلم! ان القرآن الكريم لما صرّح بحقيقة حال المنافقين ونص على جنايتهم عقّبها بالتمثيل لثلاث نكت:-

إحداها: تأنيس الخيال الذي هو أطوع للمتخيلات من المعقولات، وتأمين اطاعة الوهم الذي شأنه التشكيكات ومعارضة العقل وانقياده باظهار الوحشي بصورة المأنوس، وتصوير الغائب بصورة الشاهد.

والثانية: تهييج الوجدان وتحريك نفرته ليتفق الحسُ والفكر بتمثيل المعقول بالمحسوس.

والثالثة: ربط المعاني المتفرقة واراءة رابطة حقيقية بينها بواسطة التمثيل.. وأيضا الوضع نصب عين الخيال ليجتني بالنظر الدقائقَ التي أهملها اللسان.

واعلم! ان مآل جمل هذه الآية كما يناسب مآل مجموع قصة المنافقين؛ كذلك يناسب آيةً آيةً منها. ألا ترى ان مآل القصة انهم آمنوا صورةً للمنافع الدنيوية.. ثم تبطنوا الكفر.. ثم تحيروا وترددوا.. ثم لم يتحرّوا الحق.. ثم لم يستطيعوا الرجوع فيعرفوا. وما أنسب هذا بحال من أوقدوا لهم ناراً أو مصباحاً.. ثم لم يحافظوا عليها.. ثم انطفأتْ.. ثم اُظلموا.. ثم لايتراءى لهم شئ حتى يكون كل شئ معدوماً في حقهم!. فلسكون الليل كأنهم صمّ، ولتعامي الليل وانطفاء أنواره كأنهم عُميٌ، ولعدم وجود المخاطَب والمغيث لايستغيثون كأنهم بُكم، ولعدم استطاعة الرجوع كأنهم أشباح جامدة لا أرواح لها.

ثم ان في المشبَّه به نقطاً أساسية تناظر النقط الأساسية في المشبه. مثلا: الظلمة تنظر الى الكفر، والحيرة الى التذبذب، والنار الى الفتنة. وقس!..

ان قلت: ان في التمثيل نوراً فأين نور المنافق حتى يتم تطبيق التمثيل؟.

قيل لك: ان لم يكن في الشخص نور ففي محيطه يمكن له الاستنارة.. وان لم، ففي قومه يمكن الاستضاءة.. وان لم، ففي نوعه يمكن له الاستفادة.. وان لم، ففي فطرته كان يمكن له الاستفاضة كما مر.. وان لم تقنع، ففي لسانه بالنظر الى نظر غيره أو بالنظر الى نفسه لترتب المنافع الدنيوية.. وان لم، فباعتبار البعض من الذين آمنوا ثم ارتدوا.. وان لم، فيجوز ان يكون النور اشارة الى ما استفادوا كما ان النار اشارة الى الفتنة.. وان لم ترض بهذا أيضاً، فبتنزيل امكان الهداية منزلة وجودها كما أشار اليه ﴿اشتروا الضلالة بالهدى﴾ فانه هو الجار الجنب للتمثيل.

أما وجه النظم بين الجمل: فاعلم! ان نظم جملة ﴿مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً﴾ مناسبتُها للموقع.

نعم، حال هذا المستوقد على هذه الصورة تطابق مقتضى حال الصفّ الأول من مخاطبي القرآن الكريم وهم ساكنو جزيرة العرب؛ اذ ما منهم الا وقد عرف هذه الحالة بالذات أو بالتسامع ويحس(19) بدرجة تأثيرها ومشوشيتها؛ اذ بسبب ظلم الشمس يلتجئون الى ظلمة الليل فيسيرون فيها. وكثيراً مايغمى عليهم السماء فيصادفون حزن الطرق وقد ينجر بهم الطريق الى الورطة.. وأيضاً قد يجولون في معاطف الكهوف المشحونة بالمؤذيات فيضلون الطريق فيحتاجون لإيقاد النار أو اشتعال المصباح ليبصروا رفقاءهم حتى يستأنسوا

ويروا أهبتهم وأشياءهم كي يحافظوا عليها، ويعرفوا طريقهم ليذهبوا فيها ويتراءى لهم الضواري والمهالك ليجتنبوا. فبينما هم استضاؤا بنورهم اذ اختطفتهم آفة سماوية.. وبينما هم في ذروة كمال الرجاء وآن الظفر بالمطلوب اذ سقطوا في حضيض اليأس المطلق. فنص على هذا الحال بقوله:

﴿فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم﴾ اعلم! ان هذه (الفاء) تشير الى انهم أوقدوا النار ليستضيؤا فاضاءت فاطمأنوا بالاستضاءة فتعقبهم الخيبة وسقطوا في أيديهم. وما أشد تأثير العدم عليهم في آن انتظار الحصول!. ثم ان هذه الشرطية تستلزم استلزام الاضاءة لذهاب النور. وخفاء هذا الاستلزام يشير الى تقدير ما يظهر به اللزوم هكذا: فلما اضاءت استضاؤا بها فاشتغلوا.. فلم يحافظوا.. فلم يهتموا بها، ولم يعرفوا قدر النعمة فيها.. فلم يمدوها.. فلم يديموها؛ فانطفأت. لأنه لما كانت الغفلة عن الوسيلة للاشتغال بالنتيجة - بسر ﴿اِنَّ الاِْنْسَانَ لَيَطْغَى اَن رَآهُ اِسْتَغْنَى﴾(سورة العلق:6-7) ـ سبباً لعدم الإدامة المستلزم للانطفاء كان كأن نفسَ الاضاءة سبب لذهاب النور.

أما جملة ﴿وتركهم في ظلمات﴾ فبعدما أشار الى خسرانهم بذهاب النعم بزوال النور عقبه بخذلانهم بنزول النقم بالسقوط في الظلمات.

أما جملة ﴿لا يبصرون﴾ فاعلم! ان الانسان اذا اظلم عليه وأضل السبيل فقد يسكن ويتسلى برؤية رفقائه ومرافقه، واذا لم يبصرهما كان السكون مصيبة عليه كالحركة بل أوحش.

أما ﴿صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون﴾ فاعلم! ان الانسان اذا وقع في مثل هذا البلاء قد يتسلى ويأمل ويرجو النجاة من جهات أربع مترتبة:

فأولاً: يرجو أن يسمع تناجي الخلق من القرى أو أبناء السبيل؛ إن يستمِدْ يَمدّوه. ولما كانت الليلة ساكنة بكماءَ استوى هو والأصم، فقال: (صُم) لقطع هذا الرجاء.

وثانياً: يأمل انه إن نادى أو استغاث يُحتمل أن يسمع أحدٌ فيغيثهولما كانت الليلة صماء كان ذو اللسان والأبكم سواء فقال: (بُكم) لإلقامهم الحجر بقطع هذا الرجاء أيضاً.

وثالثاً: يأمل الخلاص برؤية علامة أو نار او نيّرٍ تشير له الى هدف المقصد. ولما كانت الليلة طامية رمداء عبوسة عمياء كان ذو البصر والأعمى واحداً فقال: (عُميٌ) لإِطفاء هذا الأمل أيضاً.

ورابعاً: لايبقى له الاّ ان يجهد في الرجوع، ولما أحاط به الظلمة كان كمن دخل في وحْلٍ باختياره وامتنع عليه الخروج. نعم، كم من أمرٍ تذهب اليه باختيار ثم يُسلَب عنك الاختيار في الرجوع عنه تخلّيه انت ولا يخليك هو، فقال تعالى: ﴿فهم لا يرجعون﴾ لسد هذا الباب عليهم وقطع آخر الحبل الذي يتمسكون به، فسقطوا في ظلمات اليأس والتوحش والسكونة والخوف.

أما الجهة الثالثة، أعني :

نظم قيودات جملة جملة، فانظر الى ﴿مثلهم كمثل الذيِ استوقد ناراً﴾ كيف تتطاير شرارات النكت من قيوداتها.

أما لفظ (المثل) فاشارة الى غرابة حال المنافقين وان قصتهم اعجوبة؛ اذ المَثَل هو الذي يجول على الألسنة ويتناقله الناس لتضمنه لغرابة؛ اذ أخصّ صفاته الغرابة. ثم لاندماج قاعدة أساسية في الأمثال يقال لها: (حكمة العوام) و (فلسفة العموم). فالمراد بالمثل هنا صفتهم الغريبة وقصتهم العجيبة وحالهم الشنيعة. ففي التعبير بالمَثَل مجازاً اشارة الى الغرابة، وفي الاشارة رمز الى ان من شأن صفتهم أن تدور على لسان النفرة والتلعين كضرب المثل.

وأما (الكاف):

فإن قلت: إن حُذف كان تشبيهاً بليغاً فهو أبلغ؟

قيل لك: الأبلغ في هذا المقام ذكره، اذ التصريح به يوقظ الذهن بان ينظر الى المثال تبعياً فينتقل عن كل نقطة مهمة منه الى نظيرها من المشبه. والا فقد يتوغل فيه قصداً فتفوت منه دقائق التطبيق.

وأما (المَثَل) الثاني فاشارة الى ان حال المستوقد بغرابته ووجوده في حس العموم كان في حكم ضرب المثل.

وأما (الذي):

فان قلت: كيف افردَ مع انهم جماعة؟

قيل لك: اذا تساوى الجزء والكل والفرد والجماعة ولم يؤثر الاشتراك في صفة الفرد زيادة ونقصانا جاز الوجهان مثل ﴿كمثل الحمار﴾ ففي افراده اشارة الى استقلال كل فرد في تمثل الدهشة وتصوير شناعتهم، أوكان (الذي) (الذين) فاختُصر.

وأما ﴿استوقد﴾ فسينُه اشارة الى التكلف والتحري. وفي افراده مع جمع الضمير في (نورهم) رمز لطيف الى أن فرداً يوقدُ لجماعةٍ. ولقد ألطف في الإفراد إيقاداً والجمع استنارة.

وأما ﴿ناراً﴾ بدل (المصباح) أو غيره فاشارة الى المشقة في نور التكليف، ورمز الى انهم يوقدون تحت النور الظاهري نارَ فتنة. وأما تنكيره فايماء الى شدة احتياجهم حتى انهم يرضون بأية نار كانت.

ثم اَجِلِ النظرَ فيما حول جملة ﴿فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم﴾ لترى كيف تضئ قيوداتُها على ظلمات الدهشة التي هي الغرض الأساسي. ولقد سمعت في المسألة الرابعة ان قوة الكلام بتجاوب القيود:

أما (الفاء) فإيماء الى ان هجوم اليأس المطلق تعقب كمال الرجاء.

وأما ﴿لما﴾ فلتضمنه قياساً استثنائياً مستقيماً مع دلالته على تحقق المقدم ينتج تحقق التالي وقطع التسلي.

وأما ﴿أضاءت﴾ فاشارة الى ان الايقاد للاستنارة لا للاصطلاء. وفيه رمز الى شدة الدهشة اذ ما أفاد لهم الاضاءة إلا رؤية المهالك والعلم بوجودها. ولولاها لأمكن مغالطة النفس وتسكينها.

وأما ﴿ما حوله﴾ فاشارة الى احاطة الدهشة من الجهات الأربع، والى لزوم التحفظ بالاضاءة عن هجوم الضرر عن الجهات الست.

وأما ﴿ذهب﴾ فلأنه جزاء الشرط، لا بد ان يكون لازماً. ولخفاء اللزوم - كما مر - يرمز الى انهم لم يتعهدوها ولم يعرفوا قَدْرَ النعمة فيها فبنفس الاضاءة اُخذوا عن أنفسهم وأنساهم البطر والفرح تعهّدها فأخذها الله عنهم..

وأما اسناد (ذهب) الى ﴿الله﴾ فاشارة الى قطع رجاءين: رجاء التعمير ورجاء الرحمة؛ لأنه يشير الى ان الآفة سماوية لاتقبل التعمير، ويرمز الى انه جزاءٌ لقصور المرء، ولهذا يأخذه الله تعالى. فينقطع المتمسك به عند انقطاع الأسباب وهو أمل الرحمة، اذ لايستعان من الحق على ابطال الحق.

وأما (الباء) فاشارة الى اليأس عن العَود؛ اذ لا راد لما أخذه الله للفرق البيّن بين ذهب به أي استصحبه، وبين اذهبه أي ارسله، وذهب أي انطلق؛ لإمكان العود في الآخِرَين دون الأول.

وأما (النور) ففيه ايماء لطيف الى تذكر حالهم على الصراط.

وأما الاضافة في ﴿هم﴾ المفيدة للاختصاص فاشارة الى شدة تأثرهم؛ اذ مَن انطفأت نارُه فقط مع ان نار الناس تلتهب أشد تألما.

ولله درّ التنزيل ما ألطفه في فنون البلاغة! ألم تر كيف توجهت هيئاتها الى الغرض الكليّ، أعني الدهشة مع اليأس، كالحوض في ملتقى الأودية؟.

