Yenişehir Wiki
Register
Advertisement

https://docs.google.com/document/d/1Jxhn_wc-r3jqBFDqlPv9Y9dlExqNKOGsX8c-t5YOSnc/edit?usp=sharing


280 e kadar yok linkten al ve bölerek wikiye ekle.


(1/280)

{ وقالت اليهود والنصارى نحن ابناء الله واحباؤه قل فلم يعذبك بذنوبكم } فالله سبحانه منزه عن الحدود والجهات ومتعال عن الازواج والبنين والبنات ليس كمثله شئ فى الارض ولا فى السموات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى « كذبنى ابن آدم » اى نسبنى الى الكذب « ولم يكن له ذلك » اى لم يكن التكذيب لائقا به بل كان خطأ « وشتمنى ولم يكن له ذلك فاما تكذيبه اياى فزعم ان لا اقدر ان اعيده كما كان واما شتمه اياى فقوله لى ولد فسبحانى ان اتخذ صاحبة اوولدا » وانما كان هذا شتما لان التولد هو انفصال الجزء عن الكل بحيث ينمو وهذا انما يكون فى المركب وكل مركب محتاج

فان قلت قولهم اتخذ الله تكذيب ايضا لانه تعالى اخبر انه لا ولد له وقولهم لن يعيدنا شتم ايضا لانه نسبة له الى العجز فلم خص احدهما بالشتم والآخر بالتكذيب قلت نفى الاعادة نفى صفة كمال واتخاذ الولد اثبات صفة نقصان له والشتم افحش من التكذيب والكذب على الله فوق الكذب على النبى عليه السلام وفى الحديث « ان كذبا على ليس ككذب على احد » يعنى الكذب على النبى اعظم انواع الكذب سوى الكذب على الله لان الكذب على النبى يؤدى الى هدم قواعد الاسلام وافساد الشريعة والاحكام « من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار » فعلى المؤمن ان يجتنب عن الزيغ والضلال واشنع الفعال واسوأ المقال وان يداوم على التوحيد فى الاسحار والآصال الى ان لا يبقى للشرك الخفى ايضا مجال وفى الحديث « لو يعلم الامير ماله فى ذكر الله لترك امارته ولو يعلم التاجر ماله فى ذكر الله لترك تجارته ولو ان ثواب تسبيحة قسم على اهل الارض لأصاب كل واحد منهم عشرة اضعاف الدنيا » وفى الحديث « للمؤمن حصون ثلاثة ذكر الله وقراءة القرآن والمسجد » والمراد بالمسجد مصلاه سواء كان فى بيته او فى الخارج ولا بد من الصدق والاخلاصحتى يظهر اثر التوحيد فى الملك والملكوت : قال فى المثنوى

هست تسبيحت بخار آب وكل ... مرغ جنت شد زنفخ صدق دل

اللهم اوصلنا الى اليقين وهيئ لنا مقاما من مقامات التمكين آمين

(1/281)

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)

{ وقال الذين لا يعلمون } اى مشركوا العرب الجاهلون حقيقة او اهل الكتاب المتجاهلون ونفى عنهم العلم لعدم انتفاعهم بعلمهم لان المقصود هو العمل { لولا يكلمنا الله } لولا هنا للتحضيض وحروف التحضيض اذا دخلت على المضى كان معناها التوبيخ واللوم على ترك الفعل بمعنى لم لم يفعله ومعناها فى المضارع تحضيض الفاعل على الفعل والطلب له فى المضارع بمعنى الامر والمعنى هلا يكلمنا الله عيانا بانك رسوله كما يكلم الملائكة بلا واسطة او يرسل الينا ملكا ويكلمنا بواسطة ذلك الملك انك رسوله كما كلم الانبياء عليهم الصلاة والسلام على هذا الوجه وهذا القول من الجهلة استكبار يعنون به نحن عظماء كالملائكة والنبيين فلم اختصوا به دوننا { او } للتخيير { تأتينا آية } حجة تدل على صدقك وهذا جحود منهم لان يكون ما أتاهم من القرآن وسائر المعجزات آيات والجحود هو الانكار مع العلم والعجب انهم عظموا انفسهم وهى احقر الاشياء واستهانوا بآيات الله وهى اعظمها { كذلك قال الذين من قبلهم } من الامم الماضية { مثل قولهم } فقال اليهود لموسى عليه السلام ارنا الله جهرة ولن نصبر على طعام واحد ونحوه وقال النصارى لعيسى عليه السلام هل يستطيع ربك ان ينزل علينا مائدة من السماء ونحوه وقوله كذلك قال مع قوله مثل قولهم على تشبيهين تشبيه المقول بالمقول فى المؤدى والمحصول وتشبيه القول بالقول فى الصدور بلا رؤية بل بمجرد التشهى واتباع الهوى والاقتراح على سبيل التعنت والعناد لا على سبيل الارشاد وقصد الجدوى والكاف فى كذلك منصوب المحل على انه مفعول قال وقوله مثل قولهم مفعول مطلق اى قال كفار الامم الماضية مثل ذلك القول الذى قالوه قولا مثل قولهم فيما ذكر فظهر ان احد التشبيهين لا يغنى عن الآخر { تشابهت قلوبهم } اى تماثلت قلوب هؤلاء ومن قبلهم فى العمى والقسوة والعناد وهو استئناف على وجه تعليل تشابه مقالتهم بمقالة من قبلهم فان الالسنة ترجمان القلوب والقلب ان استحكم فيه الكفر والقسوة والعمى والسفه والعناد لا يجرى على اللسان الا ما ينبئ عن التعلل والتباعد عن الايمان كما قيل

مرد بنهان بود بزير زبان ... جون بكويد سخن بدانندش

خوب كويد لبيب كويندش ... زشت كويد سفيه خوانندش

{ قد بينا الآيات } اى نزلناها بينة بان جعلناها كذلك فى انفسها كما فى قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل لا انا بيناها بعد ان لم تكن بينة { لقوم يوقنون } اى يطلبون اليقين واليقين ابلغ العلم واوكده بان يكون جازما اى غير محتمل للنقيض وثابتا اى غير زائل بالتشكيك بعد ان يكون مطابقا للواقع فالايقان هنا مجاز عن طلب اليقين على طريق ذكرالمسبب وارادة السبب ولا بعد فى نصب الدلائل لطلاب اليقين ليحصلوه بها وانما حمل على المجاز لان الموقن بالمعنى المذكور لا يحتاج الى نصب الدلائل وبيان الآيات فبيان الآيات له طلب لتحصيل الحاصل

(1/282)

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)

{ انا ارسلناك } حال كونك ملتبسا { بالحق } مؤيدا به والمراد الحجج والآيات وسميت به لتأديتها الى الحق { بشيرا } حال كونك مبشرا لمن تبعك بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب احد { ونذيرا } اى منذرا ومخوفا لمن كفر بك وعصاك والمعنى ان شأنك بعد اظهار صدقك فى دعوى الرسالة بالدلائل والمعجزات ليس الا الدعوة والابلاغ بالتبشير والانذار لا ان تجبرهم على القبول والايمان فلا عليك ان أصروا على الكفر والعناد فان الاحوال اوصاف لذى الحال والاوصاف مقيدة للموصوف { ولا تسئل عن اصحاب الجحيم } ما لهم لم يؤمنوا بعد ان بلغت والجحيم المكان الشديد الحر وقرئ ولا تسأل فتح التاء وجزم اللام على انه نهى لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن السؤال عن حال ابويه على ما روى انه عليه السلام قال « ليت شعرى ما فعل ابواى » اى ما فعل بهما والى اى حال انتهى امرهما فنزلت

واعلم ان السلف اختلفوا فى ان ابوى النبى صلى الله عليه وسلم هل ماتا على الكفر او لا ذهب الى الثانى جماعة متمسكين بالادلة على طهارة نسبه عليه الصلاة والسلام من دنس الشرك وشين الكفر وعبادة قريش صما وان كانت مشهورة بين الناس لكن الصواب خلافه لقول ابراهيم عليه السلام { واجنبني وبنى ان نعبد الاصنام } وقوله تعالى فى حق ابراهيم { وجعلها كلمة باقية فى عقبه } وذهب الى الاول جمع منهم صاحب التيسير حيث قال ولما امر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبشير المؤمنين وانذار الكافرين كان يذكر عقوبات الكفار فقام رجل فقال يا رسول الله اين والدى فقال فى النار فحزن الرجل فقال عليه السلام « ان والديك ووالدى ووالدى ابراهيم فى النار » فنزل قوله تعالى { ولا تسئل عن اصحاب الجحيم } فلم يسألوه شيأ بعد ذلك وهو كقوله { لا تسألوه عن اشياء ان تبد لكم تسؤكم } وذهب نفر من هذا الجمع بنجاتهما من النار منهم الامام القرطبى حيث قال فى التذكرة ان عائشة رضى الله عنها قالت حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فمر على عقبة الحجون وهو باك حزين مغتم فبكيت لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انه ظفر فنزل فقال « يا حميراء استمسكى » اى زمام الناقة فاستندت الى جنب البعير فمكث عنى طويلا ثم انه عاد الى وهو فرح متبسم فقلت له بأبى انت وامى يا رسول الله نزلت من عندى وانت باك حزين مغتم فبكيت لبكائك يا رسول الله ثم انك عدت الى وانت فرح متبسم فعماذا يا رسول الله فقال « ذهبت لقبر آمنة امى فسألت الله ربى ان يحييها فاحياها فآمنت »

(1/283)

وروى ان الله احيى له اباه وامه وعمه ابا طالب وجده عبد المطلب قال الحافظ شمس الدين الدمشقى

حبا الله النبى مزيد فضل ... على فضل وكان به رؤفا

فاحيى امه وكذا اباه ... لايمان به فضلا لطيفا

فسلم فالقديم به قدير ... وان كان الحديث به ضعيفا

وفى الاشباه والنظائر من مات على الكفر ابيح لعنه الا والدى رسول الله صلى الله عليه وسلم لثبوت ان الله تعالى احياهما له حتى آمنا كذا فى مناقب الكردرى * وذكر ان النبى عليه السلام بكى يوما بكاء شديدا عند قبر ابويه وغرس شجرة يابسة وقال « ان خضرت فهو علامة امكان ايمانهما » فاخضرت ثم خرجا من قبرهما ببركة دعاء النبى صلى الله عليه وسلم واسلما ثم ارتحلا

قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره ومما يدل على ذلك ان اسم ابيه كان عبد الله والله من الاعلام المختصة بذاته تعالى لم يسم به صنم فى الجاهلية فان اسم بعض اصنامهم اللات وبعضها العزى انتهى كلامه وليس احياهما وايمانهما به ممتنعا عقلا ولا شرعا وقد ورد فى الكتاب احياء قتيل بنى اسرائيل واخباره بقاتله وكان عيسى عليه السلام يحيى الموتى وكذلك نبينا عليه السلام احيى الله على يديه جماعة من الموتى واذا ثبت هذا فما يمنع من ايمانهما بعد احيائهما زيادة فى كرامته وفضيلته وما روى من انه عليه السلام زار قبر امه فبكى وابكى من حوله فقال « استأذنت فى ان استغفر لها فلم يؤذن لى واستأذنت فى ان ازور قبرها فاذن لى فزوروا القبور فانها تذكركم الموت » فهو متقدم على احيائهما لانه كان فى حجة الوداع ولم يزل عليه السلام راقبا فى المقامات السنية صاعدا فى الدركات العلية صاعدا فى الدرجات العلية الى ان قبض الله روحه الطاهرة فمن الجائز ان تكون هذه درجة حصلت له عليه السلام بعد ان لم تكن

فان قلت الايمان لا يقبل عند المعاينة فكيف بعد الاعادة قلت الايمان عند المعاينة ايمان يأس فلا يقبل بخلاف الايمان بعد الاعادة وقد دل على هذا { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } وورد ان اصحاب الكهف يبعثون فىآخر الزمان ويحجون ويكونون من هذه الامة تشريفا لهم بذلك وورد مرفوعا « اصحاب الكهف اعوان المهدى فقد اعتد بما يفعله اصحاب الكهف بعد احيائهم من الموت » ولابدع ان يكون الله تعالى كتب لابوى النبى عمرا ثم قبضهما قبل استيفائه ثم اعادهما لاستيفائه تلك اللحظة الباقية وآمنا فيها فيعتد به وتكون تلك البقية بالمدة الفاصلة بينهما لاستدراك الايمان من جملة ما اكرم الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم كما ان تأخير اصحاب الكهف هذه المدة من جملة ما اكرموا به ليجوزوا شرف الدخول فى هذه الامة

(1/284)

وذهب خاتمة الحافظ والمحدثين الامام السخاوى فى هذه المسئلة الى التوقف حيث قال فى المقاصد الحسنة بعدما اورد الشعر المذكور للحافظ الدمشقى وقد كتبت فيه جزأ والذي اراه الكف عن التعرض لهذا اثباتا ونفيا انتهى

وسئل القاضى ابو بكر ابن العربى احد الائمة المالكية عن رجل قال ان آباء النبى عليه السلام فى النار فأجاب بانه ملعون لان الله تعالى يقول { ان الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله فى الدنيا والآخرة } وفى الحديث « لا تؤذوا الاحياء بسبب الاموات » وسئل الامام الرستغفى عن قول بعض الناس ان آدم عليه السلام لما بدت منه تلك الزلة اسود منه جميع جسده فلما هبط الى الارض امر بالصيام والصلاة فصام وصلى فابيض جسده أيصح هذا القول قال لا يجوز فى الجملة القول فى الانبياء عليهم السلام بشئ يؤدى الى العيب والنقصان فيهم وقد امرنا بحفظ اللسان عنهم لان مرتبتهم ارفع وهم على الله اكرم وقد قال عليه السلام « اذا ذكرت اصحابى فأمسكوا » فلما امرنا ان لا نذكر الصحابة رضى الله عنهم بشئ يرجع الى العيب والنقص فلأن نمسك ونكف عن الانبياء اولى واحق فحق المسلم ان يمسك لسانه عما يخل بشرف نسب نبينا عليه السلام ليست من الاعتقاديات فلا حظ للقلب منها واما اللسان فحقه ان يصان عما يتبادر منه النقصان خصوصا الى وهم العامة لانهم لا يقدرون على دفعه وتداركه فهذا هو البيان الشافى فى هذا الباب بطرقه المختلفة التقطته من الكتب النفيسة وقرنت كل نظير الى مثله والحمد لله تعالى وحده

(1/285)

وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)

{ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } اقناط له عليه السلام من طمعه فى اسلامهم حيث علق رضاهم عنه بما لا سبيل اليه وما يستحيل وجوده واذا لم يرضوا عنه فكيف يتبعون ملته اى دينه اى لن ترضى عنك اليهود الا بالتهود والصلاة الى قبلتهم وهى المغرب ولا النصارى الا بالتنصر والصلاة الى قبلتهم وهى المشرق ووحد الملة لان الكفر ملة واحدة وهذه حكاية لمقالتهم بان قالوا لن نرضى عنك حتى تتبع ملتنا وادعوا بتلك المقالة ان ملتهم هى الهدى لا ما سواها فامره الله تعالى بقوله { قل } ان يرد عليهم بطريق قصر القلب ويقول { ان هدى الله } الذى هو الاسلام { هو الهدى } الى الحق لا ما تدعون اليه من الملة الزائغة فانها هوى كما يعرب عنه قوله تعالى { ولئن اتبعت اهواءهم } اى آراءهم الزائغة الصادرة عنهم بقضية شهوات انفسهم وهى التى عبر عنها فيما قبل بملتهم اذ هى التى ينتمون اليها

واما ما شرعه الله من الشريعة على لسان الانبياء عليهم السلام وهو المعنى الحقيقى للملة فقد غيروها تغييرا والاهواء جمع هوى وهو رأى عن شهوة داع الى الضلال وسمى بذلك لانه يهوى بصاحبه فى الدنيا الى كل واهية وفى الآخرة الى الهاوية وانما قال اهواءهم بلفظ الجمع ولم يقل هواهم تنبيها على ان لكل واحد هوى غير هوى الآخر ثم هوى كل واحد منهم لا يتناهى فلذلك اخبر انه لا يرضى الكل الا باتباع اهواء الكل

واعلم ان الطريقة المشروعة تسمى ملة باعتبار ان الانبياء الذين اظهروها قد املوها وكتبوها لامتهم كما انها تسمى دينا باعتبار طاعة العباد لمن سنها وانقيادهم لحكمه وتسمى ايضا شريعة باعتبار كونها موردا للمتعطشين الى زلال ثوابه ورحمته والخطاب فى قوله ولئن اتبعت متوجه الى النبى عليه السلام فى الحقيقة

وما قيل من انه تعالى حكم بعضمة الانبياء وعلم منهم انهم لا يعصون له ولا يخالفون امره ولا يرتكبون ما نهى عنه فكانت عصمتهم واجبة فلا وجه لتحذيرهم عن اتباع هوى الكفرة فوجب ان يكون التحذير متوجها الى الامة لا الى انفسهم

فالجواب عنه ان التكليف والتحذير انما يعتمد على كون المكلف به محتملا ومتصورا فى ذاته من حيث تحقق ما يتوقف عليه وجوده من الآلات والقوى والامتناع الحاصل من حكمه تعالى بعصمتهم وعلمه بها امتناع بالغير وهو لا ينافى الامكان الذاتى هو شرط التكليف والتحذير { بعد الذى جاءك من العلم } اى القرآن الموحى اليك وهو حال من ضمير جاءك { مالك من الله } اى من جهته العزيزة وهو جواب لئن { من ولى } اى قريب ينفعك من الولى وهو القرب { ولا نصير } يدفع عنك عقابه والفرق بين الولى والنصير العموم والخصوص من وجه لان الولى قد يضعف عن النصرة والنصير قد يكون اجنبيا عن المنصور كما يكون من اقرباء المنصور وهو مادة اجتماعهما وقوله من ولى مرفوع على الابتداء ولك خبره ومن صلة وقوله من الله منصوب المحل على انه حال لانه لما كان متقدما على قوله من ولى امتنع ان يكون صفة له ونظيره قوله لعزة موحشا طلل قديم ولما ذكر قبائح المتعنتين الطالبين للرياسة من اليهود والنصارى اتبع ذلك بمدح من ترك طريق التعنت وخب الرياسة منهم وطلب مرضاة الله وحسن ثواب الآخرة وآثره على الحظوظ العاجلة الفانية فقال تعالى

(1/286)

الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)

{ الذين آتيناهم الكتاب } يريد مؤمنى اهل الكتاب كعبدالله بن سلام واصحابه من الذين اسلموا من اليهود وانما خصهم بذكر الايتاء لانهم هم الذين عملوا به فخصوا به والكتاب التوراة { يتلونه حق تلاوته } بمراعاة لفظه عن التحريف وبالتدبر فى معانيه والعمل بما فيه وهو حال مقدرة من الضمير المنصوب فى آتيناهم او من الكتاب لانهم لم يكونوا تالين له وقت الاتيان

وقوله حق تلاوته نعت لمصدر محذوف دل عليه الفعل المذكور اى يتلونه تلاوة حق تلاوته واختار الكواشى كونه منصوبا على المصدرية على تقدير تلاوة حقا فان نعت المصدر اذا قدم عليه واضيف اليه نصب نصب المصادر نحو ضربت اشد الضرب بنصب اشد على المصدرية { اولئك } الموصوفون بايتاء الكتاب وتلاوته كما هو حقه وهو مبتدأ ثان خبره قوله تعالى { يؤمنون به } اى بكتابهم دون المحرفين فان بناء الفعل على المبتدأ وان كان اسما ظاهرا يفيد الحصر مثل الله يستهزئ بهم { ومن يكفر به } اى بالكتاب سواء كان كفره بنفس التحريف او بغيره كالكفر بالكتاب الذى يصدقه { فاولئك هم الخاسرون } اى الهالكون المغبونون حيث اشتروا الكفر بالايمان

(1/287)

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)

{ يا بنى اسرائيل اذكروا نعمتى التى انعمت عليكم } ومن جملتها التوراة وذكر النعمة انما يكون بشكرها وشكرها الايمان بجميع ما فيها ومن جملته نعت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ومن ضرورة الايمان بها الايمان به صلى الله عليه وسلم { و } اذكروا { انى فضلتكم على العالمين } اى عالمى زمانكم

(1/288)

وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)

{ واتقوا } ان لم تؤمنو { يوما } اى عذاب يوم وهو يوم القيامة { لا تجزى } تقول جزى عنى هذا الامر يجزى كما تقول قضى عنى يقضى وزنا ومعنى اى لا تقضى فى ذلك اليوم { نفس } من النفوس { عن نفس } اخرى { شيأ } من الحقوق التى لزمتها اى لا تقضى نفس ليس عليها شئ من الحقوق التى وجبت على نفس اخرى اى لا تؤخذ نفس بذنب اخرى ولا تدفع عنها شيأ واما اذا كان عليها شئ فانها تجزى وتقضى بغير اختيارها بمالها من حسناتها ما عليها من الحقوق كما جاء فى حديث ابى هريرة رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « من كانت له مظلمة لاخيه من عرض او غيره فليستحلل منه اليوم قبل ان لا يكون دينار ولا درهم ان كان له عمل صالح اخذ منه بقدر مظلمته وان لم يكن له حسنات اخذ من سيآت صاحبه فحمل عليه » { ولا يقبل منها } اى من النفس الاولى { عدل } اى فداء وهو بفتح العين الفدية وهى ما يماثل الشىء قيمة وان لم يكن من جنسه والعدل بالكسر ما يساوى الشىء فى الوزن والجرم من جنسه والمعنى لا يؤخذ منها فدية تنجو بها من النار ولا تجد ذلك لتفتدى به وسميت الفدية عدلا لانها تعادل ما يقصد انقاذه وتخليصه يقال فداه اذا اعطى فداءه فانقذ { ولا تنفعها شفاعة } ان شفعت للنفس الثانية { ولا هم ينصرون } اى يمنعون من عذاب الله تعالى

واعلم ان المستوجب للعذاب يخلص منه فى الدنيا باحد اربعة امور اما بان ينصره ناصر قوى فيخلصه ويدفع العذاب عنه قهرا او بان يفديه اى بان يعطى احد اشياء غير ما عليه من الحق وذلك الشىء هو الفدية وهو الفداء فانقذه به فالله تعالى بين هول يوم القيامة بان نفى ان يدفع العذاب احد عن احد بشىء من هذه الوجوه المحتملة فى الدنيا قال السعدى قدس سره

قيامت كه نيكان باعلى رسند ... ز قعر ثرى بر ثريا رسند

ترا خود بماند سر ازننك بيش ... كه كردت بر آيد عملهاىخويش

برادر ز كار بدان شرم دار ... كه در روى نيكان شوى شرمسار

دران روز كزفعل برسند وقول ... اولو العزم را تن بلرزد زهول

بجايى كه دهشت خورد انبيا ... تو عذر كنه را جه دارى بيا

ثم اعلم ان الله تعالى بدأ قصة بنى اسرائيل بهاتين الآيتين ففى الآية الاولى تذكير النعمة وفى الاخرى تخويف العقوبة وبهما ختم القصة مبالغة فى النصح وايذانا بان المقصود من القصة ذلك ودل قوله تعالى { ولئن اتبعت اهوائهم }

(1/289)

على قبح الصحبة باهل الهوى والبدع والاتباع لهم فى اقوالهم وافعالهم وفى الحديث « من اتبع قوما على اعمالهم حشر فى زمرتهم » اى فى جماعتهم « وحوسب يوم القيامة بحسابهم وان لم يعمل باعمالهم » وربما يكون للانسان شركة اى فى اثم القتل والزنى وغيرهما اذا رضى به من عامل واشتد حرصه على فعله وفى الحديث « من حضر معصية فكرهها فكأنما غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن حضرها » وحضور مجلس المعصية اذا كان لحاجة او لاتفاق جريانها بين يديه ولا يمكن دفعها فغير ممنوع واما الحضور قصدا فممنوع

ومن سنة السلف الصالحين الانقطاع عن مجالس اهل اللغو واللهو والمجانبة عن اتباع اهل الهوى والبدع

وروى ان ابن المبارك رؤى فى المنام فقيل له ما فعل ربك بك فقال عاتبنى وأوقفنى ثلاثين سنة بسبب انى نظرت باللطف يوما الى مبتدع فقال انك لم تعاد عدوى فى الدين فكيف حال القاعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين والمتمسك بسنة سيد المرسلين عند فساد الخلق واختلاف المذاهب والملل كان له اجر مائة شهيد وفى الحديث « سيأتى على الناس زمان تخلق فيه سنتى وتتجدد فيه ابدعة فمن اتبع سنتى يومئذ صار غريبا وبقى وحيدا ومن اتبع بدع الناس وجد خمسين صاحبا او اكثر » وللصحبة تأثير عظيم كما قيل

عدوى البليد الى الجليد سريعة ... والجمر يوضع فى الرماد فيخمد

قال الحافظ

نخست موعظه بير مجلس اين حرفست ... كه از مصاحب ناجنس احتراز كنيد

(1/290)

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)

{ واذ ابتلى ابراهيم } قال القرطبى فى تفسيره تفسيره بالسريانية فيما ذكره المارودى وبالعربية فيما حكى ابن عطية اب رحيم

قال السهيلى وكثيرا ما يقع الاتفاق بين السريانى والعربى او تقاربه فى اللفظ ألا ترى ان ابراهيم تفسيره اب رحيم لمرحمته بالاطفال ولذلك جعل هو وسارة زوجته كافلين لاطفال المؤمنين الذين يموتون صغارا الى يوم القيامة

وقال فى تذكرة الموتى كان اسمه ابرم فزيد فى اسمه هاء والهاء فى السريانية التفخيم والتعظيم { ربه } الضمير لابراهيم وقدم المفعول لفظا وان كان مؤخرا رتبة ووجه التقديم الاهتمام فان الذهن يتشوق ويطلب معرفة المبتلى اى واذكر وقت اختبارى ابراهيم والمقصود من ذكر الوقت ذكر ما وقع فيه من الحوادث لان الوقت مشتمل عليها فاذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها كأنها مشاهدة عيانا

والابتلاء فى الاصل الاختبار اى تطلب الخبر بحال المختبر بتعريضه لامر يشق عليه غالبا فعله او تركه وذلك انما يتصور حقيقة ممن لا وقوف له على عواقب الامور

واما من العليم الخبير فلا يكون الا مجازا عن تمكينه للعبد من اختيار احد الامرين ما يريد الله تعالى وما يشتهيه العبد كأنه يمتحنه بما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك كما علم الكفر من ابليس ولم يلعنه بعلمه ما لم يختبره بما يستوجب اللعنة به { بكلمات } جمع كلمة وهى اللفظ الموضوع لمعنى مفرد فيكون الكلمات عبارة عن الالفاظ المنظومة لكنها قد تطلق على المعانى التى تحتها لما بين الدال والمدلول من التضايف والمتضايفان متكافئان فى الوجود التعقلى كما فى قوله تعالى { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } اى قضية وحكمة وقوله { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى } اى للمعانى التى تبرز بالكلمات { فاتمهن } اى قام بهن حق القيام واداهن احسن التأدية من غير تفريط وتوان ولذا قيل لم يبتل احذ بهذا الدين فاقامه كله الا ابراهيم فكتب الله له البراءة فقال { وابراهيم الذى وفى } وفسرت الكلمات بوجوه ذكرت فى التفاسير

ومنها العشر التى هى من السنة كما قال ابن عباس رضى الله عنهما هى عشر خصال كانت فرضا فى شرعه وهى سنة فى شرعنا

خمس منها فى الرأس وهى المضمضة والاستنشاق وفرق الرأس وقص الشارب والسواك

وخمس فى البدن وهى الختان وحلق العانة ونتف الابط وتقليم الاظفار والاستنجاء بالماء اى غسل مكان الغائط والبول بالماء

ولنذكر منها بعض ما يحتاج الى البيان فنقول فرق شعر الرأس تفريقه وتقسيمه الى نصفين وكان المشركون يفرقون اشعار رؤسهم واهل الكتاب يسدلون اى يرسلون شعورهم على الجبين ويتخذونها كالقصة وهى شعر الناصية وكان النبى عليه الصلاة والسلام يحب موافقة اهل الكتاب فيما لم ينزل فيه حكم لاحتمال ان يعملوا بما ذكر فى كتابهم ثم نزل جبريل فامره بالفرق

(1/291)

واعلم ان اكثر حال النبى عليه الصلاة والسلام كان الارسال وحلق الرأس منه معدود ولكن الامام الغزالى كره الارسال فى زماننا لانه صار شعار العلوية فاذا لم يكن علويا كان تلبيسا

وذكر فى جنايات الذخيرة امساك الجعد فى الغلام حرام لانهم انما يمسكون الجعد فى الغلام للاطماع الفاسدة

وذكر ان شخصا احضر ولده بمجلس ابى بكر رضى الله تعالى عنه وقد حلق بعض الشعر من رأسه وابقى البعض فامر ابو بكر رضى الله تعالى عنه بقتله فتاب واستغفر فعفا عنه

قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره ليس هذا امرا بقتله فى الحقيقة بل بيان ان من فعله يستحق القتل ومثله انه ذكر فى مجلس ابى يوسف ان النبى عليه السلام كان يحب القرع فقال رجل انا لا احبه فافتى ابو يوسف بقتله فتاب ورجع فعفا عنه

واما قص الشارب فهو قطعه بالمقص اى المقراض وكان عليه السلام يقص شاربه كل جمعة قبل ان يخرج الى صلاة الجمعة

قال النووى المختار فيه ان يقص حتى يبدو طرف الشفة ويكون مثل الحاجب

وفى الاحياء ولا بأس بترك سباليه وهما طرفا الشارب فعل ذلك عمر رضى الله تعالى عنه وغيره لان ذلك لا يستر الفم ولا يبقى فيه غمر الطعام

وتوفير الشارب كتوفير الاظافير مندوب للمجاهد فى دار الحرب وان كان قطعهما من الفطرة وذلك ليكون اهيب فى عين العدو والسنة تقصير الشارب فحلقه بدعة كحلق اللحية

وفى الحديث « جزوا الشوارب واعفوا اللحى » الجز القص والقطع والاعفاء التوفير والترك على حالها وحلق اللحية قبيح بل مثلة وحرام وكما ان حلق شعر الرأس فى حق المرأة مثلة منهى عنها وتشبه بالرجال وتفويت للزينة

قال الفقهاء اللحية فى وقتها جمال وفى حلقها تفويته على الكمال ومن تسبيح الملائكة سبحان من زين الرجال باللحى وزين النساء بالذوائب

وفى الكشاف فى مقام مدح الرجال عند قوله تعالى { الرجال قوامون على النساء } وهم اصحاب اللحى والعمائم

قال فى نصاب الاحتساب ومن الاكساب التى يحتسب على اربابها حلق لحى الرجال ورأس النساء تشبها بالرجال ولا بأس بأخذ الزائد على القبضة من اللحية لانه عليه السلام كان يأخذ من لحيته طولا وعرضا اذا زاد على قدر القبضة فان الطول المفرط يشوه الحلقة ويطلق ألسنة المغتابين بالنسبة اليه فلا بأس بالاحتراز عنه على هذه النية ويكره نتف الشيب كما يفعله البعض فى زماننا كرها للشيب واراءة للشباب : قال الحافظ

سواد نامه موى سياه جون طى شد ... بياض كم نشود كر صد انتخاب رود

يسود اعلاها ويبيض اصلها ... ولا خير فى الاعلى اذا فسد الاصل

واما الختان فهو قطع الجلد الزائدة من الذكر وجمهور العلماء على ان ذلك من مؤكدات السنن ومن فطرة الاسلام التى لا يسع تركها فى الرجال الا ان يولد الصبى مختونا وقد ولد الانبياء كلهم مختونين مسرورين اى مقطوعى السرة كرامة لهم الا ابراهيم خليل الله فانه ختن نفسه ببلدة قدوم بالتخفيف والتشديد وهو ابن مائة وعشرين او ثمانين ليست بسنته بعده واختلفوا فى الختان قيل لا يختن حتى يبلغ لانه للطهارة ولا طهارة عليه حتى يبلغ وقيل اذا بلغ عشرا وقيل تسعا وقيل فيما بين سبع سنين الى عشر

(1/292)

قال الحدادى المستحب فى وقت الختان من اليوم السابع من ولادته الى عشر سنين ويكره الترك الى وقت البلوغ وتوقف ابو حنيفة فى وقته

واستحب العلماء فى الرجل الكبير يسلم ان يختتن وان بلغ ثمانين

وعن الحسن انه كان يرخص للشيخ الذى يسلم ان لا يختتن ولا يرى به بأسا ولا يرد شهادته وذبيحته وحجه وصلاته

قال ابن عبد البر وعامة اهل العلم على هذا

واما تقليم الاظفار فهو قصها والقلامة بالضم ما يزال منها وندب قص الاظفار لانه ربما يجنب ولا يصل الماء الى البشرة من اجل الوسخ ولا يزال جنبا ومن اجنب فبقى موضع ابرة من جسده بعد الغسل غير مغسول فهو جنب على حاله حتى يعم الغسل جسده كله وفى الحديث « من قلم اظفاره يوم الجمعة اعاذه الله تعالى من البلايا الى الجمعة الاخرى وزيادة ثلاثة ايام » وفى الحديث الآخر « من اراد ان يأمن من الفقر وشكاية العين فليقلم اظفاره يوم الخميس بعد العصر » قال فى المقاصد الحسنة قص الاظفار لم يثبت فى كيفيته ولا فى تعيين يوم له عن النبى عليه السلام شىء وما يعزى من النظم فى ذلك لعلى رضى الله تعالى عنه وهو

تقليمك الاظفار فيه سنة وادب ... يمنيها خوابس يسارها اوخسب

فباطل عنه وقال فى محل آخر حديث « من قص اظفاره مخالفا لم ير فى عينيه رمدا » هو فى كلام غير واحد من الائمة ولم اجده لكن كان الحافظ الشريف الدمياطى يأثر ذلك عن بعض مشايخه ونص الامام احمد على استحبابه انتهى كلامه

وذكر الامام النووى ان المستحب منه ان يبدأ باليدين قبل الرجلين فيبتدئ بمسبحة يده اليمنى ثم الوسطى ثم البنصر ثم الخنصر ثم الابهام ثم يعود الى اليسرى فيبدأ بخنصرها ثم ببنصرها الى آخرها ثم يعود الى الرجل اليمنى فيبدأ بخنصرها ويختم بخنصر الرجل اليسرى وهكذا قرره الامام فى الاحياء وفى الحديث « نقوا براجمكم » وهي مفاصل الاصابع والعقد التى على ظهرها يجتمع فيها الوسخ واحدها برجمة بضم الباء والجيم وسكون الراء بينهما وهو ظهر عقدة كل مفصل فظهر العقدة يسمى برجمة وما بين العقدتين يسمى راجبة وجمعها رواجب وذلك مما يلى طهرها وهو قصبة الاصابع فلكل اصبع برجمتان وثلاث رواجب الا الابهام فان له برجمة وراجبتين فامر بالتنقية لئلا يدرن فيبقى فيه الجنابة ويحول الدرن بين الماء والبشرة كذا فى تفسير القرطبى

(1/293)

وعن مجاهد قال ابطأ جبرائيل عليه السلام على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له النبى عليه السلام « ما حبسك يا جبريل » قال وكيف آتيكم وانتم لا تقصرون اظفاركم ولا تأخذون من شواربكم ولا تنقون براجمكم ولا تستاكون ثم قرأ { وما نتنزل الا بامر ربك } قال كأنه قيل فماذا قال له ربه حين الكلمات فقيل { قال انى جاعلك للناس } اى لاجل الناس { اماما } يأتمون بك فى هذه الخصال ويقتدى بك الصالحون فهو نبى فى عصره ومقتدى لكافة الناس الى قيام الساعة وقد انجز الله وعده فقال لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم { ثم اوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم } ونحو ذلك فلذلك اجتمعت اهل الاديان كلهم على تعظيمه وجميع امة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون فى آخر صلاتهم اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد قيل فى سببه انا لما قلنا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد قيل لنا ان ابراهيم هو الذى طلب من الله تعالى ان يرسل اليكم مثل هذا الرسول الذى هو رحمة للعالمين حيث قال { ربنا وابعث فيهم رسولا منهم } فما هديتكم فحينئذ نقول كما صليت على ابراهيم الخ ثم نلاحظ ان هذه الخيرات كلها من الله تعالى فنقول شكرا لاحسانه ربنا انك حميد مجيد

وفى الخبر ان ابراهيم عليه السلام رأى فى المنام جنة عريضة مكتوب على اشجارها لا اله الا الله محمد رسول الله فسأل جبريل عنها فاخبره بالقصة فقال يا رب اجر على لسان امة محمد ذكرى فاستجاب الله دعاءه وضمه فى الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم قال كأنه قيل فماذا قال ابراهيم عليه السلام عنده فقيل { قال ومن ذريتى } عطف على الكاف فى جاعلك ومن تبعيضية متعلقة بجاعل اى وجاعل بعض ذريتى اماما يقتدى به اى اجعل لكنه راعى الادب بالاحتراز عن صورة الامر وتخصيص البعض بذلك لبداهة استحالة امامة الكل وان كانوا على الحق والذرية نسل الرجل وقد تطلق على الآباء والابناء من الذكور والاناث والصغار والكبار ومنه قوله تعالى { وآية لهم انا حملنا ذريتهم } اراد آباءهم الذين حملوا فى السفينة وتقع الذرية على الواحد كما فى قوله تعالى { رب هب لى من لدنك ذرية طيبة } يعنى ولدا صالحا { قال } الله استئناف ايضا { لا ينال } لا يصيب { عهدى الظالمين } يعنى ان اولادك منهم مسلمون وكافرون فلا تصل الامامة والاستخلاف بالنبوة الذى عهدت اليك من كان ظالما من اولادك وغيرهم وانما ينال عهدى من كان بريئا من الظلم لان الامام انما هو لمنع الظلم فكيف يجوز ان يكون ظالما وان جاز فقد جاء المثل السائر « من استرعى الذئب الغنم ظلم »