ثم امعن النظر في ﴿وتركهم في ظلمات لايبصرون﴾:

أما (الواو) فاشارة الى انهم جمعوا بين الخسارتين؛ سُلبوا ضياءً وأُلبسوا ظلمةً.

أما (تَرَك) بدل (أبقى) أو غيره فاشارة الى انهم صاروا كجسد بلا روح وقشر بلا لبّ. فمن شأنهم ان يُتركوا سدى ويُلقوا ظهريا.

وأما ﴿في﴾ فرمز الى انه انعدم في نظرهم كل شئ ولم يبق الاّ عنوان العدم وهو الظلمة فصارت ظرفاً وقبراً لهم.

وأما جمع ﴿ظلمات﴾ فايماء الى ان سَواد الليل وظلمة السحاب أولَدتا في روحهم ظلمة اليأس والخوف، وفي مكانهم ظلمة التوحش والدهشة، وفي زمانهم ظلمة السكون والسكوت، فأحاطت بهم ظلمات متنوعة.. وأما تنكيرها فايماء الى انها مجهولة لهم لم يسبق لهم الُفْة بمثلها فتكون أشد وقعا.

وأما ﴿لايبصرون﴾ فتنصيص على اساس المصائب، اذ مَن لم ير كان ارأى للبلايا، وبفقد البصر يبصر أخفى المصائب. وأما المضارعية فلتصوير وتمثيل حالهم نصب عين الخيال ليرى السامع دهشتهم فيتحسس بوجدانه أيضاً.

وأما ترك المفعول فللتعميم، أي لايرون منافعهم ليحافظوها، ولا يبصرون المهالك كي يجتنبوا عنها. ولا يتراءى الرفقاء ليستأنسوا بهم، فكأن كل واحد فرد برأسه.

ثم انظر الى جمل ﴿صم بكم عمي فهم لايرجعون﴾ لتسمع ما تتناجى به؛ اذ هذه الأربعة حدٌّ مشترك بين الممثل والممثل به، وبرزخ بينهما ومتوجهة اليهما؛ تتكلم عن حال الطرفين. ومرآة لهما تريك شأنهما. ونتيجة لهما تسمعك قصتهما.

أما الجهة الناظرة الى الممثل به:

فاعلم! ان من سقط في مثل هذه المصيبة يبقى له رجاء النجاة باستماع نجوى منجٍ، فاستلزمت ابكمية الليلة اصميته.. ثم اسماع مغيث فاقتضت اصمية الليل ابكميته.. ثم الهدى برؤية نار أو نيّر فانتج تعامي الليل عميه.. ثم العود الى بدءٍ فانسد عليه الباب كمن سقط في وحل كلما تحرك انغمس..

وأما الجهة الناظرة الى الممثل:

فاعلم! انهم لما وقعوا في ظلمات الكفر والنفاق امكن لهم النجاة عن تلك الظلمات بطرق أربعة مترتبة:

فاوّلاً:

كان عليهم ان يرفعوا رؤسهم ويستمعوا الى الحق ويصغوا الى ارشاد القرآن، لكن لما صارت غلغلة(20) الهوى مانعة لأن يخلُص صدى القرآن الى صماخهم، وأخذ التهوس بآذانهم جاراً لهم عن تلك الطريق، نعى عليهم القرآن بقوله: ﴿صم﴾ اشارة الى انسداد هذا الباب ورمزاً الى ان آذانهم كأنها قطعت وبقيت ثقبات مشوهة أو قطعات متدلية في جوانب رؤسهم.

وثانياً:

لابد لهم ان يخفضوا رؤسهم ويشاوروا وجدانهم فيسألوا عن الحق والصراط، لكن لما اخذ العناد على يد لسانهم وجره الحقد من خلف الى الجوف، ألقمهم القرآن الحجر بقوله: ﴿بكم﴾ اشارةً الى انسداد هذا الباب أيضا في وجوههم ورمزاً الى انهم بالسكوت عن الاقرار بالحق كانوا كمن قلع لسانه فبقي الفم ككهف خلا عن ساكنه مشوهاً للوجه.

وثالثاً:

لزمهم ان يُرسلوا انظار العبرة لتجتني لهم الدلائل الآفاقية، لكن وضعَ التغافلُ يدَه على عيونهم وردّ - وطرد - التعامي الأنظار الى أجفانهم. فقال القرآن: ﴿عميٌ﴾ اشارة الى انهم عمهوا(21) عن هذا الطريق أيضاً. ورمزَ بحذف أداة التشبيه الى ان عيونهم التي هي أنوار الرأس كأنها قلعت فبقيت نُقرات مشوّهة في جباههم.

ورابعاً:

لابد من ان يعرفوا قبح حالهم القبيح ليتنفروا فيندموا فيتوبوا فيرجعوا. لكن لما زيّنت لهم أنفسُهم - لأجل فساد الفطرة بالاصرار وغلبة الهوى والشيطان - تلك القبائحَ، قال القرآن: ﴿فهم لايرجعون﴾ اشارة الى انسداد آخر الطرق عنهم، ورمزاً الى انهم وقعوا باختيارهم فيما لا اختيار لهم في الخروج كالمضطرب في بحر الرمل.

______________________________

(1) اسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجانى (المتوفي 471هـ). طبع عدة طبعات منها في مطبعة الاستقامة سنة 1948 بمصر وكتب حواشيه الاستاذ احمد مصطفى المراغي، والفصل المذكور هو في ص128 من الطبعة المذكورة.

(2) الغياية: ضوء شعاع الشمس، قعر البئر، وكل ما أظل الإنسان كالسحابة والغبرة.

(3) قائله ابن النبيه المصرى في مدح الايوبيين توفي سنة 619هـ.

(4) ذوات انوار (ش).

(5) الكهرباء.

(6) المقصود المقالة الثانية من كتاب (محاكمات "عقلية" )ـ الصيقل الاسلامي.

(7) (ت 471هـ / 1078م) اِمام في اللغة والبلاغة، له مصنفات منها: كتاب المغني (30 مجلد) المقتصد (3 مجلدات) اعجاز القرآن، المفتاح، دلائل الاعجاز، اسرار البلاغة.

(8) لإبن المعتز (دلائل الاعجاز ص61) وفي ديوان ابن المعتز: تجاذبنى الاطراف بالوصل والقلى... ص226.

(9) للمتنبي في ديوانه 1/263.

(10) الكتابة المتحركة، اصلها: سينماطوغراف ثم اختصرت الى سينما.

(11) لعل الاستاذ يقصد قول قيس بن خطيم:

                         وقد لاح في الصبح الثريا لمن رأى                 كعنقود ملاحيّه حين نوّرا

او قول ابن المعتز:

                         وارى الثريا في السماء كأنها                         قد تبدت من ثياب حداد

(12) هو ابو القاسم محمود بن عمر بن محمد الزمخشرى جار الله. ولد بزمخشر سنة 467هـ، توفي بعد رجوعه من مكة المكرمة سنة 538هـ. إمام عصره في اللغة والتفسير، له (الكشاف عن حقائق التنزيل) و (الفائق في غريب الحديث) و (المفصل في النحو) و (اساس البلاغة) وغيرها.

(13) (608 - 698هـ) محمد بن سعيد بن حماد بن عبدالله البوصيري المصري. شاعر، حسن الديباجة، مليح المعاني، له ديوان شعر مطبوع، واشهر شعره البردة المشهورة بـ (بردة المديح) (كشف الظنون 1/288 الاعلام 6/139).

(14) وصفة طبية.

(15) ومعرفته الماء تحت الارض (الكشاف).

(16) هو عمر بن عثمان، امام نحاة البصرة، ولد بالبيضاء من مدن شيراز نشأ بالبصرة ودرس النحو على الخليل الفراهيدى، ورد بغداد فناظر امام نحاة الكوفة الكسائى فحكم بانتصاره عليه، فأسف وعاد الى موطنه، وألف كتابه الذى يعدّ اصل النحو، توفي سنة 796هـ.

(17) والعين: عين الشمس، وعين الشمس: شعاعها الذى لا تثبت عليه العين. وقيل: العين الشمس نفسها، يقال: طلعت العين، وغابت العين. (لسان العرب لابن منظور).

(18) من المعلوم ان اسماء الخلفاء الراشدين الاربعة تبدأ بحرف (العين) وقد استلهم بعض الخطاطين نقشاً بديعاً استعمل فيه حرف (العين) مشتركاً بين اسمائهم.

(19) وأحسّ (ش).

(20) في الشئ: دخل فيه على تعب وشدة.

(21) تحيروا في طريقهم او امرهم.

19-20 تفسير الاية[]

اَوْ كَصَيِّب مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ اَصَابِعَهُمْ فِي

اذانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَالله مُحِيطٌ بِالْكَافِرِين َ (19) يَكادُ

الْبَرْقُ يَخْطَفُ اَبْصَارَهُمْ كُلَّما اَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَاِذَا اَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا

وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَاَبْصَارِهِمْ اِنّ الله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)


اعلم! ان مدار النظر في هذه الآية ايضا من ثلاثة وجوه، نظمها بسابقتها، والنظم بين جملها، ثم النظر بين هيئات جملة جملة. مثلها في الارتباط كمثل الامْيال العادّة للساعات والدقائق والثواني.

أما وجه النظم بينها وبين سابقتها فهو: انه كرر التمثيل واطنب في التصوير اشارةً الى احتياج تصوير حال المنافقين في دهشتهم وحيرتهم الى نوعين منه، إذ:

خلاصة التمثيل الأول هي:

ان المنافق يرى نفسَه في صحراء الوجود منفردةً عن الأصحاب مطرودةً عن جمعية الكائنات خارجةً عن حكم شمس الحقيقة. يصير كلُ شئ في نظره معدوماً ويرى المخلوقات اجنبية كلها، ساكنة وساكتة استولى عليها الوحشة والخمود. وأين هذا من حال المؤمن الذي يرى بنور الايمان كل الموجودات احبّاءه ويستأنس بكل الكائنات؟.

وخلاصة التمثيل الثاني هي:

ان المنافق يظن ان العالَم بأجزائه ينعي عليه بمصائبه ويهدده ببلاياه ويصيح عليه بحادثاته ويحيط به بنوازله كأن الأنواع اتفقوا على عداوته فانقلب النافع ضاراً. وما هذه الحالة الا لعدم نقطتي الاستمداد والاستناد كما مر. واين هذا من حال المؤمن الذي يسمع بالايمان تسبيحات الكائنات وتبشيراتها؟..

وأيضاً تكرار التمثيل ايماء الى انقسام المنافقين الى الطبقة السفلية العامية المناسبة للتمثيل الاول والى الطبقة المتكبرة المغرورة الموافقة للتمثيل الثاني.

وأما مناسبة هذا التمثيل لمقامه بالنظر الى السامع فهي: ان الصف الأول من مخاطبي القرآن ابناء الفيافي يفترشون الصحارى ويتخيّمون بفسطاط السماء. وما منهم الا وقد رأى بنفسه أو سمع من أبناء جنسه مثل هذه الحادثة حتى استأنس بها حسُّ العموم؛ بحيث تؤثّر فيه كضرب المثل.

وأما مناسبته للتمثيل الأول فأظهر من ان يخفى، اذ هو كالتكملة والتتمة له مع الاتحاد في كثير من النقط.

وأما مناسبة التمثيل للممثل له فبخمسة وجوه:

منها: وقوعهما كليهما في شدة الحيرة بانسداد كل طرق النجاة عليهم، وبان ضلت جميعُ أسباب الخلاص عنهم.

ومنها: وقوعهما في شدة الخوف حتى يتخيل كل من المشبه والمشبه به، ان الموجودات اتفقت على عداوته ولا يأمن من بقائه في كل دقيقة.

ومنها: وقوعهما في شدة الدهشة المنتجة لاختبال العقل حتى ان كلاً منهما يتبلّه. كمثل من يرى برق السيوف فيتحفظ بغمض بصره أو يسمع تقتقة البنادق فيتجنب عن الجرح بسد سمعه. أو كمثل من لا يحب غروب الشمس فيمسك دولاب ساعته لئلا يدور جرخ الفلك الدوّار، فما أخبلهم!.. اذ الصاعقةُ لا تنثني بسد الاسماع، والبرقُ المحرق لايترحم عليهم بغضِّ الأبصار. ومن هنا يُرى ان لم يبق لهم ممسك.

ومنها: ان الشمس والمطر والضياء والماء كما إنها منابع حياة الأزاهير وتربية النباتات، وسبب تعفن الميتات ونتن القاذورات؛ كذلك ان الرحمة والنعمة اذا لم تصادفا موقعَهما المنتظر لهما والعارف بقيمتهما، تنقلبان زحمة ونقمة.


ومنها: انه كما يوجد التناسب بين المآلين الذي هو الأصل في انعقاد الاستعارة التمثيلية بلا نظر الى تطبيق الأجزاء؛ كذلك يوجد مناسبات هنا بين أجزائهما؛ اذ الصيِّب حياة النباتات كما ان الاسلامية حياة الأرواح، والبرق والرعد يشيران الى الوعد والوعيد، والظلمات تريك شبهات الكفر وشكوك النفاق.

وأما وجه النظم بين الجمل:

فاعلم! ان التنزيل لما قال ﴿أو كصيب من السماء﴾ مشيراً الى انهم كالذين اضطروا الى السفر في صحراء موحشة في ليلة مظلمة تحت مطر شديد،كأن قطراتِه مصائبُ تصيب مرماها بصَوبها وقد ملأت الجوّ بكثرتها؛ استيقظ ذهن السامع منتظراً لبيان السبب في ان صار الصيّبُ الذي هو في الأصل رحمة مرغوبة مصيبةً هائلة فقال مصوراً لدهشته: ﴿فيه ظلمات﴾ مشيراً الى ان المطر كما هو ظرف لظلمة السحاب ولكثافته؛ كذلك لأجل عمومه وكثرته واحاطته كأنه ظرف للّيلة المُتَفَتِتَة قطراتٍ مسودةً بين قطراته.. ثم ما من سامع يسمع ﴿فيه ظلمات﴾ الا وينتظر لبيان. كأن المتكلم سمع صدى الرعد من ذهن السامع فقال: ﴿ورعد﴾ مشيراً الى تهويل الحال وتشديدها بان السماء أميرة الموجودات عزمت على اهلاكهم، وتصيح عليهم برعدها؛ اذ المصاب المدهوش يتخيل من الكائنات المتعاونة على اضراره حركة مزعجة تحت سكونها، ونطقاً مهيباً تحت سكوتها. فاذا سمع الرعد توهَّم انها تتكلم بما يهدده وتصيح عليه؛ اذ بالخوف يحسب كل صيحة عليه.. ثم ان السامع لايسمع الرعد الاّ ويستهل فيبرق في ذهنه رفيقه الدائميّ، ولذلك قال: ﴿وبرق﴾ مشيراً بالتنكير الى انه غريب عجيب. نعم! هو في نفسه عجيب؛ اذ بتولده يموت عالمٌ من الظلمات فتطوى وتلقى الى العدم، وبموته فجأة يحيى ويحشر عالم من الظلمات. كأنه نار حينما تنطفئ تورث ملء الدنيا دخاناً. ومن شأن المصاب بها ان يمعن النظر ولا يمر بنظر سطحي بناء على الالفة والمناسبة حتى يتكشف عن دقائق صنع القدرة.. ثم بعد هذا التصوير كأن ذهن السامع يتحرك سائلا: كيف يعملون؟ وبِمَ يتشبثون؟

فقال: ﴿يجعلون أصابعهم في اذانهم من الصواعق حذر الموت﴾ مشيراً الى ان لامناص ولا ملجأ ولا منجى لهم حتى انهم كالغريق يتمسكون بما لايُتَمَسك به. فمن التدهش يستعملون الأصابع موضع الأنامل كأن الدهشة تضرب على أيديهم فيدخلون الأصابع من الوجع في الآذان ومن التبله انهم يسدون الآذان لئلا تصيبهم الصواعق.. ثم بعد هذا يتحرى ذهنُ السامع سائلا: أعمّت المصيبة أم خصّت فيُرجى؟ فقال: ﴿والله محيط بالكافرين﴾ مشيراً الى ان هذه المصيبة جزاءٌ لكفرانهم النعمة. يؤاخذهم الله تعالى به لشذوذهم عن القانون الالهي المودع في الجمهور. ثم لما سمع شدة الرعد يحدّث نفسه بـ(ألا يفيدهم البرق بأراءة الطريق)؟ فقال:

﴿يكاد البرق يخطف أبصارهم﴾ مشيراً الى انه كما ان الرعد يعاديهم فلا يستطيعون السمع؛ كذلك البرق يخاصمهم باضاءته فيظلم أبصارهم.. ثم بعد سماع تجاوب الكائنات على عداوتهم ينادي ذهن السامع بـ (فما مصير حالهم وما يفعلون؟ وبمه يشتغلون؟) فقال: ﴿كلما أضاء لهم مشوا فيه واذا اظلم عليهم قاموا﴾ مشيراً الى انهم مشوشون مترددون متحيرون مترقبون لأدنى فرصة ولأدنى رؤية للطريق. فكلما تراءت لهم يتحركون لكن كحركة المذبوح لاضطراب أرواحهم، ويتخطون خطى يسيرة مع علمهم بان لافائدة، وكلما غشيتهم الظلمة فجأة ينجمدون في مقامهم.. ثم يستعد ذهنُ السامع للاستفسار بـ(لِمَ لايموتون أو يعمون أو يصمون بالمرّة فيخلصون عن الاضطراب؟) فقال: ﴿ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم﴾ أي ليسوا مستحقين للخلاص من الاضطراب ولهذا لاتتعلق المشيئة باماتتهم ولو تعلقت لتعلقت بذهاب سمعهم وبصرهم. ولكن بقاء السمع لاستماع العقاب ووجود البصر لرؤية العذاب أجدر بمن شذ ونشز عن قانونه تعالى..

ثم ان هذه القصة لما احتوت على نقاط يتلوح من معاطفها استطراداً: العظمة والقدرة الالهية وتصرفه تعالى في الكائنات، ولا سيما يتذكر السامع تبعا في تلافيفها عجائب الرعد والبرق والسحاب،

كان من حق السامع المتيقظ وجدانُه ان يعلن ويقول: سبحانه ما أعظم قدرةَ مَنْ هذه الكائنات تجلِّي هيبته وهذه المصيبات تجلِّي غضبه. فقال: ﴿ان الله على كل شيء قدير﴾.

وأما نظم هيئات جملة جملة:

فاعلم! ان (أو) في (او كصيب) اشارة الى انقسام حال الممثل الى قسمين، ورمز الى تحقيق المناسبة بين التمثيلين وبينهما وبين الممثل له وايماء الى مسلّمية المشابهة.. وأيضا متضمن لـ(بل) الترقية؛ اذ التمثيل الثاني اشدّ هَوْلاً. وان (كصيب) لعدم مطابقته للمثل يقتضي تقدير لازم، والسكوت عن اظهار المقدر للايجاز، والايجاز في اللفظ لاطناب المعنى باحالته على خيال السامع بالاستمداد من المقام. فبعدم المطابقة كأنه يقول: أو كالذين سافروا في صحراء خالية وليلة مظلمة فاصابتهم مصائب بصيب. وان العدول عن لفظ المطر المأنوس المألوف الى الصيب رمز الى أن قطرات ذلك المطر كمصائب ترمى اليهم بقصد فتصيبهم مع فقد الساتر عليهم.

وان ذكر ﴿من السماء﴾ مع بداهة ان المطر لا يجئ الاّ من جهتها ايماء بالتخصيص الى التعميم وبالتقييد الى الاطلاق نظير التقييد في ﴿ومَا مِنْ دابّةٍ في الأرضِ ولا طائر يطير بجناحيه﴾(سورة الانعام:38) أي مطبق آخذ بآفاق السماء. وما استدل بعض المفسرين بلفظ ﴿من السماء هنا وفي آية﴾ ﴿ويُنَزِّلُ من السماءِ من جبالٍ فيها مِن بَرَدٍ﴾(سورة النور:43) على نزول المطر من جرم السماء حتى تخيل (بعض) وجود بحر تحت السماء، فنظرُ البلاغة لايرى عليه سكةَ الحقيقة. بل المعنى: من جهة السماء. والتقييد لما عرفت. وقد قيل السماء ما علاك، فالسحاب كالهواء سماء.

وتحقيق المقام: هو انك ان نظرت الى القدرة تتساوى الجهاتُ أي يمكن النزول من أية جهة كانت. وان نظرت الى الحكمة الالهية المؤسِّسة للنظام الأحسن في الأشياء المستلزِم لمحافظة الموازنة العمومية المرجِّحة لأقرب الوسائل فالمطر انما هو من تكاثف البخار المائي المنتشر في كرة الهواء التي احد أجزائها العشرة ذلك البخار المائيّ المنتشر في أعماقها.



يوجد نص مفقود ص138 من (وتوضيحه الى 139السطر 9



لبساتين الأرض، ملوحا ذلك الجو بأجلى دلائل العظمة وأجلها. فبناء على هذه الرؤية والمشابهة والتوهم الخياليّ استحسن اسلوب العرب تشبيه السحاب لاسيما الصيفيّ بالجبال والسفن والبساتين والأودية وقافلة الإبل كما تسمع من العرب في خطبهم. فيخيل الى نظر البلاغة ان قطعات السحاب الصيفي سيارة وسبّاحة في الجو، كأن الرعد راعيها وحاديها كلما هزّ عصا بَرقه على رؤسهم في البحر المحيط الهوائي اهتزت تلك القطعات وارتجت، وتراءت جبالا صادفت الحشر، أو سفنا يلعب بها يد العاصفة، أو بساتين ترججها من تحتها الزلزلة، أو قافلة شردت من هجوم قطاع الطريق. ومع ذلك يسيرون ويجرون بأمر خالقهم حتى كأن كل ذرة من ذرات ذلك البخار تكمَّنتْ في مكانها اوّلا ساكتة ساكنة منتظرة لأمر خالقها. ولما ناداها الرعدُ - كالآلة المعروفة في العسكر - بـ(حَيَّ على الاجتماع والاتحاد!) تسارعوا من منازلهم مهطعين الى داعيهم فيحشرون سحابا. ثم بعد ايفاء الوظيفة وأمرهم بالاستراحة يطير كل الى وكره.. فبناء على هذه المناسبة الخيالية، وعلى المجاورة بين السحاب والجبال - إذ الجبل لجذب الرطوبة يتظاهر ويتشكل السحاب عليه بمقداره ويلبس لباسه - وعلى تلون السحاب بنظير بياض الثلج والبرد وتكيفه برطوبتهما وبرودتهما، وعلى وجود الأخوة بينهما ومبادلة الصورة واللباس لهما في كثير من مواضع القرآن ومصافحتهما في منازل التنزيل كمحاورتهما ومعانقتهما في كثير من سطور صحيفة الأرض من كتاب العالم فترى السحاب متوضعا على الجبل ويصير الجبل كأنه مرسى لسفن السحاب ترسى عليه، أو مجلس تتشاور عليه، أو وكر تطير اليه - استحق بحكم المجاورة في نظر البلاغة ان يتبادلا ويستعيرا لوازمهما فيعبّر عن السحاب بالجبل - مع تناسي التشبيه. فاذا قد عرفت ما سمعت من المناسبات فـ﴿يُنزّل من السماء﴾ أيْ من جهة السماء. (من جبال) أي من سحاب كالجبال. (من برد) أي في لونه ورطوبته وبرودته.

فيا هذا! ما أجبرك مع وجود هذا التأويل الذي تقبله البلاغة على اعتقاد نزول المطر بدقيقتين من مسافة خمس مائة سنة المخالف لحكمة الله الذي اتقن كل شئ صنعاً.

أما هيئات جملة: ﴿فيه ظلمات﴾ المسوقة للتهويل؛ فتقديم ﴿فيه﴾ اشارة الى ان خيال المصاب المدهوش والسامع المستحضر خياله لتلك الحال يتوهم ان ظلمات الليالي الكثيرة افرغت بتمامها في تلك الليلة. وأما الظرفية مع ان الصيب مظروف فرمز الى ان المتدهش بتلك المصيبة يظن فضاء العالم حوضا قد ملئ من المطر، فما الليل الا مظروف مفتت بين أجزائه.

وأما جمع (الظلمات) فايماء الى تنوعها من ظلمة سواد السحاب وكثافته وانطباقه، ومن تقارب دفعات المطر وتكاثف قطره، ومن تضاعف ظلمة الليل. وأما تنكير ﴿ظلمات﴾ فللاستنكار، ولجهل المخاطب فهو تأكيد﴿ظلمات﴾.

وأما جملة ﴿ورعد وبرق﴾ فاعلم! ان المقصد تصوير حيرتهم ودهشتهم، وان المصاب المتحير يجمع تمام دقته ونظره الى أدنى حادث. فلإمعان النظر يتفطنون لما في الرعد والبرق من الانقلابات العجيبة والتحول الغريب. اذ بينما يرى المصابون ظلمة استولت على الكائنات وابتلعت الموجودات - نظير العدم - فتنقلب حيرتُهم بالغمِّ اليتميّ والسكوت الميتيّ؛ اذ يرون اظهر دلائل الوجود، وهو تكلم العلويات، ثم ظهورها بكشف الحجاب فينقلب نظرهم الى نظر المدهوش المتحير الخائف؛ اذ كما انهم اذا رأوا ظلمات غير محصورة في فضاء غير متناه، لا ضعفَ فيه بجانبٍ يُبقي لهم أملاً، ينظرون نظر اليأس؛ كذلك اذا فاجأهم بغتة انعدام الظلمات بان افرغت من الفضاء، وملئ بدلها نوراً ينقلب يأسهُم المطلق الى رجاء.