(1/294)

قال المعتزلة وفيه دليل على ان الفاسق لا يصلح للامامة ولا يقدم للصلاة قلنا الظالم اريد به الكافر والصبر على طاعة الامام الجائر اولى من الخروج عليه لان فى منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف واراقة الدماء واطلاق ايدى السفهاء وشن الغارات على المسلمين والفساد فى الارض

وفى الآية دليل على عصمة الانبياء عليهم الصلاة والسلام من الكبائر قبل البعثة وبعدها

قال ابن الشيخ فى حواشيه فيه بحث لان مدلول الآية ان الظالم ما دام ظالما لا تناله الامامة لا ان من كان ظالما فى وقت ما من الاوقات ثم تاب منه لا ينال الامامة والفرق بينهما ان الظلم الحالى يخل بالمقصود من نصب الامام وهو اخلاء وجه الارض من الظلم والفساد وحماية اموال الناس واعراضهم من تعرض الظلمة المفسدين بخلاف الظلم القديم الذى تاب عنه الظالم فانه ليس بمخل للمقصود فان التائب من الذنب كمن لا ذنب له

قال حضرة الشيخ افتاده افندى قدس سره لا تعطى الولاية لولد الزنى قال واشكر الله تعالى على ان جعلنى اول ولد ولدته امى فانه ابعد من ان يصدر الفاظ الكفر من احد ابوى

قال المولى الهدائى قدس سره قلت والفقير ايضا كذلك

وقال السخاوى فى المقاصد الحسنة حديث « لا يدخل الجنة ولد زنية » ان صح فمعناه اذا حمل بمثل عمل ابويه واتفقوا على انه لا يحمل على ظاهره وقيل فى تأويله ايضا ان المراد به من يواظب الزنى كما يقال للشهود بنوا الصحف وللشجعان بنوا الحرب ولاولاد المسلمين بنوا الاسلام انتهى كلامه

ثم فى الآية اشارة الى ان من اراد ان يبلغ درجة الاخيار ليقتدى به فليلازم التعب وجهد النفس فى طاعة الله تعالى : قال السعدى

جويوسف كسى درصلاح وتميز ... بسى ساله بايد كه كردد عزيز

(1/295)

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

{ واذ جعلنا البيت } اى واذكر يا محمد وقت تصييرنا الكعبة المعظمة { مثابة } كائنة { للناس } اى مباءة ومرجعا للحجاج والمعتمرين يتفرقون عنه ثم يثوبون اليه اى يرجع اليه اعيان الذين يزورونه بأن يحجوه مرة بعد اخرى او يرجع امثالهم واشباههم فى كونهم وفد الله وزوار بيته فانهم لما كانوا اشباها للزائرين اولا كان ما وقع منهم من الزيادة ابتداء بمنزلة عود الاولين فتعريف الناس للعهد الذهنى { وامنا } موضع امن فان المشركين كانوا لا يتعرضون لسكان الحرم ويقولون البيت بيت الله وسكانه اهل الله بمعنى اهل بيته وكان الرجل يرى قاتل ابيه فى الحرم لا يتعرض له ويتعرضون لمن حوله وهذا شئ توارثوه من دين اسماعيل عليه السلام فبقوا عليه الى ايام النبى عليه السلام او يأمن حاجه من عذاب الآخرة من حيث ان الحج يجب ما قبله اى يقطع ويمحو ما وجب قبله من حقوق الله تعالى الغير المالية مثل كفارة اليمين واما حقوق العباد فلا يجبها الحج كذا فى حواشى ابن الشيخ ولكن روى ان الله تعالى استجاب دعاء النبى صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة فى الدماء والمظالم كذا فى الكافى وتفسير الفاتحة للفنارى وغيرهما { واتخذوا } اى وقلنا اتخذوا على ارادة القول لئلا يلزم عطف الانشاء على الخبار { من مقام ابراهيم مصلى } اى موضع الصلاة ومن للتبعيض ومقام ابراهيم الحجر الذى فيه اثر قدميه او الموضع الذى كان فيه حين قام عليه ودعا الناس الى الحج او حين رفع بناء البيت والذى يسمى اليوم مقام ابراهيم هو موضع ذلك الحجر روى انه لما اتى ابرهيم باسماعيل وهاجر ووضعهما بمكة واتت على ذلك مدة ونزلها الجرهميون وتزوج اسماعيل منهم امرأة وماتت هاجر استأذن ابراهيم سارة فى ان يأتى هاجر فاذنت له وشرطت عليه ان لا ينزل فقدم ابراهيم وقد ماتت هاجر فذهب الى بيت اسماعيل فقال لامرأته اين صاحبك قالت ذهب يتصيد وكان اسماعيل يخرج من الحرم فيصيد فقال لها ابراهيم هل عندك ضيافة قالت ليست عندى وسألها عن عيشهم فقالت نحن فى ضيق وشدة فشكت اليه فقال لها اذا جاء زوجك فاقرأيه السلام وقولى له فليغير عتبة بابه والمراد ليطلقك فانك لا تصلحين له امرأة وذهب ابراهيم فجاء اسماعيل فوجد ريح ابيه قال لامرأته هل جاءك احد قالت جاءنى شيخ صفته كذا وكذا كالمستخفة بشانه وقال فما قال لك قالت قال أقرئى زوجك السلام وقولى له فليغير عتبة بابه قال ذلك ابى وقد وقد امرنى ان افارقك الحقى باهلك فطلقها وتزوج منهم اخرى فلبث ابراهيم ما شاء الله ان يلبث ثم استأذن سارة فى ان يزور اسماعيل فاذنت له وشرطت عليه ان لا ينزل فجاء ابراهيم حتى انتهى الى باب اسماعيل فقال لامرأته اين صاحبك قالت ذهب يتصيد وهو يجيئ الآن ان شاء الله فانزل رحمك الله قال هل عندك ضيافة قالت نعم فجاءت باللبن واللحم وسألها عن عيشهم قالت نحن فى خير وسعة فدعا لهما بالبركة ولو جاءت يومئذ بخبز برّ او شعير تمر لكانت اكثر ارض الله برّا او شعيرا او تمرا وقالت له انزل حتى اغسل رأسك فلم ينزل فجاءت بالمقام فوضعته على شقه الايمن فوضع قدمه عليه وهو راكب فغسلت شق رأسه الايمن ثم حولته الى شقه الايسر فغسلت شق رأسه الايسر فبقى اثر قدميه عليه وقال لها اذا جاء زوجك فاقرئيه السلام وقولى له قد استقامت عتبة بابك فلما جاء اسماعيل وجد ريح ابيه فقال لامرأته هل جاءك احد قالت نعم جاء شيخ احسن الناس وجها واطيبهم ريحا فقال لى كذا وكذا وغسلت رأسه وهذا موضع قدميه فقال ذاك ابراهيم وانت عتبة بابى امرنى ان امسكك ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك واسماعيل يبرى نبلا تحت دوحة قريبة من زمزم فلما رآه قام اليه فصنع كما يصنع الولد بالوالد ثم قال يا اسماعيل ان الله امرنى بامر أتعيننىعليه قال اعينك عليه قال امرنى ان ابنى ههنا بيتا فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل اسماعيل يأتى بالحجارة وابراهيم يبنى فلما ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام ابراهيم على حجر المقام وهو يبنى واسماعيل يناوله الحجر وهما يقولان

(1/296)

{ ربنا تقبل منا انك انت السميع العليم } ثم لما فرغ من بناء الكعبة قيل له اذن فى الناس بالحج فقال كيف انادى وانا بين الجبال ولم يحضرنى احد فقال الله عليك النداء وعلىّ البلاغ فصعد ابا قبيس وصعد هذا الحجر وكان قد خبئ فى ابى قبيس ايام الطوفان فارتفع هذا الحجر حتى علا كل حجر فى الدنيا وجمع الله له الارض كالسفرة فنادى يا معشر المسلمين ان ربكم بنى لكم بيتا وامركم ان تحجوه فأجابه الناس من اصلاب الآباء وارحام الامهات فمن اجابه مرة حج مرة ومن اجابه عشرا حج عشرا وفى الحديث « ان الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة ولوا مماسة ايدى المشركين لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب » والمراد منهما الحجر الاسود والحجر الذى قام عليه ابراهيم عند بناء البيت { وعهدنا الى ابراهيم واسمعيل } اى امرناهما امرا مؤكدا ووصينا اليهما فان العهد قد يكون بمعنى الامر والوصية يقال عهد اليه اى امره ووصاه ومنه قوله تعالى { ألم اعهد اليكم } وانما سمى اسماعيل لان ابراهيم كان يدعو الى الله ان يرزقه ولدا ويقول اسمع يا ايل وايل هو الله فلما رزق سماه به { ان طهرا بيتى } اى بان طهراه من الاوثان والانجاس وما يليق به والمراد احفظاه من ان ينصب حوله شئ منها واقراه على طهارته كما فى قوله تعالى

(1/297)

{ ولهم فيها ازواج مطهرة } فانهن لم يطهرن من نجس بل خلقهن طاهرات كقولك للخياط وسع كم القميص فانك لا تريد ان تقول ازل ما فيه من الضيق بل المراد اصنعه ابتداء واسع الكم { للطائفين } الزائرين حوله { والعاكفين } المجاورين الذين عكفوا عنده اى اقاموا لا يرجعون وهذا فى اهل الحرم والاول فى الغرباء القادمين الى مكة للزيارة والطواف وان كان لا يختص بهم الا ان له مزيد اختصاص بهم من حيث ان مجاوزة الميقات لا تصح لهم الا بالاحرام { والركع السجود } اى المصلين جمع راكع وساجد لان القيام والركوع والسجود من هيآت المصلى ولتقارب الركوع والسجود ذاتا وزمانا ترك العاطف بين موصوفيهما والجلوس فى المسجد الحرام ناظرا الى الكعبة من جملة العبادات الشريفة المرضية كما قال عليه السلام « ان لله تعالى فى كل يوم عشرين ومائة رحمة تنزل على هذا البيت ستون للطائفين واربعون للمصلين وعشرون للناظرين »

واعلم انه تعالى لما قال { ان طهرا بيتى } دخل فيه بالمعنى جميع بيوته تعالى فيكون حكمها حكمه فى التطهير والنظافة وانما خص الكعبة بالذكر لانه لم يكن هناك غيرها

وروى عن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه انه سمع صوت رجل فى المسجد فقال ما هذا أتدرى اين انت وفى الحديث « ان الله اوحى الى يا اخا المنذرين يا اخا المرسلين انذر قومك ان لا يدخلوا بيتا من بيوتى الا بقلوب سليمة وألسنة صادقة وايدى نقية وفروج طاهرة ولا يدخلوا بيتا من بيوتى ما دام لاحد عندهم مظلمة فانى ألعنه ما دام قائما بين يدى حتى يرد تلك الظلامة الى اهلها فأكون سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويكون من اوليائى واصفيائى ويكون جارى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين » انتهى

ثم اعلم ان البيت الذى شرفه الله باضافته الى نفسه وهو بيت القلب فى الحقيقة يأمر الله تعالى بتطهيره من دنس الالتفات الى ما سواه فانه منظر لله كما قيل

دل بدست آور كه حج اكبرست ... از هزاران كعبه يك دل بهترست

كعبه بنياد خليل آزرست ... دل نظر كاه جليل اكبرست

فلا بد من تصفيته حتى تعكف عنده الانوار الآلهية والاسرار الرحمانية وتنزل السكينة والوقار فعند وصول العبد الى هذه الرتبة فقد سجد لربه حقيقة وركع وناجى مع الله بسره

(1/298)

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

{ واذ قال ابراهيم } اى واذكر يا محمد اذ دعا ابراهيم فقال يا { رب اجعل هذا } المكان وهو الحرم { بلدا آمنا } ذا امن يأمن فيه اهله من القحط والجدب والخسف والمسخ والزلازل والجنون والجذام والبرص ونحو ذلك من المثلات التى تحل بالبلاد فهو من باب النسب اى بلدا منسوبا الى الامن كلابن وتامر فانهما لنسبة موصوفهما الى مأخوذهما كأنه قيل لبنىّ وتمرىّ فالاسناد حقيقى او المعنى بلدا آمنا اهله فيكون من قبيل الاسناد المجازى لان الامن الذى هو صفة لاهل البلد حقيقة قد اسند الى مكانهم للملابسة بينهما وكان هذا الدعاء فى اول ما قدم ابراهيم عليه السلام مكة لانه لاما اسكن اسماعيل وهاجر هناك وعاد متوجها الى الشام تبعته هاجر فجعلت تقول الى من تكلنا فى هذا البلقع اى المكان الخالى من الماء والنبات وهو لا يرد عليها جوابا حتى قالت آلله امرك بهذا فقال نعم قالت اذا لا يضيعنا فرضيت ومضى حتى اذا استوى على ثنية كداء اقبل على الوادى فقال { رب انى اسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع } الى آخر الآية { وارزق اهله من الثمرات } جمع ثمرة وهى المأكولات مما يخرج من الارض والشجر فهو سؤال الطعام والفواكه وقيل هى الفواكه وانما خص هذا بالسؤال لان الطعام المعهود مما يكون فى كل موضع واما الفواكه فقد تندر فسأل لاهله الامن والسعة مما يطيب العيش ويدوم فاستجاب له فى ذلك لما روى انه لما دعا هذا الدعاء امر الله جبريل بنقل قرية من قرى فلسطين كثيرة الثمار اليها فاتى فقلعها وجاء بها وطاف بها حول البيت سبعا ثم وضعها على ثلاث مراحل من مكة وهى الطائف ولذلك سميت به ومنها اكثر ثمرات مكة ويجئ اليه ايضا من الاقطار الشاسعة حتى انه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية فى يوم واحد { من آمن منهم بالله واليوم الآخر } بدل من اهله والمعنى وارزق المؤمنين خاصة { قال } الله تعالى { ومن كفر } معطوف على محذوف اى ارزق من آمن ومن كفر قاس ابراهيم عليه الصلاة والسلام الرزق على الامامة حيث سأل الرزق لاجل المؤمنين خاصة كما خص الله تعالى الامامة بهم فى قوله تعالى { ا ينال عهدى الظالمين } فلما رد سؤاله الامامة فى حق ذريته على الاطلاق حسب ان يرد سؤاله الرزق فى حق اهل مكة على الاطلاق فلذلك قيد بالايمان تأدبا بالسؤال الاول فنبه سبحانه على ان الرزق رحمة دنيوية تعم المؤمن والكافر بخلاف الامامة والتقدم { فامتعه } اى امد له ليتناول من لذات الدنيا اثباتا للحجة عليه { قليلا } اى تمتيعا قليلا فان الدنيا بكليتها قليلة وما يتمتع الكافر به منها قليل من القليل فان نعتمه تعالى فى الدنيا وان كانت كثيرة باضافة بعضها الى بعض فانها قليلة باضافتها الى نعمة الآخرة وكيف لا يقل ما يتناهى بالاضافة الى ما لا يتناهى فقليلا صفة مصدر محذوف ويجوز ان يكون صفة ظرف محذوف اى امتعه زمانا قليلا وهو مدة حياته { ثم اضطره الى عذاب النار } الاضطرار فى اللغة حمل الانسان على ما يضره وهو فى المتعارف حمل الانسان بكفره على ان يفعل ما اكره عليه باختياره ترجيحا لكونه اهون منه فلا يكون اضطرارهم الى عذاب النار مستعملا فى معناه العرفى فهو مستعار للزهم والصاقهم به بحيث يتعذر عليهم التخلص منه كما قال تعالى

(1/299)

{ يوم يسحبون فى النار على وجوههم } فانه صريح فى ان لا مدخل لهم فى لحوق عذاب الآخرة بهم ولا اختيار الا انهم سموا مضطرين اليه مختارين اياه على كره تشبيها لهم بالمضطر الذى لا يملك الامتناع عما اضطر اليه فالمعنى الزه اليه لز المضطر لكفره وتضييعه ما متعته به من النعم بحيث لا يمكنه الامتناع منه { وبئس المصير } المخصوص بالذم محذوف اى بئس المرجع الذى يرجع اليه للاقامة فيه النار او عذابها فللعبد فى هذه الدنيا الفانية الامهال اياما دون الاهمال اذ كل نفس تجزى بما كسبت ولا تغرنك الزخارف الدنيوية فان للمطيع والعاصى نصيبا منها وليس ذلك من موجبات الرفعة فى الآخرة : قال الحافظ

بمهلتى كه سبهرت دهد ز راه مرو ... تراكه كفت كه آن زال ترك دستان كفت

قال تعالى { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } قال سهل فى معنى هذه الآية نمدهم بالنعم وننسيهم الشكر عليها فاذا ركنوا الى النعمة وحجبوا عن المنعم اخذوا

وقال ابو العباس بن عطاء يعنى كلما احدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة وانسيناهم الاستغفار من تلك الخطيئة فعلى العاقل ان لا يغتر بالزخارف الدنيوية بل لا يفرح بشئ سوى الله تعالى فان ما خلا الله باطل وزائل والاغترار بالزائل الفانى ليس من قضية كمال العقل والفهم والعرفان

فان قلت ما الحكمة فى امهال الله العصاة فى الدنيا قيل ان الله تعالى امهل عباده ولم يأخذهم بغتة فى الدنيا ليرى العباد سبحانه وتعالى ان العفو والاحسان احب اليه من الاخذ والانتقام وليعلموا شفقته وبره وكرمه ولهذا خلق لانار كرجل يضيف الناس ويقول من جاء الى ضيافتى اكرمته ومن لم يجئ فليس عليه شئ ويقول مضيف آخر من جاء الى اكرمته ومن لم يجئ ضربته وحبسته ليتبين غاية كرمه وهو اكمل واتم من الكرم الاول والله تعالى دعا الخلق الى دعوته بقوله { والله يدعوا الى دار السلام } ثم دفع السيف الى رسوله فقال من لم يجب ضيافتى فاقتله فعلى العاقل ان يجيب دعوة الله ويرجع الى الله بحسن اختياره فانه هو المقصود والكعبة الحقيقية وكل القوافل سائرة اليه

(1/300)

واعلم ان البلد هو الصورة الجسمانية والكعبة القلب والطواف الحقيقى هو طواف القلب بحضرة الربوبية وان البيت مثال ظاهر فى عالم الملك لتلك الحضرة التى لا تشاهد بالبصر وهو فى عالم الملكوت كما ان الهيكل الانسانى مثال ظاهر فى عالم الشهادة للقلب الذى لا يشاهد بالبصر وهو فى عالم الغيب والذى يقدر من العارفين على الطواف الحقيقى القلبى هو الذى يقال فى حقه ان الكعبة تزوره

وفى الخبر « ان لله عبادا تطوف بهم الكعبة » وفرق بين من يقصد صورة البيت وبين يقصد رب البيت وروى ان عارفا من اولياء الله تعالى قصد الحج وكان له ابن فقال ابنه الى اين تتقصد فقال الى بيت الله فظن الغلام ان من يرى البيت يرى رب البيت قال يا ابى لم لا تحملنى معك فقال انت لا تصلح لذلك فبكى الغلام فحمله معه فلما بلغا الميقات اجرما ولبيا ودخلا الحرم فلما شوهد البيت تحرم الغلام عند رؤيته فخر ميتا فدهش والده وقال اين ولدى وقطعة كبدى فنودى من زاوية البيت انت طلبت البيت فوجدته وهو طلب رب البيت فوجد رب البيت فرفع الغلام من بينهم فهتف هاتف انه ليس فى حيز ولا فى الارض ولا فى الجنة بل هو فى مقعد صدق عند مليك مقتدر فمن اعرض سره عن الجهة فى توجهه الى الله صار الحق قبلة له فيكون هو قبلة الجميع كآدم عليه السلام كان قبلة الملائكة لانه وسيلة الحق بينه وبين ملائكته لما عليه من كسوة جمالية وجلاله قال الشيخ العطار قدس سره فى منطق الطير

حق تعالى كفت آدم غير نيست ... كور جشمى و ترا اين سير نيست

شد نفخت فيه من روح آشكار ... سر جانان كشت بر خاك استوار

وقال فى محل آخر

از دم حق آمدى آدم تويى ... اصل كرمنا بنى آدم تويى

قبله كل آفر ينش آمدى ... باى تا سر عين بينش آمدى

اللهم اوصلنا الى العين وخلصنا من البين

(1/301)

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)

{ واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت } حكاية حال ماضية حيث عبر بلفظ المضارع عن الرفع الواقع فى الزمان المتقدم على زمان نزول الوحى بان يقدر ذلك الرفع السابق واقعا فى الحال كأنك تصوره للمخاطب وتريه على وجه المشاهدة والعيان

والقواعد جمع قاعدة وهى فى الاصل صفة بمعنى الثابتة ثم صارت بالغلبة من قبيل الاسماء بحيث لا يذكر لها موصوف ولا يقدر ولعل لفظ القعود حقيقة فى الهيئة المقابلة للقيام ومستعار للثبات والاستقرار تشبيها له بها فى ان كلا منهما حالة مباينة للانتقال والنزول

وقوله من البيت حال من القواعد وكلمة من ابتدائية لا بيانية لعدم صحة ان يقال التى هى البيت

فان قلت رفع الشئ ان يفصل عن الارض ويجعل عاليا مرتفعا والاساس ابدا ثابت على الارض فما معنى رفعه قلت المراد برفع الاساس البناء عليه وعبر عن البناء على الاساس برفعه لان البناء ينقله من هيئة الانخفاض الى هيئة الارتفاع فيوجد الرفع حقيقة الا ان اساس البيت واحد وعبر عنه بلفظ القواعد باعتبار اجزائه كأن كل جزء من الاساس اساس لما فوقه والمعنى واذكر يا محمد وقت رفع ابراهيم اساس البيت اى الكبعة { واسمعيل } ولده وكان له اربعة بنين اسماعيل واسحق ومدين ومداين وهو عطف على ابراهيم وتأخيره عن المفعول مع ان حق ما عطف على الفاعل ان يقدم على المفعول للايذان بان الاصل فى الرفع هو ابراهيم واسماعيل تبع له قيل انه كان يناوله الحجارة وهو يبنيها

واعلم ان رفع الاساس الذي هو البناء عليه يدل على ان البيت كان مؤسسا قبل ابراهيم وانه انما بنى على الاساس

واختلف الناس فيمن بنى البيت اولا وأسسه

فقيل هو الملائكة وذلك ان الله تعالى لما قال { انى جاعل فى الارض خليفة } قالت الملائكة { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } فغضب عليهم فعاذوا بعرشه وطافوا حوله سبعة اطواف يسترضون ربهم حتى رضى عنهم وقال لهم ابنوا لى بيتا فى الارض يتعوذ به من صخطت عليه من بنى آدم ويطوف حوله كما طفتم حول عرشى فأرضى عنهم فبنوا هذا البيت

وقيل ان الله بنى فى السماء بيتا وهو البيت المعمور ويسمى ضراحا وامر الملائكة ان يبنوا الكعبة فى الارض بحياله على قدره ومثاله

وقيل اول من بنى الكعبة آدم واندرست زمن الطوفان ثم اظهرها الله لابراهيم عليه السلام

روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما انه قال لما اهبط الله تعالى آدم من الجنة الى الارض قال له يا آدم اذهب فابن لى بيتا وطف به واذكرنى عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشى فاقبل آدم يتخطى وطويت له الارض وقبضت له المفاوز فلا يقع قدمه على شئ من الارض الا صار عامرا حتى انتهى الى موضع البيت الحرام وان جبرائيل ضرب بجناحه الارض فأبرز عن الاس الثابت على الارض السابعة السفلى وقدمت اليه الملائكة بالصخر فما يطيق حمل الصخرة منها ثلاثون رجلا وانه بناه من خمسة اجبل طور سيناء وطور زيتاء ولبنان وهو جبل بالشام والجودى وهو جبل بالجزيرة وحراء وهو جبل بمكة وكان ربضه من حراء اى الاساس المستدير بالبيت من الصخر فهذا بناء آدم

(1/302)

وروى ان الله خلق موضع البيت قبل الارض بالفى عام وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الارض من تحته فلما اهبط الله تعالى آدم الى الارض استوحش فشكا الى الله فانزل الله البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد اخضر باب شرقى وباب غربى فوضعه على موضع البيت وقال يا آدم انى اهبطت لك بيتا فطف به كما يطاف حول عرشى وصل عنده كما يصلى عند عرشى وانزل الحجر وكانت ابيض فاسود من لمس الحيض فى الجاهلية فتوجه آدم من ارض الهند الى مكة ماشيا وقيض الله له ملكا يدله على البيت

قيل لمجاهد لم لم يركب آدم من ارض الهند الى مكة قال وأى شئ كان يحمله ان خطوته مسيرة ثلاثة ايام فاتى مكة وحج البيت واقام المناسك فلما فرغ تلقته الملائكة فقالوا برّ حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بالفى عام قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما حج آدم اربعين حجة من الهند الى مكة على رجليه فبقى البيت يطوف به هو المؤمنون من ولده الى ايام الطوفان فرفعه الله فى تلك الايام الى السماء الرابعة يدخل كل يوم سبعون الف ملك ثم لا يعودون اليه وبعث الله جبرائيل حتى خبأ الحجر الاسود فى جبل ابى قبيس صيانة له من الغرق وكان موضع البيت خاليا الى زمن ابراهيم عليه السلام ثم ان الله امر ابراهيم ببناء بيت يذكر فيه فسأل الله تعالى ان يبين له موضعه فبعث الله السكينة لتدله على موضع البيت وهى ريح جوج لها رأسان شبه الحية وامر ابراهيم ان يبنى حيث استقر السكينة فتبعها ابراهيم حتى اتيا مكة فتطوت السكينة على موضع البيت اى تحوت وتجمعت واستدارت كتطوى الحجفة ودورانها فقالت لابراهيم ابن على موضعى الاساس فرفع البيت هو واسماعيل حتى انتهى الى موضع الحجر الاسود فقال لابنه يا بنى ائتنى بحجر ابيض حسن يكون للناس علما فاتاه بحجر فقال ائتنى باحسن من هذا فمضى اسماعيل يطلبه فصاح ابو قبيس يا ابراهيم ان لك عندى وديعة فخذها فاذا هو بحجر ابيض من ياقوت الجنة كان آدم قد نزل به من الجنة كما وجد فى بعض الروايات وانزله الله تعالى حين انزل البيت المعمور كما مر فاخذ ابراهيم ذلك الحجر فوضعه مكانه فلما رفع ابراهيم واسماعيل القواعد من البيت جاءت سحابة مربعة فيها رأس فنادت ان ارفعا على تربيعى فهذا بناء ابراهيم عليه السلام

(1/303)

وروى ان ابراهيم واسماعيل لما فرغا من بناء البيت اعطاهما الله تعالى الخيل جزاء معجلا على رفع قواعد البيت وكانت الخيل وحشية كسائر الوحوش فلما اذن الله لابراهيم واسماعيل برفع القواعد قال الله انى معطيكما كنزا ادخرته لكما ثم اوحى الى اسماعيل ان اخرج الى اجياد فادع يأتك الكنز فخرج الى اجياد ولا يدرى ما الدعاء ولا الكنز فالهمه الله فدعا فلم يبق على وجه الارض فرس بارض العرب الا جاءته فامكنه من ناصيتها وذللها له فاركبوها واعلفوها فانها ميامين وهى ميراث ابيكم اسماعيل وانما سمى الفرس عربيا لان اسماعيل هو الذى امر بدعائه وهو اتى اليه والعربى نسبة الى عربة بفتحتين وهى باحة العرب لان اباهم اسماعيل نشأ بها قيل كان ابراهيم يتكلم بالسريانية واسماعيل بالعربية وكل واحد منهما يفهم ما يقوله صاحبه ولا يمكنه التفوه به

واما بنيان قريش اياه فمشهور وخبر الحية فى ذلك مذكور وكانت تمنعهم من هدمه الى ان اجتمعت قريش فعجوا الى الله تعالى اى رفعوا اصواتهم وقالوا لم نراع وقد اردنا تشريف بيتك وتزيينه فان كنت ترضى بذلك ولا فما بدا لك فافعل فاسمعوا خواتا فى السماء والخوات دوى جناح الطير الضخم اى صوته فاذا هم بطائر اعظم من النسر اسود الظهر ابيض البطن والرجلين فغمز مخالبه فى قفا الحية ثم انطلق بها تجر ذنبها اعظم من كذا وكذا حتى انطلق بها الى اجياد فهدمتها قريش وجعلوا يبنونها بحجارة الوادى تحملها قريش على رقابها فرفعوها فى السماء عشرين ذراعا

وذكر عن الزهرى انهم بنوها حتى اذا بلغوا موضع الركن اختصمت قريش فى الركن أى القبائل تلى رفعه حتى شجر بينهم فقالوا حتى نحكم اول من يطلع علينا من هذه السكة فاصطلحوا على ذلك فاطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكموه فامر بالركن فوضع فى ثوب ثم امر سيد كل قبيلة فاعطاه ناحية من الثوب ثم ارتقى هو على البناء فرفعوا اليه الركن فاخذه من الثوب فوضعه فى مكانه قيل ان قريشا وجدوا فى الركن كتابا بالسريانية فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من اليهود فاذا فيه انا الله ذو مكة خلقتها يوم خلقت السموات والارض وصورت الشمس والقمر وحففتها بسبعة املاك احتفاء لا تزول حتى يزول اخشباها مبارك لاهلها فى الماء واللبن

وعن ابى جعفر كان باب الكعبة على عهد العماليق وجرهم وابراهيم بالارض حتى بنته قريش

(1/304)

وعن عائشة رضى الله تعالى عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدار أمن البيت هو قال نعم قلت فلم لم يدخلوه قال ان قومك قصرت بهم النفقة قلت فما شأن بابه مرتفعا قال فعل ذلك قومك ولولا حدثانهم بالجاهلية لهدمت الكعبة فألزق بابها بالارض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة اذرع من الحجر فان قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة فهذا بناء قريش ثم لما غزا اهل الشام عبد الله بن الزبير ووهت الكعبة من حريقهم هدمها ابن الزبير وبناها على ما اخبرته عائشة فجعل لها بابين بابا يدخلون منه وبابا يخرجون منه وزاد فيه مما يلى الحجر ست اذرع وكان طولها قبل ذلك ثمانى عشرة ذراعا ولما زاد فى البناء مما يلى الحجر استقصر ما كان من طولها تسع اذرع فلما قتل ابن الزبير امر الحجاج ان يقرر ما زاده ابن الزبير فى طولها وان ينقص ما زاده من الحجر ويردها الى ما بناها قريش وان يسد الباب الذى فتحه الى جانب الغرب

وروى ان هارون الرشيد ذكر لمالك بن انس انه يريد هدم ما بنى الحجاج من الكعبة وان يردها الى بناء ابن الزبير لما جاء عن النبى وامتثله ابن الزبير فقال له مالك ناشدتك الله يا امير المؤمنين ان لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك لا يشاء احد منهم الا نقض البيت وبناءه فتذهب الهيبة من صدور الناس

قالوا بنيت الكعبة عشر مرات بناء الملائكة وكان قبل خلق آدم عليه السلام وبناء آدم وبناء بنى آدم وبناء الخليل وبناء العمالقة وبناء جرهم وبناء قصى بن كلاب وبناء قريش وبناء عبد الله بن الزبير وبناء الحجاج بن يوسف وما كان ذلك بناء لكلها بل لجدار من جدرانها

وقال الحافظ السهيلى ان بناءها لم يكن فى الدهر الا خمس مرات الاولى حين بناها شيث عليه الصلاة والسلام وروى فى الخبر النبوى هذا البيت خامس خمسة عشر سبعة منها فى السماء الى العرش وسبعة منها الى تخوم الارض السفلى واعلى الذى يلى العرش البيت المعمور لكل بيت منها حرم كحرم هذا البيت لو سقط منها بيت سقط بعضها على بعض الى تخوم الارض السابعة ولكل بيت من اهل السماء ومن اهل الارض من يعمره كما يعمر هذا البيت ذكره المحدث الكازرونى فى مناسكه

وعن ابن عباس رضى الله عنهما لما كان العرش على الماء قبل خلق السموات والارض بعث الله ريحا فصفقت الماء فابرزت خشبة فى موضع البيت كأنها قبة على قدر البيت اليوم فدحا الله سبحانه من تحتها الارض فمادت ثم مادت فأوتدها بالجبال فكان اول جبل وضع فيها ابو قبيس ولذلك سميت مكة بام القرى

(1/305)

قال كعب بنى سليمان عليه السلام بيت المقدس على اساس قديم كما بنى ابراهيم الكعبة على اساس قديم وهو اساس الملائكة فى وجه الماء الى ان علا { ربنا } اى يرفعانها قائلين ربنا { تقبل منا } الدعاء وغيره من القرب والطاعات التى من جملتها ما هما بصدده من البناء وفرق بين القبول والتقبل بان التقبل لكونه على بناء التكلف انما يطلق حيث يكون العمل ناقصا لا يستحق ان يقبل الا على طريق التفضل والكرم ولفظ القبول لا دلالة فيه على هذا المعنى فاختيار لفظ التقبل اعتراف منهما بالعجز والانكسار والقصور فى العمل { انك انت السميع } لجميع المسموعات التى من جملتها دعاؤنا وتضرعنا { العليم } بكل المعلومات التى من زمرتها نياتنا فى جميع اعمالنا ودل هذا القول على انه لم يقع منهما تقصير بوجه ما فى اتيان المأمور به بل بذلا فى ذلك غاية ما فى وسعهما فان المقصر المتساهل كيف يتجاسر على ان يقول بأطلق لسان وارق جنان انك انت السميع العليم * ودلت الآية ايضا على ان الواجب على مأمور بعبادة وقربة اذا فرغ منها واداها كما امر بها وبذل فى ذلك ما فى وسعه ان يتضرع الى الله ويبتهل ليتقبل منه وان لا يرد عليه فيضيع سعيه وان لا يقطع القول بأن من ادى عبادة وطاعة تقبل منه لا محالة اذ لو كان هكذا لما كان لدعائهما بطريق التضرع ليقبل منهما معنى فالقبول والرد اليه تعالى ولا يجب عليه شئ

(1/306)

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)

{ ربنا واجعلنا مسلمين لك } اى مخلصين لك فالمراد بالمسلم من يجعل نفسه وذاته خالصا لله تعالى بان يجعل التذلل والتعظيم الواقع منه للسان والاركان والجنان خالصا له تعالى ولا يعظم معه تعالى غيره ويعتقد بأن ذاته وصفاته وافعاله خالصة له تعالى خلقا وملكا لا مدخل فى شئ منها لاحد سواه او المعنى واجعلنا مستسلمين لك منقادين بالرضى بكل ما قدرت وبترك المنازعة فى احكامك فان الاسلام اذا وصل باللام الجارة يكون بمعنى الاستسلام والانقياد والرضى بالقضاء

فان قلت لا شك انهما كانا مخلصين ومستسلمين فى زمان صدور هذا الدعاء منهما قلت المراد طلب الزيادة فى الاخلاص والاذعان او الثبات عليه فهذا تعليم منهما الناس الدعاء للتثبيت على الايمان فانهما لما سألا ذلك مع امنهما من زواله عنهما فكيف غيرهما مع خوفه وسألا ايضا الثبات على الانقياد فاجيبا الى ذلك حتى اسلم ابراهيم للالقاء فى النار واسماعيل للامر بالذبح { ومن ذريتنا امة مسلمة لك } اى واجعل بعض ذريتنا جماعة مخلصة لك بالعبادة والطاعة

وانما خص الذرية بالدعاء مع ان الانسب بحال اصحاب الهمم لا سيما الانبياء ان لا يخصوا ذريتهم بالدعاء لكنهما خصاهم لوجهين الاول كونهم احق بالشفقة كما فى قوله تعالى { قوا انفسكم واهليكم نارا } فدعوا لاولادهما ليكثر ثوابهما بهم وفى الحديث « ما من رجل من المسلمين يخلف من بعده ذرية يعبدون الله تعالى الا جعل الله له مثل اجورهم ما عبد الله منهم عابد حتى تقوم الساعة » والثانى انه وان كان تخصيصا صورة الا انه تعميم معنى لان صلاح اولاد الانبياء سبب وطريق لصلاح لعامة فكأنهما قالا واصلح عامة عبادك باصلاح بعض ذريتنا وخصا البعض من ذريتهما لما علما ان من ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين وطريق علمها بذلك امر ان تنصيص الله تعالى بذلك بقوله { لا ينال عهدى الظالمين } والاستدلال بان حكمة الله تعالى تقتضى ان لا يخلو العالم عن افاضل واوساط وارذال فالافاضل هم اهل الله الذين هم اخلصوا انفسهم لله بالاقبال الكلى عليه والاوساط هم اهل الآخرة الذين يجتنبون المنكرات ويواظبون على الطاعات رغبة فى نيل المثوبات والارذال هم اهل الدنيا الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون جل همتهم عمارة الدنيا وتهيئة اسبابها

وقد قيل عمارة الدنيا بثلاثة اشياء احدها الزراعة والغرس والثانى الحماية والحرب والثالث جلب الاشياء من مصر الى مصر

ومن اكب على هذه الاشياء ونسى الموت والبعث والحساب وسعى لعمارة الدنيا سعيا بليغا ودقق فى اعمال فكره تدقيقا عجيبا فهو متوغل فى الجهل والحماقة ولهذا قيل لولا الحمقى لخربت الدنيا : وفى المثنوى

اين جهان ويران شدى اندرزمان ... حرصها بيرون شدى ازمردمان

استن اين عالم اى جان غفلتست ... هو شيارى اين جهان را آفتست

هو شيارى زان جهانست وجو آن ... غالب آيدبست كردد اين جهان

هو شيارى آفتاب وحرص يخ ... هو شيارى آب واين عالم وسخ

(1/307)