اعلم! ان الرعد والبرق آيتان ظاهرتان من جهة العالم الغيبيّ في أيدي الملائكة الموكلين على عالم السحاب لتنظيم قوانينه. ثم ان الحكمة الالهية ربطت الأسباب بالمسَّببَات فاذا تشكل السحاب من بخار الماء المنتشر في الهواء؛ صار قسم حاملاً (للالكتريك) المنفي وقسم حاملاً (للالكتريك) المثبت؛ فحينما يتقاربان يتصادمان دفعةفيتولد البرق. ثم بالهجوم والانقلاع دفعة وامتلاء موضعه بآخر لعدم الخلو، يهتز وتتموج الطبقات فيتولد صدى الرعد. ولا تجري هذه الحالات الا تحت نظام وقانون يتمثلهما مَلَك الرعد والبرق. وأما ظرفية الصيّب لهما مع ان الظرف هو السحاب فلأن المدهوش والسامع المتدهش بدهشته يرى الصيب محيطا بكل شئ لإحاطته بنفسه. وأما إفراد الرعد والبرق مع جمع الظلمات، فاشارة الى ان منشأ الدهشة تخيل المصاب تكلمَ السماء وتهديدَها بالإرعاد، وكشفَ الحجاب بالابراق، وهما معنى مصدريّ للكلام واليد البيضاء. وأيضا كل منهما نوع واحد وان تعددت أفراده.

وأما تنوين ﴿ورعدٌ وبرقٌ﴾ فبدل من الصفة، أي: رعد قاصف وبرق خاطف، ودالة على عدم الالفة بهما بسبب التفطن بالدقة لما فيهما من العجائب.. وأيضاً فيها ايماء الى انهم لايعرفون ذلك الرعد والبرق لسد السمع وغض البصر.

وأما هيئات جملة ﴿يجعلون أصابعهم في اذانهم من الصواعق حذر الموت﴾

فاعلم! انها جواب لسؤال مقدر واستيناف حسن؛ اذ السامع لما توجه الى هذه القصة الحسية التمثيلية حصل له ميلان شديد لكشف حال المصيبة. ثم بعد ان كمّل التصوير التصويرَ وقضى منه الوطر انثنى مجرى الميلان الى كشف حال المصاب. فكأنه يقول السائل: كيف حال المصاب حينئذ وبم يتشبث للنجاة؟ فأجاب القرآن بقوله: ﴿يجعلون اصابعهم﴾.. الخ. أي لامناص لهم، انما هم كالغرقى يتمسكون بغير متمسك فيريدون التحفظ من مجانيق(1) السماويين بسد الأسماع. وكونه سبباً محالٌ، فلا سبب.

وأما لفظ ﴿يجعلون﴾ بدل (يدخلون) فايماء الى انهم تحروا الأسباب فما صادفوا الا ماسببيته بجعلهم وظنهم فقط.. وصورة المضارع

المستحضرة للحال فرمز الى ان السامع في مثل هذا المقام المهيج للحيرة يحضر بخياله زمان الواقعة ومكان الحادثة. ثم في المضارع استمرار تجددي. وفي استمراره ايماء الى تواتر تقتقة السحاب.

وأما ﴿أصابعهم﴾ بدل (أناملهم) فاشارة الى شدة الحيرة باستعمال الأصابع موضع الأنامل.

وأما ﴿في اذانهم﴾ فايماء الى شدة الخوف من صدى الرعد حتى يخيل اليهم انه لو دخل الرعد في شبكة الآذان لطيّر الأرواح من أبواب الأفواه. وفيه رمز لطيف الى انهم لما لم يفتحوا آذانهم لنداء الحق والنصيحة عوقبوا من تلك الجهة بنعرات الرعد، فسدوا هنا ما سدوا هناك، كمن اخرج كلاما شنيعا مِن ِفيهِ يُضْرَب على فمه فيدخُل يمين الندامة في فيه ويضع يسار الخجالة على عينه.

وأما ﴿من الصواعق﴾ فاشارة الى اتحاد الرعد والبرق على اضراره؛ اذ الصاعقة صوت شديد معه نار محرقة تصرع من صادف.

وأما ﴿حذر الموت﴾ فاشارة الى ان البلاء جذّ(2) اللحم الى العظم، وجاز الأحوال الى الحياة، فما يعنيهم الاّ غم الموت وحفظ الحياة.

وأما هيئات جملة ﴿والله محيط بالكافرين﴾

فاعلم! ان (الواو) تقتضي المناسبة، وما المناسبة الا بين هذه وبين التابع لمآل السابقة. فكأن هذه (الواو) تقرأ عليهم: (هم قوم فروا من العمارة ونفروا من الحضارة وعصوا قانون كون الليل سباتا ولم يطيعوا نصيحة الناصح فظنوا النجاة بالخروج الى الصحراء فخابوا وأحاط بهم بلاء الله).

وأما لفظ ﴿الله﴾ فرمز الى قطع آخر رجائهم؛ اذ المصاب انما يلتجئ ويتسلى اولاً وآخراً الى رحمة الله، فحين استحقوا غضب الله تعالى انطفأ ذلك الرجاء.

وأما لفظ ﴿محيط﴾ فايماء الى ان هذه المصائب المحيطة آثار غضبه تعالى، فكما ان السماء والسحاب والصيّب والليل تهجُم عليهم من الجهات الست؛ كذلك غضبه تعالى وبلياته محيطة بهم.. وأيضاً علمه تعالى وقدرته محيطان بكل الكائنات، وأمره شامل لكل الذرات. فكأن ﴿محيط﴾ يتلو عليهم: لاتنفذون من أقطار السموات والأرض، ﴿فأينما تولوا فثمَّ وجه الله﴾( سورة البقرة:115).

وأما تعلق (الباء) فرمز الى انهم وقعوا فيما هربوا عنه فصاروا هدفا للسهام.

وأما التعبير ﴿بالكافرين﴾ فاشارة الى اراءة تمثال الممثل - أعني المنافقين - في مرآة التمثيل، لئلا يتوغل فيه ذهن السامع فينسى المقصد.. ورمز الى ان المشابهة وصلت الى درجة، وتضايق المسافة بينهما الى حدّ يتراءيان معا، فتمتزج الحقيقة بالخيال.. وأيضاً ايماء الى ظلمة قلوبهم اذ وجدانهم أيضاً يعذبهم لقصورهم وجنايتهم؛ اذ من رأى جزاء جنايته لايستريح وجدانه.

وأما هيئات جملة: ﴿يكاد البرق يخطف أبصارهم﴾ فاستينافها يشير الى ان السامع يقول: ألا ينتفعون بالبرق المخفف لبلاء الظلمة عنهم؟ فأُجيبَ بأنهم يخافون من الضرر فضلاً عن الفائدة.

وأما ﴿يكاد﴾(3) فيشير باعتبار خاصته المشهورة الى وجود سبب زوال البصر لكن لم يزل لوجود مانع.

وأما ﴿يخطف﴾ باعتبار استعماله كاختطفته الغُول والعُقاب ففيه بلاغة لطيفة تبرق للذهن وتشير الى ان البرق يسابق شعاع العين من قبل ان يصل الى الأشياء ليأخذ صورها يمرّ هو عليه فيقطعه ويضرب على جفنه فيذهب بنوره. كأن نور العين لما خرج من بيته مسرعاً لأجتناء صور الأشياء يسارع البرق الذي هو شعاع عين الليل، فيأخذ من يد شعاع العين صورته قبل ايصاله الى المخزن، أي يختلس البرق صورته من يده.

وأما ﴿أبصارهم﴾ فرمز - بناء على كونها مرآة للقلوب - الى عمل بصائر المنافقين المتعامية عن البراهين القاطعة القرآنية.

وأما هيئات جملة ﴿كلما أضاء لهم مشوا فيه واذا اظلم عليهم قاموا﴾ فاستينافها يشير الى ان السامع حينما رأى اختلاف المصيبة وتغيرها سأل عن شأنهم في الحالتين فأجيب بذلك.

وأما ﴿كلما﴾ في الاضاءة و (اذا) في الاظلام فاشارة الى شدة حرصهم على الضياء ينتهزون ادنى الضياء فرصة. وأيضا (كلما) متضمن لقياس مستقيم استثنائي.

وأما ﴿اضاء لهم﴾ بلام الاَجْلية والنفع فرمز الى ان المصاب المدهوش يستغرق في حاجة نفسه حتى يظن الضياء الذي تنشره يد القدرة في العالم لآلاف حِكمٍ كلية أنه المراد به خاصة، ويد القدرة انما ارسلته لأجله.

واما ﴿مشوا﴾ مع اقتضاء الفرصة السير السريع فاشارة الى ان المصيبة اقعدتهم فما سيرهم السريع الاّ مشي وحركة على مهل.

واما ﴿فيه﴾ فاشارة الى ان مسافة حركتهم الضياءُ الذي هو لون الزمان فكأنه يحدد لهم المكان.

واما ﴿واذا﴾ فـ(الواو) رمز الى تجديد المصيبة لتشديد التأثير. واما الاهمال والجزئية في (اذا) عكس (كلما) فاشارة الى شدة نفرتهم وتعاميهم، فتأخذهم وهم منغمسون في آن الفرصة.

وأما ﴿اظلم﴾ بالاسناد الى البرق فاشارة الى ان الظلمة بعد الضياء اشد. وايماء الى ان خيال المصاب لما رأى البرق طرد الظلمة ثم ذهب وامتلأ موضعه بالظلمات يتخيل انه انطفأ واورث دخاناً.

وأما ﴿عليهم﴾ الملوِّح بالضرر فاشارة الى ان الاظلام ليس تصادفيا بل جزاء لعملهم. ورمز الى ان المدهوش يتخيل الظلمةَ المالئة للفضاء كأنها تقصد - من بين الأشياء - ذلك الانسان الصغير الذليل وتجعله خاصة هدفَ هجومها وإضرارها.

واما ﴿قاموا﴾ بدل (سكنوا) فاشارة الى انهم بالمصيبة وشدة التشبث تقوّسوا كالراكعين كما هو شأن المجدِّين في العمل.

وأما هيئات جملة ﴿ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم﴾ فالـ(واو) بسر الربط تلوّح الى ان يد القدرة تتصرف تحت حجاب الأسباب، وان نظر الحكمة يراقب من فوق جميع العلل.

وأما ﴿لو﴾ فمتضمنة لقياس استثنائيّ غير مستقيم. أي عدم المشيئة علة لعدم ذهابهما؛ كما ان عدم الذهاب دليل على العلم بعدم المشيئة بذهابهما. وأيضاً رمز الى ان السبب بلغ النهاية.

وأما ﴿شاء﴾ فاشارة الى ان الرابط بين السبب والمسبَّب انما هي المشيئة والارادة الإلهية. فالتأثير للقدرة، وما الاسباب إلا حجاب العزة والعظمة لئلا تباشر يد القدرة بالأمور الخسيسة في ظاهر نظر العقل.

وأما التصريح بلفظة ﴿الله﴾ فاشارة الى زجر الناس عن الإِبتلاء بالأسباب والانغماس فيها. وأيضا لدعوة الأذهان الى رؤية يد القدرة خلف كل الأسباب.. وأما حذف مفعول (شاء) وان كان واجبا بالقاعدة المطردة فيجوز بقرينة اخواته ان يكون ايماء الى عدم تأثر المشيئة والارادة الالهية بأحوال الكائنات وعدم تأثير الأشياء في الصفات الالهية كما تتأثر ارادة البشر بحسن الأشياء وقبحها وعظمتها وصغرها.

واما ﴿لذهب﴾ فاشارة الى ان الأسباب ليست مسلطة ومستولية على المسببات حتى اذا رُفعت بقيت المسببات في جوف العدم تلعب بها يد التصادف وتشتّتها بالاتفاق، بل يد القدرة حاضرة خلف الأسباب. اذا أخرجت الأشياءَ تأخذها يدُ الحكمة الالهية بقانون الموازنة والانتظام، ترسلها الى مواقع اُخر ولاتهملها. كما ان الحرارة اذا خرّبت بُنية الماء، فبالنظام المندمج في الهواء يذهب البخار في مجرى معين ويسوقه صانعه الى موقع معين.. وكذا في (ذهب) رمز الى ان الحواس الخمس الظاهرة ليست متولدة عن الطبيعة ولا لازمة لتجاويف السمع والبصر، بل انما هي هداياه تعالى وعطاياه. وما التجاويف والأسباب الاّ شرائط عادية.