{ وارنا مناسكنا } جمع منسك بفتح السين وكسرها اى بصرنا مواضع نسكنا او عرفنا مقتدراتنا اى المواضع التى يتعلق بها النسك اى افعال الحج نحو المواقيت التى يحرم منها والموضع الذى يوقف فيه بعرفة وموضع الطواف والصفا والمروة وما بينهما من المسعى وموضع رمى الجمار ويحتمل ان يراد بالمناسك ههنا افعال الحج نفسها لا مواضعها على ان يكون المنسك مصدر لا اسم مكان ويكون جمعه لاختلاف انواعه ويكون ارنا بمعنى عرفنا لان نفس الافعال لا تدرك بالبصر بل ترى بعين القلب والنسك كل ما يتعبد به الى الله وشاع فى اعمال الحج لكونها اشق الاعمال بحيث لا تتأتى الا بمزيد سعى واجتهاد { وتب علينا } عما فرط منا سهوا من الصغائر ومن ترك الاولى وتجاوز عن ذنوب ذريتنا من الكبائر ولعلهما قالاه هضما لانفسهما وارشادا لذريتهما فانهما لما بنيا البيت ارادا ان يسنا للناس ويعرفاهم ان ذلك البيت وما يتبعه من المناسك والمواقف امكنة التفصى من الذنوب وطلب التوبة من علام الغيوب { انك انت التواب الرحيم } لمن تاب اصل التوبة الرجوع وتوبة الله على العبد قبوله توبته وان يخلق الانابة والرجوع فى قلب المسئ ويزين جوارحه الظاهرة بالطاعات بعد ما لوثها بالمعاصى والخطيآت وتواب من صيغ المبالغة اطلق عليه تعالى للمبالغة فى صدور الفعل منه وكثرة قبوله توبة المذنبين لكثرة من يتوب اليه

(1/308)

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)

{ ربنا وابعث فيهم } اى فى جماعة الامة المسلمة من اولادنا { رسولا منهم } اى من انفسهم فان البعث فيهم لا يستلزم البعث منهم ولم يبعث من ذريتهما غير النبى صلى الله عليه وسلم فهو الذى اجيب به دعوتهما روى انه قيل له قد استجيب لك وهو فى آخر الزمان وفى الحديث « انى عند الله مكتوب خاتم النبيين وان آدم لمجدل فى طينته وسأخبركم بأول امرى انى دعوة ابى ابراهيم وبشارة عيسى ورؤيا امى التى رأت حين وضعتنى وقد خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام » واراد بدعوة ابراهيم هذا فانه دعا الله ان يبعث فى بنى اسرائيل رسولا منهم { يتلو عليهم آياتك } يقرأ عليهم ويبلغهم ما يوحى اليه من دلائل التوحيد والنبوة { ويعلمهم } بسب قوتهم النظرية { الكتاب } اى القرآن { والحكمة } وما يكمل به نفوسهم من المعارف الحقة والاحكام الشرعية

قال ابن دريد كل كلمة وعظتك او دعتك الى مكرمة او نهتك عن قبيح فهى حكمة { ويزكيهم } بحسب قوتهم العملية اى يطهرهم من دنس الشرك وفنون المعاصى سواء كانت بترك الواجبات او بفعل المنكرات ثم ان ابراهيم عليه السلام لما ذكر هذه الدعوات الثلاث ختمها بالثناء على الله تعالى فقال { انك انت العزيز } الذى يقهر ويغلب على ما يريد { الحكيم } الذى لا يفعل الا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة فهو عزيز حكيم بذاته وكل ما سواه ذليل جاهل فى نفسه

قال الامام الغزالى قدس سره فى شرح الاسماء الحسنى العزيز هو الخطير الذى يقل وجود مثله وتشتد الحاجة اليه ويصعب الوصول اليه فما لم تجتمع هذه المعانى الثلاثة لم يطلق العزيز فكم من شئ يقل وجوده ولكن اذا لم يعظم خطره ولم يكثر نفعه لم يسم عزيزا وكم من شئ يعظم خطره ويكثر نفعه ولا يوجد نظيره ولكن اذا لم يصعب الوصول اليه لم يسم عزيزا كالشمس مثلا فانها لا نظير لها والارض كذلك والنفع عظيم فى كل واحدة منهما والحاجة شديدة اليهما ولكن لا توصفان بالعزة لانه لا يصعب الوصول الى مشاهدتهما فلا بد من اجتماع المعانى الثلاثة

ثم فى كل من المعانى الثلاثة كمال ونقصان فالكمال فى قلة الوجود ان يرجع الى واحد اذ لا اقل من الواحد ويكون بحيث يستحيل وجود مثله وليس هذا الا الله تعالى فان الشمس وان كانت واحدة فى الوجود فليست واحدة فى الامكان فيمكن وجود مثلها والكمال فى النفاسة وشدة الحاجة ان يحتاج اليه كل شئ فى كل شئ حتى فى وجوده وبقائه وصفاته وليس ذلك الكمال الا لله تعالى فهو العزيز المطلق الحق الذى لا يوازيه فيه غيره والعزيز من العباد من يحتاج اليه عباد الله فى اهم امورهم وهى الحياة الاخروية والسعادة الابدية وذلك مما يقل لا محالة وجوده ويصعب ادراكه وهذه رتبة الانبياء عليهم السلام ويشاركهم فى العز من يتفرد بالقرب من درجتهم فى عصره كالخلفاء وورثتهم من العلماء وعزة كل واحد بقدر علو رتبته عن سواه فى النيل والمشاركة وبقدر عنائه فى ارشاد الخلق والحق ذو الحكمة والحكمة عبارة عن معرفة افضل الاشياء باجل العلوم واجل الاشياء هو الله تعالى ولا يعرف كنه معرفته غيره فهو الحكيم المطلق لانه يعلم اجل الاشياء باجل العلوم اذ اجل العلوم هو العلم الازلى الدائم الذى لا يتصور زواله المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق اليها خفاء وشبهة ولا يتصف بذلك الا علم الله تعالى وقد يقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويحكمها ويتقن صنعتها حكيما وكمال ذلك ايضا ليس الا لله تعالى فهو الحكيم المطلق ومن عرف جميع الاشياء ولم يعرف الله تعالى لم يستحق ان يسمى حكيما لانه لم يعرف اجل الاشياء وافضلها والحكمة اجل العلوم وجلالة العلم بقدر جلالة المعلوم ولا اجل من الله ومن عرف الله فهو حكيم وان كان ضعيف المنة فى سائر العلوم الرسمية كليل اللسان قاصر البيان فيها الا ان نسبة حكمة العبد الى حكمة الله تعالى كنسبة معرفته الى معرفته بذاته وشتان بين المعرفتين فشتان بين الحكمتين ولكنه مع بعده عنه فهو انفس المعارف واكثرها خيرا ومن اوتى الحكمة فقد اوتى خيرا كثيرا وما يتذكر الا اولوا الالباب نعم من عرف الله كان كلامه مخالفا لكلام غيره فانه قلما يتعرض للجزئيات بل يكون كلامه جمليا ولا يتعرض لمصالح العاجلة بل يتعرض لما ينفع فى العاقبة ولما كانت الكلمات الكلية اظهر عند الناس من احوال الحكيم من معرفته بالله ربما اطلق الناس اسم الحكمة على مثل تلك الكلمات الكلية ويقال للناطق بها حكيم وذلك مثل قول سيد الانبياء عليه السلام .

(1/309)

رأس الحكمة مخافة الله . الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله . ما قل وكفى خير مما كثر والهى . السعيد من وعظ بغيره . القناعة مال ينفد . الصبر نصف الايمان . اليقين الايمان كله . فهذه الكلمات وامثالها تسمى حكمة وصاحبها يسمى حكيما انتهى كلام الغزالى

ثم ان فى الآية اشارة الى ان فى ارسال الرسل حكمة اى مصلحة وعاقبة حميدة لان عمارة الظاهر وانارة الباطن ونظام العالم بهم لا بغيرهم ولورثتهم من الاولياء الكاملين حظ اوفى فى باب التزكية فلا بد للعبد من دليل ومرشد يهتدى به الى مقصوده ومن لم يكن له شيخ فشيخه الشيطان : قال الحافظ

بكوى عشق منه بى دليل راه قدم ... كه من بخويش نمودم صد اهتمام ونشد

والمرشد الكامل يزكى نفس السالك باذن الله ويطهرها من دنس الالتفات الى ما سوى الله ويتلو عليه الآيات الانفسية والآفاقية ليكون من الموقنين ويغتنم النعيم الروحانى ويدخل فى زمرة الصديقين فقوله تعالى { ويزكيهم } يشير الى السلوك والتسليك فاحفظ هذا وليكن على ذكر منك اللهم احفظنا من الموانع فى طريق الوصول اليك فان كل رجاء فى حيز القبول لديك

(1/310)

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)

{ ومن يرغب عن ملة ابراهيم } من استفهامية قصد بها الانكار والتقريع ورغب فى الشىء اذا اراده ورغب عنه اذا تركه اى لا يترك دين ابراهيم احد ولا يعرض عن شريعته وطريقته { الا من سفه نفسه } اى اذلها وجعلها مهينا حقيرا فانتصاب نفسه على انه مفعول به روى ان عبد الله ابن سلام دعا ابنى اخيه سلمة ومهاجرا الى الاسلام فقال لهما قد علمتما ان الله تعالى قال فى التوراة انى باعث من ولد اسماعيل نبيا اسمه احمد فمن آمن به فقد اهتدى ومن لم يؤمن به فهو ملعون فاسلم سلمة وابى مهاجر فانزل الله هذه الآية { ولقد اصطفيناه فى الدنيا } اى وبالله لقد اخترنا ابراهيم فى الدنيا من بين سائر الخلق بالنبوة والحكمة { وانه فى الآخرة } متعلق بقوله { لمن الصالحين } اى من المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح فمن كان صفوة العباد فى الدنيا مشهودا له فى الآخرة بالصلاح كان حقيقا بالاتباع لا يرغب عن ملته الا سفيه اى فى اصل خلقته او متسفه يتكلف السفاهة بمباشرة افعال السفهاء باختيار فيذل نفسه بالجهل والاعراض عن النظر والتأمل فقوله { وانه فى الآخرة لمن الصالحين } بشارة له فى الدنيا بصلاح الخاتمة ووعد له بذلك وكم من صالح فى اول حاله ذهب صلاحه فى مآله وكان فى الآخرة لعذابه ونكاله كبلعم وبرصيصا وقارون وثعلبة

(1/311)

إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)

{ اذ قال له } ظرف لاصطفيناه وتعليل له اى اخترناه فى وقت قال له { ربه اسلم } اى اخلص دينك لربك واستقم على الاسلام واثبت عليه وذلك يحن خرج من الغار ونظر الى الكواكب والقمر والشمس فألهمه الله الاخلاص { قال اسلمت لرب العالمين } اى اخلصت دينى له كقوله { انى وجهت وجهى للذى فطر السموات والارض } الآية وقد امتثل ما امر به من الاخلاص والاستسلام واقام على ما قال فسلم القلب والنفس والولد والمال ولما قال له جبريل حين القى فى النار هل لك من حاجة فقال أما اليك فلا فقال ألا تسأل ربك فقال حبسى بسؤالى علمه بحالى

قال اهل التفسير ان ابراهيم ولد فى زمن النمرود بن كنعان وكان النمرود اول من وضع التاج على رأسه ودعا الناس الى عبادته وكان له كهان ومنجمون فقالوا له انه يولد فى بلدك فى هذه السنة غلام يغير دين اهل الارض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه قالوا فامر بذبح كل غلام يولد فى ناحيته فى تلك السنة فلما دنت ولادة ام ابراهيم واخذها المخاض خرجت هاربة مخافة ان يطلع عليها فيقتل ولدها فولدته فى نهر يابس ثم لفته فى خرقة ووضعته فى حلفاء وهو نبت فى الماء يقال له بالتركى « حصير قمشى » ثم رجعت فأخبرت زوجها بانها ولدت وان الولد فى موضع كذا فانطلق ابوه فاخذه من ذلك المكان وحفر له سربا اى بيتا فى الارض كالمغارة فواراه فيه وسد عليه بابه بصخرة مخافة السباع وكانت امه تختلف اليه فترضعه وكان اليوم على ابراهيم فى الشباب والقوة كالشهر فى حق سائر الصبيان والشهر كالسنة فلم يمكث فى المغارة الا خمسة عشر شهرا او سبع سنين او اكثر من ذلك فلما شب ابراهيم فى السرب قال لامه من ربى قالت انا قال فمن ربك قالت ابوك قال فمن رب ابى قالت اسكت ثم رجعت الى زوجها فقالت أرأيت الغلام الذى كنا نحدث انه يغير دين اهل الارض فانه ابنك ثم اخبرته بما قال فاتى ابوه آزر قوال له ابراهيم يا أبتاه من ربى قال امك قال فمن رب امى قال انا قال فمن ربك قال النمرود قال فمن رب النمرود فلطمه لطمة وقال له اسكت فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة فرأى السماء وما فيها من الكواكب فتفكر فى خلق السموات والارض فقال ان الذين خلقنى ورزقنى واطعمنى وسقانى رب الذى مالى اله غيره ثم نظر فى السماء فرأى كوكبا قال هذا ربى ثم اتبعه بصره ينظر اليه حتى غاب فلما افل قال لا احب الآفلين ثم رأى القمر ثم الشمس فقال فيهما كما قال فى حق الكواكب

(1/312)

ثم انهم اختلفوا فى قوله ذلك فارجاه بعضهم على الظاهر وقالوا كان ابراهيم فى ذلك الوقت مسترشدا طالبا للتوحيد حتى وفقه الله اليه وارشده فلم يضره ذلك فى الاستدلال وايضا كان ذلك فى حال طفوليته قبل ان يجرى عليه القلم فلم يكن كفرا وانكر الآخرون هذا القول وقالوا كيف يتصور من مثله ان يرى كوكبا ويقول هذا ربى معتقدا فهذا لا يكون ابدا ثم اولوا قوله ذلك بوجوه مذكورة فى سورة الانعام للامام محيى السنة

والحاصل ان ابراهيم مستسلم للرب الكريم وانه على الصراط المستقيم لا يرغب عن طريقته الا من سفه نفسه اى لم يتفكر فيها كما تفكر ابراهيم فى الانفس والآفاق قال تعالى { وفى انفسكم أفلا تبصرون } والسفاهة الجهل وضعف الرأى وكل سفيه جاهل وذلك ان من عبد غير الله فقد جهل نفسه لانه لم يعرف الله خالقها وقد جاء فى الحديث « من عرف نفسه فقد عرف ربه » وفى الاخبار « ان الله تعالى اوحى الى داود اعرف نفسك بالضعف والعجز والفناء واعرفنى بالقوة والقدرة والبقاء » وفى المثنوى

جيست تعظيم خدا افراشتن ... خويشتن را خاك وخوارى داشتن

جيست توحيد خدا آموختن ... خويشتن را بيش واحد سوختن

هستيت درهست آن هستى نواز ... همجو مس در كيميا اندر كداز

جملة معشوقست وعاشق برده ... زنده معشوقست وعاشق مرده

(1/313)

وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)

{ ووصى } لما كمل ابراهيم عليه السلام فى نفسه كمل غيره بالتوصية وهو تقديم ما فيه خير وصلاح من قول او فعل الى الغير على وجه التفضل والاحسان سواء كان امرا دينيا او دنيويا { بها } اى بالملة المذكورة فى قوله تعالى { ومن يرغب عن ملة ابراهيم } { ابراهيم بنيه } اى اولاده الذكور الثمانية عند البعض اسماعيل وامه هاجر القبطية واسحق وامه سارة وستة امهم قنطورا بنت يقطن الكنعانية تزوجها ابراهيم بعد وفاة سارة وهم مدين ومداين وزمران ويقشان ويشبق ونوح { ويعقوب } رفع عطف على ابراهيم اى وصى يعقوب ايضا وهو ابن اسحق بن ابراهيم بنيه الاثنى عشر روميل وشمعون ولاوى ويهودا ويستسوخور وزبولون وزوانا ونفتونا وكوزا واوشير وبنيامين ويوسف

وسمى يعقوب لانه مع اخيه عيصو كانا توأمين فتقدم عيصو فى الخروج من بطن امه وخرج يعقوب على اثره آخذا بعقبه وذلك ان ام يعقوب حملت فى بطن واحد بولدين توأمين فلما تكامل عدة اشهر الحمل وجاء وقت الوضع تكلما فى بطنها وهى تسمع فقال احدهما للآخر طرق لى حتى اخرج قبلك وقال الآخر لئن خرجت قبلى لاشقن بطنها حتى اخرج من خصرها فقال الآخر اخرج قبلى ولا تقتل امى قال فخرج الاول فسمته عيصو لانه عصاها فى بطنها وخرج الثانى وقد امسك بعقبه فسمته يعقوب فنشأ عيصو بالغلظة والفظاظة صاحب صيد وقنص ويعقوب بالرحمة اللين صاحب زرع وماشية

وروى انهما ماتا فى يوم واحد ودفنا فى قبر واحد قيل عاش يعقوب مائة وسبعا واربعين سنة ومات بمصر واوصى ان يحمل الى الارض المقدسة ويدفن عند ابيه اسحق فحمه يوسف فدفنه عنده { يا بنى } على اضمار القول عند البصريين تقديره وصى وقال يا بنى وذلك لان يا بنى جملة والجملة لا تقع مفعولا الا لافعال القلوب او فعل القول عندهم { ان الله اصطفى لكم الدين } اى دين الاسلام الذى هو صفوة الاديان ولا دين عنده غيره { فلا تموتن } اى لا يصادفكم الموت { الا وانتم مسلمون } اى مخلصون بالتوحيد محسنون بربكم الظن وهذا نهى عن الموت فى الظاهر وفى الحقيقة عن ترك الاسلام لان الموت ليس فى ايديهم وذلك حين دخل يعقوب مصر فرأى اهلها يعبدون الاصنام فاوصى بنيه بان يثبتوا على الاسلام فان موتهم لا على حال الثبات على الاسلام موت لا خير فيه وانه ليس بموت السعداء وان من حق هذا الموت ان لا يحل فيهم وتخصيص الابناء بهذه الوصية مع انه معلوم من حال ابراهيم انه كان يدعو الكل ابدا الى الاسلام والدين وللدلالة على ان امر الاسلام اولى الامور بالاهتمام حيث وصى به اقرب الناس اليه واحراهم بالشفقة والمحبة وارادة الخير مع ان صلاح ابنائه سبب لصلاح العامة لان المتبوع اذا صلح فى جميع احواله صلح التابع

(1/314)

روى انه لما نزل قوله تعالى { وانذر عشيرتك الاقربين } جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم اقاربه وانذرهم فقال « يا بنى كعب بن لوى انقذوا انفسكم من النار يا بنى مرة بن كعب انقذوا انفسكم من النار يا بنى عبد شمس انقذوا انفسكم من النار يا بنى هاشم انقذوا انفسكم من النار يا بنى عبد المطلب انقذوا انفسكم من النار يا فاطمة انقذى نفسك من النار فانى لا املك لكم من الله شيأ » يعنى لا اقدر على دفع مكروه عنكم فى الآخرة ان اراد الله ان يعذبكم وانما اشفع لمن اذن الله لى فيه وانما يأذن لى اذا لم يرد تعذيبه انما قال عليه السلام فى حقهم هكذا لترغيبهم فى الايمان والعمل لئلا يعتمدوا على قرابته ويتهاونوا ولا بد من الوصية والتحذير فىباب الدين لان الانسان اذا انس باهل الشر يخاف ان يتخلق باخلاقهم ويعمل عملهم فيجره ذلك الهوى الى الهاوية كما قيل

نفس از همنفس بكيرد خوى ... بر حذر باش از لقاى خبيث

باد جون برفضاى بد كذرد ... بوى بد كيرد از هواى خبيث

وكتب ابو عبيد الصورى الى بعض اخوانه اما بعد فانك قد اصبحت تأمل الدنيا بطول عمرك وتتمنى على الله الامانى بسوء فعلك وانما تضرب حديدا باردا والسلام وحسن الظن بالله تعالى انما يعتبر بعد اصلاح الحال بالاخلاق والاعمال

قال الحسن ان قوما ألهتهم الامانى حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة يقول احدهم انى احسن الظن بربى وكذب لو احسن الظن لاحسن العمل وتلا قوله تعالى { وذلكم ظنكم } الآية اللهم وفقنا للعلم والعمل قبل الاجل

(1/315)

أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)

{ ام كنتم شهداء } لاهل الكتاب الراغبين عن ملة ابراهيم عليه السلام وام منقطعة مقدرة ببل والهمزة

قال فى التيسير ام اذا لم يتقدمها الف الاستفهام كانت بمنزلة مجرد الاستفهام ومعنى الهمزة فيها الانكار يعنى أكنتم شهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر يريد ما كنتم حاضرين ومعنى الهمزة فيها الانكار يعنى أكنتم شهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر يريد ما كنتم حاضرين { اذ حضر يعقوب الموت } اى اماراته واسبابه وقرب خروجه من الدنيا نزلت حين قالت اليهود للنبى عليه السلام ألست تعلم ان يعقوب اوصى بنيه باليهودية يوم مات فقال تعالى ما كنتم حاضرين حين احتضر يعقوب وقال لبنيه ما قال والا لما ادعيتم عليه اليهودية ولكان حرضكم على ملة الاسلام { اذ قال لبنيه } بدل من اذ حضر والعامل فيها شهداء { ما تعبدون من بعدى } اى أى شىء تعبدونه بعد موتى اراد به تقريرهم على التوحيد والاسلام واخذ ميثاقهم على الثبات عليهما

قال الراغب لم يعن بقوله ما تعبدون من بعدى العبادة المشروعة فقط وانما عنى ان يكون مقصودهم فى جميع الاعمال وجه الله تعالى ومرضاته وان يتباعدوا عما لا يتوسل به اليها وكأنه دعاهم الى ان لا يتحروا فى اعمالهم غير وجه الله تعالى ولم يخف عليهم الاشتغال بعبادة الاصنام وانما خاف ان تشغلهم دنياهم ولهذا قيل ما قطعك عن الله فهو طاغوت ولهذا قال واجنبنى وبنى ان نعبد الاصنام اى ان نخدم ما دون الله قال فى المثنوى

جيست دنيا از خدا غافل شدن ... نى قماش ونقره وفرزند و وزن

قال التحرير التفتازائى وما عام اى يصح اطلاقه على ذى العقل وغيره عند الابهام سواء كان للاستفهام ام غيره واذا علم ان الشى من ذى العقل والعلم فرق بمن وما فيخص من بذى العلم وما بغيره وبهذا الاعتبار يقال ان ما لغير العقلاء انتهى كلامه وتم الانكار عليهم عند قوله ما تعبدون من بعدى ثم استأنف وبين ان الامر قد جرى على خلاف ما زعموا فقال { قالوا } كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك فقيل قالوا { نعبد آلهك واله آبائك ابراهيم واسمعيل واسحق } اى نعبد الآله المتفق على وجوده وآلهيته ووجوب عبادته وجعل اسماعيل وهو عمه من جملة الآباء تغليبا للاب والجد لان العم أب والخالة أم لانخراطهما فى سلك واحد وهو الاخوة لا تفاوت بينهما ومنه قوله عليه السلام « عم الرجل صنو أبيه » اى لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنوى النخلة { آلها واحدا } بدل من اله آبائك وفائدته التصريح بالتوحيد ودفع التوهم الناشئ من تكرر المضاف او نصب على الاختصاص كأنه قيل نريد ونعنى بآله آبائك آلها واحدا { ونحن له مسلمون } حال من فاعل نعبد

(1/316)

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)

{ تلك } اشارة الى الامة المذكورة التى هى ابراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون { امة } هى فى الاصل المقصود كالعهدة بمعنى المعهود وسمى بها الجماعة لان فرق الناس تؤمنها اى يقصدونها ويقتدون بها وهى خبر تلك { قد خلت } اى مضت بالموت وانفردت عمن عداها واصله صارت الى الخلاء وهى الارض التى لا انيس بها والجملة نعت لامة { لها ما كسبت } تقديم المسند لقصره على المسند اليه اى لها كسبها لا كسب غيرها { ولكم ما كسبتم } لا كسب غيركم { ولا تسئلون عما كانوا يعملون } اى لا تؤاخذون بسيآت الامة الماضية كما فى قوله ولا تسألون عما اجرمنا كما لا تثابون بحسناتهم فلكل اجر عمله وذلك لما ادعى اليهود ان يعقوب عليه السلام مات على اليهودية وانه عليه السلام وصى بها بنيه يوم مات وردوا بقوله تعالى { أم كنتم شهداء } الآية قالوا هب ان الامر كذلك أليسوا آباءنا واليهم ينتمى نسبنا فلا جرم ننتفع بصلاحهم ومنزلتهم عند الله تعالى قالوا ذلك مفتخرين باوآئلهم فردوا بانهم لا ينفعهم انتسابهم اليهم وانما ينفعهم اتباعهم فى الاعمال فان احدا لا ينفعه كسب غيره كما قال عليه السلام « يا بنى هاشم لا يأتينى الناس باعمالهم وتأتونى بانسابكم » وقال عليه السلام « من ابطأ به عمله لم يسرع به نسبه » يعنى من اخره فى الآخرة عمله السيئ او تفريطه فى العمل الصالح لم ينفعه شرف نسبه ولم تنجبر نقيصته به قال الشاعر

أتفخر باتصالك من على ... واصل البؤسة الماء القراح

وليس بنافع نسب زكى ... يدنسه صنائعك القباح

والابناء وان كانوا يتشرفون بشرف آبائهم الا انه اذا نفخ فى الصور فلا أنساب والافتخار بمثل هذا كالافتخار بمتاع غيره وانه من الجنون فلا بد من كسب العمل والاخلاص فيه فانه المنجى بفضل الله تعالى وجاء فى حديث طويل وهو ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « انى رأيت البارحة عجبا رأيت رجلا من امتى جاءه ملك الموت ليقبض روحه فجاء بره لوالديه فرده عنه ورأيت رجلا من امتى قد بسط عليه عذاب القبر فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك ورأيت رجلا من امتى قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر الله فخلصه من بينهم ورأيت رجلا من امتى قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من ايديهم ورأيت رجلا من امتى يلهث عطشا كلما ورد حوضا منع منه فجاءه صيامه فسقاه وأرواه ورأيت رجلا من امتى والنبيون قعود حلقا حلقا كلما دنا لحلقة طرد فجاءه اغتساله من الجنابة فاخذ بيده واقعده الى جنبى ورأيت رجلا من امتى بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن شماله ظلمة ومن فوقه ظلمة ومن تحته ظلمة فهو متحير فجاءته حجته وعمرته فاستخرجتاه من الظلمة وادخلتاه فى النورورأيت رجلا من امتى يكلم المؤمنين فلا يكلمونه فجاءته صلة الرحم فقالت يا معشر المؤمنين كلموه كلموه ورأيت رجلا من امتى يتقى وهج النار وشررها بيده عن وجهه فجاءته صدقته فصارت سترا على وجهه وظلا على رأسه ورأيت رجلا من امتى قد اخذته الزبانية من كل مكان فجاءه امره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذاه من ايديهم وادخلاه مع ملائكة الرحمة ورأيت رجلا من امتى جاثيا على ركبتيه بينه وبين الله حجار فجاءه حسن خلقه فاخذ بيده فادخله على الله ورأيت رجلا من امتى قد هوت صحيفته من قبل شماله فجاءه خوفه من الله فاخذ صحيفته فجعلها فى يمينه ورأيت رجلا من امتى قد خف ميزانه فجاءته افراطه فثقلوا ميزانه ورأيت رجلا من امتى قائما على شفير جهنم فجاءه وجله من الله فاستنقذه من ذلك ومضى ورأيت رجلا من امتى اهوى فى النار فجاءته دموعه التى بكى بها من خشية الله فاستخرجته من النار ورأيت رجلا من امتى قائما على الصراط يرعد كما ترعد السعفة فجاءه حسن ظنه بالله فسكن رعدته ومضى ورأيت رجلا من امتى على الصراط يزحف احيانا ويحبو احيانا ويتعلق احيانا فجاءته صلاته على فاخذت بيده واقامته ومضى على الصراط ورأيت رجلا من امتى انتهى الى ابواب الجنة فغلقت الابواب دونه فجاءته شهادة ان لا اله الا الله ففتحت له الابواب وادخلته الجنة »

(1/317)

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من قال لا اله الا الله مخلصا دخل الجنة » قيل يا رسول الله وما اخلاصها قال « ان تحجزه عن محارم الله » فعلم من هذا التفصيل ان الخلاص وان كان بفضل الله تعالى لكنه منوط بالاعمال الصالحة فالقرابة لا تغنى شيأ اذا فسد العمل واما قول من قال اذا طاب اصل المرء طابت فروعه فباعتبار الغالب فان من عادته تعالى ان يخرج الحى من الميت والميت من الحى ونعم ما قيل

اصل را اعتبار جندان نيست ... روى تر كل زخار خندان نيست

مى زغوره شود شكر ازنى ... عسل ازنحل حاصلست بقى

والعود الذى تفوح رائحته وان كان فى الاصل شجرة كسائر الاشجار الا انه لما كان له استعداد لتلك المرتبة وحصل ذلك بالتربية فاق على الاقران وخرج من جنس الاصل وكذا المسك فان اصله دم وكم من نسيب يعود على اصله بالعكس فيظهر فيه اثر الصلاح الباطن فى ابيه ان كان اى ابوه فاسقا او الفساد الباطن فيه ان كان صالحا وكم من فرع يميل الى اصله على وجه فانظر حال آدم عليه السلام وولديه هابيل وقابيل ومن بعدهم الى قيام الساعة

(1/318)

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)

{ وقالوا كونوا هودا او نصارى } نزلت فى رؤس يهود المدينة وفى نصارى نجران اى قالت اليهود كونوا هودا فان نبينا موسى افضل الانبياء وكتابنا التوراة افضل الكتب وديننا افضل الاديان وكفروا بعيسى والانجيل وبمحمد والقرآن وقالت النصارى كونوا نصارى فان نبينا عيسى افضل الانبياء وكتابنا الانجيل افضل الكتب وديننا افضل الاديان وكفروا بموسى والتوراة وبمحمد والقرآن { تهتدوا } جواب للامر اى ان تكونوا كذلك تجدوا الهداية من الضلالة { قل } يا محمد لهم على سبيل الرد وبيان ما هو الحق لا نكون ما تقولون { بل } نكون { ملة ابراهيم } اى اهل ملته ودينه على حذف المضاف اى بل نتبع ملته لان كونوا معناه اتبعوا اليهودية والنصرانية { حنيفا } اى مائلا عن كل دين باطل الى دين الحق ومنحرفا عن اليهودية والنصرانية وهو حال من المضاف اليه وهو ابراهيم كما فى رأيت وجه هند قائمة لان رؤية وجه هند يستلزم رؤيتها فالحال هنا تبين هيئة المفعول او من المضاف وهو الملة وتذكير حنيفا حينئذ بتأويل الملة بالدين لانهما متحدان ذاتا والتغاير بالاعتبار { وما كان من المشركين } تعريض بهم وايذان ببطلان دعواهم اتباع ابراهيم مع اشراكهم بقولهم عزير ابن الله والمسيح ابن الله

وفى الآية ارشاد الى اتباع دين ابراهيم وهو الدين الذى عليه نبينا عليه السلام واصحابه واتباعه

(1/319)

قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)

{ قولوا } ايها المؤمنون { آمنا بالله } وحده { وما انزل الينا } اى بالقرآن الذى انزل على نبينا والانزال اليه انزال الى امته لان حكم المنزل يلزم الكل { وما انزل على ابراهيم } من صحفه العشر { و } ما انزل الى { اسمعيل واسحق ويعقوب } الى { الاسباط } جمع سبط وهو فى اصل شجرة واحدة لها اغصان كثيرة والمراد هنا اولاد يعقوب وهم اثنا عشر سموا بذلك لانه ولد لكل منهم جماعة وسبط الرجل حافده اى ولد ولده والاسباط من بنى اسرائيل كالقبائل من العرب والشعوب من العجم وهم جماعة من اب وام وكان فى الاسباط انبياء والصحف وان كانت نازلة الى ابراهيم لكن من بعده حيث كانوا متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت احكامها جعلت منزلة اليهم كما جعل القرآن منزلا الينا { وما اوتى موسى وعيسى } من التوراة والانجيل وتخصيصهما بالذكر لما ان الكلام مع اليهود والنصارى { وما اوتى النبيون } جملة المذكورين منهم وغير المذكورين { من ربهم } فى موضع الحال من العائد المحذوف والتقدير وبما اوتيه النبيون منزلا عليهم من ربهم { لا نفرق بين احد منهم } كاليهود فنؤمن ببعض ونكفر ببعض وكيف نفعل ذلك والدليل الذى اوجب علينا ان نؤمن ببعض الانبياء وهو تصديق الله اياه بخلق المعجزات على يديه يوجب الايمان بالباقين فلو آمنا ببعضهم وكفرنا بالبعض لناقضنا انفسنا والجملة حال من الضمير فى آمنا وانما اعتبر عدم التفريق بينهم مع ان الكلام فيما اوتوه لا يستلزم عدم التفريق بينهم بالتصديق والتكذيب لعدم التفريق بين ما اوتوه واحد فى معنى الجماعة ولذلك صح دخول بين عليه { ونحن له مسلمون } اى والحال انا مخلصون لله تعالى ومذعنون

(1/320)

فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)

{ فان آمنوا } اى اليهود والنصارى { بمثل ما } اى بمثل الدين الذى { آمنتم به } هذا من باب التعجيز والتبكيت اى الزام الخصم والجائه الى الاعتراف بالحق بارخاء عنانه وسد طرق المجادلة عليه والمثل مقحم والمعنى فان آمنوا بما آمنتم به وهو الله فانه ليس لله تعالى مثل وكذا لدين الاسلام { فقد اهتدوا } الى الحق واصابوه كما اهتديتم وحصل بينكم الاتحاد والاتفاق { وان تولوا } اى ان اغضوا عن الايمان على الوجه المذكور بان اخلوا بشئ من ذلك كأن آمنوا ببعض وكفروا ببعض كما هو ديدنهم ودينهم { فانما هم فى شقاق } اى مستقرون فى خلاف عظيم بعيد من الحق وهذا لدفع ما يتوهم من احتمال الوفاق بسبب ايمانهم ببعض ما آمن به المؤمنون فقوله فى شقاق خبر لقوله هم وجعل الشقاق ظرفا لهم وهم مظروفون له مبالغة فى الاخبار باستيلائه عليهم فانه ابلغ من قولك هم مشاقون والشقاق مأخوذ من الشق وهو الجانب فكأن كل واحد من الفريقين فى شق غير شق صاحبه بسبب العداوة ولما دل تنكير الشقاق على امتناع الوفاق وان ذلك مما يؤدى الى الجدال والقتال لا محالة عقب ذلك بتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفريح المؤمنين بوعد النصرة والغلبة وضمان التأييد والاعزاز بالسين للتأكيد الدالة على تحقق الوقوع البتة فقيل { فسيكفيكهم الله } الضميران منصوبا المحل على انهما مفعولان ليكفى يقال كفاه مؤنته كفاية وان كثر استعمالة معدى الى واحد نحو كفاك الشئ والظاهر ان المفعول الثانى حقيقة فى الآية هو المضاف المقدر اى فسيكفى الله اياك امر اليهود والنصارى ويدفع شرهم عنك وينصرك عليهم فان الكفاية لا تتعلق بالاعيان بل بالافعال وقد انجز الله وعده الكريم بالقتل والسبى فى بنى قريظة والجلاء والنفى الى الشام وغيره فى بنى النضير والجزية والذلة فى نصارى نجران { وهو السميع العليم } تذييل لما سبق من الوعد وتأكيد له والمعنى انه تعالى يسمع ما تدعو به ويعلم ما فى نيتك من اظهار الدين فيستجيب لك ويوصلك الى مرادك

(1/321)

صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)

{ صبغة الله } الصبغ ما يلون به الثياب والصبغ المصدر والصبغة الفعلة التى تبنى للنوع والحالة من صبغ كالجلسة من جلس وهى الحالة التى يقع الصبغ عليها وهى اى الصبغة فى الآية مستعارة لفطرة الله التى فطر الناس عليها شبهت الخلقة السليمة التى يستعد بها العبد للايمان وسائر انواع الطاعات بصبغ الثوب من حيث ان كل واحدة منهما حلية لما قامت هى به وزينة له والتقدير صبغنا الله صبغة اى فطرنا وخلقنا على استعداد قبول الحق والايمان فطرته فهذا المصدر مفعول مطلق مؤكد لنفسه لانه مع عامله المقدر بعينه وقع مؤكدا لمضمون الجملة المقدمة وهو قوله آمنا بالله لا محتمل لها من المصادر الا ذلك المصدر لان ايمانهم بالله يحصل بخلق الله اياهم على استعداد اتباع الحق والتحلى بحلية الايمان ويحتمل ان يكون التقدير طهرنا الله تطهيره لان الايمان يطهر النفوس من اوضار الكفر وسماه صبغة للمشاكلة وهى ذكر الشئ بلفظ غيره لوقوع ذلك الشئ فى صحبة الغير اما بحسب المقال المحقق او المقدر بان لا يكون ذلك الغير مذكورا حقيقة ويكون فى حكم المذكور لكونه مدلولا عليه بقرينة الحال فهى كما تجرى بين فعلين كما هنا تجرى بين قولين كما فى تعلم ما فى نفسى ولا اعلم ما فى نفسك فانه عبر عن ذات الله تعالى بلفظ النفس لوقوعه فى صحبة لفظ النفس وعبر عن لفظ الفطرة بلفظ الصبغة لوقوعه فى صحبة صبغة النصارى اذ كانوا يشتغلون بصبغ اولادهم فى سابع الولادة مكان الختان للمسلمين بغمسهم فى الماء الاصفر الذى يسمونه المعمودية على زعم ان ذلك الغمس وان لم يكن مذكورا حقيقة لكنه واقع فعلا من حيث انهم يشتغلون به فكان فى حكم المذكور بدلالة قرينة الحال عليه من حيث اشتغالهم به ومن حيث ان الآية نزلت ردا لزعمهم ببيان ان التطهير المعتبر هو تطهير الله عباده لا تطهير اولادكم بغمسهم فى المعمودية وهى اسم ماء غسل به عيسى عليه السلام فمزجوه بماء آخر وكلما استعملوا منه جعلوا مكانه ماء آخر { ومن احسن } مبتدأ وخبر والاستفهام فى معنى الجحد { من الله صبغة } نصب على التمييز من احسن منقول من المبتدأ والتقدير ومن صبغته احسن من صبغة الله فانه يصبغ عباده بالايمان ويطهرهم به من اوضار الكفر وانجاس الشرك فلا صبغة احسن من صبغته { ونحن له } اى لله الذى اولانا تلك النعمة الجليلة { عابدون } شكرا له ولسائر نعمه وتقدم الظرف للاهتمام ورعاية الفواصل وهو عطف على آمنا داخل تحت الامر وهو قولوا فاذا كان حرفة العبد العبادة فقد زين نفسه بصبغ حسن يزينه ولا يشينه : وفى المثنوى