وأما التعدية بالباء بدل الهمزة فايماء الى ان يد القدرة لا تطلق الأشياء عن حبل الأسباب، غَاربُها على عنقها(4) بل تضع ازمّتها بيد نظام.

واما افراد (السمع) مع جمع (البصر) فاشارة الى افراد المسموع وتعدد المبصر، اذ الف رجل يسمعون شيئاً واحداً مع تخالف المبصرات.

وأما هيئات جملة ﴿ان الله على كل شيء قدير﴾ فاعلم! انها فذلكة لتحقيق الدهشة في التمثيل والممثل له تشير الى انه كما لا تهمل دقائق أحوال المصابين المتمثلة لجزئيات أحوال المنافقين؛ كذلك يُرى في كل ذرة تصرف القدرة الالهية.

واما ﴿ان﴾ فمع اشارتها الى ان هذا الحكم من الحقائق الراسخة، رمز الى عظمة المسألة ووسعتها ودقتها، وعجز البشر وضعفه وقصوره عنها المولِّدة للأوهام المنتجة للتردّد في اليقينيات.

واما التصريح بلفظة ﴿الله﴾ فايماء الى دليل الحكم، اذ القدرة التامة الشاملة لازمة للالوهية.

وأما ﴿على﴾ فايماء الى ان القدرة المخرجة للاشياء من العدم لا تتركها سُدىً هَملاً، بل ترقب عليها الحكمة وتربيها.

وأما ﴿كل﴾ فاشارة الى ان آثار الأسباب، والحاصل بالمصدر من الأفعال الاختيارية أيضا بقدرته تعالى.

وأما لفظ ﴿شيء﴾ بمعنى مشئ أي ما تعلقت به المشيئة، فاشارة الى ان الموجودات بعد وجودها لاتستغني عن الصانع بل تفتقر في كل آن لبقائها - الذي هو تكرر الوجود - الى تأثير الصانع.

وأما لفظ ﴿قدير﴾ بدل (قادر) فرمز الى ان القدرة ليست على مقدار المقدورات فقط، وانها ذاتية لا تغير فيها، ولازمة لاتقبل الزيادة والنقصان لعدم امكان تخلل ضدها حتى تترتب شدة ونقصانا.. وتلويح الى ان القدرة كالجنس وكميزان الصرف، أعني: (فَعَلَ) لجميع الأوصاف الفعلية من الرزاق والغفار والمحيي والمميت وغيرها. تفكر فيما سمعت حق التفكر!.

______________________________

(1) جمع منجنيق: آلة حربية ترمى بها القذائف.

(2) جذّه وجزّّه: قطعه.

(3) كاد من افعال المقاربة وضعت لمقاربة الخبر من الوجود لعروض سببه، لكنه لم يوجد إما لفقد شرط او لعروض مانع (ب).

(4) اصل المثل : حبلك على غاربك. اعلى السنام وهذا كناية عن الطلا ق ، أي :اذهبي حيث شئت (مجمع الامثال)


21-22 تفسير الاية[]

يَا اَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ

تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَاَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً

فَاَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا ِلله اَنْدَاداً وَاَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)



مقدمة

اعلم! ان العبادة هي التي ترسِّخ العقائد وتُصيِّرها حالا ومَلَكة؛ اذ الأمور الوجدانية والعقلية إن لم تنمِّها وتربِّها العبادة - التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي - تكن آثارُها وتأثيراتها ضعيفة. وحال الاسلام(1) الحاضرة شاهدة.

واعلم أيضاً! ان العبادة سبب لسعادة الدارين.. وسبب لتنظيم المعاش والمعاد.. وسبب للكمال الشخصيّ والنوعيّ.. وهي النسبة الشريفة العالية بين العبد وخالقه.

أما وجه سببيتها لسعادة الدنيا التي هي مزرعة الآخرة فمن وجوه:

منها: ان الانسان خُلق ممتازاً ومستثنى من جميع الحيوانات بمزاج لطيف عجيب، انتج ذلك المزاج فيه ميلَ الانتخاب وميلَ الأحسن وميلَ الزينة، وميَلاناً فطرياً الى ان يعيش ويحيى بمعيشة وكمال لائقين بالانسانية.. ثم لأجل تلك الميول احتاج الانسان في تحصيل حاجاته في مأكله وملبسه ومسكنه الى تلطيفها واتقانها بصنائع جمة لا يقتدر هو بانفراده على كلها. ولهذا احتاج الى الامتزاج مع أبناء جنسه ليتشاركوا، فيتعاونوا، ثم يتبادلوا ثمرات سعيهم. لكن لما لم يحدد الصانعُ الحكيم قوى البشر الشهويةوالغضبية والعقلية بحدٍّ فطريّ لتأمين ترقّيهم بزَمْبَرَكِ(2) الجزء الاختياريّ -لا كالحيوانات التي حُددت قواها- حصل انهماك وتجاوز.. ثم لانهماك القوى وتجاوزها - بسر عدم التحديد - تحتاج الجماعة الى العدالة في تبادل ثمرات السعي.. ثم لأن عقل كل احد لايكفي في درك العدالة احتاج النوع الى عقل كلي للعدالة يستفيد منه عقل العموم. وما ذلك العقل الاّ قانون كليّ، وما هو إلاّ الشريعة.. ثم لمحافظة تأثير تلك الشريعة وجريانها لابد من مقننِّ وصاحب ومبلّغ ومرجع، وما هو الاّ النبيّ عليه السلام.. ثم ان النبيّ لادامة حاكميته في الظواهر والبواطن وفي العقول والطبائع يحتاج الى امتياز وتفوق مادةً ومعنى، سيرةً وصورة، خَلْقاً وخُلُقاً. ويحتاج أيضاً الى دليل على قوة المناسبة بينه وبين مالك الملك صاحب العالم، وما الدليل الا المعجزات.. ثم لتأسيس اطاعة الأوامر وتأمين اجتناب النواهي يحتاج الى ادامة تصور عظمة الصانع وصاحب الملك في الاذهان وما هو الا تجلي العقائد.. ثم لادامة التصور ورسوخ العقائد يحتاج الى مذكِّر مكرر وعمل متجدد، وما المذكِّر المكرر الا العبادة.

ومنها: ان العبادة لتوجيه الأفكار الى الصانع الحكيم. والتوجه لتأسيس الانقياد. والانقياد للإِيصال الى الانتظام الأكمل والارتباط به. واتباع النظام لتحقيق سر الحكمة. والحكمة يشهد عليها اتقان الصنع في الكائنات.

ومنها: ان الانسان كالشجر الذي علق على ذروته كثير من خطوط الآلة البرقية، قد التفّت على رأسه رؤوس نظامات الخلقة، وامتدت مشرعة اليه قوانين الفطرة، وانعكست متمركزة فيه اشعة النواميس الالهية في الكائنات. فلابد للبشر ان يتممها ويربطها وينتسب اليها ويتشبث باذيالها ليسري بالجريان العمومي حتى لا يُزلق ولايُطرد ولا يُلقى عن ظهر هذه الدواليب المتحركة في الطبقات. وما هي الا بالعبادة التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي.

الطبقات. وما هي الا بالعبادة التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي.

ومنها: ان بامتثال الأوامر واجتناب النواهي يحصل للانسان نسبٌ كثيرة الى مراتب عديدة في الهيئة الاجتماعية، فيصير الشخص كنوعٍ؛ اذ كثير من الأوامر لاسيما التي لها تماس بالشعائر والمصالح العمومية كالخيط الذي نيط به حيثيات ونظُم فيه حقوق، لولاه لتمزقت وتطايرت.

ومنها: ان الانسان المسلم له مناسبات ثابتة وارتباط قوي مع كل المسلمين. وهما سببان لاخوة راسخة ومحبة حقيقية بسبب العقائد الايمانية والملكات الاسلامية. أما سبب ظهور تلك العقائد وتأثيرها وصيرورتها مَلَكة راسخة فانما هي العبادة.

وأما جهة الكمال النفسيّ فاعلم!

ان الانسان مع صغر جرمه وضعفه وعجزه وكونه حيواناً من الحيوانات ينطوي على روح غال ويحتوي على استعداد كامل، ويتبطن ميولا لاحصر لها ويشتمل على آمال لا نهاية لها، ويحوز افكاراً غير محصورة ويتضمن قوى غير محدودة مع ان فطرته عجيبة كأنه فهرستة للأنواع والعوالم. فالعبادة هي السبب لانبساط روحه وجلاء قيمته.. وأيضاً هي العلة لانكشاف استعداده ونموّه ليناسب السعادة الأبدية.. وكذا هي الذريعة لتهذيب ميوله ونزاهتها.. وهي الوسيلة لتحقيق آماله وجعلها مثمرة ريانة.. وكذلك هي الواسطة لتنظيم أفكاره وربطها.. وأيضاً هي السبب لتحديد قواه وإلجامها.. وأيضا هي الصَيْقل لرَيْن الطبيعة على أعضائه المادية والمعنوية التي كل منها كأنه منفذ الى عالم مخصوص ونوع اذا شف.. وأيضا هي الموصل للبشر الى شرفه اللائق وكماله المقدر، اذا كانت بالوجدان والعقل والقلب والقالب.. وكذلك هي النسبة اللطيفة العالية، والمناسبة الشريفة الغالية بين العبد والمعبود. وتلك النسبة هي نهاية مراتب كمال البشر.

ثم ان الاخلاص في العبادة هو: ان تفعل لأنه أُمر بها، وان اشتمل كل أمر على حِكَم، كل منها يكون علة للامتثال، الا ان الاخلاص يقتضي ان تكون العلةُ هي الأمر، فان كانت الحكمةُ علةً فالعبادة باطلة، وان بقيت مرجِّحة فجائزة.





ثم ان المخاطبين لما سمعوا ﴿يا ايها الناس اعبدوا﴾ استفسروا بلسان الحال: ما الحكمة؟ ولِمَ؟ وما المجبورية؟ ولأيّ شئ؟

أما الحكمة فقد سمعت في المقدمة. وأما العلة فأجاب القرآن الكريم باثبات الصانع وتوحيده بقوله: ﴿ربكم الذي خلقكم﴾.. الخ. واثبات النبوّة بقوله: ﴿وان كنتم في ريب مما نزلنا﴾.. الخ.

مقدمة في نكات هذه الآية:

اعلم! ان البرهان إما (لِمّي) وهو الاستدلال بالمؤثر على الأثر. وإما (اِنّيّ) وهو الاستدلال بالأثر على المؤثر، وهذا أسلم(3). وهو إما (إمكانيّ بالاستدلال) بتساوي الطرفين على المرجِّح، واما (حدوثيّ بالاستدلال) بالتحوّل والتبدّل على المُوجِد.. وكل منها اما باعتبار ذوات الاشياء أو باعتبار صفاتها.. وكل منها إما باعطاء الوجود أو بادامة البقاء.. وكل منها إما (دليل اختراعيّ) أو (دليل عنايتيّ). وهذه الآية اشارة الى هذه الأنواع، فالملخص منها هنا، وقد فصلناه في كتاب آخر.

أما دليل العناية على اثبات الصانع الذي تلوِّح به هذه الآية، هو: (النظام المندمج في الكائنات)؛ اذ النظام خيط نيط به المصالح

انما هي نسّاجةٌ لهذا الدليل، ومظاهر لتجلِّي هذا البرهان؛ اذ النظام المرعي به المصالح والحكم كما يثبت وجود نظّام، كذلك يدل على قصد الصانع وحكمته وينفي من البين وهمَ التصادف الأعمى والاتفاقية العمياء.

ياهذا! ان لم يحط نظرك بهذا النظام العالي المزيَّن بفصوص الحكَم، ولاتقتدر على الاستقراء التام؛ فانظر بجواسيس الفنون - التي هي الحواس لنوعك - الحاصلة من تلاحق الأفكار - الذي هو في حُكم فكر النوع - لترى نظاماً يبهر العقول، وتعلم ان كلّ فن من فنون الكائنات كشّاف بكلية قواعده عن اتساق وانتظام لايعقل أكمل منهما؛ اذ كل نوع من الكائنات اما تشكّل فيه فن أو يقبل ان يتشكل. والفن عبارة عن قواعد كلية. وكلية القاعدة تدل على حسن النظام؛ اذ ما لانظام له لاتجري فيه الكلية. ألا ترى ان قولنا (كل عالم فهو ذو عمامة بيضاء) انما يصدق كلية، اذا كان في ذلك النوع انتظام. فانتج أن كل فن من الفنون الكونية بسبب كلية قواعده ينتج بالاستقراء التام نظاماً كاملا شاملا، وان كل فن برهان نيّر يشير الى المصالح والثمرات المتدلية كالعناقيد في حلقات سلاسل الموجودات، ويلوِّح الى الحِكَم والفوائد المستترة في معاطف انقلابات الأحوال. فترفع الفنونُ اعلامَ الشهادة على قصد الصانع وحكمته،كأن كل فن نجم ثاقب في طرد شياطين الأوهام.

وان شئت فعليك بهذا المثال مع قطع النظر عن العموم وهو:

ان الحيوان المكروسكوبيّ الذي لا يُرى بالعين بلا واسطة، اشتملت صورته الصغيرة على ماكينة دقيقة بديعة إلهية. فبالضرورة والبداهة ان تلك الماكينة الممكنة في ذاتها وصفاتها ما وجدت بنفسها بلا علة لإمكان ذاتها وصفاتها وأحوالها. والممكن متساوي الطرفين ككفتي الميزان، ولو وجد الترجح لكان في العدم. فباتفاق العقلاء لابد لها من علة مرجِّحة.. ومن المحال ان تكون العلة أسبابا طبيعية؛ اذ ما فيها من النظام الدقيق يقتضي نهاية علم وكمال شعور لايمكن تصورهما في تلك الأسباب، التي يخادعون أنفسهم بها. مع انها أسباب بسيطة قليلة جامدة لم يتعين مجاريها، ولم يتحدد محاركها مع ترددها بين ألوف من الإمكانات التي لا اولوية لبعضها. فكيف تجري في مجرى معين، وتتحرك على محرك محدود، وكيف يترجح بعض وجوه الإمكانات حتى يتولد هذه الماكينة العجيبة المنتظمة التي حيرت العقول في دقائق حكَمها، بل انما تقنع نفسُك وتطمئن بتولدها منها ان اعطيت لكل ذرّة شعور (افلاطون)(4) وحكمة (جالينوس)(5) واعتقدتَ بين تلك الذرات مخابرة عمومية. وما هذه الاّ سفسطة يخجل منها السوفسطائيّ. مع أن أس الأسباب المادية وجود القوة الجاذبة والقوة الدافعة معا في جزء لايتجزأ والجوهر الفرد، وان هذا كاجتماع الضدين.

نعم، قانون الجاذبة والدافعة وأمثالهما اسماء لقوانين عادات الله تعالى وشريعته الفطرية المسماة بالطبيعة. فهذه القوانين مقبولة بشرط ان لاتنتقل من القاعدية الى الطبيعية، وان لاتخرج من الذهنية الى الخارجية، وان لاتتحول من الاعتبارية الى الحقيقية، وان لا تترقى من الآلتية الى المؤثرية.

فاذا تفهمت ما في هذا المثال ورأيت عظمته مع صغره ووسعته مع ضيقه؛ فارفع رأسك وانظر في الكائنات تر وضوح دليل العناية وظهوره بمقدار درجة وسعة الكائنات. فكل الآيات القرآنية العادّة لنِعم الأشياء والمذكِّرة لفوائدها مظاهرُ لهذا الدليل. فكلما أمر القرآن الكريم بالتفكر فانما أشار مخاطباً للعموم الى طريق هذا الاستدلال ﴿فَارجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ﴾( سورة الملك:3) ثم ان الذي يومئ الى هذا الدليل من هذه الآية قوله تعالى : ﴿الذي جَعَلَ لَكُمْ الارْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَاَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَاَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ﴾.

وأما الدليل الاختراعيّ المشار اليه بقوله تعالى: ﴿اَلَّذي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ فهو:

ان الله تعالى اعطى لكل فرد ولكل نوع وجوداً خاصاً هو منشأ آثاره المخصوصة، ومنبع كمالاته اللائقة؛ اذ لانوع يتسلسل الى الازل لإِمكانه، ولبطلان التسلسل، ولان هذا التغير في العالم يثبت حدوث بعض بالمشاهدة، وبعض آخر بالضرورة العقلية. ثم انه قد ثبت بعلم الحيوانات والنباتات تكثّر الأنواع الى أزيد من مائتي الف نوع ولكل نوع آدم وأب عال. فبسر الحدوث والامكان يثبت بالضرورة صدور تلك الاوادم والآباء للانواع عن يد القدرة الإلهية بلا واسطة. ولا يُتوهم فيها ما يتوهم في السلسلة. وتوهم انشقاق الأنواع بعضها عن بعض باطل، لأن النوع المتوسط لا يتسلسل بالتناسل في الأكثر فلا يكون رأس سلسلة. فاذا كان المبدأ والأصل هكذا، فأجزاء السلسلة كذلك بالطريق الأولى.

نعم كيف يُتصور ان تكون الأسباب الطبيعية البسيطة الجامدة التي لاشعور لها ولا اختيار قابلة لإِيجاد تلك السلاسل التي تحيرت الأفهام فيها، ولاختراع أفرادها التي كل منها صنعة عجيبة من معجزات القدرة. فكل الأفراد مع سلاسلها تشهد بلسان حدوثها وامكانها شهادة قاطعة على وجوب وجود خالقها جل جلاله.

ان قلت: فمع هذه الشهادة القاطعة كيف يعتقد الانسان بأمثال ضلالات ازلية المادة وحركتها؟.

قيل لك: ان النظر التبعيّ قد يُري المحالَ ممكناً، كالمستهلّ الذي رأى الشعرة البيضاء من اهدابه هلال العيد؛ لأن الانسان بسبب جوهره العالي وماهيته المكرمة انما يدور خلف الحق والحقيقة. وانما يقع الباطل والضلال في يده بلا اختيار ولادعوة ولا تحرٍّ بل بنظره السطحيّ التبعيّ فيقبله اضطراراً؛ لأنه لما تغافل عن النظام الذي هوخيط الحِكَم، وتعامى عن ضدية الحركة والمادة للازلية احتمل عند نظره التبعي اسناد هذا النقش البديع والصنعة العجيبة الى التصادف الأعمى والأتفاق الأعور. كما قال (الجسريّ)(6) في مَنْ دخل قصراً مزينا مشتملاً على آثار المدنية، من انه حينما لايرى صاحبه فيعتقد عدمه يضطر لإِسناد زينته وأساساته الى الاتفاق والتصادف وناموس الانتخاب الطبيعيّ.

وأيضاً لما تعامى وتغافل عن شهادة كل الحكم والفوائد في نظام العالم على اختيار تام وعلم شامل وقدرة كاملة احتمل في نظره التبعي اثبات تأثير حقيقي لهذه الأسباب الجامدة.

فيا هذا! مع قطع النظر عن دقائق صنعته جل جلاله تأمل في اظهر الآثار التي تسمى (طبيعة) وهو الارتسام - بشرط ان تمزق حجاب الالفة - كيف تقنع نفسك ويقبل عقلك ان خاصية وجه المرآة علة مؤثرة مناسبة لكشط وجه السماء وجلب صورة ارتفاعها ونقشها بنجومها في زجيجتها؟. وكيف يقنع عقلك بأن الأمر الوهميّ في الحقيقة المسمّى بالجاذب العموميّ علة مؤثرة كخيط المنجنيق لإِمساك الأرض والنجوم وتحريكها وتدويرها بانتظام محكم؟

الحاصل: ان الانسان اذا نظر نظراً سطحياً تبعيّاً الى الأمر الباطل المحال ولم ير العلة الحقيقية احتمل صحته عنده. الا انه اذا نظر اليه قصداً وبالذات وتحراه مشترياً له لايمكن ان يقبل شيئاً من تلك المسائل التي يطنطنون بها في الحكميات، الاّ ان يتبلّه بفرض عقل الحكماء وحكمة السياسيّين في الذرّات.

ان قلت: فما الطبيعة والنواميس والقُوَى التي يدمدمون بها ويسلّون أنفسهم بها؟

قيل لك: ان الطبيعة مِسْطر(7) لامصدر.. ومطبعة لا طابع.. وقوانين لاقوة. بل انما هي شريعة فطرية إلهية أوقعت نظاما بين أفعال أعضاء جسد عالم الشهادة.كما ان الشريعة محصَّلُ وخلاصةُ قواعد الأفعال الاختيارية، ونظام الدولة مجموع الدساتير السياسية. فكما ان الشريعة والنظام أمران معقولان اعتباريان؛ كذلك الطبيعة أمر اعتباريّ ملخَّصُ عادة الله الجارية في الخلقة. وأما توهم وجودها الخارجيّ فكتوهم الوحشي الذي يرى فرقة العسكر يتحركون بانتظام، وجودَ أمر خارجيّ ربط بينهم. فمن كان وجدانه وحشيا يتخيل الطبيعة بسبب الاستمرار موجوداً خارجياً مؤثراً.

الحاصل: ان الطبيعة صنعة الله تعالى وشريعته الفطرية. واما نواميسها فمسائلها. وأما قواها فأحكام تلك المسائل.

أما دليل التوحيد الذي أشار اليه ﴿اعبدوا﴾ على تفسير ابن عباس أي وحّدوا، فاعلم! ان القرآن المعجز البيان ما ترك من دلائل التوحيد شيئاً. وما تضمنته آية ﴿لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا﴾( سورة الانبياء:22) من برهان التمانع دليل كاف ومنار نيِّر على ان الاستقلال خاصة ذاتية ولازم ضروري للالوهية، ثم في هذه الآية رمز الى دليل لطيف على التوحيد وهو: ان تعاونَ الأرض والسماء ومناسبتهما في توليد الثمرات - لتُعَيِّش نوع البشر وجنس الحيوان - ومشابهةَ آثار العالم وتعانقَ أطرافه وأخذ بعضٍ يد بعضٍ بتكميل بعض انتظام بعض، وتجاوبَ الجوانب وتلبيةَ بعضٍ لسؤال حاجة بعض، ونظرَ الكل الى نقطة واحدة، وحركةَ الكل بالانتظام على محور نظام واحد؛ تلوِّح بل تصرِّح بان صانع هذه الماكينة الواحدة واحد وتتلو على كلٍوَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى اَنَّهُ وَاحِدٌ(8)

ثم اعلم! ان الصانع كما انه واجب الوجود وواحد؛ كذلك انه متصف بجميع الأوصاف الكمالية؛ لأن ما في المصنوع من فيض الكمال انما هو مقتبس من ظل تجلي كمال صانعه. فبالضرورة يوجد في الصانع جل جلاله من الجمال والكمال والحسن ما هو أعلى بدرجات غير متناهية من عموم ما في عموم الكائنات من الحسن والكمال والجمال؛ اذ الاحسان فرعٌ لثروة المحسِن ودليل عليها، والايجاد لوجود الموجِد، والايجاب لوجوب الموجب، والتحسين لحسن المحسّن المناسب له..

وكذلك ان الصانع منزَّه عن جميع النقائص، لأن النواقص انما تنشأ عن عدم استعداد ماهيات الماديات وهو تعالى مجرد عن الماديات..

وكذلك انه تعالى مقدس عن لوازم وأوصافٍ نشأت من إمكان ماهيات الكائنات وهو سبحانه واجب الوجود ليس كمثله شئ جل جلاله. ولقد أشار الى هاتين الحقيقتين بقوله: ﴿فلا تجعلوا لله أنداداً﴾.

أما الدليل الامكانيّ المشار اليه بقوله تعالى: ﴿وَالله الْغَنِيُّ وَاَنْتُمُ الفُقَرَاءُ﴾ ( سورة محمد:38) فاعلم! ان كل واحدة من ذَرات الكائنات باعتبار ذاتها، وباعتبار فردٍ فردٍ من صفاتها، وباعتبار واحدٍ واحدٍ من أحوالها، وباعتبار جهةٍ جهةٍ من وجوهها؛ بينما تراها تتردد بين الامكانات الغير المتناهية في الذات والصفات والأحوال والوجود، اذاً انتعشت وقامت وسلكت طريقاً معيناً منها ولبست صفة مخصوصة، وتكيفت بحالة منتظمة، وركبت على قانون مسدَّد، وتوجهت الى مقصد معيّن، فأنتجت حكمةً ومصلحةً لا تحصلان الاّ بذلك الطرز المعين.. أفلا تنادي بلسانها المخصوص، وتصرّح بقصد صانعها وحكمته؟ فكما ان كل ذرة بنفسها دليل على الانفراد؛ كذلك تتزايد دلالتها باعتبار كونها جزءاً من مركبات متداخلة متصاعدة؛ اذ لها في كل مركب مقام.. وفي كل مقام لها نسبة.. وفي كل نسبة لها وظيفة.. وفي كل وظيفة تثمر مصالح.. وفي كل مرتبة تتلو بلسانها دلائل وجوب وجود صانعها.. مثلها كمثل جنديّ في (طاقمه وطابوره وفرقته الخ).



ولنشرع في نظم هذه الآية باعتبار نظم مجموعها بما قبلها، ثم نظم جملها بعض مع بعض، ثم نظم هيئات كل جملة جملة.