(1/322)

كاورا رنك ازبرون مردرا ... ازدرون دان رنك سرخ ورردرا

رنكهاى نيك ازخم صفاست ... رنك زشتان ازسياه آب جفاست

صبغة الله نام آن رنك لطيف ... لعنة الله بوى اين رنك كثيف

وفى قوله تعالى { ونحن له عابدون } اشارة الى ان العارفين يعبدون ربهم لا لشوق الجنة ولا لخوف النار

قال الله تعالى فى الزبور ومن اظلم ممن عبدنى لجنة او نار فلو لم اخلق جنة ولا نارا لم اكن مستحقا لان اعبد

واعلم ان العابد هو العامل بحق العبودية فى مرضاة الله تعالى والعبادة دون العبودية وهى دون العبودة لان من لم يبخل بروحه فهو صاحب عبودة فالعبادة ببذل الروح فوق العبادة ببذل النفس

قال سهل بن عبد الله لا يصح التعبد لاحد حتى لا يجزع من اربعة اشياء من الجوع والعرى والفقر والذل

قال الشيخ ابو العباس رحمه الله اوقات العبد اربعة لا خامس لها الطاعة والمعصية والنعمة والبلية ولكل وقت منها سهم من العبودية يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية فمن كان وقته النعمة فسبيله الشكر وهو فرح القلب بالله تعالى ومن كان وقته البلية فسبيله الرضى والصبر فعليك ان تراقب الاوقات الى ان تصل اعلى الدرجات وغاية الغايات : وفى المثنوى

كافرم من كر زيان كردست كس ... درره ايمان وطاعت يكنفس

سرشكسته نيست اين سررا مبند ... يك دوروزه جهد كن باقى بخند

تازه كن ايمان نه از كفت زبان ... اى هوارا تازه كرده درنهان

تاهواتازه است ايمان تازه نيست ... كين هو اجز قفل آن دروازه نيست

روى ان السرى قدس سره قال مكثت عشرين سنة اخرس خلق الله تعالى فلم يقع فى شبكتى الا واحد كنت اتكلم فى المسجد الجامع ببغداد يوم الجمعة وقلت عجبت من ضعيف عصى قويا فلما كان يوم السبت وصليت الغداة اذا انا بشاب قد وافى وخلفه ركبان على دواب بين يديه غلمان وهو راكب على دابته فنزل وقال أيكم السرى السقطى فأومأ جلسائى الى فسلم على وجلس وقال سمعتك تقول عجبت من ضعيف عصى قويا فما اردت به فقلت ما ضعيف اضعف من ابن آدم ولا قوى اقوى من الله تعالى وقد تعرض ابن آدم مع ضعفه الى معصية الله تعالى قال فبكى ثم قال يا سرى هل يقبل ربك غريقا مثلى قلت ومن ينقذ الغرقى الا الله تعالى قال يا سرى ان على مظالم كثيرة كيف اصنع قال اذا صححت الانقطاع الى الله تعالى ارضى عنك الخصوم بلغنا عن النبى عليه السلام انه قال « اذا كان يوم القيامة واجتمع الخصوم على ولى الله وكل لكل منهم ملكا يقول لا تروّعوا ولى الله فان حقكم اليوم على الله تعالى » فبكى ثم قال صف لى الطريق الى الله فقلت ان كنت تريد المقتصدين فعليك بالصيام والقيام وترك الآثام وان كنت تريد طريق الاولياء فاقطع العلائق واتصل بخدمة الخالق فبكى حتى بل منديلا له ثم انصرف وكان من امره كيت وكيت من ترك الاهل والعيال والسكون عند المقابر وتغيير الحال حتى توفى ذلك الشاب على الاحالة التى اقبل عليها قال السرى فحلمت يوما عيناى فاذا به يرفل فى السندس والاستبرق ويقول لى جزاك الله خيرا فقلت ما فعل الله بك قال ادخلنى الجنة ولم يسألنى عن ذنب انتهى

(1/323)

قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)

{ قل أتحاجوننا } المحاجة المجادلة ودعوى الحق واقامة الحجة على ذلك من كل واحد والهمزة للانكار والتوبيخ

وسبب نزول هذه الآية ان اليهود والنصارى قالوا ان الانبياء كانوا منا وعلى ديننا وديننا اقدم فقال الله تعالى قل يا محمد لليهود والنصارى أتجادلوننا وتخاصموننا { فى الله } اى فى دينه وتدعون ان دينه الحق هو اليهودية والنصرانية وتبنون دخول الجنة والاهتداء عليهما وتقولون تارة لن يدخل الجنة الا من كان هودا او نصارى وتارة كونوا هودا او نصارى تهتدوا { وهو ربنا وربكم } اى والحال انه لا وجه للمجادلة اصلا لانه تعالى مالك امرنا وامركم { ولنا اعمالنا } الحسنة الموافقة لامره { ولكم اعمالكم } السيئة المخالفة لحكمه فكيف تدعون انكم اولى بالله { ونحن له } اى لله تعالى { مخلصون } فى تلك الاعمال لا نبتغى بها الا وجهه فأنى لكم المحاجة وادعاء حقية ما انتم عليه والطمع فى دخول الجنة بسببه ودعوة الناس اليه وانتم به مشركون

والاخلاص تصفية العمل عن الشرك والرياء وحقيقته تصفية الفعل عن ملاحظه المخلوقين

(1/324)

أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)

{ ام تقولون } ام معادلة للهمزة فى قوله تعالى أتحاجوننا داخلة فى حيز الامر على معنى أى الامرين تأتون اقامة الحجة وتنوير البرهان على حقية ما انتم عليه والحال ما ذكر ام التشبث بذيل التقليد والافتراء على الانبياء وتقولون { ان ابراهيم واسمعيل واسحق ويعقوب والاسباط } وهى حفدة يعقوب وهم اولاد اولاده الاثنى عشر وعن الزجاج انه قال الاسباط فى ولد اسحق بمنزلة القبائل فى ولد اسماعيل فولد كل واحد من ولد اسحق سبط ومن ولد اسماعيل قبيلة { كانوا هودا أو نصارى } فنحن مقتدون بهم والمراد انكار كلا الامرين والتوبيخ عليهما اى كيف تحاجون وكيف تقولون فى حق الانبياء الذين بعثوا قبل نزول التوراة والانجيل انهم كانوا هودا او نصارى ومن المحال ان يقتدى المتقدم بالمتأخر ويستن بسنته { قل } يا محمد { ءانتم } الاستفهام للتقرير والتوبيخ { اعلم } بدينهم { ام الله } اعلم { ومن اظلم } انكار لان يكون احد اظلم فالاستفهام بمعنى النفى { ممن كتم } اى ستر واخفى عن الناس { شهادة } ثابتة { عنده } اى عند من كائنة { من الله } قوله عنده ومن الله صفتان لشهادة اى شهادة حاصلة عنده صادرة من الله تعالى يعنى يا اهل الكتاب قد علمتم بشهادة حصلت عندكم صادرة من الله تعالى بان ابراهيم وبنيه كانوا حنفاء مسلمين بان اخبركم الله بذلك فى كتابكم ثم انكم تكتمونها وتدعون خلاف ما شهد الله به فى حقهم فلا احد اظلم منكم حيث اجزأتم على تكذيب الله تعالى فيما اخبر به وتعليق الاظلمية بمطلق الكتمان للايماء الى ان مرتبة من يدريها ويشهد بخلافها فى الظلم خارجة عن دائرة البيان وعن ابن عباس اكبر الكبائر الاشراك بالله وشهادة الزور وكتمان الشهادة قال تعالى { ومن يكتمها فانه آثم قلبه } والمراد مسخ القلب ونعوذ بالله من ذلك { وما الله بغافل عما تعملون } ما موصولة عامة لجميع ما يكتسب بالجوارح بالظاهرة والقوى الباطنة ويدخل فيه كتمان شهادة الله دخولا اوليا اى هو محيط بجميع ما تأتون وما تدرون فيعاقبكم بذلك اشد عقاب

(1/325)

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)

{ تلك امة } اى الانبياء جماعة { قد خلت } اى مضت بالموت { لها ما كسبت } من الاعمال { ولكم ما كسبتم } منها { ولا تسألون عما كانوا يعملون } اى لا يسأل احد عن عمل غيره بل يسأل عن عمله ويجزى به وهذا تكرير للآية السابقة بعينها للمبالغة فى الزجر عما هم عليه من الافتخار بالآباء و الاتكال على اعمالهم قال الله تعالى { فاذا نفخ فى الصور فلا انساب } قيل لما انصرف هارون الرشيد من الحج اقام بالكوفة اياما فلما خرج وقف بهلول المجنون على طريقه وناداه بأعلى صوته يا هارون ثلاثا فقال هارون من الذى ينادينى تعجبا فقيل له بهلول المجنون فوقف هارون وامر برفع الستر وكان يكلم الناس وراء الستر فقال له ألم تعرفنى قال بلى اعرفك فقال من انا قال انت الذى لو ظلم احد فى المشرق وانت فى المغرب سألك الله عن ذلك يوم القيامة فبكى هارون وقال كيف ترى حالى قال اعرضه على كتاب الله وهى الجزء الثانى ان الابرار لفى نعيم وان الفجار لفى جحيم وقال اين اعمالنا قال انما يتقبل الله من المتقين قال واين قرابتنا من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال فاذا نفخ فى الصور فلا انساب بينهم قال واين شفاعة رسول الله لنا قال يومئذ لا تنفع الشفاعة الا من اذن له الرحمن ورضى له قولا فلا بد من الاعمال الصالحة والاخلاص فيها فان الله يتقبلها لا غيرها

قال الجنيد الاخلاص سر بين العبد وبين الله تعالى لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ولا هوى فيميله

قال الفضيل ترك العمل من اجل الناس رياء والعمل من اجل الناس شرك والاخلاص ان يعافيك عنهما

وفى التتارخانئية لو افتتح للصلاة خالصا لله تعالى ثم دخل فى قلبه الرياء فهو على ما افتتح والرياء على انه لو خلا عن الناس لا يصلى ولو كان مع الناس يحسنها ولو صلى وحده لا يحسن فله ثواب اصل الصلاة دون الاحسان

قال بعض الحكماء مثل من يعمل الطاعة للرياء والسمعة كمثل رجل يخرج الى السوق وقد ملأ كيسه حصى فيقول الناس ما املأ كيس فلان ولا منفعة له سوى مقالة الناس وفى الحديث « اخلصوا اعمالكم لله تعالى فان الله لا يقبل الا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله وللرحم وليس لله تعالى منه شىء » ومن احاديث المشارق « لعن الله من لعن والديه ولعن الله من ذبح لغير الله » قال النووى المراد الذبح باسم غير الله كم ذبح للصنم او لموسى او غيرهما

ذكر الشيخ ابراهيم المراودى ان ما يذبح عند استقبال السلطان تقربا اليه افتى اهل بخارى بتحريمه لانه مما اهل به لغير الله

وقال الرافعى هذا غير محرم لانهم انما يذبحونه استبشارا بقدومه فهو كذبح العقيقة لولادة المولود ومثل هذا لا يوجب التحريم انتهى كلامه وعليه تحمل افعال المسلمين صيانة لهم عن الكفر وضياع الاعمال فان الموحد مطمح نظره رضى مولاه والتعبد اليه بما تيسر له من القربات اللهم اعصمنا من الزلات

(1/326)

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)

{ سيقول السفهاء } اى الذين ضعفت عقوهم حال كونهم { من الناس } اى الكفرة يريد المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين وانما كانوا سفهاء لانهم راغبون عن ملة ابراهيم وقد قال تعالى { ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه } اى اذلها بالجهل والاعراض عن النظر وفائدة تقديم الاخبار به قبل وقوعه ليوطئوا عليه انفسهم فلا يضطربوا عند وقوعه لان مفاجأة المكروه اشد على النفوس واشق وليعلمهم الجواب فان العتيد قبل الحاجة اليه ارد لشغب الخصم الالد وقبل الرمى يراش السهم وهو مثل يضرب فى تهيئة الآلة قبل الحاجة اليها { ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها } ما استفهامية انكارية مرفوعة المحل على الابتداء ووليهم خبره والجملة فى موضع النصب بالقول يقال تولى عن ذلك اى انصرف وولى غيره اى صرفه والقبلة فى الاصل الحالة التى عليها الانسان من الاستقبال فنقلت فى عرف الشرع الى الجهة التى يستقبلها الانسان للصلاة وهى من المقابلة وسميت قبلة لان المصلى يقابلها والمعنى أى شىء صرفهم وحولهم عن قبلتهم التى كانوا على التوجه اليها وهى بيت المقدس ولم انصرفوا منها الى الكعبة روى ان النبى عليه السلام صلى الى نحو بيت المقدس بعد مقدمه المدينة نحوا من سبعة عشر شهرا تأليفا لقلوب اليهود ثم صارت الكعبة قبلة المسلمين الى نفخ الصور { قل } كأنه قيل فماذا اقول عند ذلك فقيل قل { لله المشرق والمغرب } اى الامكنة كلها والنواحى باسرها لله تعالى ملكا وتصرفا فلا يستحق شىء منها لذاته ان يكون قبلة حتى يمتنع اقامة غيره مقامه والشىء من الجهات انما يصير قبلة بمجرد ان الله تعالى امر بالتوجه اليها فله ان يأمر فى كل وقت بالتوجه الى جهة من تلك الجهات على حسب الوهيته واستيلائه ونفاذ قدرته ومشيئته فانه لا يسأل عما يفعل بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فاللائق بالمخلوق ان يطيع خالقه ويأتمر بامره من غير ان يتحرى خصوصية فى المأمور به زائدة على مجرد كونه مأمورا به فان الطاعة له ليس الا بارتسام امره اى امتثاله لا بتحرى العلل والاغراض الداعية له تعالى الا الامر لان احكام الله تعالى وافعاله ليست معللة بالدواهى والاغراض واليهود انما استقبلوا جهة المغرب فاكرمه الله تعالى بوحيه وكلامه كما قال الله تعالى { وما كنت بجانب الغربى اذ قضينا الى موسى الامر } والنصارى ايضا اتخذوا جهة المشرق قبلة اتباعا لهواهم حيث زعموا ان مريم عليها السلام حين خرجت من بلدها مالت الى جانب الشرق كما قال الله تعالى { واذكر فى الكتاب مريم اذ انتبذت من اهلها مكانا شرقيا } والمؤمنون استقبلوا الكعبة طاعة لله تعالى وامتثالا لامره لا ترجيحا لبعض الجهات المتساوية بمجرد رأيهم واجتهادهم مع انها قبلة خليل الله تعالى ومولد حبيبيه صلى الله تعالى عليه وسلم { يهدى من يشاء الى صراط مستقيم } وهو التوجه الى بيت المقدس تارة والكعبة اخرى ووجه استقامته كونه مشتملا على الحكمة والمصلحة موافقا لهما

(1/327)

قال بعض ارباب لاحقيقة سمى الطاعنين من اليهود والمشركين والمنافقين سفهاء لاحتجاب عقولهم عن حقية دين الاسلام ولو ادركوا الحق مطلقا لاخلصوه كما اخلص المؤمنون فلم تبق محاجتهم معهم ولو كانت عقولهم رزينة لاستدلت بالآيات وانكروا التحويل لانهم كانوا معتدين بالجهة فلم يعرفوا التوحيد الوافى بالجهات كلها : قال المولى الجامى

جهات مرآت حسن شاهد ماست ... فشاهد ودهه فى كل ذرات

(1/328)

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)

{ وكذلك } اشارة الى مفهوم الآية المتقدمة اى كما جعلناكم مهتدين الى الصراط المستقيم { جعلناكم } توحيد الخطاب فى كذلك مع القصد الى المؤمنين لما ان المراد مجرد الفرق بين الحاضر والمنقضى دون تعيين المخاطبين { امة وسطا } اى خيارا لان الاوساط محمية محوطة والاطراف يتسارع اليها الخلل { لتكونوا شهداء على الناس } يوم القيامة ان الرسل قد بلغتهم { ويكون الرسول } اى محمد صلى الله عليه وسلم { عليكم شهيدا }

ان قلت ان الشاهد اذا اضر بشهادته عديت الشهادة بكلمة على واذا نفع بها تعدى باللام فيقال شهد له والرسول عليه السلام لما زكى امته وعدلهم بشهادته انتفعوا بها فالظاهر ان يقال ويكون الرسول لكم شهيدا بخلاف شهادة الامة على الناس فانها شهادة عليهم حيث استضروا بها فكلمة على فيها واقعة فى موضعها

قلت هذا مبنى على تضمين الشهيد معنى الرقيب والمطلع فعدى تعديته والوجه فى اعتبار تضمين الشهيد الاشارة الى ان التعديل والتزكية انما يكون عن خبرة ومراقبة بحال الشاهد فاذا شاهد منه الرشد والصلاح عدله وزكاه واثنى عليه ولا يسكت عنه وقدمت صلة الشهادة اى عليكم لاختصاصهم بشهادته صلى الله عليه وسلم على سبيل التزكية والتعديل وهو لا ينافى شهادته صلى الله عليه وسلم للانبياء بالتبليغ وعلى منكرى التبليغ بالتكذيب روى ان الله تعالى يجمع الاولين والاخرين فى صعيد واحد ثم يقول لكفار الامم ألم يأتكم نذير فينكرون فيقولون البينة وهو اعلم بهم اقامة للحجة فيؤتى بامة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون لهم انهم قد بلغوا فتقول الامم الماضية من اين علموا وانهم اتوا بعدنا فيسأل هذه الامة فيقولون ارسلت الينا رسولا وانزلت عليه كتابا اخبرتنا فيه بتبليغ الرسل وانت صادق فيما اخبرت ثم يؤتى بمحمد عليه الصلاة والسلام فيسأل عن حال امته فيزكيهم ويشهد بصدقهم فيؤمر بالكفار الى النار

قال بعض ارباب الحقيقة معنى شهادتهم على الناس اطلاعهم بنور التوحيد على حقوق الاديان ومعرفتهم لحق كل دين وحق كل ذى دين من دينه وباطلهم الذى ليس حقهم الذى هو مخترعات نفوسهم وطريق الحق واحد فمن تحقق بحق دين تحقق بحق سائر الاديان وخاصة دين الاسلام الذى هو الحق الاعظم ومعنى شهادة الرسول عليهم اطلاعه على رتبة كل متدين بدينه وحقيقة ايمانهم واعمالهم وحسناتهم وسيآتهم واخلاصهم ونفاقهم وغير ذلك بنور الحق وامته يعرفون ذلك من سائر الامم بنوره عليه الصلاة والسلام

قال بعضهم جعلنا سبحانه وتعالى آخر الامم تشريفا لحبيبه وامته لانه لو قدمنا لاحتجنا ان ننتظر فى قبورنا قدوم الامم الماضية فجعلهم سبحانه وتعالى فى انتظارنا تشريفا لنا وايضا جعلنا آخر الامم لنكون يوم القيامة شهداء على جميع الامم الماضية ويكفى شرفا لهذه الامة المرحومة ما قال صلى الله عليه وسلم فى حق علمائهم

(1/329)

« علماء امتى كانبياء بنى اسرائيل » وذكر الراغب الاصفهانى فى المحاضرات انه قال الامام الشاذلى صاحب حزب البحر اضطجعت فى المسجد الاقصى فرأيت فى المنام قد نصب تخت خارج الاقصى فى وسط الحرم فدخل خلق كثير أفواجا افواجا فقلت ما هذا الجمع فقالوا جمع الانبياء والرسل قد حضروا ليشفعوا فى حسين الحلاج عند محمد عليه افضل الصلاة والسلام لاساءة ادب وقعت منه فنظرت الى التخت فاذا نبينا محمد عليه السلام جالس عليه بانفراده وجميع الانبياء عليهم الصلاة والسلام على الارض جالسون مثل ابراهيم وموسى وعيسى ونوح فوقفت انظر واسمع كلامهم فخاطب موسى نبينا عليه الصلاة والسلام وقال له انك قد قلت علماء امتى كانبياء بنى اسرائيل فأرنا منهم واحدا فقال هذا واشار الى الامام الغزالى فسأله موسى سؤالا فاجابه بعشرة اجوبة فاعترض عليه موسى بان السؤال ينبغى ان يطابق الجواب والسؤال واحد والجواب عشرة فقال الامام هذا الاعتراض وارد عليك ايضا حين سئلت وما تلك بيمينك يا موسى وكان الجواب عصاى فعددت صفات كثيرة قال فبينما انا متفكر فى جلالة قدر محمد عليه السلام وكونه جالسا على التخت بانفراده والخليل والكليم والروح جالسون على الارض اذ رفسنى شخص برجله رفسة مزعجة فانتبهت فاذا بقيم ثم غاب عنى فلم اجده الى يومى هذا ومن هذا قال

فانسب الى ذاته ما شئت من شرف ... وانسب الى قدره ما شئت من عظم

الله يسر لنا شفاعته { وما جعلنا القبلة } مفعول اول لجعلنا { التى كنت عليها } مفعول ثان له بتقدير موصوف اى الجهة التى كنت عليها وهى الكعبة لانه عليه السلام كان مأمورا بان يصلى الى الكعبة وهو بمكة ثم لما هاجر امر بالصلاة الى صخرة بيت المقدس التى منها يصعد الملائكة الى السماء ثم اعيد الى ما كان عليه اولا والمعنى ما رددناك الى ما كنت عليه اى على استقباله والتوجه اليه وما جعلنا ذلك لشئ من الاشياء { الا لنعلم من يتبع الرسول } فى التوجه الى ما امر به { ممن ينقلب } اى ينصرف ويرجع { على عقبيه } العقب مؤخر القدم والانقلاب على العقبين مستعار للارتداد والرجوع عن الدين الحق الى الباطل ومعنى لنعلم ليظهر علمنا على مظاهر الرسول والمؤمنين ويتميز عندهم الثابت على الاسلام الصادق فيه من المتردد الذي يرتد بادنى سبب لقلته وضعف ايمان لا انه لم يعلم حالهم فعلم لانه تعالى كان عالما فى الازل بهم وبكل حال من احوالهم التى تقع فى كل زمان من ازمنة وجودهم مقارنة للزمان الذى تقع فيه تلك الحال وكل من يعلم شيأ فانما يعلم بان يظهر ذلك العلم فيه ويقرب من هذا ما قيل المعنى ليعلم رسول الله والمؤمنون وانما اسند علمهم الى ذاته لانهم خواصه واهل الزلفى عنده هذا هو المعنى الذى اختاره القاشانى فى تأويلاته وزيف ما عداه والعلم فى قوله لنعلم بمعنى المعرفة اى لنعرف الذى يتبع الرسول فلا يحتاج الى مفعول ثان

(1/330)

فان قيل ان الله لا يوصف بالمعرفة فلا يقال الله عارف فكيف يكون العلم بمعنى المعرفة هنا قلت انما لا يوصف بها اذا كانت بمعناها المشهور وهو الادراك المسبوق بالعدم واما اذا كانت بمعنى الادراك الذى لا يتعدى الى مفعولين فيجوز ان يوصف الله بها وقوله ممن ينقلب حال من فاعل يتبع اى متميزا منه { وان كانت } اى القبلة المحولة { لكبيرة } اى شاقة ثقيلة على من يألف التوجه الى القبلة المنسوخة فان الانسان ألوف لما يتعوده يثقل عليه الانتقال منه وان هى المخففة من المثقلة واسمها محذوف وهو القبلة واللام هى الفارقة بينها وبين النافية كما فى قوله تعالى { ان كان وعد ربنا لمفعولا } { الا على الذين هدى الله } اى هداهم الى حكمة الاحكام وارشدهم وعرفهم ان ما كلفه عباده متضمن لحكمة لا محالة وان لم يهتدوا الى خصوصية تلك الحكمة بعينها فتيقنوا بذلك ان السعيد الفائز من اطاع ربه الحكيم وان الشقى الخاسر من عصى ربه العليم ثم بين انهم مثابون على ذلك الثبات والاتباع وان ذلك غير ضائع منهم فقال { وما كان الله } مريدا { ليضيع ايمانكم } اى ثباتكم على التصديق بجميع ما جاء به النبى عليه السلام من غير ان ترتابوا فى شىء من ذلك { ان الله بالناس } متعلق برؤف { لرؤف } اى ذو مرحمة عظيمة لهم حيث نقلهم برحمته من ذلك الى هذا وهو اصح لهم { رحيم } يغفر ذنوبهم بالايمان وايصال الرزق : قال السعدى

فروماند كانرا برحمت قريب ... تضرع كنانرا بدعوت مجيب

روى انه اخذ بعض امراء الكفار وكان جائرا قاتلا فى زمن داود عليه السلام فصلب فوق الجبل عشاء ورجع الناس الى منازلهم وبقى هذا على الخشبة وحده وتضرع الى آلهته فلم يغنوا عنه شيأ ثم رجع الى الله وقال انت الله الحق اتيت اليك لتغيثنى برحمتك قال الله تعالى يا جبريل ان هذا عبد آلهته طويلا فلم ينتفع ففزع الى ودعانى فاستجبت له فاهبط الى الارض وضعه على الارض فى سلامة وعافية ففعل فلما اصبحوا رأوه وهو حى يصلى لله تعالى فاخبروا داود بذلك فدعا الله فيه مستكشفا سره فاوحى الله يا داود انى ارحم من آمن بى ودعانى فان لم افعل فأى فرق بينى وبين آلهته

واعلم ان جماعة قد ارتدوا عن الاسلام عند تحويل القبلة لتعلقهم بما سوى الله تعالى وعدم فنائهم فى الله ورضاهم بما يجيئ عليهم من القضاء فاخذتهم الكدرة كالسيل واما الذين سعدوا سعادة ازلية فلم يتعلقوا فى الحقيقة بيت المقدس ولا بالكعبة بل الرب الخالق لهما ولغيرهما وفنوا عن ارادتهم فجاءت ارادة الله لهم كالشهد المصفى فأخذهم السرور والصفا : قال الصائب

(1/331)

مهياى فنارا ازعلايق نيست بروابى ... نيند يشد زخار آنكس كه دامان بركمردارد

ذكر ان ابا القاسم الجنيد البغدادى لما رأوه فى وادى الوله ظنوا انه مرض او جن فجعلوه فى دار الشفاء فزاره بعض من يدعى حبه فقال لهم من انتم فقالوا نحن احباؤك فرماهم بالاحجار ففروا من عنده وقالوا قد غلب عليه الجنون فقال تدعون الحب باقوالكم وقد يكذبها افعالكم فالمحب من اسراه ما اصابه من الحبيب فلذلك قد عد اشد البلاء عند الانبياء والاولياء ألذ من الحلوى فاكتسوا حلل التسليم والاصطبار وغاصوا فى لجج المكاشفات والمشاهدات واشتغلوا مع الجنان واللسان بالتوحيد وذكر الملك المنان حتى عدوا الالتفات الى غيره ولو باكل لقمة من الموانع فلذلك ارتقوا فى الفناء والبقاء الى غاية المبتغى ولما قال موسى عليه السلام رب ارنى انظر اليك قال يا موسى لن ترانى فى البساط الفانى اصبر حتى اجعله باقيا حتى ترانى يا موسى رعيت غنم شعيب عشر سنين اتريد ان ترانى بعبادة اربعين يوما ثم اصطفاه واعطاه ما اعطاه فلما رجع الى قومه رأى فى الطريق الجبل الاعلى فسأل عنه متعجبا فقال الجبل يا موسى كنت ترعى الغنم فى وعلى رأسك قلنسوة وفى يدك عصا فالله الذى اصطفاك برسالاته وبكلامه لقد جعلنى الاعلى بفضله وانعامه اللهم اجعلنا على صراطك المستقيم واتباع رسولك الكريم واهدنا التوجه الى كعبة ذاتك والانجذاب اليك والوصول الى مشاهدتك

(1/332)

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)

{ قد } لفظ قد فى المضارع للتقليل وقد استعمل ههنا للتكثير بطريق الاستعارة للمجانسة بين الضدين فى الضدية { نرى } مستقبل لفظا ماض معنى ومتأخر تلاوة متقدم معنى لانها رأس القصة والمعنى شاهدنا وعلمنا { تقلب وجهك } اى تردد وجهك فى تصرف نظرك { فى السماء } اى فى جهتها تطلعا للوحى وكان عليه السلام يقع فى روعه ويتوقع من ربه ان يحوله الى الكعبة لانها قبلة ابيه ابراهيم واقدم القبلتين وادعى للعرب الى الايمان من حيث انها كانت مفخرة لهم وامنا ومزارا ومطافا ولمخالفة اليهود فانهم كانوا يقولون انه يخالفنا فى ديننا ثم انه يتبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل فعند ذلك كره ان يتوجه الى قبلتهم حتى روى انه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل « وددت ان الله صرفنى عن قبلة اليهود الى غيرها » فقال له جبريل انا عبد مثلك وانت كريم على ربك فادع ربك وسله ثم ارتفع جبريل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر الى السماء رجاء ان يأتيه جبريل بالذى سأل ربه فانزل الله هذه الآية واول ما نسخ من المنسوخات هو خمسون صلاة نسخت الى خمس للتخفف ثم تحويل القبلة الى بيت المقدس بمكة امتحانا للمشركين بعد ان كان للمصلى ان يتوجه حيث شاء لقوله تعالى { فاينما تولوا فثم وجه الله } ثم تحويلها من بيت المقدس الى الكعبة بالمدينة امتحانا لليهود كذا فى تفسير الفاتحة للمولى الفنارى { فلنولينك قبلة } اى فوالله لنعطينكها ولنمكننك من استقبالها من قولك وليته كذا اى صيرته واليا له وولى الرجل ولاية اى تمكن منه او فلنجعلنك تلى سمتها دون سمت بيت المقدس من وليه وليا اى قربه ودنا منه واوليته اياه ووليته اى ادنيته منه { ترضاها } مجاز عن المحبة والاشتياق لانه عليه السلام لم يكن ساخطا للتوجه الى بيت المقدس كارها له غير راض اى تحبها وتتشوق اليها لا لهوى النفس والشهوة الطبيعية بل لمقاصد دينية وافقت مشيئة الله تعالى { فول وجهك شطر المسجد الحرام } اى اصرف وجهك اى اجعل وجهك بحيث يلى شطره ونحوه والمراد بالوجه ههنا جملة البدن لان الواجب على المكلف ان يستقبل القبلة بجملة بدنه لا بوجهه فقط ولعل تخصيص الوجه بالذكر التنبيه على انه الاصل المتبوع فى التوجه والاستقبال والمتبادر من لفظ المسجد الحرام هو المسجد الاكبر الذى فيه الكعبة والحرام المحرم اى المحرم فيه القتال او الممنوع من الظلمة ان يتعرضوا له وفى ذكر المسجد الحرام دون الكعبة ايذان بكفاية مراعاة جهة الكعبة باتفاق بين الحنفية والشافعية لان استقبال عينها للبعيد متعذر وفيه حرج عظيم بخلاف القريب { وحيثما كنتم } اى فى أى موضع كنتم من الارض من بحر او بر شرق او غرب واردتم الصلاة { فولوا وجوهكم شطره } فانه القبلة الى نفخ الصور امر لجميع المؤمنين بذلك بعدما امر به النبى عليه السلام تصريحا بعمومه لكافة العباد من كل حاضر وباد حثا للامة على المتابعة { وان الذين اوتوا الكتاب } من فريقى اليهود والنصارى { ليعلمون انه } اى التحويل الى الكعبة { الحق } اى الثابت كائنا { من ربهم } لما ان المسطور فى كتبهم انه عليه السلام يصلى الى القبلتين بتحويل القبلة الى الكعبة بعدما كان يصلى الى بيت المقدس ومعنى من ربهم اى من قبله تعالى لا شىء ابتدعه الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه فانهم كانوا يزعمون انه من تلقاء نفسه { وما الله بغافل عما تعملون } خطاب للمسلمين واليهود جميعا على التغليب فيكون وعدا للمسلمين بالاثابة وجزيل الجزاء ووعيدا وتهديدا لليهود على عنادهم

(1/333)

وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)

{ ولئن اتيت الذين اوتوا الكتاب بكل آية } برهان قاطع على ان التوجه الى الكعبة هو الحق { ما تبعوا قبلتك } عنادا ومكابرة وهذا فى حق قوم معينين علم الله انهم لا يؤمنون فان منهم من آمن وتبع القبلة { وما انت بتابع قبلتهم } حسم لاطماعهم اذ كانوا تناجوا فى ذلك وقالوا لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو ان يكون صاحبنا الذى ننتظره وطمعوا فى رجوعه الى قبلتهم { وما بعضهم بتابع قبلة بعض } فان اليهود تستقبل الصخرة والنصارى مطلع الشمس لا يرجى توافقهم كما لا يرجى موافقتهم لك لتصلب كل فريق فيما هو فيه فالمحق منهم لا يزل عن مذهب لتمسكه بالبرهان والمبطل لا يقلع عن باطله لشدة شكيمته فى عناده { ولئن اتبعت اهوائهم } جمع هوى وهو الارادة والمحبة اى ولئن وافقتهم فى مراداتهم بان صليت الى قبلتهم مداراة لهم وحرصا على ايمانهم { من بعد ما جاءك من العلم } اى من بعد ما علمت بالوحى القاطع ان قبلة الله هى الكعبة { انك اذا } حرف جواب وجزاء توسطت بين اسم ان وخبرها لتقرير ما بينهما من النسبة { لمن الظالمين } اى المرتكبين الظلم الفاحش وهذه الجملة الشرطية الفرضية واردة على منهاج التهييج والالهاب للثبات على الحق وفيه لطف للسامعين وتحذير لهم عن متابعة الهوى فان من ليس من شانه ذلك اذا نهى عنه ورتب على فرض وقوعه ما رتب من الانتظام فى سلك الراسخين فى الظلم فما ظن من ليس كذلك : قال فى المثنوى

كن ايمان نه از كفت زبان ... اى هوا را تازه كرده در نهان

هوا تازهاست ايمان تازه نيست ... كين هوا جزقفل آن دروازه نيست

(1/334)

الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)

{ الذين آتيناهم الكتاب } ايتاء فهم ودراسة وهم الاحبار { يعرفونه } اى الرسول صلى الله عليه وسلم { كما يعرفون ابناءهم } اى يعرفونه صلى الله عليه وسلم باوصافه الشريفة المكتوبة فى كتابهم لا يشتبه عليهم كما لا يشتبه ابناؤهم وتخصيصهم بالذكر دون ما يعم البنات لكون الذكور اشهر واعرف عندهم منهن وهم بصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق * فان قيل لم لم يقل كما يعرفون انفسهم مع ان معرفة الشخص نفسه اقرب اليه من معرفة سار الاشياء * فالجواب ما قال الراغب لان الانسان لا يعرف نفسه الا بعد انقضاء برهة من دهره ويعرف ولده من حين وجوده { وان فريقا منهم } هم الذين كابروا وعاندوا الحق { ليكتمون الحق وهم يعلمون } ان محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وان الكعبة قبلة الله والباقون هم الذين آمنوا منهم فانهم يظهرون الحق ولا يكتمونه واما الجهلة منهم فليست لهم معرفة بالكتاب ولا بما فى تضاعيفه فما هم بصدد الاظهار ولا بصدد الكتم وانما كفرهم على وجه التقليد

(1/335)

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)

{ الحق } الذى انت عليه يا محمد { من ربك } خبر لقوله الحق { فلا تكونن من الممترين } اى الشاكين فى كون الحق من ربك هذا خطاب له صلى الله عليه وسلم والمقصود خطاب امته ونهيهم عن الامتراء ومعنى نهى الامة عن الامتراء امرهم بضده الذى هو اليقين وطمانينة القلب

قال القشيرى حملهم مستكنات الحسد وسوء الاختيار على مكابرة ما علموا بالاضطرار وكذلك المغمور فى ظلمات نفسه يلقى جلباب الحياء فلا ينجع فيه ملام ولا يرده عن انهماكه كلام

قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى عندنا ثلاث مراتب . احديها مرتبة التقليد وهى لعامة الناس . والثانية مرتبة التحقيق والايقان وهى للمجتهدين كالائمة الاربعة ومن يحذو حذوهم . والثالثة مرتبة المشاهدة والعيان فهى للكمل من اهل السلوك قال واذا لم تتطهر النفس من الاخلاق الرديئة لا تحصل المعارف الآلهية وان كان كاملا فى العقل والعلوم ألا يرى ان الشيطان مع عقله وعلمه كيف استكبر وعصى امر الله تعالى لما فى نفسه من الكبر والحسد وكذلك حال اهل الكتاب فى امر القبلة وشأن النبى صلى الله عليه وسلم حيث لم ينفع العلم والمعرفة لخبث باطنهم فلا بد من تزكية النفوس وتصفية القلوب والاستقامة فى باب الحق الى ان يأتى اليقين حكى ان يونس خدم شيخه طبق امره ثلاثين سنة بالصدق حتى تورم ظهره من نقل الحطب فلم يظهر وكان شيخه نظرا له فثقل ذلك على سائر الطالبين وقالوا انه يخدم الشيخ على محبة بنته حتى تكلموا فى ذلك الشيخ فلما اتى بالحطب قال شيخه نعم الحطب المستقيم يا يونس فقال ان غير المستقيم لا يليق بهذا الباب وما تكلموا فى حقه ليس على وجه النفاق بل لما رأوا انهم لا يتحملون ما يتحمل يونس اشكل عليهم الامر فحملوه على حب البنت وسؤال الشيخ ايضا وجواب يونس بهذا الوجه انما كان لارشادهم وازالة شبههم والا فالشيخ كان يعرف احوال يونس ولم يحصل له سوء ظن من كلامهم لان من كان مرشدا لا يعرف حال المريد بكلام الغير فى المدح والذم ثم زوج الشيخ بنته له وقال حتى لا يكون الاخوان كاذبين ولا يحصل لهم الخجالة وكانت البنت متى قرأت القرآن يقف الماء فلم يمسها يونس الى آخر عمره وقال انا لا أليق بها فللسالك فى مرتبة الطبيعة ان يترك مقتضاها ويقتصر على قدر الكفاية من الاكل والشرب ولا يتقيد بتدارك ما تشتهيه طبيعته فان الخير فى مخالفتها ومن تربية النفس ان يجتنب عن حب الاموال والاولاد فانهما فتنة ومعينان لها على كبرها بكثرتهما واكثر الانفس لا تحب صرفها بل تدخرها ليزداد استكبارها وقد قال تعالى

(1/336)

{ يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم } فما دام لم تصلح الطبيعة والنفس لا يصل الطالب الى مطلوبه ففى الحج اشارة الى ذلك فان قاصد البيت المكرم يترك استراحة بدنه ويبذل ماله الى ان يصل الى مشاهدته فكذلك قاصد رب البيت يفنى عن جميع ما سواه ويكون فى توجهه وحدانيا هيولانيا حتى يشاهد ببصيرته ما يشاهد فالصلاة مستقبلا الى شطر المسجد الحرام عين التوجه الى الذات الاحدية لان الكعبة مثال صورى لحضرته تعالى وان المراد من الاستقبال اليها الاقبال اليه تعالى مع انه لا يتقيد التوجه حقيقة لكن الاستقبال صورة رعاية للادب ودور مع الامر الآلهى فان لله تعالى فى كل شىء حكمة ومصلحة ومن تخلص من القيود وانجذب الى الرب المعبود فقد تجلى له قوله { فأينما تولوا فثم وجه الله } وظهر له سر الظاهر والمظهر

عاشقى ديد از دل بر تاب ... حضرت حق تعالى اندر خواب

دامنش را كرفت آن غمخور ... كه ندارم من از تو دست دكر

جون بر آمد زخواب خوش درويش ... ديد محكم كرفته دامن خويش

فطوبى لمن دار مع الامر الآلهى وسلم من الاعتراض وتخلص من الانقباض وفنى عن اضافة الوجود الى نفسه وبقى بربه وبكمالاته اللهم اجعلنا من المهديين الى هذه الرتبة العظمى والكعبة العليا واصرفنا فى مسالكنا عن الانحراف الى شىء من الآخرة والدنيا

(1/337)

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)

{ ولكل } اى لكل امة من الامم اعنى المسلمين واليهود والنصارى { وجهة } اى قبلة وجهة { هو } راجع الى كل { موليها } اى محول وموجه الى تلك الجهة وجهه فقبلة كل امة من اهل الاديان المختلفة مغايرة لقبلة الامة الاخرى { فاستبقوا الخيرات } اى الى الخيرات بنزع الجار والمراد جميع انواع الخيرات من امر القبلة وغيره مما ينال به سعادة الدارين والمعنى لكل امه قبلة يتصلبون فى التوجه اليها بحيث لا ينصرفون عنها الى القبلة الحق وان اتيتهم بكل آية دالة على ان القبلة هى الكعبة واذا كان الامر كذلك فاستبقوا انتم وبادروا الى الفعلات الخيرات وهى ما ثبت انه من الله تعالى ولا تقتفوا اثر المكابرين المستكبرين الذين يتبعون اهواءهم ويلقون الحق وراء ظهورهم فانهم يستبقون الى الشر والفساد اذ ليس بعد الحق الا الضلال

قال بعض اهل الحقيقة معناه كل قوم اشتغلوا بغيرنا عنا واقبلوا على غيرنا فكونوا معاشر العارفين لنا واشتغلوا بنا عن غيرنا فان مرجعكم الينا كما قال تعالى { اينما } اى فى أى موضع { تكونوا } انتم واعداؤكم { يأت بكم الله جميعا } يحشركم الله الى المحشر للجزاء ويفصل بين المحق والمبطل فهو وعد لاهل الطاعة ووعيد لاهل المعصية { ان الله على كل شىء قدير } فيقدر على الامانة والاحياء والجمع

(1/338)

وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)

{ ومن حيث خرجت } اى من أى مكان وبلد خرجت اليه للسفر { فول وجهك } عند صلاتك { شطر المسجد الحرام } تلقاءه فان وجوب التوجه الى الكعبة لا يتغير بالسفر والحضر حالة الاختيار بل الحكم بالاسفار مثله حالة الاقامة بالمدينة { وانه } اى هذا المأمور به وهو تحويل القبلة الى الكعبة { للحق من ربك } اى الثابت الموافق للحكمة { وما الله بغافل عما تعملون } فيجازيكم بذلك احسن جزاء فهو وعد للمؤمنين

(1/339)

وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)

{ ومن حيث خرجت } اليه فى اسفارك ومغازيك من المنازل القريبة والبعيدة { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم } ايها المؤمنون من اقطار الارض مقيمين او مسافرين وصليتم { فولوا وجوهكم } من محالكم { شطره } كرر هذا الحكم وهو التحويل وتولية الوجه شطر المسجد لما ان القبلة لها شأن خطير والنسخ من مظان الشبهة والفتنة وتسويل الشيطان فالبحرى ان يؤكد امرها مرة غب اخرى مع انه قد ذكر فى كل مرة حكمة مستقلة { لئلا يكون للناس عليكم حجة } متعلق بقوله فولوا والمعنى ان التولية عن الصخرة الى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بان المنعوت فى التوراة قبلته الكعبة واحتجاج العرب بانه يدعى ملة ابراهيم ويخالف قبلته وقوله عليكم فى الاصل صفة حجة فلما تقدم عليها امتنع الوصفية لامتناع تقدم الصفة على الموصوف فانتصب على الحالية { الا الذين ظلموا منهم } استثناء من الناس اى لئلا يكون حجة لاحد من اليهود الا للمعاندين منهم القائلين ما ترك قبلتنا الى الكعبة الا ميلا الى دين قومه وحبا لبلده ولو كان على الحق للزم قبلة الانبياء ولا لأحد من العرب من اهل مكة الا للمعاندين منهم الذين قالوا بدا له فرجع الى قبلة آبائه ويوشك ان يرجع الى دينهم وتسمية هذه الكلمة الشنعاء حجة مع انها افحش الاباطيل لانهم كانوا يسوقونها مساقها ويوردونها موقعها فسميت حجة مجازا تهكما بهم { فلا تخشوهم } فلا تخافوهم فى توجهكم الى الكعبة ومظاهرهم عليكم لسببه فان مطاعنهم لا تضركم شيأ { واخشونى } بامتثال امرى فلا تخالفوا امرى وما رأيته مصلحة لكم فانى ناصركم { ولأتم نعمتى عليكم } علة لمحذوف اى امرتكم بتولية الوجوه شطره لاتمامى النعمة عليكم لما انه نعمة جليلة وما وقع من اوامر الله تعالى وتكاليفه وائتمار المكلف بالتوجه الى حيث وجهه الله تعالى وان كان نعمة يتوصل به الى الثواب الجزيل الا ان امره تعالى بالتوجه الى قبلة ابراهيم تمام النعمة فى امر القبلة فان القوم كانوا يفتخرون باتباع ابراهيم فى جميع ما كانوا يفعلونه فلما وجهوا الى قبلته بعد ما صرفوا عنها لمصلحة حادثة فقد اصابوا تمام النعمة فى امر القبلة فان نعمة الله تعالى على عباده ضربان موهوب ومكتسب فالموهوب نحو صحة البدن وسلامة الاعضاء وغيرهما والمكتسب نحو الايمان والعمل الصالح بامتثال الاوامر والاجتناب عن المناهى فان ذلك كله يؤدى الى سعادة الدارين { ولعلكم تهتدون } اى ولارادتى اهتداءكم الى شعائر الملة الحنيفية وشرائع الدين القويم

(1/340)

كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)

{ كما ارسلنا فيكم رسولا منكم } متصل بما قبله اى ولاتم نعمتى عليكم فى امر القبلة اتماما كائنا كاتمامى لها بارسال رسول كائن منكم وهو محمد صلى الله عليه وسلم فان ارسال الرسول لا سيما المجانس لهم نعمة لم تكافئها نعمة قط { يتلو عليكم آياتنا } وهو القرآن العظيم { ويزكيكم } اى يحملكم على ما تصيرون به ازكياء طاهرين من دنس الذنوب المكدرة لجوهر النفس لان شأن الرسل الدعوة والحث على اعمال يحصل بها طهارة نفوس الامة من الشرك والمعاصى لا تطهيرهم اياهم بمباشرتهم من اول الامر { ويعلمكم الكتاب } اى ما فى القرآن من المعانى والاسرار والشرائع والاحكام التى باعتبارها وصف القرآن بكونه هدى ونورا فانه عليه السلام كان يتلوه عليهم ليحفظوا نظمه ولفظه فيبقى على ألسنة اهل التواتر مصونا من التحريف والتصحيف ويكونمعجزة باقية الى يوم القيامة وتكون تلاوته فى الصلاة وخارجها نوعا من العبادة والقربة ومع ذلك كان يعلم ما فيه من الحقائق والاسرار ليهتدوا بهداه وانواره { والحكمة } هى الاصابة فى القول والعمل ولا يسمى حكيما الا من اجتمع له الامران كذا قال الامام من احكمت الشئ اى رددته غمالا يعنيه وكأن الحكمة هى التى ترد عن الجهل والخطأ

واعلم ان العمل بالقرآن متفرع على معرفة معناه وهو متفرع على معرفة الفاظه والتزكية غاية اخيرة لانها متفرعة على العمل لكنها قدمت فى الذكر نظرا الى تقدمها فى التصور { ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } قال الراغب ان قيل ما معنى ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون وهل ذلك الا الكتاب والحكمة قيل عنى بذلك العلوم التى لا طريق الى تحصيلها الا من جهة الوحى على ألسنة الانبياء ولا سبيل الى ادراك جزئياتها وكلياتها الا به وعنى بالحكمة والكتاب ما كان للعقل فيه مجال فى معرفة شىء منه واعاد ذكر ويعلمكم مع قوله ما لم تكونوا تعلمون تنبيها على انه مفرد عن العلم المتقدم ذكره

(1/341)

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)

{ فاذكرونى } بالطاعة لقوله عليه السلام « من اطاع الله فقد ذكر الله وان قلت صلاته وصيامه وقراءته القرآن ومن عصى الله فقد نسى الله وان كثرت صلاته وقراءته القرآن » { اذكركم } بالثواب واللطف والاحسان وافاضة الخير وفتح ابواب السعادات واطلق على هذا المعنى الذكر الذى هو ادراك مسبوق بالنسيان والله تعالى منزه عن النسيان بطريق المجاز والمشاكلة لوقوعه فى صحبة ذكر العبد { واشكروا لى } على ما انعمت عليكم من النعم والذكر بالطاعة هو الشكر فقوله واشكروا لى امر بتخصيص شكرهم به تعالى لاجل افضاله وانعامه عليهم وان لا يشكروا غيره

وجعل صاحب التيسير قوله تعالى فاذكرونى امرا بالقول وقوله واشكروا لى امرا بالعمل

قال الراغب ان قيل ما الفرق بين شكرت لزيد وشكرت زيدا قيل شكرت له هو ان تعتبر احسانه الصادر عنه فتثنى عليه بذلك وشكرته اذا لم تلتفت الى فعله بل تجاوزت الى ذكر ذاته دون اعتبار احواله وافعاله فهو ابلغ من شكرت له وانما قال واشكروا لى ولم يقل واشكرونى علما بقصورهم عن ادراكه بل عن ادراك آلائه كما قال تعالى { وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها } فأمرهم ان يعتبروا بعض افعاله فى الشكر لله { ولا تكفرون } بجحد النعم وعصيان الامر

فان قيل لم قال بعد واشكروا لى ولا تكفرون ولم يقتصر على قوله واشكروا لى قلنا لو اقتصر على قوله واشكروا لى لكان يجوز ان يتوهم ان من شكره مرة او على نعمة ما فقد امتثل ولو اقتصر على قوله ولا تكفرون لكان يجوز ان يتوهم ان ذلك نهى عن تعاطى فعل قبيح دون حث على الفعل الجميل فجمع بينهما لازالة هذا التوهم ولان فى قوله ولا تكفرون تنبيها على ان ترك الشكر كفران

فان قيل لم قال ولا تكفرون ولم يقل ولا تكفروا لى قيل خص الكفر به تعالى بالنهى عنه للتنبيه على انه اعظم قباحة بالنسبة الى كفر نعمه فان كفران النعم قد يعفى عنه بخلاف الكفر به تعالى كذا فى تفسير الراغب الاصفهانى

قال بعض العلماء لما خص الله هذه الامة بفضل قوة وكمال بصيرة بالنسبة الى بنى اسرائيل قال لهم { يا بنى اسرائيل اذكروا نعمتى التى انعمت عليكم } فامرهم بذكر نعمة المنسية المغفول عنها لينظروا منها الى المنعم وقال لهذه الامة { فاذكرونى } فامرهم ان يذكروه بلا واسطة لقوة بصيرتهم : قال الصائب

درسر هر خام طينت نشئه نيست ... هر سفالى را صداى كاسه فغفور نيست

قال الامام الغزالى الذكر قد يكون باللسان وقد يكون بالقلب وقد يكون بالجوارح فذكرهم اياه باللسان ان يحمدوه ويسبحوه ويمجدوه ويقرأوا كتابه

وذكرهم اياه بقلوبهم على ثلاثة انواع .

(1/342)

احدها ان يتفكروا فى الدلائل الدالة على ذاته وصفاته ويتفكروا فى الجواب عن الشبه العارضة فى ملك الله . وثانيها ان يتفكروا فى الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه واحكامه واوامره ونواهيه ووعده ووعيده فاذا عرفوا كيفية التكليف وعرفوا ما فى الفعل من الوعد وفى الترك من الوعيد سهل عليهم الفعل . وثالثها ان يتفكروا فى اسرار مخلوقات الله تعالى حتى يصير كل ذرة من ذرات المخلوقات كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم القدس فاذا نظر العبد اليها انعكس شعاع بصره منها الى عالم الجلال وهذا المقام مقام لا نهاية له

واما ذكرهم اياه تعالى بجوارحهم فهو ان تكون جوارحهم مستغرقة فى الاعمال التى امروا بها وخالية عن الاعمال التى نهوا عنها وعلى هذا الوجه سمى الله تعالى الصلاة ذكرا بقوله { فاسعوا الى ذكر الله } فصار الامر بقوله { اذكرونى } متضمنا لجميع الطاعات ولهذا ذكر عن سعيد بن جبير انه قال اذكرونى بطاعتى فاجمله حتى يدخل فيه جميع انواع الذكر واقسامه انتهى كلام الامام

قال لقمان لابنه يا بنى اذا رأيت قوما يذكرون الله تعالى فاجلس معهم فانك ان تك عالما ينفعك علمك وان تك جاهلا علموك ولعل الله يطلع عليهم برحمته فيصيبك معهم واذا رأيت قوما لا يذكرون فلا تجلس معهم فانك ان تك عالما لا ينفعك علمك وان تك جاهلا يزيدوك جهلا او غيا ولعل الله يطلع عليهم بسخطه فيصيبك معهم الله اجعلنا من الذاكرين

(1/343)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)

{ يا ايها الذين آمنوا استعينوا } فى كل ما تأتون وما تذرون { بالصبر } على الامور الشاقة على النفس كالصبر عن المعاصى وحظوظ النفس { والصلوة } التى هى ام العبادات ومعراج المؤمنين ومثاب رب العالمين روى انه صلى الله تعالىعليه وسلم كان اذا حزبه امر فزع الى الصلاة وتلا هذه الآية

وانما خص الصبر والصلاة بالذكر لان الصبر اشد الاعمال الباطنة على البدن والصلاة اشد الاعمال الظاهرة عليه لانها مجمع انواع الطاعات من الاركان والسنن والآداب والحضور والخضوع والتوجه والسكون وغير ذلك مما لا يتيسر حفظه الا بتوفيق الله تعالى

قال عصام الدين قدم الترك على الفعل لان التخلية قبل التحلية ولهذا قدم النفى فى كلمة التوحيد واكتفى بذكر الصلاة لان الخطاب لكل من المؤمنين والمشترك بين الجميع بعد الايمان الصبر عن المعاصى والصلاة واما الزكاة فمختصة باصحاب النصاب واما الحج فباصحاب الاستطاعة والصوم صبر عن معصية الاكل والشرب وغيرهما { ان الله مع الصابرين } بالنصرة واجابة الدعوة فمعنى المعية الولاية الدائمة المستتبعة لهما ودخول مع على الصابرين لما انهم المباشرون للصبر حقيقة فهم متبوعون من تلك الحيثية

قال عصام الدين فى التفسير الاجل ان الله مع الصابرين لان الصابرين لا يذهلون عن ذكره بخلاف المجتنبين عن الصبر فان قلوبهم لاهية عن ذكر الله والقلب اللاهى عنه ممتلئ من هموم الدنيا وان كانت الدنيا بأسرها له انتهى كلامه

ان قيل لم قال { ان الله مع الصابرين } ولم يقل مع المصلين وقال فى الآية الاخرى { واستعينوا بالصبر والصلوة وانها لكبيرة } فاعتبر الصلاة دون الصبر

قيل لما كان فعل الصلاة اشرف واعلى من الصبر اذ قد ينفك الصبر عن الصلاة ولا تنفك الصلاة عن الصبر ذكر ههنا الصابرين فمعلوم انه تعالى اذا كان مع الصابرين فهو لا محالة يكون مع المصلين بطريق الاولى وقال هناك لكبيرة فذكر الصلاة دون الصبر تنبيها على انها اشرف منزلة من الصبر

واعلم ان الصبر الذى هو تحمل المشاق من غير جزع واضطراب ذريعة الى فعل كل خير ومبدأ كل فضل فان اول التوبة الصبر عن المعاصى واول الزهد الصبر عن المباحات واول الارادة الصبر وطلب ترك ما سوى الله تعالى ولهذا قال صلى الله عليه وسلم « الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد » وقال « الصبر خير كله » فمن تحلى بحلية الصبر سهل عليه ملابسة الطاعات والاجتناب عن المنكرات وكذا الصلاة قال تعالى { ان الصلوة تنهى عن الفحشاء والمنكر }

صبر كن حافظ بسختى روز وشب ... عاقبت روزى بيابى كام را

وفى الحديث « اذا جمع الله الخلائق نادى مناد اين اهل الفضل قال فيقوم ناس وهم يسيرون سراعا الى الجنة فتلقاهم الملائكة فيقولون انا نراكم سراعا الى الجنة فمن انتم قالوا نحن اهل الفضل فيقولون ما كان فضلكم قالوا كنا اذا ظلمنا صبرنا واذا اسيئ الينا عفونا فيقال لهم ادخلوا الجنة فنعم اجر العاملين ثم ينادى مناد اين اهل الصبر فيقوم ناس يسيرون سراعا الى الجنة فتلقاهم الملائكة فيقولون انا نراكم سراعا الى الجنة فمن انتم فيقولون نحن اهل الصبر فيقولون ما كان صبركم قالوا كنا نصبر على طاعة الله ونصبر عن معاصى الله فيقال لهم ادخلوا الجنة ثم ينادى مناد اين المتحابون فى الله فيقوم ناس يسيرون سراعا الى الجنة فتلقاهم الملائكة فيقولون من انتم فيقولون نحن المتحابون فى الله فيقولون وما كان تحابكم فى الله قالوا كنا نتحاب فى الله والجنة »

(1/344)

كذا فى نزهة القلوب

(1/345)

وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)

{ ولا تقولوا } نزلت فى شهداء بدر وكانوا اربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الانصار وكان الناس يقولون { لمن يقتل } فى سبيل الله مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها فانزل الله تعالى ولا تقولوا لمن يقتل القتل نقض البنية الحيوانية { فى سبيل الله } وهو الجهاد لانه طريق الى ثواب الله ورحمته { اموات } اى هم اموات { بل احياء } اى كالاحياء فى الحكم لا ينقطع ثواب اعمالهم لانهم قتلوا لنصرة دين الله فما دام الدين ظاهرا فى الدنيا وأحد يقاتل فى سبيل الله فلهم ثواب ذلك لانهم سنوا هذه السنة { ولكن لا تشعرون } كيف حالهم فى حياتهم وفيه رمز الى انها ليست مما يشعر به بالمشاعر الظاهرة من الحياة الجسمانية وانما هى امر روحانى لا يدرك بالعقل بل بالوحى

وفى الآية دلالة على ان الارواح جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحس به من البدن تبقى بعد الموت دراكة وعليه الجمهور

فان قلت الحياة الروحانية المستتبعة لادراك اللذة والالم مشتركة فى الجميع فما وجه تخصيص الشهداء بها قلت لاختصاصهم بالقرب من الله تعالى ومزيد البهجة والكرامة ومن لم يبلغ منزلتهم لا تكون حياته معتدا بها فكأنه ليس بحى قال تعالى فى حق اهل النار { لا يموت فيها ولا يحيى } واعلم ان نفس الانسان وذاته الذى هو مخاطب مكلف مأمور منهى بأوامر الله ونواهيه جسمانى لطيف سار فى هذا البدن المحسوس سريان النار فى الفحم وماء الورد فى الورد وهو الذى يشير اليه كل احد بقوله انا وهو الانسان حقيقة وهو الولى والنبى والمثاب والمعاقب على اعماله وهو كان فى صلب آدم حين سجد له الملائكة وهو الذى سأله الله بقوله { ألست بربكم قالوا بلى } وهو الذى يتوفى فى المنام ويخرج ويسرح ويرى الرؤيا فيسر بما يرى او يحزن فان امسكه الله ولم يرجع الى جسده تبعه الروح والجسد الكثيف المعبر عنه بالبدن والروح السلطانى محل تعينه هو القلب الصنوبرى والروح الحيوانى محل تعينه هو الدماغ ويقال له القلب والعقل والنفس ايضا سرى فى جميع اعضاء البدن الا ان سلطانه قوى فى الدماغ فهو اقوى مظاهره وهو اى الروح الحيوانى انما حدث بعد تعلق الروح السلطانى بهذا الهيكل فهو من انعكاس انوار الروح السلطانى ليكون مبدأ الافعال لان الحياة امر مغيب مستور فى الحى لا يعلم الا بآثارها كالحس والحركة والعلم والارادة وغيرها وهذا يدور على الروح الحيوانى فما دام هذا البخار باقيا على الوجه الذى يصلح ان يكون علاقة بينهما فالحياة قائمة وعند انتفائه وخروجه عن الصلاحية له تزول الحياة ويخرج الروح من البدن خروجا اضطراريا وهو الموت الحقيقى وكما يخرج الروح من البدن خروجا اضطراريا كذلك قد يخرج منه خروجا اختياريا ويعود اليه متى شاء وهو الذى سماه الصوفية بالانسلاخ فقد عرفت من هذا ان مذهب اهل السنة والجماعة ان الروح جسم لطيف مغاير لهذا الهيكل المحسوس وانكشف لك حال الروح ووقف على اسرار البرزخ واحوال القبر وما فيه من الالم واللذة الجسمانيين وانحل عندك وجه كونه روضة من رياض الجنة او حفرة من حفر النيران فالشهداء احياء بالحياة البرزخية متنعمون لانهم اجسام لطيفة كالملائكة فانهم موجودون احياء قال المولى الفنارى فى تفسير الفاتحة كل نعيم يتنعم به الصديقون والشهداء والصالحون فى البرزخ خيالى وكذا كل عذاب يتألم به الجهنميون ومصداق ذلك انه اذا نفخ فى الصور وبعث الخلق ينسى كل واحد منهم حاله فى البرزخ ويتخيل ان ذلك الذى كان فيه منام كما تخليه المستيقظ وقد كان حين مات وانتقل الى البرزخ كالمستيقظ هناك وان الحياة الدنيا كانت له كالمنام وفى الآخرة يعتقد فى امر الدنيا والبرزخ انه منام فى منام وان اليقظة الصيححة هى التى هو عليها فى الدار الآخرة حيث لا نوم فيها ولا نوم بعدها انتهى كلامه

(1/346)

قال فى اسئلة الحكم ان امور البرزخ والآخرة على النمط الغير المألوف فى الدنيا والارواح بعد الموت ليس لها نعيم ولا عذاب حسى جسمانى لكن ذلك نعيم او عذاب معنوى حتى تبعث اجسادها فترد اليها فتتنعم عند ذلك حسا ومعنى ألا ترى الى بشر الحافى قدس سره لما رؤى فى المنام قيل له ما فعل الله بك قال غفر لى واباح لى نصف الجنة يعنى روحه متنعمة بالجنة بما يليق بها فى مقامه والنصف الآخر هو الجنة التى يدخلها ببدنه اذا حشر فيكمل النعيم بالنصف الآخر اذا حشر فيكمل النعيم بالنصف الآخر والاكل الذى راه الميت بعد موته فى البرزخ هو كالاكل الذى يراه النائم فى النوم والنعيم به مثل النعيم به سواء كما قال عليه السلام « انى ابيت عند ربى يطعمنى ويسقينى » وكذلك كل شخص غير ان الفرق بين الرسول وغيره فى هذه الصورة ان جسم النبى يبيت جائعا ويستيقظ وهو شبعان وغير النبى يأكل فى منامه وهو جيعان ويستيقظ وهو كذلك واذا رأى الولى الوارث ذلك وقد وجد أثر الشبع او الرى فذلك من اجزاء النبوة التى وردت فى الميراث اذ الرؤيا جزء من ستة واربعين جزأ من النبوة وقد رأى ذلك كثير من الاولياء واصبحوا وعليهم رائحة الطعام الذى اكلوه وشبعوه فهذه وراثة نبوبة فقوله عليه السلام « انى لست كهيئتكم » باعتبار الغالب لا باعتبار الكل فتنعم الشهداء فى البرزخ بمرتبة تنعم الولى الوارث فى المنام فافهم هذا المقام فان الجسم المبحوث عنه ههنا هو الجسم اللطيف وتنعم بما يليق بمرتبته فى البرزخ سواء عبرت عنه بالخيالى او بالمعنوى او بالجسمانى اى المنسوب الى الجسم اللطيف لا الكثيف فان اللذة الجسمانية المتعلقة بالجسد الكثيف حال الدنيا لا غير

(1/347)

وفى التأويلات النجمية الاشارة لا تحسبوا من قتل من اهل الجهاد الاكبر بسيف جلال الله فى سبيل الله بالفناء فى الله امواتا وان فنيت اوصاف وجودهم فانهم احياء بشهود موجدهم ومن كان فناؤه فى الله كان بقاؤه بالله فتارة يفنيهم بسطوات تجلى صفات الجلال وتارة يحييهم بنفحات ألطاف الجمال فانهم يسرحون فى رياض الجمال ولكن لا تشعرون باحوالهم ولا تطلعون عليها

قال القشيرى لئن فنيت فى الله اشباحهم لقد بقيت بالله اراواحهم

وقال الجنيد من كانت حياته بنفسه يكون مماته بذهاب روحه ومن كانت حياته بربه فانه ينتقل من حياة الطبع الى حياة الاصل وهو الحياة الحقيقية : وفى المثنوى

مى كند دندان بدرا آن ... طبيب تارهد ازدرد وبيمارى حبيب

بس زيادتها درون نقصهاست ... مر شهيدا نراحيات اندرفناست

كريكى سررا ببرد از بدن ... صد هزاران سربر آرد درزمن

حلق ببريده خورد شربت ولى ... خلق ازلاسته مرده دربلى

(1/348)

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)

{ ولنبلونكم } اللام جواب قسم محذوف اى والله لنعاملنكم معاملة المبتلى هل تصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء اولا اذ البلاء معيار كالمحك يظهر به جوهر النفس وذلك لنظهر لكم منكم المطيع من العاصى لا لنعلم شيأ لم نكن عالمين به { بشئ من الخوف } اى بقليل من خوف الاعداء وانما قلله لان ما واقاهم منه اكثر بالنسبة الى ما اصابهم بالف مرة { و } شىء من { الجوع } اى القحط والسنة وانما اخبرهم به قبل وقوعه ليوطئوا عليه نفوسهم ويسهل لهم الصبر عليه فان مفاجأة المكره اشد على النفس من اصابته مع ترقبه { ونقص من الاموال } عطف على شئ اى وبنقص شيء قليل من ذلك بالسرقة والاغارة واخذ السلطان والهلاك والخسران { والانفس } اى بالقتل والموت او بالمرض والشيب { والثمرات } اى وذهاب ثمرات الكروم والاشجار بالبرد والسموم والريح والجراد وغيرها من الآفات وقد يكون نقص الثمرات بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد

وعن الشافعى رحمه الله الخوف خوف الله والجوع صوم رمضان والنقص من الاموال الزكاة والصدقات ومن الانفس الامراض ومن الثمرات موت الاولاد وفى الحديث « اذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة قبضتم ولد عبدى فيقولون نعم فيقول أقبضتم ثمرة قلبه فيقولون نعم فيقول ماذا قال عبدى فيقولون حمدك واسترجع فيقول الله ابنوا لعبدى بيتا فى الجنة وسموه بيت الحمد »

قال بعض اهل المعرفة مطالبات الغيب اما ان تكون بالمال او بالنفس او بالاقارب او بالقلب او بالروح فمن اجاب بالمال فله النجاة ومن اجاب بالنفس فله الدرجات ومن صبر على فقد الاقارب فله الخلف والقربات ومن لم يؤخر عنه الروح فله دوام المواصلات { وبشر } الخطاب للرسول او لمن يتأتى منه البشارة لتعظيم الصبر وتفخيمه لانه فضيلة عظيمة الثواب وخصلة من خصال الانبياء والاولياء فيستحق صاحبه ان يبشره كل احد { الصابرين } على البلايا

(1/349)

الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)

{ الذين اذا اصابتهم } الاصابة ضد الخطأ { مصيبة } هى ما يصيب الانسان من مكروه لقوله عليه السلام « كل شىء يؤذى المؤمن فهو له مصيبة » واصلها الوصول من صاب السهم المرمى واصابه وصل اليه { قالوا انا لله } اى نحن عبيد الله والعبد وما فى يده لمولاه فان شاء ابقاه فى ايدينا وان شاء استرده منا فلا نجزع بما هو ملكه بل نصبر فان عشنا فعليه رزقنا وان متنا فانا اليه راجعون واليه مردنا وعنده ثوابنا ونحن راضون بحكمه فما أعطانا ربنا كان فضلا منه ولا يليق بكرمه الارتجاع فى عطاياه وانما اخذه ليكون ذخيرة لنا عنده فقولنا انا لله اقرار منا له تعالى بالملك { وانا اليه راجعون } اقرار على انفسنا بالهلك وقيل الرجوع اليه تعالى ليس عبارة عن الانتقال الى مكان وجهة فان ذلك على الله محال بل المراد منه ان يصير الى حيث لا يملك الحكم فيه سواه وذلك هو الدار الآخرة اذ لا حاكم فيها حقيقة وبحسب الظاهر الا الله تعالى بخلاف دار الدنيا فان غير الله قد يملك الحكم فيها بحسب الظاهر

وقول المصاب عند مصيبته انا لله وانا اليه راجعون له فوائد . منها الاشتغال بهذه الكلمة عن كلام لا يليق . ومنها انها تسلى قلب المصاب وتقلل حزنه . ومنها انها تقطع طمع الشيطان فى ان يوافقه فى كلام لا يليق . ومنها انه اذا سمعه غيره اقتدى به . ومنها انه اذا قال ذلك بلسانه يتذكر بقلبه الاعتقاد الحسن والتسليم لقضاء الله وقدره فان المصاب يدهش عند المصيبة فيحتاج الى ما يذكر له التسليم المذكور وفى الحديث « ما من مصيبة تصيب عبدا فيقول انا لله وانا اليه راجعون اللهم أجرنى من مصيبتى وأخلف لى خيرا منها الا آجره الله فى مصيبته وأخلف له خيرا منها »

قال سعيد بن جبير ما اعطى احد فى المصيبة ما اعطى هذه الامة يعنى الاسترجاع ولو اعطيه احد لاعطى يعقوب ألا تسمع الى قوله فى قصة فقد يوسف { يا اسفا على يوسف } وليس الصبر هو الاسترجاع باللسان بل بالقلب بان يتصور ما خلق لاجله وهو الانقياد لله تعالى فى جميع ما كلفه به من التكاليف والتسليم لقضاء الله وقدره فى جميع ما اخذه واعطاه فان من اختص لله تعالى ملكا وملكا كيف ينازعه فى ملكه ولا يرضى بقضائه وملاحظة ان ما فى عالم الملك كله لله يذكر نعم الله وتذكرها يستلزم العلم بان ما ابقى عليه اضعاف ما استرده منه والمبشر به محذوف دل عليه قوله تعالى

(1/350)

أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

{ اولئك } اى الصابرون الموصوفون بما ذكر { عليهم صلوات } كائنة { من ربهم ورحمة } اى رحمة ووجه الجمع فى الصلوات الدلالة على الكثرة والتكرير واستغنى بتنكير التعظيم فى رحمة عن ايرادها بلفظ الجمع ويندرج فى رحمته تعالى ايصال المسار ودفع المضار فى الدنيا والآخرة وجمع بين الصلاة والرحمة للايذان بان رحمته غير منقطعة فالمعنى عليهم فنون الرحمة المتوالية الفائضة من مالك امورهم ومبلغهم الى كمالاتهم اللائقة بهم

قال بعضهم الصلاة من الله المدح والثناء والتعظيم والرحمة اللطف والاحسان فلا تكرار { واولئك هم المهتدون } المختصون بالاهتداء لكل حق وصواب ولذلك استرجعوا واستسلموا لقضاء الله تعالى

وعن ابن مسعود رضى الله عنه لان أخر من السماء احب الى من ان اقول فى شىء قضاه الله ليته لم يكن

وقال على رضى الله عنه من ضرب بيده على فخذه عند مصيبة فقط حبط اجره اى بطل ثوابه

قيل المكاره التى تصيب الانسان اذا اصابته من قبل الله تعالى يجب الصبر عليها لان ما جاء من جهة العدل الحكيم ليس الا مقتضى عدله وحكمته فيجب عليه ان يرضى لعلمه بانه تعالى لا يقضى الا بالحق وان اصابته من جهة الظلمة فلا يجب عليه ان يصبر عليها بل جاز له ان يمانعه بل يحاربه وان قتل بمحاربته يكون شهيدا

واعلم ان البلاء سبب للتصفية كما قال عليه السلام « ما اوذى نبى مثل ما اوذيت » اى ما صفى نبى مثل ما صفيت والوفاء والجفاء سيان عند العشاق كما قال

صائب شكايت از ستم يار جون كند ... هر جاكه عشوه هست وفا وجفا يكيست

قال الحسن رضى الله عنه سمعت جدى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « يا بنى عليك بالقنوع تكن من اغنى الناس واداء الفرائض تكن من اعبد الناس يا بنى ان فى الجنة شجرة يقال لها شجرة البلوى يؤتى باهل البلاء يوم القيامة فلا ينشر لهم ديوان ولا ينصب لهم ميزان يصب عليهم الاجر صبا ثم قرأ انما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب » ولم يكن فى الصبر الا حكاية الطير الذى فى عهد سليمان عليه السلام لكفى

وذلك ان طيرا فى عهد سليمان عليه السلام كان له صوت حسن وصورة حسنة اشتراه رجل بالف درهم وجاءه طير آخر فصاح صيحة فوق قفصه وطار فسكت الطير وشكا الرجل الى سليمان عليه السلام فقال احضروه فلما احضروه قال سليمان عليه السلام لصاحبك عليك حق حتى اشتراك بثمن غال فلم سكت فقال يا نبى الله قل له حتى يرفع قلبه عنى انى لا اصيح ابدا ما دمت فى القفص قال لم قال لان صياحى كان من الجزع الى الوطن والاولاد وقال لى ذلك الطير انما حبسك لاجل صوتك فاسكت حتى تنجو فقال سليمان عليه السلام للرجل ما قال الطير فقال الرجل أرسله يا نبى الله فانى كنت احبسه لصوته فأعطاه سليمان عليه السلام الف درهم ثم ارسل الطير ثم طار وصاح سبحان من صورنى وفى الهواء طيرنى ثم فى القفص صبرنى ثم قال سليمان عليه السلام ان الطير ما دام فى الجزع لم يفرج عنه فلما صبر فرج عنه ومثل هذا فى الحقيقة اشارة الى الفناء عن اوصاف فى الجزع لم يفرج عنه فلما صبر فرج عنه ومثل هذا فى الحقيقة اشارة الى الفناء عن اوصاف النفس فان المرء ما لم يمت باختياره قبل اضطراره لا يصل الى الحياة الحقيقية : قال فى المثنوى

(1/351)

دانه باشى مرعكانت برجنند ... غنجه باشى كود كانت بركنند

هركه كرد او حسن خوردا درمزاد ... صد قضاى بد سوى اورونهاد

تن قفس شكلست وتن شد خارجان ... در فريب داخلان وخارجان

قال حضرت الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره لا بد من نفى الانية واضمحلال الوجود فى بحر الوجود الحقيقى حتى يتم المقصود ويحصل : قال الصائب