أما نظم المجموع بما قبله:

فاعلم! ان القرآن لما بيّن أقسام البشر وأنواع المكلَّفين من المؤمنين المتّقين والكافرين المعاندين والمنافقين المذبذبين توجه اليهم كافة مخاطبا بقوله: ﴿يا أيها الناس اعبدوا﴾ عقّبه ورتّبه على سابقه ترتيب البناء على الهندسة، والأمر والنهي بالعمل على قانون العلم، والقضاء على القدر، والانشاء والايجاد على القصة والحكاية؛ اذ لما ذكر مباحث الفرق الثلاث، وذكر خاصة كلٍ وعاقبة كلٍّ تهيأ الموضع وانتبه السامع فالتفت مخاطبا بذلك الخطاب.. ثم ان في هذا الالتفات - أعني ذكرهم أولاً بالغيبة ثم الخطاب معهم هنا - نكتة عمومية في اسلوب البيان وهي: انه اذا ذكر محاسن شخص أو مساويه شيئاً فشيئاً يتزايد بحكم الايقاظ والتهييج ميلان استحسان أو ميل نفرة. ويتقوى ذلك الميل شيئاً فشيئاً الى أن يجبر صاحبه على المشافهة مع ذلك الشخص، وبالنظر الى المقام يقتضي ميولات السامعين لأوصافه ان يحضر المتكلم ذلك الشخص ويجره الى حضورهم فيتوجه اليه بالخطاب..

وفيه نكتة خصوصية هنا: وهي تخفيف أعباء التكليف بلذة الخطاب.. وفيه أيضاً اشارة الى ان لا واسطة في العبادة بين العبد وخالقه.

وأما نظم الجمل فـ﴿يا أيها الناس اعبدوا﴾ خطاب لكل انسان من الفرق الثلاث في الأزمنة الثلاثة من كل طبقات الفرق. أي: ايها المؤمنون الكاملون اعبدوا على صفة الثبات والدوام.. وأيها المتوسطون اعبدوا على كيفية الازدياد.. وأيها الكافرون افعلوا العبادة مع شرطها من الايمان والتوحيد.. وايها المنافقون اعبدوا على كيفية الإخلاص. فالعبادة هنا كالمشترك المعنوي فتأمل!.

﴿ربكم﴾ أي: اعبدوه لأنه رب يربيكم فلابد ان تكونوا عباداً تعبدونه.

تذييل: في ﴿ربكم﴾ رمز دقيق الى دليل امكان الذوات. وفي ﴿جعل لكم الأرض فراشا﴾ الى دليل امكان الصفات. وفي ﴿الذي خلقكم والذين من قبلكم﴾ الى دليل حدوث الذوات والصفات. والذي ينصّ على دليل امكان الذوات قوله تعـالى: ﴿والله الغنيّ وانتم الفقراء﴾ وايضا ﴿الى ربك المنتهى﴾(سورة النجم:42) وأيضاً ﴿فانهم عدوّ لي إلاّ رب العالمين﴾( سورة الشعراء:77) وكذلك ﴿قل الله ثم ذَرْهم في خوضهم يلعبون﴾(سورة الانعام:91) وأيضا ﴿ففروا الى الله﴾(سورة الذاريات:50) وكذلك ﴿اَلاَ بذكر الله تطمئنُّ القلوب﴾(سورة الرعد:28) وقس فتأمل.!.

وأما جملة ﴿الذي خلقكم﴾ فاعلم! ان الله تعالى لما أمر بالعبادة وهي تقتضي ثلاثة أشياء:

وجود المعبود، ووحدته، واستحقاقه للعبادة..

أجاب عن هذه الأسئلة المقدرة بالاشارة الى دلائلها الثلاثة:

فدلائل الوجود قسمان: آفاقي وأنفسي. والأنفسي نوعان: نفسي وأصولي. فاشار الى النفسي الأقرب الأوضح بقوله: ﴿الذي خلقكم﴾ والى الاصولي بقوله: ﴿والذين من قبلكم﴾.

وأما نظم ﴿لعلكم تتقون﴾ فاعلم! ان القرآن الكريم لما علق العبادة على خلقهم وآبائهم اقتضى ترتيب العبادة على خلق البشر نقطتين:

إحداهما: ان تكون خلقتهم باستعداد العبادة، وجبليتهم على قابلية التقوى؛ حتى من يرى ذلك الاستعداد يأمل ويرجو منهم العبادة كمن يرى المخالب يأمل الافتراس.

والثانية: ان يكون المقصد من خلقتهم ووظيفتهم التي هم مأمورون بها وكمالهم الذي يتوجهون اليه هو التقوى الذي هو كمال العبادة.

﴿ولعلكم تتقون﴾ أي المقصد من خلقكم وكمالكم والذي هيئ له استعدادكم انما هو التقوى.

وأما جملة ﴿جعل لكم الأرض فراشا﴾ فاشارة الى أقرب الدلائل الآفاقية على وجوده تعالى. . وأيضاً فيها رمز الى رد التأثير الحقيقي للأسباب الذي هو منشأ لنوع شرك. أي تمهيد الأرض بجعله تعالى لا بالطبيعة.

وأما ﴿والسماء بناء﴾ فإشارة - بذكر السماء التي هي لصيق الأرض - الى أعلى الدلائل الآفاقية البسيطة.

ثم اشار بقوله ﴿وأنزل من السماء﴾ الى وجه دلالة المركبات والمواليد على وجود صانعها.

ثم ان كل من الجمل السابقة كما تدل على اثبات الوجود؛ كذلك المجموع يلوّح بالوحدة. وصورة الترتيب المشير الى النظام الملوح بالنعم مع دلالة ﴿رزقا لكم﴾ تثبت استحقاقه تعالى للعبادة، لأن شكْرَ المُنْعِم واجبٌ. وفي ﴿رزقا لكم﴾ اشارة الى انه كما ان الارض والمواليد تخدم لك لابد ان تخدم لمن سخرها لك.

وأما نظم ﴿فلا تجعلوا لله انداداً﴾ فاعلم! انه قد امتدت من نظمها خطوط الى ﴿يا ايها الناس اعبدوا ربكم﴾ والى ﴿الذي خلقكم﴾ والى ﴿الذي جعل لكم﴾ والى ﴿وانزل﴾. أي: اذا عبدتم ربكم فلا تشركوا له لأنه هو الرب، ولأنه هو الخالق لكم ولنوعكم فلا يجعل بعضكم بعضا أرباباً من دون الله، ولأنه هو الذي خلق الأرض وفرشها ومهدها لكم، ولأنه هو الذي خلق السماء وجعلها سقفا لبنائكم فلا تعتقدوا تأثيراً حقيقياً للأسباب الطبيعية التي هي منشأ الوثنية، ولأنه هو الذي أرسل الماء الى الأرض لرزقكم ومعيشتكم، ولا نعمة الا منه فلا شكر ولا عبادة الاّ له.


وأما نظم كيفيات وهيئات جملة جملة، فاعلم! ان كلمة ﴿يا أيها﴾ في جملة (يا ايها الناس اعبدوا) قد أكثر التنزيل من ذكرها لنكت دقيقة ولطائف رقيقة، اذ هذا الخطاب مؤكد بوجوه ثلاثة:

بما في (يا) من الايقاظ، وما في (اَيُّ) من التوسم، وما في (ها) من التنبيه.

فالخطاب هنا رمز الى فوائد ثلاث: مقابلة مشقة التكليف بلـذة الخطاب.. وان ترقى الانسان من حضيض الغيبة الى مقام الحضور انما هو بواسطة العبادة(9).. وأيضاً اشارة الى ان المخاطب مكلف بجهات ثلاث: باعتبار قلبه بالتسليم والانقياد، ومن جهة عقله بالايمان والتوحيد، وبالنظر الى قالبه بالعمل والعبادة..

وأيضاً ايماء الى ان المخاطبين ثلاث فرق(10).. وأيضاً تلويح الى الطبقات الثلاث من الخواص والمتوسطين والعوام..

وأيضاً تلميح الى الطرز المألوف والنسق المأنوس وهو ان المرء اولا ينادي أحداً فيوقفه. ثم يتوسمه فيوجهه. ثم يخاطبه فيخدمه.(11)

فبناء على هذه النكت تكون التأكيدات في الخطاب مؤسسة من تلك الجهات.

أما النداء في (يا) فلأن المنادى هو الناس المشتمل على الطبقات المختلفة من الغافلين والغائبين والساكنين والجاهلين والمشغولين والمعرضين والمحبين والطالبين والكاملين يكون هذا النداء للتنبيه، وكذا للإِحضار، وكذا للتحريك، وكذا للتعريف، وكذا للتفريغ، وكذا للتوجيه، وكذا للتهييج، وكذا للتشويق، وكذا للازدياد، وكذا لهزّ العطف..

وأما البُعد في (يا) مع ان المقام مقام القرب، فاشارة الى جلالةوعظمة امانة التكليف.. وأيضاً ايماء الى بُعد درجة العبودية عن مرتبة الالوهية.. وأيضاً رمز الى بُعد اعصار المكلفين عن محلِّ وزمانِ ظهور الخطاب. وأيضاً تلويح الى شدة غفلة البشر.

وأما (أيّ) الموضوع للتوسم من العموم فرمز الى ان الخطاب لعموم الكائنات. فيخصص من بينها الانسان بتحمل الأمانة على طريق فرض الكفاية. فاذاً قصور الانسان تجاوزٌ لحق مجموع الكائنات.. ثم في (أي) جزالة الاجمال ثم التفصيل.(12)

وأما (ها) فمع كونه عوضاً عن المضاف اليه، اشارة الى تنبيه من حضر بـ (يا).

وأما ﴿الناس﴾ فاشارة - بحكم تلميح الوصفية الأصلية - الى العتاب، أي (ايها الناس كيف تنسون الميثاق الأزلي)؟ وأيضاً الى العذر أي (ايها الناس لابد ان يكون قصوركم عن السهو والنسيان لا بالعمد والجد)!.

أما ﴿اعبدوا﴾ فبحكم جوابيته للنداء العام مناداه للطبقات المذكورة يدل على الاطاعة، ويشير الى الاخلاص، ويرمز الى الدوام، ويلوح الى التوحيد. أي اطيعوا.. واخلصوا.. واثبتوا.. وازدادوا.. ووحدوا.

وأما ﴿ربكم﴾ فإشارة إلى ان العبادة كما ينبغي ان يرغّب فيها لأنها نسبة شريفة ومناسبة عالية؛ كذلك لابد ان تطلب لأنها شكر وخدمة لمن هو يربيكم وتحتاجون اليه.

أما هيئات ﴿الذي خلقكم والذين من قبلكم﴾

فاعلم! ان ﴿الذي﴾ الذي جهة معلوميته الصلة(13) يشير الى ان معرفة الله تعالى انما تكون بأفعاله وآثاره لا بكنهه.

وان (خَلَق) الممتاز عن الايجاد والانشاء بكونه على وجه مقدر مستو، اشارة الى ان استعداد البشر مسدَّد للتكليف.. وأيضاً رمز الى ان العبادة وظيفة، لأنها نتيجة الخلقة واجرتها. فما الثواب الاّ من محض فضل الله تعالى.

وان ﴿الذين﴾ بناءً على ابهامه ايماء الى ان الذين سبقوكم انقرضوا فماتوا فذهبوا.. فلم يبق منهم جهة المعلومية الا كونهم مخلوقين قبلكم.. فأنتم على شفا جرف القبر.. فاعتبروا.. فلا تغتروا بالدنيا.. فتشبثوا بأذيال العبادة التي هي وسيلة السعادة الابدية.

أما كيفيات ﴿لعلكم تتقون﴾ فاعلم! ان (لعل) للرجاء ففي المرغوب يقال اطماع وفي المكروه اشفاق. فالرجاء في حق المتكلم هنا حقيقةً محالٌ. فهو اما باعتباره لكن مجازاً، واما باعتبار المخاطب، واما باعتبار المشاهدين والسامعين:

أما باعتبار المتكلم فاستعارة تمثيلية كما ان من جهز أحداً بأسباب خدمةٍ يرجو منه عرفا تلك الخدمة؛ كذلك ان الله جهز البشر باستعداد الكمال وقابلية التكليف وواسطة الاختيار. ففي الاستعارة اشارة الى ان حكمة خلق البشر هي التقوى.. وكذا رمز الى ان نتيجة العبادة مرتبة التقوى.. وكذلك ايماء الى ان التقوى أكبر المراتب.. وأيضاً تلميح الى طرز اسلوب الملوك بالاطماع والرمز في موضع الوعد القطعيّ.

وأما باعتبار المخاطب فكأنه يقول: اعبدوا حال كونكم راجين للتقوى ومتوسطين بين الرجاء والخوف. وفي هذا الاعتبار اشارة الى انه لابد ان لايعتمد الانسان على عبادته.. وكذا ايماء الى انه لابد ان لايكتفي بما هو فيه بل لزم ان يكون مصداقا لـ(عليك بالحركة غير السكون) فينظر في كل مرتبة الى ما فوقها.