ترك هستى كن كه اسودست از تاراج سيل ... هركه بيش ازسيل رخت خود برون ازخانه ريخت

قال حضرة الشيخ افتاده افندى قدس سره العبور عن المراتب محله مرتبة يقال لها وادى الحيرة يعرف السالك فيها مطلوبه ولكن لا يقدر على الوصول فيدور فى ذلك الوادى بالحيرة والحرارة ويحرق الانية بتلك الحرارة ويقال له وادى الحيرة لان السالك يتحير ولا يقدر على الذهاب والرجوع وقوله عليه السلام « اللهم زدنى حيرة » اشارة الى ذلك وتلك المرتبة لا تتيسر لكثير والعبور عنها لا يمكن الا بارشاد مرشد كامل اللهم هيئنا لتجليات اسمائك وصفاتك وأفض علينا من كاسات مشاهدات كمال ذاتك

(1/352)

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

{ ان الصفا } علم لجبل بمكة وسمى الصفا لانه جلس عليه آدم صفى الله { والمروة } علم لجبل فى مكة ايضا وسمى المروة لانها جلست عليها امرأة آدم حواء عليهما السلام { من شعائر الله } جمع شعيرة بمعنى العلامة اى من اعلام طاعة الله فان كل واحد من المواقف والمساعى والمنحر جعله الله تعالى علامة لنا نعرف به العبادة المختصة روى انه كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له اساف وصنم على المروة على صورة امرأة يقال لها نائلة يروى انهما كانا رجلا وامرأة زنيا فى الكعبة فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما فلما طالت المدة عبدا من دون الله فكان اهل الجاهلية اذا سعوا بين الصفا والمروة مسحوهما تعظيما لهما فلما جاء الاسلام وكسرت الاوثان كره المسلمون الطواف بينهما لانه فعل الجاهلية فاذن الله تعالى فى الطواف بينهما واخبر انهما من شعائر الله

والحكمة فى شرعية السعى بين الصفا والمروة ما حكى ان هاجر لما ضاق عليها الامر فى عطشها وعطش اسماعيل سعت فى هذا المكان الى ان صعدت الجبل ودعت فأنبع الله لها زمزم واجاب دعاءها فجلعها طاعة لجميع المكلفين الى يوم القيامة

وفى الخبر « الصفا والمروة بابان من الجنة وموضعان من مواضع الاجابة ما بينهما قبر سبعين الف نبى وسعيهما يعدل سبعين رقبة » { فمن حج البيت او اعتمر } الحج فى اللغة القصد والعمرة الزيارة وفى الحج والعمرة المشروعين قصد وزيارة { فلا جناح عليه } اى لا اثم عليه واصله من جنح اى مال عن القصد والخير الى الشر { ان يطوف بهما } اى فى ان يطوف بهما ويدور فأزال عنهم الجناح لانهم توهموا أن يكون فى ذلك جناح عليهم لاجل فعل الجاهلية وهو لا ينافى كون هذا الطواف واجبا كما عند الحنفية لان قولنا لا اثم فى فعل امر كذا يصح اطلاقه على الواجب واصل يطوف يتطوف وفى ايراد التفعل ايذان بان من حق الطائف ان يتكلف فى الطواف ويبذل فيه جهده { ومن تطوع خيرا } اصل التطوع الفعل طوعا لا كرها كانه قيل من فعل او اتى ما يتقرب به طائعا فنصب خيرا بتضمين تطوع فعلا يتعدى بنفسه او التطوع بمعنى التبرع من قولهم طاع يطوع اى تبرع فكأنه قيل من تبرع بما لم يفرض عليه من القربات مطلقا فانتصاب خيرا حينئذ على اسقاط حرف الجر اى من تطوع تطوعا بخير { فان الله شاكر } له اى مجاز بعمله فان الشاكر فى وصف الله تعالى بمعنى المجازى على الطاعة بالاثابة عليها

قال ابن التميجد فى حواشيه الشكر من الله بمعنى الرضى عن العبد والاثابة لازم الرضى والرضى ملزوم الشكر فالشكر مجاز فى معنى الرضى ثم التجوز منه الى معنى الاثابة مجاز فى المرتبة الثانية { عليم } بطاعة المتطوع ونيته فيها

(1/353)

وفى الآية حث على نوافل الطاعات كما على فرائضها فمن اتى بنافلة واحدة فان الله شاكر عليم فكيف باكثر منها فالبصوم تحصيل قهر النفس وبالزكاة تزكيها وبالصلاة المعراج الروحانى وبالحج الوصول

وعن سفيان الثورى قال حججت سنة ومن رأيى ان انصرف من عرفات ولا احج بعد هذا فنظرت فى القوم فاذا انا بشيخ متكىء على عصا وهو ينظر الى مليا فقلت السلام عليك يا شيخ قال وعليك يا سفيان ارجع عما نويت فقلت سبحان الله من اين تعلم نيتى قال ألهمنى ربى فوالله لقد حججت خمسا وثلاثين حجة وكنت واقفا بعرفات ههنا فى الحجة الخامسة والثلاثين انظر الى هذه الرحمة وأتفكر فى امرى وامرهم ان الله هل يقبل حجهم وحجى فبقيت متفكرا حتى غربت الشمس وأفاض الناس من عرفات الى مزدلفة ولم يبق معى احد وجن الليل ونمت تلك الليلة فرأيت فى النوم كأن القيامة قد قامت وحشر الناس وتطايرت الكتب ونصبت الموازين والصراط وفتحت ابواب الجنان والنيران فسمعت النار تنادى وتقول اللهم وق الحجاج حرى وبردى فنوديت يا نار سلى غيرهم فانهم ذاقوا عطش البادية وحر عرفات ووقوا عطش القيامة ورزقوا الشفاعة فانهم طلبوا رضاى بانفسهم واموالهم قال الشيخ فانتبهت وصليت ركعتين ثم نمت ورأيت كذلك فقلت فى نومى هذا من الرحمن او من الشيطان فقيل لى بل من الله مد يمينك فمددت فاذا على كفى مكتوب من وقف بعرفة وزار البيت شفعته فى سبعين من اهل بيته قال سفيان وارانى المكتوب حتى قرأته ثم قال الشيخ فلم تمر على منذ حينئذ سنة الا وانا حججت حتى تم لى ثلاث وسبعون حجة كذا فى زهرة الرياض

قال فى الاشباه والنظائر بناء الرباط بحيث ينتفع به المسلمون افضل من الحجة الثانية والحج تطوعا افضل من الصدقة النافلة وحج الفرض اولى من طاعة الوالدين بخلاف النفل وحج الغنى افضل من حج الفقير لان الفقير يؤدى الفرض من مكة وهو متطوع فى ذهابه وفضيلة الفرض افضل من فضيلة التطوع

فعلى العاقل ان يقصد بيت الله ويزوره فان لم يساعده المال فلتساعده الهمة والحال فان المعتبر هو توجه القلب الى جانب الغيب لا مجرد توجه القالب : قال فى المثنوى

ميل تو سوى مغيلا نست و ريك ... تا جه كل جينى زخار مرده ريك

وفى التأويلات القاشانية { ان الصفا } وجود القلب { والمروة } وجود النفس { من شعائر الله } من اعلام دين الله ومناسكه القلبية كاليقين والتوكل والرضى والاخلاص والنفسية كالصبر والشكر والذكر والفكر { فمن حج البيت } اى بلغ مقام الوحدة الذاتية ودخل الحضرة الآلهية بالفناء الكلى الذاتى { واعتمر } زار الحضرة بالبلوغ الى مقام المشاهدة بتوحيد الصفات والفناء فى انوار تجليات الجمال والجلال { فلا جناح } فلا حرج { عليه } حينئذ فى { ان يطوف بهما } اى يرجع الى مقامهما ويتردد بينهما لا بوجودهما التلوينى فانه جناح وذنب بل بالوجود الموهوب الحقانى بعد الفناء عند التمكين ولهذا نفى الجناح فان فى هذا الوجود سعة بخلاف الاول { ومن تطوع خيرا } اى ومن تبرع خيرا من باب التكميل والتعليم والارشاد وشفقة الخلق فى مقام القلب ومن باب الاخلاق وطرف البر والتقوى ومعاونة الضعفاء والمساكين وتحصيل الهمم فى مقام النفس بعد كمال السلوك حال البقاء بعد الفناء { فان الله شاكر } شكر عمله بثواب المزيد { عليم } بانه من باب التصرف فى الاشياء بالله لا من باب التلوين والابتلاء والفترة انتهى كلام القاشانى

(1/354)

يا خفى الذات محسوس العطاء ... انت كالماء ونحن كالرحاء

انت كالريح ونحن كالغبار ... يختفى لاريح وغبراه جهار

(1/355)

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)

{ ان الذين يكتمون } الآية نزلت فى رؤساء اليهود واحبارهم او فى كل من كتم شيأ من احكام الدين وهو الاقرب لان اللفظ عام وعموم الحكم لا يأبى خصوص السبب والكتم والكتمان ترك اظهار الشئ قصدا مع الحاجة اليه وحصول الداعى الى اظهاره وذلك قد يكون بمجرد ستره واخفائه وقد يكون بازالته ووضع شىء آخر فى موضعه وهو الذى فعه هؤلاء فى نعوت النبى صلى الله عليه وسلم وغيرها { ما انزلنا } حال كونه { من البينات } اى من الآيات الواضحة الدالة على امر محمد عليه السلام وعلى الرجم وتحويل القبلة الحرام والحلال { والهدى } اى والآيات الهادية الى كنه امره ووجوب اتباعه عليه السلام والايمان به { من } متعلق بيكتمون { بعدما بيناه } اى اوضحناه ولخصناه { للناس } جميعا لا الكاتمين فقط { فى الكتاب } اى التوراة وتبيينه لهم ايضاحه بحيث يتلقاه كل احد من غير ان يكون فيه شبهة

قال ابن الشيخ فى حواشيه فالمراد بالبينات ما انزل على الانبياء من الكتب والوحى دون ادلة العقل وان قوله والهدى يدخل فيه الدلائل العقلية والنقلية وقوله تعالى فى حق الهدى من بعد ما بيناه وما لخصناه فى الكتاب لا يقتضى اتحادهما وان يكون العطف لتغاير اللفظين لان كون ما بينّاه فى الكتاب كما يجوز ان يكون بطريق كونه من جملة التنزيل يجوز ان يكون بطريق كونه فائدة ملخصة اى مستفادة منه { اولئك } اى اهل هذه الصفة { يلعنهم الله } اى يطردهم ويبعدهم من رحمته بسبب كتمهم الحق { ويلعنهم اللاعنون } اى الذين يتأتى منهم اللعن اى الدعاء عليهم باللعن من الملائكة ومؤمنى الثقلين

وعن ابن مسعود رضى الله عنه ما تلا عن اثنان الا ارتفعت اللعنة بينهما فان استحقها احدهما والا رجعت على اليهود الذين كتموا صفة محمد عليه السلام او اللاعنون البهائم والهوام تلعن العصاة تقول اللهم العن عصاة بنى آدم فبشؤمهم منع عنا القطر

(1/356)

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)

{ الا الذين تابوا } من الكتمان وسائر ما يجب ان يتاب منه الاستثناء متصل والمستثنى منه هو الضمير فى يلعنهم { واصلحوا } ما افسدوا بالتدارك فانه لا بد بعد التوبة من اصلاح ما افسده مثلا لو افسد على غير دينه بايراد شبهة عليه يلزمه ازالة تلك الشبهة وبعد ذلك لا بد له من ان يفعل ضد الكتمان وهو البيان وهو المراد بقوله تعالى { وبينوا } اى ما بينه الله فى كتابهم لتتم توبتهم فدلت الآية على ان التوبة لا تحصل الا بترك كل ما لا ينبغى وبفعل كل ما ينبغى { فاولئك اتوب عليهم } اى بالقبول وافاضة الرحمة والمغفرة فان التوبة اذا اسندت اليه تعالى بان قيل تاب الله او يتوب تكون بمعنى القبول وقبول التوبة يتضمن المغفرة اى ازالة عقاب من تاب { وانا التواب الرحيم } اى المبالغ فى قبول التوبة ونشر الرحمة ولما ذكر لعنتهم احياء ذكر لعنتهم امواتا فقال

(1/357)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)

{ ان الذين كفروا } اى استمروا على الكفر المستتبع للكتمان وعدم التوبة { وماتوا وهم كفار } مصرون على كفرهم لا يرتدعون عن حالتهم الاولى { اولئك } مستقر { عليهم لعنة الله والملائكة والناس اجمعين } اى هم المخصوصون باللعنة الابدية احياء وامواتا فمن يعتد بلعنتهم وهم المؤمنون لانهم هم الناس فى الحقيقة لانتفاعهم بالانسانية واما الكفار فهم كالانعام واضل سبيلا فلا اعتداد بهم عند الله او الناس عام لان الكفار يوم القيامة يلعن بعضهم بعضا والله تعالى يلعنهم يوم القيامة ثم يلعنهم الملائكة ثم تلعنهم الناس والظالم يلعن الظالمين ومن لعن الظالمين وهو ظالم فقد لعن نفسه

(1/358)

خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)

{ خالدين فيها } حال من المضمر فى عليهم اى دائمين فى اللعنة لانهم خلدوا فى النار خلدوا فى الابعاد عن رحمة الله تعالى { لا يخفف عنهم العذاب } استئناف لبيان كثرة عذابهم من حيث الكيف اثر بيان كثرته من حيث الكم اى لا يرفع عنهم ولا يهون عليهم { ولا هم ينظرون } من الانظار بمعنى الامهال والتاجيل اى لا يمهلون للرجعة ولا للتوبة ولا للمعذرة او يعذبون على الدوام والاستمرار وان كل وجه من وجوه عذابهم يتصل بوجه آخر مثله او اشد منه وانهم لا يمهلون ولا يؤجلون ساعة ليستريحوا فيها او من النظربمعنى الانتظار اى لا ينتظرون ليعتذروا او بمعنى الرؤية اى لا ينظر اليهم نظر رحمة وانما خلدوا فى النار لان نيتهم كانت عبادة الاصنام ابدا ان عاشوا فجوزوا بتأبيد العذاب واما الدركات لان النيات متفاوتة كالاعمال والتأديب فى الحكمة واجب ولما اساء الكفار بسوء الاعتقاد فى حقه تعالى ادبوا بالحرمان من الجنة والخلود فى النار ونعم ما قيل

سفيها نرا بود تأديب نافع ... جنونانرا جوشربت كشت دافع

وانما حمل هؤلاء اليهود على ما فعلوا من الكتمان وغيره حب الرياسة والدنيا لانهم خافوا ان يذهب مأكلتهم من السفلة وما يغنى عنهم ذلك شيأ اذا كان مصيرهم الى النار

وفى الخبر ان مؤمنا وكافرا فى الزمان الاول انطلقا يصيدان السمك فجعل الكافر يذكر آلهته ويأخذ السمك حتى أخذ سمكا كثيرا وجعل المؤمن يذكر الله كثيرا فلا يجيىء شىء ثم اصاب سمكة عند الغروب فاضطربت فوقعت فى الماء فرجع المؤمن وليس معه شىء ورجع الكافر وقد امتلأت شبكته فاسف ملك المؤمن الموكل عليه فلما صعد الى السماء اراه الله مسكن المؤمن فى الجنة فقال والله ما يضره ما اصابه بعد ان يصير الى هذا واراه مسكن الكافر فى جهنم فقال والله ما يغنى عنه ما اصابه من الدنيا بعد ان يصير الى هذا كذا فى شرح الخطب

نركس اندرخواب غفلت يافت بلبل صدو صال ... خفته نابينا بود دولت به بيداران حسد

ومرتكب المعاصى لو عرف عذاب الجحيم حق المعرفة لما ارتكبها حتى ان من قوى ظنه ان فى هذه الثقبة حية لا يدخل يده فيها فم ظنك فى ارتكاب المعاصى بملاحظة عذاب النار

واعلم ان احبار اليهود لما لم ينتفعوا بعلمهم ضلوا فأضلوا فخذلهم الله ولعنهم

وذكر فى الخالصة لن يهلك قوم بظلمهم وانما اهلكهم ظلم ولاتهم

قال الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره وكذا الحال فى الارشاد فان الضلال والفساد فى الطالبين من فساد مرشدهم فما دام المرشد على الصراط المستقيم يحفظ الله تعالى الطالب من الضلال فان نزول البلاء على قوم من فساد رئيسهم وحكى ان امنا حواء اكلت اولا من الشجرة فلم يقع شىء فلما اكل منها ابونا آدم عليه السلام وقع الخروج من الجنة انتهى فويل لارباب الرياسة الذين ظلموا انفسهم وتجاوزو ظلمهم الى من عداهم فانهم هم الواقعون فى عذاب النار نار القطيعة والهجران وجهنم البعد عن الله ورحمته اللهم احفظنا

(1/359)

وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)

{ وآلهكم } خطاب عام لكافة الناس اى المستحق منك للعبادة { اله واحد } فرد فى الآلهية لا شريك له فيها ولا يصح ان يسمى غيره آلها فلا معبود الا هو وهو خبر مبتدأ وواحد صفة وهو الخبر فى الحقيقة لانه محط الفائدة ألا يرى انه لو اقتصر على ما قبله لم يفد { لا اله الا هو } تقرير للوحدانية وازاحة لا يتوهم ان فى الوجود آلها ولكن لا يستحق منهم العبادة يعنى بهذا فاعرفوه ودائما فاعبدوه ولا ترجوا غيره ولا تخافوا سواه ولا تعبدوا الا اياه والاستثناء بدل من اسم لا على المحل اذ محله الرفع على الابتداء والخبر محذوف اى لا اله كائن لنا او موجود فى الوجود الا الله

واعلم ان الاسماء على ضربين اسم ظاهر واسم ضمير وكلمة هو اسم ضمير فكونها ضميرا لا ينافى كونها اسما وقد حقق الامام فى التفسير الكبير اسمية هذه الكلمة فليراجع وعند اهل الحقيقة كلمة هو اسم بحت لان كل ما يدل على الذات الاحدية فهو اسم محض عندهم سواء كان مظهرا او مضمرا ولذا يقال عالم الهوية باللام فاعرف هذا فانه ينفعك : وفى المثنوى

از هواها كى رهى بى جام هو ... اى ز هو قانع شده با نام هو

هيسج نامى بى حقيقت ديده ... يا ز كاف ولام كل كل جيدة

اسم خواندى رو مسمارا بجو ... مه ببالا دان نه اندر آب جو

نام وحرف خواهى بكذرى ... باك كن خودرا زخودهان يكسرى

همجو آهن زاهنى بى رنك شو ... در رياضت آينه بى زنك شو

خويش را صافى كن ازاوصاف خويش ... تا بينى ذات باك صاف خويش

بينى اندر دل علوم انبياء ... بى كتاب وبى معيد و اوستا

علم كان نبود ز هو بى واسطه ... آن نبايد همجو رنك ماشطه

{ الرحمن الرحيم } اى المولى لجميع النعم اصولها وفروعها ولا شىء سواه مستحق هذه الصفة فان كل شىء سواه اما نعمة واما منعم عليه فثبت ان غيره لا يستحق العبادة فلا يكون آلها فقوله الرحمن الرحيم كالحجة على الوحدانية

وعن اسماء بنت يزيد انها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « ان فى هاتين الآيتين اسم الله الاعظم وآلهكم اله واحد لا اله الا هو الرحمن الرحيم : والله لا اله الا هو الحيى القيوم » قيل كان للمشركين حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فلما سمعوا هذه الآية تعجبوا وقالوا كيف يسع الناس اله واحد فان كان محمد صادقا فى توحيد الاله فليئتنا بآية نعرف بها صدقه فنزل قوله تعالى

(1/360)

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

{ ان فى خلق السموات والارض } اى فى ابداعهما على ما هما عليه مع ما فيهما من تعاجيب العبر وبدائع الصنايع التى يعجز عن فهمها عقول البشر وانما جمع السموات وافرد الارض لان كل سماء ليست من جنس الاخرى بين كل سماءين من البعد مسيرة خمسمائة عام او لان فلك كل واحدة غير فلك الاخرى والارضون كلها من جنس واحد وهو التراب

قال ابن التمجيد فى حواشيه وعند الحكماء محدب كل سماء مماس لمقعر ما فوق غير الفلك التاسع المسمى بالعرش فان محدبه غير مماس لشىء من الافلاك لان ما فوقه خلاء وبعد غير متناه عندنا وعند الحكماء لا خلاء فيه ولا ملاء والعلم عند الله { واختلاف الليل والنهار } اى فى تعاقبهما فى الذهاب والمجىء يخلف احدهما صاحبه اذا جاء احدهما جاء الآخر خلفه اى بعده وفى الزيادة والنقصان والظلمة والنور { والفلك التى تجرى فى البحر } لا ترسب تحت الماء وهى ثقيلة كثيفة والماء خفيف لطيف وتقبل وتدبر بريح واحدة والفلك فى الآية جمع وتأنيثه بتأويل الجماعة { بما ينفع الناس } ما اسم موصول والمصاحبة والجملة فى موضع النصب على الحالية من فاعل تجرى اى تجرى مصحوبة بالاعيان والمعانى التى تنفع الناس فانهم ينتفعون بركوبها والحمل فيها للتجارة فهى تنفع الحامل لانه يربح والمحمول اليه لانه ينتفع بما حمل اليه { وما } اى ان فيما { ما انزل الله من السماء } من لابتداء الغاية اى من جهة السماء { من ماء } بيان للجنس فان المنزل من السماء يعم الماء وغيره والسماء يحتمل الفلك على ما قيل من ان المطر ينزل من السماء الى السحاب ومن السحاب الى الارض ويحتمل جهة العلو سماء كانت او سحابا فان كل ما علا الانسان يسمى سماء ومنه قيل للسقف سماء البيت { فاحيى به } عطف على ما انزل اى نضر بالماء النازل { الارض } بانوا النبات والازهار وما عليها من الاشجار { بعد موتها } اى بعد ذهاب زرعها وتناثر اوراقها باستيلاء اليبوسة عليها حسبما تقتضيه طبيعتها

قال ابن الشيخ فى حواشيه لما حصل للارض بسبب ما نبت فيها من انواع النبات حسن وكمال شبه ذلك بحياة الحيوان من حيث ان الجسم اذا صار حيا حصل فيه انواع من الحسن والنضارة والبهاء والنماء فكذلك الارض اذا تزينت بالقوة المنبتة وما يترتب عليها من انواع النبات { وبث فيها } اى فرق ونشر فى الارض { من كل دابة } من كل حيوان يدب على وجهها من العقلاء وغيرهم وهو معطوف على فاحيى والمناسبة ان بث الدواب يكون بعد حياة الارض بالمطر لانهم ينمون بالخصب ويعيشون بالمطر { وتصريف الرياح } عطف على ما انزل اى فى تقليبها فى مهابها قبولا ودبورا وشمالا وجنوبا وفى كيفيتها حارة وباردة وفى احوالها عاصفة ولينة وفى آثارها عقما ولواقح وقيل فى اتيانها تارة بالرحمة وتارة بالعذاب

(1/361)

قال ابن عباس رضى الله عنهما اعظم جنود الله الريح والماء وسميت الريح ريحا لانها تريح النفوس

قال وكيع الجراح لولا الريح والذباب لأنتنت الدنيا

قال شريح القاضى ما هبت الريح الا لشفاء سقيم او لسقم صحيح وقال بكر بن عباس لا تخرج من السحاب قطرة حتى تعمل فى السحاب هذه الرياح الاربع فالصبا تهيجه والجنوب تقدره والدبور تلقحه والشمال تفرقه واصول الرياح هذه الاربع فالشمال من ناحية الشام والجنوب تقابلها والصبا هى القبول من المشرق والدبور تقابلها وكل ريح جاءت بين مهب ريحين فهى نكباء لانها نكبت اى عدلت ورجعت عن مهاب هذه الاربع

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص الرياح ثمان اربع رحمة واربع عذاب فالرحمة الناشرات وهى الرياح الطيبة والمبشرات وهى الرياح التى تبشر بالغيث واللواقح وهى التى تلقح الاشجار والذاريات وهى التى تذر والتراب وغيره والعذاب الصرصر والعقيم وهما فى البر والعاصف والقاصف وهما فى البحر والعقيم هى التى لم تلقح سحابا ولا شجرا والعاصف الشديدة الهجوم التى تقلع الخيام { والسحاب المسخر } عطف على تصريف اى الغيم المذلل المنقاد الجارى على ما اجراه الله تعالى عليه وهو اسم جنس واحده سحابة وسمى سحابا لانه ينسحب فى الجو اى يسير فى سرعة كأنه يسحب اى يجر { بين السماء والارض } صفة للسحاب باعتبار لفظه وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع كما فى قوله تعالى { سحابا ثقالا } اى لا ينزل الارض ولا ينكشف مع ان طبع السحاب يقتضى احد هذين النزول والانكشاف

قيل لانه لو كان خفيفا لطيفا ينبغى ان يصعد ولو كثيفا يقتضى ان ينزل { لآيات } اسم ان دخلته اللام لتأخره عن خبرها ولو كان فى موضعه لما جاز دخول اللام عليه والتنكير للتفخيم كما وكيفا اى آيات عظيمة كثيرة دالة على القدرة القاهرة والحكمة الباهرة والرحمة والواسعة المقتضية لاختصاص الالوهية به سبحانه { لقوم } فى محل النصب لانه صفة لآيات فيتعلق بمحذوف { يعقلون } فى محل الجر على انه صفة لقوم اى يتفكرون فيها وينظرون اليها بعيون العقول والقلوب ويعتبرون بها لانها دلائل على عظم قدرة الله فيها وباهر حكمته فيستدلون بهذه الاشياء على موجدها فيوحدونه وفيه تعريض لجهل المشركين الذين اقترحوا على الرسول آية تصدقه فى قوله تعالى { والهكم اله واحد } وتسجيل عليهم بسخافة العقول اذ لو عقلوه لكفاهم بهذه التصاريف آية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها » المج حقيقة قذف الريق ونحوه من الفم عدى بالباء لما فيه من معنى الرمى واستعير ههنا لعدم الاعتبار والاعتداد فان من تفكر فيها فكأنه حفظها ولم يلقها من فيه

(1/362)

واعلم ان قوله تعالى { وآلهكم اله واحد لا اله الا هو } اول آية نزلت فى التوحيد بحسب الرتبة اى اقدم توحيد من جهة الحق لا من جهتنا فان اول رتبة التوحيد من طرفنا توحيد الافعال وهذا هو توحيد الذات ولما بعد هذا التوحيد عن مبالغ افهام الناس نزل الى مقام توحيد الصفات بقوله الرحمن الرحيم ثم الى توحيد الافعال ليستدل به عليه فقال ان فى خلق الآية كذا فى التأويلات القاشانية

ومن نتائج صفة الرحمن الرحيم فى حق الانسان ما اشار اليه فى قوله ان فى خلق الخ يعنى ان الحكمة فى خلق هذه الاشياء ان يكون كل شىء فى حق الانسان ما اشار اليه فى قوله ان فى خلق الخ يعنى ان الحكمة فى خلق هذه الاشياء ان يكون كل شىء مظهر آية من آيات الله ولا فائدة لهذه الاشياء من الآيات المودعة فيها فان فائدتها عائدة الى الانسان لانهم قوم يعقلون الآيات كما قال { سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى انفسهم حتى يتبين لهم انه الحق } فالعالم بما فيه خلق بتبعية الانسان لان العالم مظهر آيات الحق والآيات المرئيات الانسان والانسان مظهر معرفة الحق ولهذا قال { وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون } اى ليعرفون فلو لم يكن لاجل معرفة الله ما خلق الانسان ولو لم يكن لاجل الانسان ما خلق العالم بما فيه كما قال للنبى عليه الصلاة والسلام « لولاك لما خلقت الكون » وكان العالم مرآة يظهر فيه آيات كمال الحق وجلاله والانسان هو المشاهد لآيات الجمال والجلال فى مرآة العالم وهو مرآة يظهر فيه مرآة العالم وما يظهر فيه كما قال تعالى { وفى انفسكم أفلا تبصرون } وهذا تحقيق قوله « من عرف نفسه فقد عرف ربه » لان نفسه مرآة جمال ربه وليس احد غير الانسان يشاهد حال ربه فى مرآة العالم ومرآة نفسه باراءة الحق كما قال { سنريهم آياتنا } فاعرف قدرك لتعرف قدر ربك يا مسكين ومما يدل على ان خلق السموات والارض وما بينهما تبع لخلق الانسان قوله عليه الصلاة والسلام « لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الارض الله الله » يعنى اذا مات الانسان الذى هو يقول الله الله قامت القيامة فلم تبق السموات والارض لان وجودهما كان تبعا لوجود الانسان فاذا لم يبق المتبوع ما بقى التابع كذا فى التأويلات النجمية

فعلى السالك ان يصل بالذكر الحقيقى الى المقصود الاصلى فان التوحيد ينفى الباطل وينفى الاغيار

روى عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لابى حصين « كم تعبد اليوم من اله » فقال اعبد سبعا ستا فى الارض وواحدا فى السماء قال « وأيهم تعبده لرغبتك ورهبتك » فقال الذى فى السماء فقال عليه الصلا والسلام « فيكفيك اله السماء » ثم قال يا حصين لو اسلمت علمتك كلمتين تنفعانك فأسلم حصين ثم قال يا رسول الله علمنى هاتين الكلمتين فقال عليه الصلاة والسلام « قل اللهم ألهمنى رشدى واعذنى من شر نفسى »

(1/363)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)

{ ومن الناس من يتخذ من دون الله } من لابتداء الغاية متعلق بيتخذ ودون فى الاصل ظرف مكان استعمل هنا بمعنى غير مجازا والاتخاذ بمعنى الصنع والعمل متعد الى مفعول واحد وهو هنا قوله { اندادا } هى الاصنام التى بعضها انداد لبعض اى امثال او انها انداد لله تعالى بحسب ظنونهم الفاسدة من حيث انهم كانوا يرجون من عندها النفع والضرر وقصدوها بالمسائل وقربوا لها القرابين فارجاع ضمير العقلاء اليه فى قوله تعالى { يحبونهم } مبنى على آرائهم الباطلة فى شأنها من وصفهم بما لا يوصف به الا العقلاء او هى الرؤساء الذين يطيعونهم

قال القاضى ولعل المراد اعم منهما وهو ما يشغله عن الله تعالى فانه قال الصوفية والعارفون كل شىء شغلت به قلبك سوى الله تعالى فقد جعلته فى قلبك ندا له تعالى ويدل عليه قوله تعالى { أفرأيت من اتخذ الله هواه } { يحبونهم } الجملة صفة لانداد اى يعظمونهم ويخضعون لهم ويطيعونهم تعظيم المحبوب واطاعته { كحب الله } اى حبا كائنا مثل حبهم الله تعالى اى يسوون بينه تعالى وبينهم فى الطاعة والتعظيم والمقصود من التشبيه ما فى الوصف من القوة والضعف والمراد ههنا التسوية وهذه التسوية فى التعظيم لا تنافى اقرارهم بربوبيته تعالى كما يدل عليه قوله تعالى { ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله } ولفظ المحبة مأخوذ من الحب بالفتح كحبة الحنطة والشعير شبه حبة القلب اى سويداءه بالحب المعروف فى كون كل منهما منشأ ومبدأ للآثار العجيبة فاستعير اسم الحب لها ثم اشتق من الحب المستعار للقلب الحب بمعنى ميل القلب لانه اصابها ورسخ فيها ومحبة العبد لله تعالى ارادة طاعته فى اوامره ونواهيه والاعتناء لتحصيل مراضيه ومحبة الله للعبد ارادة اكرامه واستعماله فى الطاعة وصونه من المعاصى ثم فصل محبة المؤمنين بقوله { والذين آمنوا اشد حباً لله } من حب الكفرة لاندادهم لانه لا ينقطع محبتهم لله بخلاف محبة الانداد فانها لاغراض فاسدة موهومة تزول بادنى سبب ولذلك كانوا يعدلون عن آلهتهم الى الله تعالى عند الشدائد ويعبدون الصنم زمانا فاذا رأوا صنما يعجبهم اخذوه وطرحوا الاول . وروى ان باهلة عملت لها الها من خسّ فاكلوه عام المجاعة { ولو يرى الذين ظلموا } اى لو يعلم هؤلاء الذين اشركوا باتخاذ الانداد ووضعها موضع المعبود { اذ يرون العذاب } المعد لهم يوم القيامة اى عاينوه فهى من الرؤية بالعين { ان القوة } اى الغلبة والقدرة الآلهية { لله جميعا } نصب حالا والجملة سادة مسد مفعولى يرى { وان الله شديد العذاب } عطف على ان القوة لله وفائدته المبالغة فى تهويل الخطب وتفظيع الامر فان اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه وجواب لو محذوف اى لو علم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم بشركهم ان القدرة كلها لله على كل شىء من الثواب والعقاب دون اندادهم ويعلمون شدة عقابه للظالمين اذا عاينوا العذاب يوم القيامة لوقعوا من الحسرة والندامة على عبادة الانداد فيما لا يكاد يوصف

(1/364)

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)

{ اذ تبرأ الذين اتبعوا } بدل من اذ يرون واصل التبرى التخلص ويستعمل للتفصى والتنصل مما تكره مجاورته والمعنى اذ تبرأ الرؤساء المتبوعون { من الذين اتبعوا } اى من الاتباع بان اعترفوا ببطلان ما كانوا يدعونه فى الدنيا ويدعونهم اليه من فنون الكفر والضلال واعتزلوا عن مخالطتهم وقابلوهم باللعن { ورأوا العذاب } الواو حالية وقد مضمرة اى تبرأوا حال رؤيتهم العذاب { وتقطعت بهم الاسباب } عطف على تبرأ وتوسط الحال بينهما للتنبيه على علة التبرى اى انقرضت عنهم الوصل التى كانت بينهم من الاتفاق على دين واحد والانساب والمحاب والاتباع والاستتباع فالباء فى بهم بمعنى عن كما فى قوله تعالى { فاسأل به خبيرا } او للسببية اى تقطعت بسبب كفرهم الاسباب التى يرجون بها النجاة او للتعدية اى قطعتهم الاسباب كما تقول فرقت بهم الطريق اى فرقتهم

(1/365)

وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

{ وقال الذين اتبعوا } حين عاينوا تبرى الرؤساء منهم وندموا على ما فعلوا من اتباعهم لهم فى الدنيا { لو ان لنا كرة } اى ليت لنا رجعة الى الدنيا وعودة { فنتبرأ منهم } هناك { كما تبرأوا منا } اليوم اى تبرأ مثل تبرئهم فالكاف منصوب المحل على انها صفة مصدر محذوف { كذلك } اى مثل ذلك الايراء الفظيع وهو نزول العذاب عليهم وتبرى بعضهم من بعض { يريهم الله اعمالهم حسرات عليهم } اى ندمات شديدة فان الحسرة شدة الندم والكمد وهى تألم القلب وانحساره عما يؤلمه بحيث يبقى النادم كالحسير من الدواب وهو الذى انقطعت قوته فصار بحيث لا ينتفع به واصل الحسر الكشف ومن فات عنه ما يهواه وانكشف قلبه عنه يلزمه الندم والتأسف على فواته فلذلك عبر عن الحسرة التى هى انكشاف القلب عما يهواه بلازمه الذى هو الندم والرؤية ان كانت بصرية تكون حسرات حالا من اعمالهم والمعنى ان اعمالهم تنقلب حسرات عليهم فلا يرون اعمالهم الا حال كونها حسرات وان كانت قلبية فهى ثالث مفاعيل يرى وعليهم يتعلق اما بحسرات والمضاف محذوف اى على تفريطهم او بمحذوف منصوب على انه صفة لحسرات اى حسرات مستولية عليهم فان ما عملوه من الخيرات محبوطة بالكفر فيتحسرون لم ضيعوها ويتحسرون على ما فعلوه من المعاصى لم عملوها

قال السدى ترفع لهم الجنة فينظرون اليها والى بيوتهم فيها لو اطاعوا الله فيقال لهم تلك مساكنكم لو اطعمتم الله ثم تقسم بين المؤمنين وذلك حين يندمون ويتحسرون { وما هم بخارجين من النار } لانهم خلقوا لاجلها روى انه يساق اهل النار الى النار لم يبق منهم عضوا الا لزمه عذاب اما حية تنهشه او ملك يضربه فاذا ضربه الملك هوى فى النار مقدار اربعين يوما لا يبلغ قرارها ثم يرفعه اللهب ويضربه الملك فيهوى فاذا بدا رأسه ضربه كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب فاذا عطش احدهم طلب الشراب فيؤتى بالحميم فاذا دنا من ودهه سقط وجهه ثم يدخل فى فيه فتسقط اضراسه ثم يدخل بطنه فيقطع امعاءه وينضج جلده وهكذا يعذبون فى النار لا يموتون فيها ولا يحيون ولا يخرجون

قال سعيد بن جبير ان الله تعالى يأمر يوم القيامة من احرق نفسه فى الدنيا على ربوبية الاصنام ان يدخلوا جهنم مع اصنامهم فلا يدخلون لعلمهم ان عذاب جهنم على الدوام ثم يقول للمؤمنين بين ايدى الكفار ان كتنم احبائى فادخلوا جهنم فيقتحمون فيها وينادى مناد من تحت العرش والذين آمنوا اشد حبا لله لان الله احبهم اولا ثم احبوه ومن شهد له المعبود بالمحبة كانت محبته اتم قال تعالى

(1/366)

{ يحبهم ويحبونه } ومن لم يكن اهلا لمحبة الله ازلا طردته العزة الى محبة الانداد وهى كل ما يحب سوى الله فمن وكل الى المحبة النفسانية تعلقت محبته بملائم هوى النفس من الاصنام فكما ان الكفار بعضهم يحبون اللات ويعبدونها وبعضهم يحبون الاولاد ويعبدونها فمحبة الاولاد والازواج والاموال تمنع عن محبة الله ومن احب الله يرى ما سواه بنظر العداوة كما قال الخليل عليه السلام فانهم عدو لى الا رب العالمين ومن كان فى الازل اهلا لمحبة الله جذبته العناية فتجلى له الحق فانعكست تلك المحبة لمرآة قلبه فلا تتعلق بغير الله لانها من عالم الوحدة فلا تقبل الشركة والاعداء احبوا الانداد بمحبة فانية نفسانية والاحباء احبوا الله بمحبة باقية ربانية بل احبوه بجميع اجزائهم الفانية والباقية اللهم اوصلنا الى حقيقة المحبة واليقين والتمكين

(1/367)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)

{ يا ايها الناس } نزلت فى قوم حرموا على انفسهم رفيع الاطعمة والملابس { كلوا مما فى الارض } اى من بعض ما فيها من اصناف المأكولات لان كل ما فيها لا يؤكل { حلالا } حال من الموصول اى حال كونه حلالا وهو ما انحل عنه عقد الحظر { طيبا } طاهرا من جميع الشبه صفة حلالا او الحلال ما يستطيبه الشرع والطيب ما يستطيبه الشهوة المستقيمة اى يستلذه الطبع { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } الخطوة بالفتح المرة من نقل القدم وبالضم بعد ما بين قدمى الماشى يقال اتبع خطواته ووطئ على عقبه اذا اقتدى به واستن بسنته اى لا تقتدوا بآثاره وطرقه ومذاهبه فى اتباع الهوى وهى وساوسه فتحرموا الحلال وتحللوا الحرام { انه لكم عدو مبين } تعليل للنهى اى ظاهر العداوة عند ذوى البصيرة واما عند متبعى الهوى الذين لا بصيرة لهم فهو كولى حميم حيث يدلهم على مشتهات نفوسهم ولذائذ مراداتها المستحسنة فقوله مبين من ابان بمعنى بان وظهر وجعله الواحدى من ابان المتعدى حيث قال انه عدو مبين قد ابان عداوته لكم بابائه السجود لابيكم آدم وهو الذى اخرجه من الجنة

(1/368)

إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)

{ انما يأمركم } اى يوسوس لكم شبه تسلطه عليهم بآمر مطاع وشبهوا فى قبولهم للوسوسة وطاعتهم له بالطبع بمأمور مطيع وفيه رمز الى انهم بمنزلة المأمورين المنقادين له تسفيها لرأيهم وتحقيرا لشأنهم { بالسوء } وهو كل ما ساءك فى عاقبتك يطلق على جميع المعاصى سواء كانت من اعمال الجوارح او اعمال القلوب لاشتراك كلها فى انها تسوء صاحبها وتحزنه { والفحشاء } من عطف الخاص على العام اى اقبح انواع المعاصى واعظمها مساءة فالزنى فاحشة والبخل فاحشة وكل فعلة قبيحة فاحشة واصل الفحش مجاورة القدر فى كل شىء وجعل البيضاوى المغايرة بين السوء والفحشاء بحسب المفهوم دون الذات فانه سميت المعصية سوأ لاغتمام العاقل بها وفحشاء باستقباحه اياها فاطلاق السوء والفحشاء على المعصية من قبيل التوصيف بالمصدر للمبالغة مثل رجل عدل { وان تقولوا } اى يأمركم بان تفتروا { على الله } بانه حزم هذا او ذاك { ما لا تعلمون } ان الله تعالى امر به وهو اقبح ما امر به الشيطان من القبائح لان وصفه تعالى بما لا ينبغى ان يوصف به من اعظم انواع الكبائر كما ان الفحشاء اقبح انواع السوء

فان قيل كيف يأمرنا الشيطان بذلك ونحن لا نراه ولا نسمع كلامه فكيف وسوسته وكيف وصوله الى القلب

قلنا وهو كلام خفى على ما قيل تميل اليه النفوس والطبع وقد قيل يدخل فى جسد ابن آدم لانه جسم لطيف ويوسوس وهو انه يحدث النفس بالافكار الرديئة قال تعالى { يوسوس فى صدور الناس } ومن دعاء النبى صلى الله عليه وسلم « اللهم اعمر قلبى من وساوس ذكرك واطرد عنى وساوس الشيطان »

قال فى اكام المرجان وينحصر ما يدعو الشيطان اليه ابن آدم ويوسوس له فى ست مراتب

المرتبة الاولى مرتبة الكفر والشرك ومعاداة رسوله فاذا ظفر بذلك من ابن آدم برد انينه واستراح من تعبه معه لانه حصل منتهى امنيته وهذا اول ما يريده من العبد

المرتبة الثانية البدعة هى احب اليه من الفسوق والمعاصى لان المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها لان صاحبها يظنها حقيقة صحيحة فلا يتوب

فاذا عجز عن ذلك انتقل الى المرتبة الثالثة وهى الكبائر على اختلاف انواعها

فاذا عجز عن ذلك انتقل الى المرتبة الرابعة وهى الصغائر التى اذا اجتمعت صارت كبيرة والكبائر ربما اهلكت صاحبها كما قال عليه السلام « اياكم ومحقرات الذنوب » فان مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الارض فجاء كل واحد يعود حطب حتى اوقدوا نارا عظيمة وطبخوا وشبعوا

فاذا عجز عن ذلك انتقل الى المرتبة الخامسة وهى اشتغاله بالمباحات التى لا ثواب فيها ولا عقاب بل عقابها فوات الثواب الذى فات عليه باشتغاله بها

(1/369)

فان عجز عن ذلك انتقل الى المرتبة السادسة وهى ان يشغله بالعمل المفضول عما هو افضل منه ليزيح عنه الفضيلة ويفوته ثواب العمل الفاضل فيجره من الفاضل الى المفضول ومن الافضل الى الفاضل ليتمكن من ان يجره من الفاضل الى الشرور بما يجره من الفاضل السهل الى الافضل الاشق كمائة ركعبة بالنسبة الى ركعتين ليصير ازدياد المشقة سببا لحصول النفرة عن الطاعة بالكلية

وانما خلق الله ابليس ليتميز به الخبيث من الطيب فخلق الله الانبياء لتقتدى بهم السعداء وخلق ابليس لتقتدى به الاشقياء ويظهر الفرق بينهما فابليس دلال وسمسار على النار والخلاف وبضاعته الدنيا ولما عرضها على الكافرين قيل ما ثمنها قال ترك الدين فاشتروها بالدين وتركها الزاهدون واعرضوا عنها والراغبون فيها لم يجدوا فى قلوبهم ترك الدين ولا الدنيا فقالوا له اعطنا مذاقة منها حتى ننظر ما هى فقال ابليس اعطونى رهنا فاعطوه سمعهم وابصارهم ولذا يحب ارباب الدنيا استماع اخبارها ومشاهدة زينتها لان سمعهم وبصرهم رهن عند ابليس فاعطاهم المذاقة بعد قبض الرهن فلم يسمعوا من الزهاد عيب الدنيا ولم يبصروا قبائحها بل استحسنوا زخارفها ومتاعها فلذلك قيل حبك الشىء يعمى ويصم

فعلى العاقل ان يزهد ويرغب عن الدنيا ولا يقبل منها الا الحلال الطيب

قال الحسن البصرى الحلال الطيب ما لا سؤال فيه يوم القيامة وهو ما لا بد منه قال النبى عليه السلام « ان الله يهب لابن آدم ما لا بد منه ثوب يوارى به عورته وخبز يرد جوعته وبيت كعش الطير » فقيل يا رسول الله فكيف الملح فقال « الملح مما يحاسب به »

وفى التأويلات النجمية الحلال ما اباح الله اكله والطيب ما لم يكن مشويا بشبهة حقوق الخلق ولا بسرف حظوظ النفس وكل طيب حلال وليس كل حلال طيبا ولهذا قال النبى عليه السلام « ان الله طيب ولا يقبل الا الطيب » يعنى غير مشوب بعيب او شبهة قيل ولا يقال ان الله حلال

واعلم ان اكل الحلال الطيب يورث القيام بطاعة الله والاجتناب عن خطوات الشيطان فالعمل الصالح نتيجة اللقمة الطيبة : وفى المثنوى

علم وحكمت زايد از لقمه حلال ... عشق ورقت زايد از لقمه حلال

جون زلقمه توحسد بينى ودام ... جهل وغفلت زايد آنرادان حرام

هيج كندم كارى وجو بردهد ... يديه اسبى كه كره خرد دهد

لقمه تخمست وبرش انديشها ... لقمه بحر وكوهرش انديشها

زايد ازلقمه حلال اندردهان ... ميل خدمت عزم سوى آن جهان

وطلب الحلال بالكسب المشروع سنة الانبياء عليهم السلام

وفى الكسب فوائد كثيرة . منها الزيادة على رأس المال ان عمل للتجارة والزراعة وغرس الاشجار وفيها صدقة لما اكلته الطيور وغيرها . ومنها اشتغال المكتسب بالكسب عن البطالة واللهو . ومنها كسر النفس وصيرورتها قليلة الطغيان . ومنها ان الكسب واسطة الامان من الفقر الذى هو اسوداد الوجه فى الدارين ولا يتحرك فى الكسب لاجل عياله الا قال له حافظاه بارك الله لك فى حركاتك وجعل نفقاتك ذخرا لك فى الجنة ويؤمن عليهما ملائكة السموات والارض وافضل الكسب الجهاد ثم التجارة ثم الحراثة ثم الصناعة

(1/370)

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)

{ واذا قيل لهم } نزلت فى مشركى العرب وكفار قريش امروا باتباع القرآن وسائر ما انزل تعالى من البينات الباهرة فجنحوا للتقليد اى واذا قيل للمشركين من الناس على وجه النصحية والارشاد { اتبعوا ما انزل الله } كتاب الله الذى انزله فاعملوا بتحليل ما احل الله وتحريم ما حرم الله فى القرآن ولا تتبعوا خطوات الشيطان { قالوا بل } عاطفة للجملة التى تليها على الجملة المحذوفة قبلها { نتبع ما الفينا } او وجدنا { عليه آباءنا } من اتخاذ الانداد وتحريم الطيبات ونحو ذلك لانهم كانوا خيرا منا فقلدوا آباءهم فانظروا ايها العقلاء الى هؤلاء الحمقى ماذا يجيبون فقال الله تعالى ردا عليهم بهمزة الانكار والتعجب مع واو الحال بعدها { أولو كان آباؤهم } لما اقتضت الهمزة صدر الكلام والواو وسطه قدر بين الهمزة والواو جملة لتقع الهمزة فى صدرها والمعنى أيتبعونهم ولو كان آباؤهم اى فى حال كون آبائهم { لا يعقلون شيأ } من الدين لانهم كانوا يعقلون امر الدنيا { ولا يهتدون } للصواب والحق يعنى هذا منكر مستبعد جدا لان اتباع من لا عقل له ولا اهتداء الى طريق الحق لا وجه له اصلا

(1/371)

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)

{ ومثل } واعظ { الذين كفروا } وداعيهم الى الحق { كمثل } الراعى { الذى ينعق } نعق الراعى والمؤذن بعين مهملة صوت وبالمعجمة نغق للغراب والمعنى يصوت { بما لا يسمع } وهو البهائم اى لا يدك بالاستماع { الا دعاء } صوتا من الناعق { ونداء } زجرا مجردا من غير فهم شىء آخر وحفظه كما يفهم العاقل ويجيب

قيل الفرق بين الدعاء والنداء ان الدعاء للقريب والندا للبعيد ويحتمل ان يكون الدعاء اعم من النداء والتشبيه المذكور فى الآية من قبيل التشبيه المفرق شبه داعى الكافر بالناعق ونفس الكفرة بالبهائم المنعوق بها ودعاء داعى الكفرة بنعيق الناعق بالبهائم والمعنى مثلك يا محمد ومثل الذين كفروا فى وعظهم ودعائهم الى الله وعدم اهتدائهم كمثل الراعى الذى يصيح بالغنم ويكلمها ويقول كلى واشربى وارعى وهى لا تفهم . شيأ مما يقول لها كذلك هؤلاء الكفار كالبهائم لا يعقلون عنك ولا عن الله شيأ { صم } اى هم صم يعنى كأنهم يتصاممون عن سماع الحق { بكم } بمنزلة الخرس فى ان لم يستجيبوا لما دعوا اليه { عمى } بمنزلة العمى من حيث اعراضهم عن الدلائل كأنهم لم يشاهدوها ثم انه تعالى لما شبههم بفاقدى هذه القوى الثلاث التى يتوسل بها الى تمييز الحق من الباطل واختيار الحق فرع على هذا التشبيه قوله { فهم لا يعقلون } اى لا يكتسبون الحق بما جبلوا عليه من العقل الغريزى لان اكتسابه انما يكون بالنظر والاستدلال ومن كان كالاصم والاعمى فى عدم استماع الدلائل ومشاهدتها كيف يستدل على الحق ويعقله ولهذا قيل من فقد حسا فقد فقد علما وليس المراد نفى اصل العقل لان نفيه رأسا لا يصلح طريقا للذم وهكذا لا ينفع الوعظ فى آخر الزمان لان آذان الناس مسدودة عن استماع الحق واذهانهم مصدودة عن قبوله : ونعم ما قال السعدى

فهم سخن جون نكند مستمع ... قوت طبع از متكلم مجوى

فسحت ميدان ارادت بيار ... تابزند مرد سخن كوى كوى

وفى قوله تعالى { ولو كان آباؤهم } الآية اشارة الى قطع النظر عن الاسلاف السوء واتباع اهل الاهواء المختلفة والبدع الذين لا يعقلون شيأ من طريق الحق وضلوا فى تيه محبة الدنيا ويدعون انهم اهل العلم وليسوا من اهله اتخذوا العلم مكسبا للمال والجاه وقطعوا الطريق على اهل الطلب قال تعالى فى بعض الكتب المنزلة [ لا تسألن عن عالم قد اسكره حب الدنيا فاولئك قطاع الطريق على عبادى ] فمن كان على جادة الحق وصراط الشريعة وعنده معرفة سلوك مقامات الطريقة يجوز الاقتداء به اذ هو من اهل الاهتداء الى عالم الحقيقة دون مدعى الشيوخة بطريق الارث من الآباء ولاحظ لهم من طريق الاهتداء فانهم لا يصلحون للاقتداء : قال السعدى

(1/372)

جو كنعانرا طبيعت بى هنربود ... بيمبر زادكى قدرش نيفزود

هنر بنماى اكردارى به كوهر ... كل ازخارست وابراهيم از آزر

وفى التأويلات النجمية ان { مثل الذين كفروا } كان فى عالم الارواح عند الميثاق اذ خاطبهم الحق بقوله ألست بربكم { كمثل الذى ينعق بما لا يسمع الا دعاء ونداء } لانهم كانوا فى الصف الاخير اذ الارواح كانوا جنودا مجندة فى اربعة صفوف فكان فى الصف الاول ارواح الانبياء عليهم السلام وفى الثانى ارواح الاولياء وفى الثالث ارواح المؤمنين وفى الرابع ارواح الكافرين فاحضرت الذرات التى استخرجت من ظهر آدم من ذرياته واقيمت كل ذرة بازاء روحها فخاطبم الحق ألست بربكم فالانبياء سمعوا كلام الحق كفاحا بلا واسطة وشاهدوا انوار جماله بلا حجاب ولهذا استحقوا ههنا النبوة والرسالة والمكالمة والوحى الله اعلم حيث يجعل رسالته والاولياء سمعوا كلام الحق وشاهدوا انوار جماله من انوار حجاب ارواح الانبياء ولهذا ههنا احتاجوا لمتابعة الانبياء فصاروا عند القيام باداء حق متابعتهم مستحقى الالهام والكلام من وراء الحجاب والمؤمنون سمعوا خطاب الحق من وراء حجاب الانبياء وحجاب ارواح الاولياء ولهذا آمنوا بالغيب وقبلوا دعوة الانبياء وان بلغتهم من وراء حجاب رسالة جبريل وحجاب رسالة الانبياء فقالوا سمعنا واطعنا ومما يدل على هذه التقريرات قوله تعالى { وما كان لبشر ان يكلمه الله الا وحيا او من وراء حجاب } يعنى الاولياء { او يرسل رسولا } يعنى المؤمنين والكفار لما سمعوا من الخطاب نداء من وراء الحجب الثلاثة كانوا كمثل الذى ينعق بما لا يسمع الا دعاء ونداء فما شاهدوا من انوار كمال الحق لا قليلا ولا كثيرا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون وما فهموا شيأ من كلام الحق الا انهم سمعوا من ذرات المؤمنين من وراء الحجاب لما قالوا بلى فقالوا بالتقليد ولهذا ههنا قلدوا ما الفوا عليه آباءهم لقوله تعالى { انا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مقتدون } فلما تعلقت ارواحهم بالاجساد وتكدرت بكدورات الحواس والقوى النفسانية واظلمت بظلمات الصفات الحيوانية وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون من التمتعات البهيمية والاخلاق الشيطانية واللذات الجسمانية اصمهم الله واعمى ابصارهم فهم الآن { صم } عن استماع دعوة الانبياء بسمع القبول { بكم } عن قول الحق والاقرار بالتوحيد { عمى } عن رؤية آيات المعجزات { فهم لا يعقلون } ابدا لانهم ابطلوا بالرين صفاء عقولهم الروحانية وحرموا من فيض الانوار الربانية : قال الصائب

جرا زغير شكايت كنم كه همجو حباب ... هميشه خانه خراب هواى خوبشتنم

وفى المثنوى :

كرجه ناصح را بود صد داعيه ... بندرا اذنى ببايد واعيه

توبصد تلطيف بنداش ميدهى ... اوزبندت ميكند بهلوتهى

يك كس نامستمع زاستيزورد ... صدكس كوينده را عاجز كند

زانبيا ناصح تر وخوش لهجة تر ... كى بودكه رفت دمشان درحجر

زانجة كوه وسنك دركار آمدند ... مى نشد بد بخت رابكشاده بند

آنجنان دلها كه بدشان ما ومن ... نعتشان شد بل اشد قسوة

(1/373)

فعلى العاقل ان يتدارك حاله بسلوك طريق الرضى والندم على مضى ويزكى نفسه عن سفساف الاخلاق ويصفى قلبه الى ان تنعكس اليه انوار الملك الخلاق وذلك لا يحصل غالبا الا بتربية كامل من اهل التحقيق لان المرء محجوب عن ربه وحجابه الغفلة وهى وان كانت لا ترفع ولا تزول الا بفضل الله تعالى لكنه باسباب كثيرة ولا اهتداء الى علاج المرض الا باشارة حكيم حاذق وذلك هو المرشد الكامل فاذا يزول الرين عن القلب وتنفتح روزنة البال الى الغيب فيكون اقرار السالك تحقيقا لا تقليدا وتوحيده تجريدا وتفريدا فحينئذ يعكس الامر فيكون اصم عن سماع اخبار ما سوى المحبوب الحقيقى ابكم عن افشاء سر الحقيقة اعمى عن رؤية الاغيار فى هذه الدار الفانية اللهم خلصنا من التقليد واوصلنا الى حقيقة التوحيد انك حميد مجيد

(1/374)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)

{ يا ايها الذين آمنوا كلوا } رزقكم { من طيبات ما رزقناكم } اى من حلالاته لان ما رزقناكم اعم من الحلال والحرام عند اهل السنة او من لذيذاته لانه اعم ايضا من المستلذ والمستكره

قال ابن الشيخ وهذا المعنى هو المناسب لهذا المقام واولى من حمله على الحلال الطاهر من الشبهة لان المقام مقام الامتنان بما رزقه من لذائذ الاحسان وطلب شكر المنعم المنان والطيب له ثلاثة معان المستلذ طبعا والمباح شرعا والطاهر وضعا وفى الآية اشارة الى انه لا بأس بالتفكه بانواع الفواكه لانها من الطيبات وتركه افضل لئلا ينفر من درجته ويدخل تحت قوله تعالى { اذهبتم طيباتكم فى حيوتكم الدنيا } والامر باكل الطيبات لفائدتين . احديهما ان يكون اكلهم بالامر لا بالطبع فيمتازون عن الحيوانات ويخرجون من حجاب الظلمة الطبع بنور الشرع . والثانى ليثيبهم بائتمار امر الاكل { واشكروا لله } الذى رزقكموها واحلها لكم والشكر صرف العبد جميع اعضائه الظاهرة والباطنة الى ما خلقت لاجله وهذا الامر ليس امر اباحة بل هو للايجاب اذ لا شك فى انه يجب على العاقل ان يعتقد بقلبه ان من اوجده وانعم عليه بما لا يحصى من النعم الجليلة مستحق لغاية التعظيم وان يظهر ذلك بلسانه وبسائر جوارحه { ان كنتم اياه تعبدون } اى ان كنتم مؤمنين بالله ومخصصين الله بالعبادة فاشكروا له فان الايمان يوجب ذلك وهو من شرائطه وهو مشهور فى كلامهم يقول الرجل لصاحبه الذى عرف انه يحبه ان كنت لى محبا فافعل كذا فيدخل حرف الشرط فى كلامه تحريكا له على ما يؤمر به واعلاما انه من شرائط المحبة وليس المراد ان انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط فان من لا يفعل هذه العبادة يجب الشكر عليه ايضا وعن النبى صلى الله عليه وسلم « يقول الله تعالى انى والانس والجن لفى نبأ عظيم اخلق ويعبد غيرى وارزق ويشكر غيرى » قال السعدى

مكن كردن ازشكر منعم مييج ... كه روز بسين سربر ارى بهيج

(1/375)

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

{ انما حرم عليكم الميتة } اى ما مات بغير ذكاة مما يذبح والسمك والجراد مستثنيان بالعرف لانه اذا قيل فلان اكل ميتة لم يسبقا الى الفهم ولا اعتبار للعادة قالوا من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث وان اكل لحما فى الحقيقة قال الله تعالى { لتأكلوا منه لحما طريا } والمراد بتحريم الميتة تحريم اكلها وشرب لبنها او الانتفاع بها لان الاحكام الشرعية انما تتعلق بالافعال دون الاعيان { والدم } الجارى والكبد والطحال مستثنيان ايضا بالعرف فهما حلالان { ولحم الخنزير } قد انعقد الاجماع على ان الخنزير حرام لعينه فيكون جميع اجزائه محرما وانما خص الله لحمه بالذكر لانه معظما ما ينتفع به من الحيوان فهو الاصل وما عداه تبع له { وما اهل به لغير الله } اى وحرم ما رفع به الصوت عند ذبحه للصنم واصل الاهلال رفع الصوت وكانوا اذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون اصواتهم بذكرها ويقولون باسم اللات والعزى فجرى ذلك من امرهم حتى قيل لكل ذابح وان لم يجهر بالتسمية مهل

قال العلماء لو ذبح مسلم ذبيحة وقصد بها التقرب الى غير الله صار مرتدا وذبيحته ميتة وذبائح اهل الكتاب تحل لنا لقوله تعالى { وطعام الذين اوتوا الكتاب حل لكم } الا ان سموا غير الله فانها حينئذ لا تحل لهذه الآية فان قوله تعالى { وطعام الذين } الخ عام وقوله { وما اهل به لغير الله } خاص مقدم على العام { فمن } يحتمل ان تكون شرطية وموصولة { اضطر } اى احوج وألجئ الى اكل شىء مما حرم الله بان لا يجد غيرها وجد ان الاضطرار ان يخاف على نفسه او على بعض اعضائه التلف { غير } نصب على الحال فانه اذا صلح فى موضع لا فهو حال وان صلح فى موضع الا فهو استثناء والا فهو صفة وذو الحال ههنا فاعل فعل محذوف بعد قوله اضطر تقديره فمن اضطره احد امرين الى تناول شىء من هذه المحرمات احدهما الجوع الشديد مع عدم وجدان مأكول حلال يسد رمقه وثانيهما الاكراه على تناوله فتناول واكل حال كونه غير { باغ } على مضطر آخر بأن حصل ذلك المضطر الآخر من الميتة مثلا قدر ما يسد به جوعته فأخذه منه وتفرد بأكله وهلك الآخر جوعا وهذا حرام لان موت الآخر جوعا ليس اولى من موته جوعا { ولا عاد } من العدو وهو التعدى والتجاوز فى الامر لما حد له فيه اى غير متجاوز حد الشبع عند الاكل بالضرورة بان يأكل قدر ما يحصل به سد الرمق والجوعة { فلا اثم عليه } فى تناوله عند الضرورة { ان الله غفور } لما اكل فى حال الاضطرار { رحيم } بترخيصه ذلك ولم يذكر فى هذه الآية سائر المحرمات لانها ليست لحصر المحرمات بل هذه الآيات سيقت لنهيهم عن استحلال ما حرم الله وهم كانوا يستحلون هذه الاشياء فكانوا يأكلون الميتة ويقولون تأكلون ما امتم ولا تأكلون ما اماته الله وكذا يأكلون الدم ولحم الخنزير وذبائح الاصنام فبين انه حرمها فالمراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقا

قويل ذكر الميتة يتناول المتردية وهى الساقطة فى بئر او ماء او من علو والمنخنقة وهى ما اختنق بالشبكة او بحبل او خنق خانق والموقوذة وهى المضروبة بالخشب والنطيحة وهى المنطوحة وما اكل السبع ومتروك التسمية عمدا ونحوها ويكره عشرة من الحيوان الدم والغدة والقبل والدبر والذكر والخصيتان والمرارة والمثانة ونخاع الصلب .

(1/376)

اما الدم فلقول تعالى { حرمت عليكم الميتة والدم } واما ما سواه فلانها من الخبائث

قال الشيخ الشهير بأفتاده افندى ذكر ان النبى عليه السلام لم يأكل الطحال ولا الكلية ولا الثؤم وان لم يمنع عن اكلها فالاولى ان لا تؤكل اقتفاء لاثره ثم قيل فى وجهه ان المنى اذا نزل لم ينزل الا بعد اتصاله بالكلية . واما الطحال فلأنه من اطعمة اهل النار كذا فى واقعات الهدىئى قدس سره ومن امتنع من الميتة حال المخمصة او صام ولم يأكل حتى مات اثم بخلاف من امتنع من التداوى حتى مات فانه لا يأثم لانه لا يقين بان هذا الدواء يشفيه ولعله يصح من غير علاج

وذكر فى الاشباه والنظائر انه يرخص للمريض التداوى بالنجاسات وبالخمر على احد القولين واختار قاضى خان عدمه واساغة اللقمة بها اذا غص اتفاقا على ما نص عليه فى الخانية وما قال الصدر الشهيد من ان الاستشفاء بالحرام حرام فهو غير مجرى على اطلاقه لان الاستشفاء بالمحرم انما لا يجوز اذا لم نعلم ان فيه شفاء واما اذا علم ذلك وليس له دواء آخر غيره يجوز له الاستشفاء به ومعنى قول ابن مسعود رضى الله عنه ان الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم يحتمل ان عبد الله قال ذلك فى داء عرف له دواء غير محرم لانه حينئذ يستغنى بالحلال

عن الحرام وفى التهذيب يجوز للعليل شرب البول والدم للتداوى اذا اخبره طبيب مسلم ان شفاءه فيه ولم يجد من المباح ما يقوم مقامه كذا فى شرح الاربعين حديثا لعلامة الروم ابن الكمال

والاشارة فى قوله تعالى { انما حرم عليكم الميتة } انه كما حرم على الظواهر هذه المعهودات حرم على البواطن شهود غير الله فالميتة هى جيفة الدنيا { والدم } هى الشهوات النفسانية قال عليه السلام « ان الشيطان ليجرى فى ابن آدم مجرى الدم » ولولا ان الشهوات فى الدم مستكنة لما كان للشيطان اليه سبيل ولهذا قال عليه السلام « سددوا مجارى الشيطان بالجوع »

(1/377)

لان الجوع يقطع مادة الشهوات { ولحم الخنزير } اشارة الى هوى النفس وتشبيه النفس بالخنزير لغاية حرصها وشرهها وخستها والخيرات المالية من غير اخلاص لله وفى الله بل للرياء والسمعة فى سبيل الهوى { فمن اضطر } اما لضرورة الحاجة النفسانية واما لضرورة امر الشرع باقامة احكام الواجبات عليه فليشرع فى شىء مما اضطر اليه { غير باغ } اى غير حريص على الدنيا وجمعها من الحرام والحلال وغير مولع على الشهوات بالحرام والحلال وغير مقبل الى استيفاء حظوظ النفس فى الحرام والحلال وغير مواظب على الرياء فى الطاعات والخيرات من السنن والبدع { ولا عاد } اى غير متجاوز من الدنيا { ان الله غفور رحيم } يغفر للعاملين له بآثار الرحمة والقائمين به بانوار الرحمة والماحين فيه باوصاف الرحمة التقطته من التأويلات النجمية

والغفور والغفار هو الذى اظهر الجميل وستر القبيح والذنوب من جملة القبائح التى سترها باسباب الستر عليها فى الدنيا والتجاوز عن عقوبتها فى الآخرة وحظ العبد من هذا الاسم ان يستر من غيره ما يحب ان يستر منه وقد قال عليه السلام « من ستر على مؤمن عورته ستر الله عورته يوم القيامة » والمغتاب والمتجسس والمكافىء على الاساءة بمعزل عن هذا الوصف وانما المتصف به من لا يفشى من خلق الله الا احسن ما فيه كما روى عن عيسى عليه السلام انه مر مع الحواريين بكلب قد غلب نتنه فقالوا ما انتن هذه الجيفة فقال عليه السلام ما احسن بياض اسنانها تنبيها على ان الذى ينبغى ان يذكر من كل شىء ما هو احسن كذا فى شرح الاسماء الحسنى للامام الغزالى قدس سره

(1/378)

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)

{ ان الذين } نزلت فى احبار اليهود فانهم كانوا يرجون ان يكون النبى المنعوت فى التوراة منهم فلما بعث الله نبينا محمدا عليه السلام من غيرهم غيروا نعته حتى اذا نظر اليه السفلة يجدونه مخالفا لصفة محمد عليه السلام فلا يتبعونه فلا تزول رياستهم { يكتمون ما انزل الله من الكتاب } حال من العائد المحذوف اى انزل الله حال كونه من الكتاب وهو التوراة المشتمل على نعت محمد عليه السلام { ويشترون به } اى بدل المنزل المكتوم { ثمنا قليلا } اى يأخذون عوضا حقيرا من الدنيا يعنى المآكل التى يصيبونها من سفلتهم { اولئك ما يأكلون فى بطونهم الا النار } اما فى الآخرة فظاهر لانهم لا يأكلون يوم القيامة الاعين النار عقوبة لهم على اكلهم الرشوة فى الدنيا واما فى الدنيا فبأكل سببها فان اكلهم ما اخذوه من اتباعهم سبب مؤد الى ان يعاقبوا بالنار فاطلاق النار عليه من قبيل اطلاق اسم المسبب على السبب ومعنى فى بطونهم ملئ بطونهم يقال اكل فى بطنه واكل فى بعض بطنه يعنى ان المقصود من ذكر بطونهم متعلقا بقوله يأكلون انما هو بيان محل الاكل ومقر المأكول فلما لم يقل يأكلون فى بعض بطونهم علم ان محل الاكل هو تمام بطونهم فلزم امتلاءها ففيه مبالغة كأنهم ما كانوا متكئين على البطون عند الاكل فملأوا بطونهم { ولا يكلمهم الله يوم القيمة } اى لا يكلمهم الله بطريق الرحمة غضبا عليهم فليس المراد به نفى الكلام حقيقة لئلا يتعارض بقوله تعالى { فوربك لنسألنهم اجمعين } ونحوه بل هو كناية عن الغضب لان نفى الكلام لازم للغضب عرفا وعادة الملوك عند الغضب انهم يعرضون عن المغضوب عليهم ولا يكلمونهم كما انهم عند الرضى يتوجهون اليهم بالملاطفة { ولا يزكيهم } لا يثنى عليهم ولا يطهرهم من دنس الذنوب يوم يطهر المؤمنين من ذنوبهم بالمغفرة { ولهم عذاب اليم } وجع دآئم مؤلم

(1/379)

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)

{ اولئك } المشترون بكتاب الله ثمنا قليلا ليسوا بمشترين للثمن وان قل بل { الذين اشتروا } بالنسبة الى الدنيا { الضلالة } التى ليست مما يمكن ان يشترى قطعا { بالهدى } الذى ليس من قبيل ما يبذل بمقابلة شىء وان جل { والعذاب } اى اشتروا بالنظر الى الآخرة العذاب الذى لا يتوهم كونه من المشترى { بالمغفرة } التى يتنافس فيها المتنافسون { فما اصبرهم على النار } اى ما اصبرهم على اعمال اهل النار حين تركوا الهدى وسلكوا مسالك الضلال فالمراد بالنار سببها اطلق عليه اسم النار للملابسة بينهما ومعنى التعجب راجع الى العباد فهو تعجب اى ايقاع للمخاطب فى العجب لامتناع التعجب فى شأنه تعالى لان التعجب منشأه الجهل بالسبب فانهم قالوا التعجب انفعال النفس مما خفى سببه وخرج عن نظائره فلا يجوز على الله تعالى

(1/380)

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)

{ ذلك } العذاب بالنار { بان الله } اى بسبب انه { نزل الكتاب } اى جنس الكتاب { بالحق } اى حال كونه ملتبسا بالحق فلا جرم يكون من يرفضه بالتكذيب والكتمان ويركب متن الجهل والغواية مبتلى بمثل هذا من افانين العذاب { وان الذين اختلفوا فى الكتاب } اى فى جنس الكتاب الالهى بان آمنوا ببعض كتب الله وكفروا ببعضها او فى التوراة بان آمنوا ببعض آياتها وكفروا ببعض كالآيات المغيرة المشتملة على امر بعثه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ونعوته الكريمة او فى القرآن بان قال بعضهم انه شعر وبعض سحر وبعض كهانة { لفى شقاق بعيد } اى خلاف بعيد عن الحق والصواب مستوجب لاشد العذاب

اعلم ان فى هذه الآيات وعيدا عظيما لكل من يكتم الحق لغرض فاسد دنيوى فليحذروا اى العلماء ان يكتموا الحق وهم يعلمون وانما يكتمونه عن الملوك والامراء والوزراء وارباب الدنيا اما خوفا من اتضاع مرتبتهم ونقصان قدرهم عندهم واما طموحا الى احسانهم او لانهم شركاؤهم فى بعض احوالهم من حب الدنيا وجمعها والحرص فى طلبها او طلب مناصبها وحب رياستها او بالتنعم فى المأكول والمشروب والملبوس والمركوب والمسكن والاوانى وآلات البيت والامتعة والزينة فى كل شىء والخدم والخيول وغير ذلك فعند ذلك يداهنون ويأكلون ثمنا قليلا ولا يأكلون الا نار الحرص والشهوة والحسد التى تطلع على الافئدة وتأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب

واعلم ان فى كل عمل وفعل وقول يصدر من العبد على خلاف الشرع شررا يجتنى من نار السعير فتحصل فى قلب العبد تلك النار فى الحال وفى التى تصدر من العبد على وفق الشرع شررا يجتنى من نار المحبة فتظهر فى القلب فتحرق كل محبوب غير الله فى قلب كما ان نار السعير تحرق فى القلب الحسنات والاخلاق الحميدة فيأكلون نارا فى الحال وانما قال ما يأكلون فى بطونهم الا النار لان فسادهم كان فى باطل فكان عذابهم فى البطون وانما لا يكلمهم الله يوم القيامة لانهم كتموا كلام الله فى الدنيا ولا تكلموه بالصدق فكان جزاء سيئة سيئة مثلها وانما لا يزكيهم لان تزكية النفس للانسان مقدرة من الايمان والاعمال الصالحة بصدق النية من تهذيب الاخلاق بآداب الشرع فاولئك المداهنون من العلماء هم الذين اشتروا حب الدنيا بهدى اظهار الحق وآثروا الخلق على الحق والمداهنة على افضل الجهاد قال عليه السلام « ان افضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر » وانما كانت افضل لان الجهاد بالحجة والبرهان جهاد أكبر بخلاف الجهاد بالسيف والسنان فانه جهاد اصغر ومدار كتمان الحق حب الدنيا وحبها رأس كل خطيئة

قال الحسن ان الزبانية الى فسقة حملة القرآن اسرع منهم عبدة الاوثان فيقولون ربنا ما بالنا يتقدمون الينا فيقول الله ليس من يعلم كمن لا يعلم فمن اشترى الدنيا بالدين فقد وقع فىخسران مبين وكان دائما فى منازعة الشيطان كما حكى ان رجلا قال للشيخ ابى مدين ما يريد منا الشيطان شكاية منه فقال الشيخ انه جاء قبلك وشكا منك وقال اعلم انه سيشكونى ولكن الله ملكنى الدنيا فمن نازعنى فى ملكى لا اتسلى بدون ايمانه فمن كف يده عن الدنيا وزينتها فقد استراح من تعبها ومحنتها وحكى ان ذا القرنين اجتاز على قوم تركوا الدنيا وجعلوا قبور موتاهم على ابوابهم يقتاتون بنبات الارض ويشتغلون بالطاعة فأرسل ذو القرنين الى ملكهم فقال ما لى حاجة الى صحبة ذى القرنين فجاء ذو القرنين فقال ما سبب قلة الذهب والفضة عندكم قال ليس للدنيا طالب عندنا لانها لا تشبع احدا فجعلنا القبور عندنا حتى لا ننسى الموت ثم اخرج رأس انسان وقال هذا رأس ملك من الملوك كان يظلم الرعية ويجمع حطام الدنيا فقبضه الله تعالى وبقى عليه السيآت ثم اخرج رأسا آخر وقال ايضا هذا رأس ملك عادل مشفق فقبضه واسكنه جنته ورفع درجته ثم وضع يده على رأس ذى القرنين وقال من أى الرأسين يكون رأسك فبكى ذو القرنين وقال ان ترغب فى صحبتى شاطرتك مملكتى وسلمت اليك وزارتى فقال هيهات وقال ذو القرنين ولم قال لان الناس اعداؤك بسبب المال والمملكة وجميعهم احبابى بسبب القناعة : قال السعدى قدس سره