واما باعتبار المشاهدين والسامعين فكأن من شاهد البشر مجهزاً ومسلحاً باستعدادات يأمل ويرجو منه العبادة، كمن يرى مخالب حيوان وأنيابه يأمل منه الافتراس.. وكذلك اشارة الى ان العبادة مقتضى الفطرة.

اما لفظ ﴿تتقون﴾ فاشارة - بحكم ترتبه على عبادة الطبقاتالمذكورة - الى مراتب التقوى وهي: التقوى عن الشرك. ثم التقوى عن الكبائر. ثم التقوى بحفظ القلب عما سواه تعالى.. وكذا التقوى بالتجنب عن العقاب.. وايضاً التقوى بالتحرز عن الغضب.. وكذا رمز الى ان العبادة بالاخلاص تكون عبادة.. وايضاً ايماء الى ان العبادة مقصودة بالذات لا وسيلة محضة.. وكذلك رمز الى ان العبادة لابد ان لاتكون لأجل الثواب والعقاب.

اما هيئات آية ﴿الذي جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء﴾ فاعلم! انها اشارة الى التهييج على العبادة ببيان عظمة قدرة الصانع، والى التشويق عليها بالامتنان. كأنه يقول: ايها الانسان! ان الذي سخر لك الارض والسماء يستحق ان تعبده.. وكذا ايماء الى فضيلة البشر وعلوّ قيمته ومكرميته عند الله، كأنه يقول: ان الذي اكرمكم بأن هيّأ الاجرام العلوية والسفلية بعظمتها لاستفادتكم، لابد أن تظهروا لياقتكم للكرامة بعبادته.. وكذا تلميح الى رد التصادف والاتفاق وتأثير الطبيعة. أي ان كل ما ترون بصفاتها انما هي بجعلِ جاعل وقصدِ قاصد وتخصيصِ مخصِّص ونظمِ نظَّام جلّت حكمته.. وكذا تلويح الى رد مذهب اهل الطبيعة ومذهب الصابئين المولد لمذهب الوثنيين.. وايضاً تنبيه الى ان صفات الأجسام بإمكانها تدل على الصانع؛ اذ الاجسام متساوية ذراتُها في قابلية الأحوال والكيفيات العمومية فكل صفة ممكنة مترددة بين احتمالات كثيرة فكل جسم باعتبار كل صفة وكيفية يحتاج الى قصد وحكمة وتخصيصِ مخصِّص.

اما تقديم ﴿لكم﴾ فاشارة الى ان تفريش الارض لأجل الانسان، لا ان المفترش والمستفيد هو الانسان فقط، حتى يكون الزائد عبثاً، فتأمل!.

واما ﴿فراشا﴾ فاشارة الى نكتة البلاغة التي هي نقطة الغرابة وهي قيد (مع اقتضاء طبعها الانغماس في الماء).. وايماء الى ان التفريش بالجعل خلاف الطبيعة؛ اذ مقتضى طبيعة الكرة استيلاء الماء عليها واحاطته بها، فالصانع بحكمته ومرحمته اظهر قسما منها وفرشه ووضع عليه مائدة نِعَمه.. وكذا تنبيه - بقاعدة (اذا ثبت الشئ ثبتبلوازمه) - الى ان الأرض كأرض البيت مبسوطة، فانواع النباتات والحيوانات فيها كأساسات البيت انما وضعت بقصد وحكمة.. وكذا ايماء الى ان الارض توسطت بقصد وحكمة بين المائع الذي لايتمسك عليه الاقدام، وبين الصلب الشديد الذي لايقبل الاستفادة والزراعة فيكون عبثا، ولو كان ذهبا. فبالتوسط اشارة الى انه بتخصيصِ وجعلِ وقصدِ حكيم.

اما ﴿والسماء بناءً﴾ فاشارة الى انه تعالى لما جعل لكم السماء سقفا وبناء صارت نجومها قناديل لكم فلا يتوهم التصادف في تفريق تلك القناديل وانتشارها كما يتوهم التصادف في وضعية الجواهر التي ترمى على الأرض منتثرة.

اعلم! ان في هذه الآية اشارة ورمزاً وايماء الى سرّ عجيب دقيق غال وهو:

ان قلت: ان الانسان ذرة بالنسبة الى أرضه، وأرضه ذرة بالنسبة الى الكائنات. وكذا فرده ذرة(14) الى نوعه ونوعه ذرة بالنسبة الى شركائه في الاستفادة في هذا البيت العالي. وكذا جهة استفادة البشر بالنسبة الى فوائد وغايات هذا البيت ذرة، والغايات التي تحس بها العقول ذرة بالنسبة الى فوائده في الحكمة الأزلية والعلم الإلهي فكيف جعل العالم مخلوقاً لاجل البشر واستفادته علة غائية؟.

قيل لك: نعم! ولكن مع كل ما مرّ لأجل وُسعة روح الانسان وتبسط عقله وانبساط استعداده وكثرة وانتشار استفادته من الكائنات.. وايضاً لأجل عدم المزاحمة والتجزي والمدافعة في جهة الاستفادة كنسبة الكلي الى جزئياته - اذ الكلي بتمامه موجود في كل من جزئياته لامزاحمة ولا تجزء - جعل القرآن الكريم جهة استفادة البشر التي هي غاية فذة من الوف الوف غايات السماء والأرض في منزلة العلة الغائية كأنها هي العلة بالنظر الى الانسان. اي ان الانسان يستفيد من الأرض عرصةً لبيته والسماء سقفا له والنجوم قناديل والنباتاتذخائر، فحقّ لكل فرد ان يقول: شمسي وسمائي وأرضي. فتأمل وعقلك معك!

اما كيفيات ﴿وانزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقا لكم﴾ فاعلم! ان نسبة ﴿انزل﴾ الى الضمير اشارة الى ان القطرات انما تُنزَل بميزان قصد وتُرسل بحكمة، حتى ان كل قطرة محفوفة بنظام مخصوص بأمارة عدم مصادمتها لأخواتها في تلك المسافة البعيدة مع تلعب الهواء بها. فيؤذن ان ليست غواربها على اعناقها(15)، بل زمام كل في يد ملَك ممثِّل لنظام ومعكس له.

أما ﴿من السماء﴾ فاشارة باقامة الظاهر مقام الضمير الى ان الغرض من هذه السماء جهتها لا جِرمها المخصوص.(16)

اما ﴿ماء﴾ مع ان المنزل ثلج وبَرَد ومطر، فاشارة الى المنشأ القريب للاستفادة ﴿وجعلنا من الماء كل شئ حي﴾(سورة الانبياء:30). أما تنكيره فاشارة الى انه ماء عجيب شأنه، غريب نظامه، مجهول لكم امتزاجاته الكميوية.

أما فاء ﴿فاخرج﴾ الموضوعة للتعقيب بلا مهلة مع المهلة بين نزول الماء وخروج الثمر فتلويح الى فـ(اهتزت الأرض وربت واخضرت وانبتت من كل زوج بهيج فاخرج). أما نسبة (اخرج) الى الضمير فاشارة الى ان خروج الثمار ليس بتولد وتركب فقط، بل الصانع الحكيم ينشؤها ويرتبها بصفات وخواص لاتوجد في مادتها.

أما ﴿به﴾ فبسبب تشرب المعنى الحقيقي - وهو الالصاق - للسببية رمز الى لطافة طراوة الثمار، فيعلو اليها الماء - خلاف طبيعته - بوساطة (الآثار الشعرية) فيملأ أقداح الثمرات ملصقاً بها.

أما ﴿من الثمرات﴾ فلعدم خلوها من معنى الابتداء عند (سيبويه) يشير الى مفعول يتنوع بتعين فهم السامع، أي ان من الثمرات أنواعاً كما تشتهون.

أما تنوين ﴿رزقاً﴾ فاشارة الى انه رزق مجهول لكم أسباب حصوله فيجئ من حيث لا يحتسب.

أما ﴿لكم﴾ فاشارة الى تأكيد معنى الامتنان.. وأيضاً ايماء الى ان الرزق لأجلكم فلا بأس من استفادة غيركم منه تبعاً.. وكذا رمز الى انه تعالى كما خصكم بالنعم فخصوه بالشكر.

أما نظم هيآت ﴿فلا تجعلوا لله اندادا﴾ فالفاء، ينظر الى الفقرات الأربعة: أي لأنه هو المعبود فلا تشركوا،ولأنه هو القادر المطلق والأرض والسماء في قبضته فلا تعتقدوا له شريكا، ولانه المنعم فلا تشركوا في شكره، ولأنه هو خالقكم فلا تتخيلوا له شريكا.

أما ﴿تجعلوا﴾ بدل تعتقدوا فاشارة الى معنى ﴿ان هي الا اسماء سميتموها﴾ (سورة النجم:23) أي اسماء لا معنى لها تتخيلون لها وجوداً بجعلكم.

أما تقديم ﴿لله﴾ فمع الاهتمام بجعله نصب العين ايماء الى ان منشأ النهي كون الشريك لله.

اما ﴿اندادا﴾ فلفظ الند بمعنى: المثل، ومثله تعالى يكون عين ضده، وبينهما تضاد، ففيه ايماء لطيف الى ان الند بيّن البطلان بنفسه.. أما الجمع فاشارة الى نهاية جهالة المشركين وايماء الى التهكم بهم، أي كيف تجعلون لله الذي لا شبيه له بوجه ما، جماعة من أمثال واضداد؟. وكذا رمز الى رد كل أنواع الشرك أي لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في افعاله.. وتلويح الى رد طبقات المشركين من الوثنيين والصابئين وأهل التثليث وأهل الطبيعة المعتقدين بالتأثير الحقيقي للأسباب.

تذييل: منشأ الوثنية والأصنام إما تأليه النجوم أو تخيل الحلول أو توهم الجسمية.

أما ﴿وانتم تعلمون﴾ فمع اخواتها من الفواصل اشارة الى ان منشأ الاسلامية هو العلم وأساسها العقل، فمن شأنه ان يقبل الحقيقة ويرد سفسطة الاوهام. ثم انه أطنب بايجاز ترك المفعول، أي وانتم تعلمون:

ان لامعبود حقيقياً ولا خالق ولا قادر مطلقاً ولا منعم الا هو.. وكذا وانتم تعلمون ان الآلهة والأصنام ليست بشئ، لا تقتدر على شئ وانها مخلوقة مجعولة تتخيلونها، فتدبر!.

____________________________

(1) العالم الاسلامي (ت:92)

(2) النابض.

(3) كدلالة النار على الدخان ودلالة الدخان على النار، وهذا اسلم من الشبهات (ت:96)

(4) (427-347 ق.م) من مشاهير فلاسفة اليونان، تلميذ سقراط ومعلم ارسطو. من مؤلفاته (الجمهورية) و(المحاورات).

(5) (130-200م) طبيب وكاتب يوناني، ولد في برجامون وعمل جراحاً لمدرسة المصارعين بها بعد ان اتم دراسته في بلاد اليونان وآسيا الصغرى والاسكندرية ثم اقام بروما حيث ذاع صيته وينسب اليه خمسمائة مؤلف اغلبها في الطب والفلسفة.

(6) هو حسين بن محمد بن مصطفى الجسر (1261 - 1327هـ ) ( 1845 - 1909م ) عالم بالفقه والادب، من بيت علم في طرابلس الشام. له نظم كثير. دخل الازهر سنة 1279هـ واستمر الى سنة 1284هـ، وعاد الى طرابلس فكان رجلها في عصره، علماً ووجاهة، وتوفي فيها. كتبه (الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الاسلامية) و(الحصون الحميدية) في العقائد الاسلامية. و«سيرة مهذّب الدين» و «رياض طرابلس» وهى مجموعة دراسات ادبية واجتماعية في عشرة اجزاء.

(7) مِسطَر: ما يُسطر به الكتّاب.

(8) لابى العتاهية في ديوانه وينسب الى الامام علي كرم الله وجهه. ونسبه إبن كثير في مقدمة تفسيره الى إبن المعتز.

(9) وان لا واسطة في العبادة بين العبد وخالقه (ش).

(10) المؤمنون والكفار والمنافقون (ت:108).

(11) فيستخدمه (ب)

(12) لأن في كلمة (ايّ) إجمال وإبهام حيث ذكرت غير مضافة، الاّ ان كلمة (الناس) تزيل ذلك الابهام وتفصّل ذلك الاجمال (ت:109).

(13) فاذا قيل مثلاً: (الذى جاءك) فجهته المعلومة لديك هى المجئ اليك. اما سائر جهاته فمجهولة (ت:110).

(14) ذرة بالنسبة الى نوعه (ش)

(15) الصحيح: (حبلها على غاربها).. راجع الكتب الفقهية في بحث كنايات الطلاق والمعاجم اللغوية في مادة (غرب) (ب).

(16) لأن المقام مقام الضمير، فاذا عدل عنه الى الظاهر يكون المراد به غير الاول...(ب)

Advertisement