(1/381)

در كوشه قناعت نان باره وبينه ... دربيش اهل معنى بهتر زصد خزينه

(1/382)

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

{ ليس البر } هو كل فعل مرضى يفضى بصاحبه الى الجنة { ان تولوا } اى ان تصرفوا يا اهل الكتابين { وجوهكم } فى الصلاة { قبل المشرق والمغرب } اى مقابلهما ظرف مكان لقوله تولوا والبر منصوب على انه خبر مقدم وان تولوا اسمها لكونه فى تأويل المصدر والمصدر المؤول اعرف من المحلى باللام وهو يشبه الضمير من حيث انه لا يوصف ولا يوصف به فالاولى ان يجعل الاعرف اسما وغير الاعرف خبرا وذلك ان اليهود والنصارى اكثروا الخوض فى امر القبلة حين حول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الى الكعبة وزعم كل واحد من الفريقين ان البر هو التوجه الى قبلته فرد عليهم وقيل ليس البر ما انتم عليه فانه منسوخ خارج من البر { ولكن البر } المعود الذى ينبغى ان يهتم بشأنه ويجد فى تحصيله { من } اى بر من على حذف المضاف لان اسم لكن من اسماء المعانى وخبرها من اسماء الاعيان فامتنع الحمل لذلك { آمن بالله } وحده ايمانا بريئا من شائبة الاشراك لا كايمان اليهود والنصارى المشركين بقولهم عزيز ابن الله وقولهم المسيح ابن الله وقدم الايمان بالله فى الذكر لانه اصل لجميع الكمالات العلمية والعملية { واليوم الآخر } اى بالبعث الذى فيه جزاء الاعمال على انه كائن لا محالة وعلى ما هو عليه لا كما يزعمون من انهم لا تمسهم النار الا اياما معدودة وان آباءهم الانبياء ويشفعون لهم فالبر هو التوجه الى المبدأ والمعاد اللذين هما المشرق والمغرب فى الحقيقة ولما كان الايمان باليوم الآخر متفرعا على الايمان بالله لانا ما لم نعلم باستحقاقه الالوهية وقدرته على جميع الممكنات لا يمكننا ان نعلم صحة الحشر والنشر وكان الايمان به محركا وداعيا الى الانقياد بالله فى جميع ما امر به ونهى عنه خوفا وطمعا ذكر الايمان به عقيب الايمان بالله { والملائكة } كلهم بانهم عباد الله ليسوا بذكور ولا اناث ولا بشر ولا اولاد مكرمون عنده متوسطون بينه وبين انبيائه بالقاء الوحى وانزال الكتب واليهود اخلو بذلك حيث اظهروا عداوة جبريل { والكتاب } اى بجنس الكتاب الالهى الذى من افراده الفرقان واليهود اخلو بذلك لانه مع قيام الدليل على ان القرآن كتاب الله تعالى ردوه ولم يقبلوه { والنبيين } جميعا بانهم المبعوثون الى خلقه والقائمون بحقه والصادقون عنه فى امره ونهيه ووعده ووعيده واخباره من غير تفرقة بين احد منهم واليهود اخلوا بذلك حيث قتلوا الانبياء وطعنوا فى نبوة محمد عليه السلام

واعلم ان الايمان بالملائكة والكتاب مؤخر عن الايمان بالنبيين الا انه قدم الايمان بهما فى الذكر رعاية للترتيب بحسب الوجود الخارجى ولم ينظر الى الترتيب فى العلم فان الملك يوجر اولا ثم يحصل بواسطته نزول الكتاب الى الرسل فتدعو الرسل الى ما فيها من الاحكام وهذا اى الايمان بالامور الخمسة المذكورة اصول الدين وقواعد العقائد { وآتى المال } اى الصدقة من ماله { على حبه } حال من الضمير فى آتى والضمير المجرور للمال اى آتاه كائنا على حب المال كما قال عليه السلام لما سئل أى الصدقة افضل قال

(1/383)

« ان تؤتيه وانت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ولا تمهل حتى اذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان » قال السعدى قدس سره

بريشان كن امروز كنجينه جست ... كه فردا كليدش نه دردست تست

كنون بر كف دست نه هرجه هست ... كه فردا بدندان كزى بشت دست

{ ذوى القربى } مفعول اول لآتى بدلالة الحال وقدمهم لانهم احق بالصدقة لقوله عليه السلام « صدقتك على المسلمين صدقة وعلى ذى رحمك اثنتان » لانها صدقة وصلة وقال ايضا « افضل الصدقة على ذى الرحم الكاشح » { واليتامى } الفقراء منهم لا الاغنياء وقدم اليتامى على سائر المصارف لان الصغير الفقير الذى لا والد له ولا كاسب اشد احتياجا من المساكين ومن ذكر بعدهم { والمساكين } جمع مسكين والمسكين ضربان من يكف عن السؤال وهو المراد ههنا ومن ينبسط ويسأل وهذا القسم داخل فى قوله والسائلين وهو مبالغة الساكن فان المحتاج يزداد سكونه الى الناس على حسب ازدياد حاجته { وابن السبيل } اى المسافر البعيد عن ماله وسمى به لملازمته له كما تقول للص القاطع ابن الطريق وللمعمر ابن الليالى ولطير الماء ابن الماء والضيف لانه جاء من السبيل فكأنه ولد منه قال صلى الله عليه وسلم « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه » وايضا « اكرموا الضيف ولو كان كافرا » { والسائلين } الذين الجأتهم الحاجة والضرورة الى السؤال وفى الحديث « للسائل حق ولو جاء على ظهر فرسه » قال السعدى قدس سره

نه خواهنده بردر ديكران ... بشكرانه خواهنده ازدرمران

{ وفى } تخليص { الرقاب } بمعاونة المكاتبين جمع رقبة وهى مؤخر العنق واشتقاقها من المراقبة لانها مكان مراقبة الرقيب المشرف على القوم واذا قيل اعتق الله رقبته يراد ان الله تعالى خلصه من مراقبة العذاب اياه . وقيل المراد بهم ارقاء يشتريهم الاغنياء لاعتاقهم . وقيل المراد بهم الاسارى فان الاغنياء يؤتون المال فى تخليصهم فهذا هو البر ببذل الاموال على وفق مراد الله تعالى الى المصارف المذكورة واليهود اخلوا بذلك لانهم اكلوا اموال الناس بالباطل حيث كتموا دلائل حقية الاسلام على اتباعهم واشتروا به ثمنا قليلا وعوضا يسيرا وهو ما يعود اليهم من هدايا السفلة { واقام الصلوة } المفروضة عطف على صلة من اى من آمن وآتى واقام واليهود كانوا يمنعون الناس من الصلاة والزكاة { وآتى الزكوة } المفروضة على ان المراد بما مر من ايتاء المال التنفل بالصدقة قدم على الفريضة مبالغة فى الحث عليه او الاول لبيان المصارف والثانى لبيان وجوب الاداء { والموفون } عطف على من آمن فانه فى قوة ان يقال ومن اوفوا { بعهدهم } من الاوامر والنواهى والنذور { اذا عاهدوا } فيما بينهم وبين الله وفيما بينهم وبين الناس اذا وعدوا انجزوا واذا حلفوا او نذروا اوفوا واذا قالوا صدقوا واذا ائتمنوا ادوا وفى الحديث

(1/384)

« من اعطى عهد الله ثم نقضه فالله لا ينظر اليه » اى انقطع نظره عنه « ومن اعطى ذمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم غدر فالنبى خصمه يوم القيامة » واليهود نقضوا العهد قال الله تعالى { واوفوا بعهدى اوف بعهدكم } وفى المثنوى

جون درختست آدمى وبيخ عهد ... بيخ را نيمار مى بايد بجهد

عهد فاسد بيخ بوسيده بود ... وزثمارلطف ببريده بود

شاخ وبرك نخل اكرجه سيزبود ... بافساد بيخ سبزى نيست سود

ورندارد برك سبز وبيخ هست ... عاقبت بيرون كند صدبرك دست

تومشوغره بعلمش عهد جو ... علم جون قشراست وعهدش مغزاو

{ والصابرين } منصوب على المدح اى بتقدير اعنى وهو فى الحقيقة والمعنى عطف على من آمن لكن غير سبكه تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته اى واعنى الذين صبروا { فى البأساء } اى فى الفقر والشدة { والضراء } اى المرض والزمانة { وحين البأس } منصوب بالصابرين اى وقت الشدة والبأس شدة القتال خاصة وهو فى الاصل مطلق الشدة وزيادة الحين للاشعار بوقوعه احيانا وسرعة انقضائه واهل الكتاب اخلوا بذلك حيث كانوا فى غاية الخوف والجبن والحاصل انه لما حولت القبلة وكثر خوض اهل الكتاب فى نسخها صار كأنهم قالوا مدار البر والطاعة هو الاستقبال فانزل الله هذه الآية كأنه تعالى قال ما هذا الخوض الشديد فى امر القبلة مع الاعراض عن كل اركان الدين فصفة البر لا تحصل بمجرد استقبال المشرق والمغرب بل البر لا يحصل الا بمجموع الامور المذكورة { اولئك } اى اهل هذه الصفة { الذين صدقوا } فى الدين واتباع الحق وتحرى البر حيث لم تغيرهم الاحوال ولم تزلزلهم الاحوال { واولئك هم المتقون } عن الكفر وسائر الرذائل وتكرير الاشارة لزيادة تنويه شأنهم وتوسيط الضمير للاشارة الى انحصار التقوى فيهم والآية جامعة للكمالات الانسانية باسرها دالة عليها صريحا او ضمنا فانها بكثرتها وتشعبها منحصرة فى ثلاثة اشياء صحة الاعتقاد وحسن المعاشرة وتهذيب النفس وقد اشير الى الاول بقوله من آمن الى والنبيين والى الثانى بقوله وآتى المال الى وفى الرقاب والى الثالث بقوله واقام الصلوة الى آخرها ولذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظرا الى ايمانه واعتقاده وبالتقوى اعتبارا بمعاشرته للخلق ومعاملته مع الحق واليه يشير قوله عليه السلام « من عمل بهذه الآية فقد استكمل الايمان »

(1/385)

قال شيخنا العلامه . ابقاه الله بالسلامة قيل لى فى قلبى احسن اخلاق المرء فى معاملته مع الحق التسليم والرضى واحسن اخلاقه فى معاملته مع الخلق العفو والسخاء انتهى كلامه

وحب المال من اغلب اخلاق النفس وكذا العجلة من الاخلاق الرديئة ولذلك قيل ان الصبر افضل من الشكر وفى الخبر « يؤتى بأشكر اهل الارض ليجزيه الله جزاء الشاكرين ويؤتى بالصابر فيقول الله هذا انعمت عليه فشكر وابتليتك فصبرت لأضعفن لك الاجر فيعطى اضعاف جزاء الشاكرين » والتحقيق ان تهذيب النفس انما يكون بالتوحيد بطريقه المخصوص كما ان اصل الايمان انما يحصل بالتوحيد والشهادة

(1/386)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)

{ يا ايها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص فى القتلى } الخطاب لائمة المؤمنين اوجب الله تعالى على الامام وعلى من يجرى مجراه ويقوم مقامه اقامة القصاص والتقدير يا ايها الائمة فرض عليكم استيفاء القصاص ان اراد ولى الدم استيفاءه ويحتمل ان يكون الخطاب متوجها على القاتل والمعنى يا ايها القاتلون عمدا كتب عليكم تسليم انفسكم عند مطالبة الولى بالقصاص وذلك لان القاتل ليس له ان يمتنع عن القصاص لكونه حق العبد بخلاف الزانى والشارب فان لهما الهرب من الحدود لكون ما عليهما من الحق حق الله تعالى والقصاص ان يفعل بالانسان مثل ما فعل فهو عبارة عن التسوية والمماثلة فى الانفس والاطراف والجراحات . والقتلى جمع قتيل وفى للسبب اى بسبب قتل القتلى كما فى قوله عليه السلام « ان امرأة دخلت النار فى هرة ربطتها » اى بسبب ربطها اياها وحسن الوقف فى قوله القتلى { الحر بالحر } مبتدأ وخبر اى الحر مأخوذ ومقتول بمثله { والعبد بالعبد والانثى بالانثى } سبب النزول انه كان بين حيين من احياء العرب دماء فى الجاهلية وكان لاحدهما طول على الآخر اى قوة وفضل فاقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد والذكر بالانثى والاثنين بالواحد فتحاكموا الى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين جاء الله بالاسلام فنزلت وامرهم الله ان يتباروا اى يتساووا ويتعادلوا . وقوله الحر بالحر لا يفيد الحصر البتة بان لا يجرى القصاص الا بين الحرين وبين العبدين وبين الانثيين بل يفيد شرع القصاص فى القتلى بين المذكورين من غير ان يكون فيه دلالة على سائر الاقسام فان قوله تعالى { كتب عليكم القصاص فى القتلى } جملة مستقبلة بنفسها . وقوله الحر بالحر تخصيص لبعض جزئيات تلك الجملة بالذكر وتخصيص بعض جزئيات الجملة المستقلة بالذكر لا يمنع ثبوت الحكم لسائر الجزئيات بل ذلك التخصيص يمكن ان يكون لفائدة سوى نفى الحكم عن سائر الصور وهى ابطال ما كان عليه اهل الجاهلية من انهم كانوا يقتلون بالعبد منهم الحر من قبيلة القاتل بالعبد المقتول والانثى القاتلة بالانثى المقتولة وليس فيه نفى جريان القصاص بين الحر والعبد والذكر والانثى بل فيه منع عن التعدى الى غير القاتل انتهى كلامه

والثورى وابو حنيفة يقتلان الحر بالعبد والمؤمن بالكافر ويستدلان بعموم قوله تعالى { وكتبنا عليهم فيها ان النفس بالنفس } فان شريعة من قبلنا اذا قصت علينا فى القرآن من غير دلالة على نسخها فالعمل بها واجب على انها شريعة لنا

وبما روى « المسلمون تتكافأ دماؤهم » وبأن التفاضل فى النفس غير معتبر بدليل قتل الجماعة بالواحد وبان القصاص يعتمد المساواة فى العصمة وهى بالدين او بالدار وهما سيان فيهما

(1/387)

ومالك والشافعى لا يقتلان الحر بالعبد ولا المؤمن بالكافر كما قال الشافعى رحمه الله

خذوا بدمى هذا الغزال فانه ... رمانى بسهمى مقلتيه على عمد

ولا تقتلوه اننى انا عبده ... وفى مذهبى لا يقتل الحر بالعبد

{ فمن } عبارة عن القاتل شرطية كانت او موصولة { عفى له من اخيه } الضميران راجعان الى من { شىء } اى شىء من العفو قليل فارتفاع شىء على انه قائم مقام فاعل عفى بناء على انه فى حكم المصدر اى فى حكم قولك عفى عفو فان عفا وان كان لازما لا يتعدى الى المفعول به الا انه يتعدى الى المفعول المطلق فيصلح ان يقام مصدره مقام الفاعل كما فى قوله تعالى { فاذا نفخ فى الصور نفخة } وقولهم سير بزيد بعض السير وشىء من السير وفائدة قوله شىء الاشعار بانه اذا عفى له طرف من العفو وبعض منه بان يعفى عن بعض الدم او عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم يجب الا الدية وعفا يتعدى الى الجانى والى الذنب بعن فاذا تعدى الى الذنب بعن كما فى قوله تعالى { عفا الله عنك } عدى الى الجانى باللام يقال عفوت لفلان اذ جنى وعليه ما فى الآية وعفو الجانى عبارة عن اسقاط موجب الجناية عنه وموجبها ههنا القصاص فكأنه قيل القاتل الذى عفى له عن جناية من جهة اخيه الذى هو ولى المقتول سواء كان العقو الواقع تاما بان اصطلح القاتل مع جميع اولياء القتيل على مال او بعض العفو بان وقع الصلح بينه وبين بعض الاولياء فانه على التقديرين يجب المال ويسقط القصاص فانه قد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما ان هذه الآية نزلت فى الصلح عن القصاص على مال وسمى الله تعالى ولى الجناية اخا للقاتل استعطافا له عليه وتنبيها على ان اخوة الاسلام قائمة بينهما وان القاتل لم يخرج من الايمان بقتله { فاتباع بالمعروف } خبر مبتدأ محذوف اى واذا حصل شىء من العفو وبطل الدم بعفو البعض فالامر اتباع بالمعروف اى على ولى المقتول ان يطالب القاتل ببدل الصلاح بالمعروف بترك التشديد والتضييق فى طلبه واذا اخذ الدية لا يطلب الاكثر مما وجب عليه { واداء اليه باحسان } حث المعفو عنه وهو القاتل على تأدية المال بالاحسان اى وعلى القاتل ان يؤدى المال الى العافى باحسان فى الاداء بترك المطل والبخس والاذى { ذلك } اى الحكم المذكور من العفو والدية { تخفيف من ربكم } اى تيسير وتوسعة لكم { ورحمة } منه حيث لم يجزم بالعفو واخذ الدية بل خيركم بين الثلاث القصاص والدية والعفو وذلك لان فى شرع موسى عليه السلام القصاص وهو العدل فقط وفى دين عيسى عليه السلام العفو او اخذ الدية فقد كان الولى فى الجاهلية يؤمن القاتل بقبول الدية ثم يظفر فيقتله وينبذ ماله الى اوليائه { فله } باعتدائه { عذاب اليم } نوع من العذاب شديد الالم اما فى الدنيا فبالاقتصاص بما قتله بغير حق واما فى الآخرة فبالنار

(1/388)

وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

{ ولكم فى القصاص حيوة } اى فى هذا الجنس من الحكم الذى هو القصاص حياة عظيمة لانهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة كما قتل مهلهل بن ربيعة باخيه كليب حتى كاد يفنى بكر بن وائل وكان يقتل بالمقتول غير قالته فتثور الفتنة ويقع فيما بينهم التشاجر والهرج والمرج وارتفاع الامن فلما جاء الاسلام بشرع القصاص كانت فيه أى حياة لانه اذا علم القاتل انه يقتل اذا قتل لا يقدم على القتل واذا قتل فقتل ارتدع غيره فكان القصاص سبب حياة نفسين او اكثر وهو كلام فى غاية الفصاحة والبلاغة من حيث جعل الشىء محل ضده فان ضدية شىء لآخر تستلزم ان يكون تحقق احدهما رافعا للاخر والقصاص لاستلزامه ارتفاع الحياة ضد لها وقد جعل ظرفا لها تشبيها له بالظرف الحقيقى من حيث ان المظروف اذا حواه الظرف لا يصيبه ما يخل به ويفسده ولا هو يتفرق ويتلاشى بنفسه كذلك القصاص يحمى الحياة من الآفات فكان من هذا الوجه بمنزلة الظرف لها ولا شك فيه اذ جعل الضد حاميا لضده اعتبار لطيف فى غاية الحسن والغرابه التى هى من نكات البلاغة وطرقها { يا اولى الالباب } اى ذى العقول الخالصة من شوب الاوهام ناداهم للتأمل فى حكمة القصاص من استبقاء الارواح وحفظ النفوس { لعلكم تتقون } تعملون عمل اهل التقوى فى المحافظة على القصاص والحكم به والاذعان او تتقون عن القتل مخافة القود

وفيه تحذير عن القتل فان من اعظم حقوق العباد الدماء وهى اول ما يحاسب به العبد بالنسبة الى حقوق العباد كما ان الصلاة اول ما يحاسب به بالنسبة الى حقوق الله تعالى وفى الحديث « يأتى المقتول معلقا رأسه باحدى يديه ملببا قاتله بيده الاخرى تشخب اوداجه دما حتى يوقفا فيقول المقتول لله سبحانه هذا قتلنى فيقول الله تعالى للقاتل تعست ويذهب به الى النار »

واعلم ان الذنوب على ثلاثة اوجه

الاول فيما بين العبد وبين الله تعالى كالزنى واللواطة والغيبة والبهتان ما لم يبلغ الى من بهته واغتابه فاذا بلغه وجعله فى حل وتاب المذنب فنرجوا ان الله يغفر له وكذلك اذا زنى بامرأة ولها زوج فلم يجعله ذلك الرجل فى حل لا يغفر له لان خصمه الآدمى فاذا تاب وجعله فى حل فانه يغفر له ويكتفى بحل منه ولا يذكر الزنى بان قال كل حق لى عليك فقد جعلتك فى حل منه ومن كل خصومة بينى وبينك وهذا صلح بالمعلوم على المجهول وذلك جائز كرامة لهذه الامة لان الامم السالفة ما لم يذكر الذنب لا يغفر لهم

والثانى ذنب فيما بينه وبين اعمال الله وهو ان يترك الصلاة والصوم والزكاة والحج فان التوبة لا تكفيه ما لم يقض الصلاة وغيرها لان شرط التوبة ان يؤدى ما ترك فاذا لم يؤد فكأنه لم يتب

(1/389)

والثالث فيما بينه وبين عباد الله وهو ان يغصب اموالهم او يضربهم او يشتمهم او يقتلهم فان التوبة لا تكفيه الا ان يرضى عنه خصمه او يجتهد فى الاعمال الصالحة حتى يوفق الله بينهما يوم القيامة فانه اذا تاب العبد وكان عليه حقوق العباد فعليه ان يردها الى اربابها وان عجز عن ايصالها واراد الله مغفرته يقول لخصمه يوم القيامة ارفع رأسك فيرفع فيرى قصورا عالية فيقول يا رب لمن هذه فيقول الله تعالى خذ يد اخيك واذهبا الى الجنة

والاشارة فى الآية ان الله تعالى كتب عليكم القصاص فى قتلاكم كما كتب على نفسه الرحمة فى قتلاه كما قال « من احبنى قتلته ومن قتلته فانا ديته » وفى المثنوى

كريكى سررا ببرد ازبدن ... صد هزاران سربر آرد در زمن

اقتلونى يائقاتى لائما ... ان فى قتلى حياتى دائما

ان فى موتى حياتى يا فتى ... كم افارق موطنى حتى متى

شير دنيا جويد اشكارى وبرك شير ... مولى جويدآ زادى ومرك

جونكه اندر مرك بيند صدو جود ... همجو بروانه بسوزاند وجود

فعلى العاقل ان يقتل نفسه بالرياضات الشديدة ويحيى قلبه بالحياة الطيبة الباقية اللهم وفقنا لمداواة هذه القلوب المرضى آمين

(1/390)

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)

{ كتب عليكم اذا حضر احدكم الموت } اى حضر اسبابه وظهر امارته وآثاره من العلل والامراض اذ لا اقتدار على الوصية عند حضور نفس الموت والعامل فى اذا مدلول كتب لان الكتب بمعنى الايجاب لا يحدث وقت حضور الموت بل الحادث تعلقه بالمكلف وقت حضور موته فكأنه قيل توجه عليكم ايجاب الله تعالى ومقتضى كتابه اذا حضر فعبر عن توجه الايجاب وتعلقه بكتب للدلالة على ان هذا المعنى مكتوب فى الازل { ان ترك خيرا } اى مالا قليلا او كثيرا او مالا كثيرا يقال فلان ذو مال ولا يطلق ذلك لمن له مال قليل

وعن عائشة رضى الله عنها ان رجلا اراد ان يوصى قالت كم مالك قال ثلاثة آلاف قالت كم عيالك قال اربعة قالت انما قال الله ان ترك خيرا وان هذا الشىء يسير فاتركه لعيالك واصل الخير ان يكون لكل ما يرغب فيه مما هو نافع لانه ضد الشر

قال فى اخوان الصفا الخير فعل ما ينبغى فى الوقت الذى ينبغى من اجل ما ينبغى { الوصية } نائب فاعل كتب اى فرض الايصاء على الثلث ولا يوصى لغنى ويدع الفقير وكان السبب فى نزول هذه الآية ان اهل الجاهلية كانوا يوصون بمالهم للبعدى رياء وسمعة وطلبا للفخر والشرف ويتركون الاقارب فى الفقر والمسكنة فصرف الله تعالى بهذه الآية فى بدء الاسلام ما كان يصرف الى الابعدين الى الوالدين والاقربين فعمل بها ما كان العمل بها صلاحا وحكمة ثم نسختها آية المواريث فى سورة النساء فالآن لا يجب على احد ان يوصى لاحد قريب ولا بعيد واذا اوصى فله ان يوصى لكل من الاقارب والاباعد الا للوارث { حقا } اى احق هذه الوصية حقا { على المتقين } المجتنبين عن ضياع المال وحرمان القريب يعنى ان كنتم متقين بالله لا تتركوا العمل بهذا

قال ابن الشيخ فى حواشيه فان قيل قوله على المتقين يقتضى ان يكون هذا التكليف مختصا بالمتقين وقد دل الاجماع على ان الواجبات والتكاليف عامة فى حق المتقين وغيره اجيب بان المراد بقوله حقا على المتقين انه لازم لكل من آثر التقوى وتحراها وجعلها طريقا له ومذهبا فيدخل فيه الكل

(1/391)

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)

{ فمن بدله } الضمير راجع الى الوصية لكونها فى تأويل الايصاء اى غير الايصاء عن وجهه الشرعى والمشهور ان من غير ايصاء المحتضر هو الوصى او الشاهد فالوصى يغير الوصية اما فى الكتابة او فى قسمة الحقوق والشاهد يغيرها اما بتغيير وجه الشهادة او بكتمها ويمكن ان يكون التبديل من سائر الناس بان منعوا من وصول المال الموصى به الى مستحقه فهؤلاء كلهم داخلون تحت قوله فمن بدله { بعد ما سمعه } اى بعد ما وصل اليه وتحقق لديه { فانما اثمه } اى ما اثم الايصاء المغير او اثم التبديل الا { على الذين يبدلونه } لانهم خانوا وخالفوا الشرع لا على الموصى وهو الميت فانه بريئ من الاثم { ان الله سميع } بالايصاء وتغييره { عليم } بثوابه وجزاء من غيره وهو يجازى كل واحد منهما بما يستحقه

(1/392)

فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

{ فمن } شرطية او موصولة { خاف } اى توقع وعلم فانه اذا علم خاف فهو من اطلق اسم اللازم على الملزوم { من موص } اى من الذى اوصى وهو يجوز ان يتعلق بخاف على انها لابتداء الغاية او بمحذوف على انها حال من جنفا قدمت عليه لانها فى الاصل صفة له فلما تقدمت نصبت حالا { جنفا } اى ميلا عن الحق بالخطأ فى الوصية { او اثما } اى تعمدا للجنف يعنى اذا جهل الموصى موضع الوصية او زاد على مقدار الوصية او اوصى بما لا يجوز ايصاؤه { فأصلح } الظاهر ان المراد بالمصلح هو الوصى لانه اشد تعلقا بامر الوصية الا انه لا وجه لتخصيصه بالوصى بل ينبغى ان يدخل تحته كل من يتأتى منه رفع الفساد فى وصية الميت من الوالى والولى والوصى ومن يأمر بالمعروف والمفتى والقاضى والوارث { بينهم } اى بين الموصى لهم وهم الوالدان والاقربون فغير وصيته باجرائها على طريق التسرع { فلا اثم عليه } اى لا وزر على المغير فى هذا التبديل لانه تبديل باطل الى حق بخلاف الاول { ان الله غفور رحيم } وعد للمصلح بالاثابة وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الاثم وكون الفعل من جنس ما يؤثم لان بعض التبديل وهو التبديل الى الباطل اثم وهذا من المشاكلة الصورية لا المعنوية لان التبديل الى خير ليس من جنس الاثم لكن صورته صورة ما يؤثم

واعلم ان الوصية مستحبة لحاجة الناس اليها فان الانسان مغرور بأمله اى يرجو الحياة مدة طويلة مقصر فى عمله فاذا عرض له المرض وخاف الهلاك يحتاج الى تدارك تقصيره بماله على وجه لو مات فيه يتحقق مقصده المآلى ولو انهضه البرء يصرفه الى مطلبه الحالى

وفى الحديث « ان الله تصدق عليكم بثلث اموالكم فى آخر اعماركم زيادة لكم فى اعمالكم تضعونها حيث شئتم » ويوصى بفدية صلاته وصيامه لكل مكتوبة نصف صاع من الحنطة وكذا الوتر ولكل يوم من صوم رمضان ايضا نصف صاع من الحنطة وفى صوم النذر كذلك

قال فى تفسير الشيخ ومن كان عليه حج او كفارة اى شىء من الواجبات فالوصية واجبة والا فهو بالخيار وعليه الفتوى ويوصى بارضاء خصمائه وديونه حكى ان الامام الشافعى رحمه الله لما مرض مرض موته قال مروا فلانا يغسلنى فلما مات بلغ خبر موته اليه فحضر وقال : ائتونى بتذكرته فأتى بها فنظر فيها فاذا على الشافعى سبعون الم درهم دينا فكتبها على نفسه وقضاها وقال هذا غسلى اياه واياه اراد

وفى الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « من لم يوص لم يؤذن له فى الكلام مع الموتى »

(1/393)

قيل يا رسول الله وهل تتكلم الموتى قال « نعم ويتزاورون »

قال الامام نقلا عن بعض الائمة الاعلام الارواح قسمان منعمة ومعذبة . فاما المعذبة فهى محبوسة مشغولة عن التزاور والتلاقى . واما المنعمة المرسلة غير المحبوسة فتتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها فى الدنيا وما يكون من اهل الدنيا فيكون كل روح مع رفيقه الذى هو على مثله عمله وهذه المعية ثابتة فى دار البرزخ وفى دار الجزاء والمرء مع من احب فى هذه الدور الثلاث فى كل موطن وموقف

فعلى العاقل ان يخار صحبة الاخيار ويتأهب آناء الليل واطراف النهار ولا يغتر بالمال والمنال ولا ينقطع عن الله بطول الآمال فان الدنيا فانية وكل من عليها فان فاتقوا الله كل حين وآن : قال الصائب

درسراين غافلان طول امل دانى كه جيست ... آشيان كردست مارى در كبوتر خانه

والاشارة فى الآية انه { كتب عليكم } على الاغنياء الوصية بالمال وكتب على الاولياء الوصية بالحال فالاغنياء يوصون فى آخر اعمارهم بالثلث والاولياء يخرجون فى مبادى احوالهم عن الكل { اذا حضر احدكم الموت ان ترك خيرا الوصية } اى يحضر قلب احدهم مع الله ويموت بنفسه بالارادة عن الصفات الطبيعية الحيوانية كما قال صلى الله عليه وسلم « موتوا قبل ان تموتوا » ويترك كل خير وشر كان مشربها من الدنيا والعقبى فعليه ان يوصى { للوالدين } وهما الروح العلوى والبدن السفلى فان النفس توالدت وحصلت بازدواجهما { والاقربين } وهم القلب والسر وباقى المتولدات البشرية بتركه وترك كل مشرب يظهر لهم من المشارب الروحانية الباقية والمشارب الجسمانية الفانية { بالمعروف } اى بالاعتدال من غير اسراف يفضى الى اتلاف محترزا فى الاحوال من الركون الى شهوة من الشهوات وفى الاعمال مجتنبا عن الرسول والعادات كما قال النبى عليه السلام « عثت لرفع العادات وترك الشهوات » وقال « بعثت لاتمم مكارم الاخلاق » بان يجعل المشارب مشربا واحدا والمحابيب محبوبا واحدا والمذاهب مذهبا واحدا { حقا على المتقين } يعنى ما ذكرنا من الوصية بجملتها حق واجب على متقى الشرك الخفى ولهذا قال على المتقين وما قال على المسلمين والمؤمنين لانهم اهل الظواهر والمتقون هم اهل البواطن كما قال عليه السلام « التقوى ههنا » واشار الى صدره

واعلم ان القرآن انزل لاهل البواطن كما انزل لاهل الظواهر لقوله عليه السلام « ان للقرآن ظهرا وبطنا » فظاهره الاحكام لاهل الظواهر والاحكام تحتمل النسخ كما نسخت هذه الآية فى الوصية لاظاهرة وباطنه الحكم والحقائق فهى لا تحتمل النسخ ابدا ولهذا قال اهل المعانى ليس شىء من القرآن منسوخا يعنى وان كان دخل النسخ فى احكام ظاهره فلا يدخل فى احكام باطنه فيكون ابدا معمولا بالمواعظ والاسرار والحقائق حقا على المتقين لانه مخصوص بهداية المتقين كقوله تعالى { هدى للمتقين } فحكم الوصية فى حقهم غير منسوخ ابدا كذا فى التأويلات النجمية قدس الله نفسه الزكية

(1/394)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)

{ يا ايها الذين آمنوا } قال اصحاب اللسان يا حرف نداء وهو نداء من الحبيب للحبيب وايها تنبيه من الحبيب للحبيب وآمنوا شهادة من الحبيب للحبيب

وقال الحسن اذا سمعت الله يقول يا ايها الذين آمنوا فارفع لها سمعك فانه لامر تؤمر به او لنهى تنهى عنه

وقال جعفر الصادق لذة فى النداء ازال بها تعب العبادة والعناء يشير الى ان المحب يبادر الى امتثال امر محبوبه حتى لو امره بالقاء نفسه فى النار { كتب عليكم الصيام } اى فرض عليكم صيام شهر رمضان فانه تعالى قال بعده { اياما معدودات } وقال تعالى { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } بعد قوله { شهر رمضان } والصيام فى الشريعة هو الامساك نهارا مع النية من اهله عن المفطرات المعهودة التى هى معظم ما تشتهيه الانفس وهذا صوم عوام المؤمنين واما صوم الخواص فالامساك عن المنهيات واما صوم اخص الخواص فالامساك عما سوى الله تعالى { كما كتب } محل كما النصب على انه صفة مصدر محذوف اى كتب كتابا كائنا مثل ما كتب وما مصدرية او على انه حال من الصيام وما موصولة اى كتب عليكم الصيام مشبها بالذى كتب { على الذين من قبلكم } من الانبياء عليهم السلام والامم من لدن آد عليه السلام وفيه تأكيد للحكم وترغيب فيه وتطييب لانفس المخاطبين فان الصوم عبادة شاقة والشىء الشاق اذا عم سهل تحمله ويرغب كل احد فى اتيانه والظاهر ان التشبيه عائد الى اصل ايجاب الصوم لا الى كمية الصوم المكتبو وبيان وقته فكان الصوم على آدم ايام البيض وصوم عاشورا كان على قوم موسى والتشبيه لا يقتضى التسوية من كل وجهه كما يقال فى الدعاء اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم وكما قال عليه السلام « انكم سترون ربكم كالقمر ليلة البدر » فان هذا تشبيه الرؤية بالرؤية لا تشبيه المرئى بالمرئى { لعلكم تتقون } المعاصى فان الصوم يكسر الشهوة التى هي مبدأها كما قال عليه السلام « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فانه اغض للبصر واحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فان الصوم له وجاء » قوله الشباب جمع شاب وهو عند اصحابنا من بلغ ولم يحاوز ثلاثين كذا قاله النووى والباءة النكاح والتزوج وهو المباءة فى المنزل لان من تزوج امرأة بوأها منزلا والوجاء نوع من الاخصاء وهو ان يرض عروق الانثيين ويترك الخصيتين كما هما والمعنى على التشبيه اى الصوم يقطع شهوة الجماع ويدفع شر المنى كالخصاء والامر فى الحديث للوجوب لانه محمول على حالة التوقان باشارة قوله يا معشر الشباب فانهم ذووا التوقان على الجبلة السليمة

قال العلماء تسكين الشهوة يحصل بالصيام بالنهار والقيام بالليل وحذف الشهوات والتغافل عنها وترك محادثة النفس بذكرها

فان قلت ان الرجل يصوم ويقوم ولا يأكل ويجد من نفسه حركة واضطرابا قلت ذلك من فرط فضل شهوة مقيمة فيه من الاول فليقطع ذلك عن نفسه بالهموم والاحزان الدائمة وذكر الموت وتقريب الاجل وقصر الامل والمداومة على المراقبة والمحافظة على الطاعة

(1/395)

أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

{ اياما معدودات } اى موقتات ومقدرات بعدد معلوم او قلائل فان القليل من المال يعد عدا والكثير يهال هيلا اى يصب صبا من غير كيل وعد فالله تعالى لم يفرض علينا صيام الدهر ولا صيام اكثره تخفيفا ورحمة وتسهيلا لامر التكليف على جميع الامم وانتصاب اياما بمضمر دل هو اى الصيام عليه اعنى صوموا اما على الظرفية او المفعولية اتساعا { فمن كان منكم مريضا } اى مرضا يضره الصوم او يضر معه { او على سفر } او راكب سفر وفيه ايماء بان من سافر فى اثناء اليوم لم يفطر لعدم استعلائه السفر استعلاء الراكب المركوب بل هو ملابس شيأ من السفر والرخصة انما اثبتت لمن كان على سفر وكلمة على فيها استعارة تبعية شبه تلبسه بالسفر باستعلاء الراكب واستيلائه على المركوب ينصرف فيه كيف يشاء وللدلالة على هذا المعنى عدل عن اسم الفاعل فلم يقل او مسافرا اذ ليس فيه اشارة بالاستيلاء على السفر { فعدة } اى فعليه صوم عدة ايام المرض والسفر فعدة من العد بمعنى المعدود ومنه يقال للجماعة المعدودة من الناس عدة { من ايام اخر } غير ايام مرضه وسفره ان افطر متتابعا او غير متتابع والمقصود من الآية بيان ان فرض الصوم فى الايام المعدودات انما يلزم الاصحاء المعتبرين واما من كان مريضا او مسافرا فله تأخير الصوم عن هذه الايام الى ايام اخر { وعلى الذين يطيقونه } ذهب اكثر المفسرين الى ان المراد بالذين يطيقونه الاصحاء المقيمون خيرهم فى ابتداء الاسلام بين امرين بين ان يصوموا وبين ان يفطروا ويفدوا لئلا يشق عليهم لانهم كانوا لم يتعودوا الصوم ثم نسخ التخيير ونزلت العزيمة بقوله { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } فالمعنى اى وعلى المطيقين للصيام القادرين عليه من غيره والفدية فى معنى الجزاء وهو عبارة عن البدل القائم عن الشىء

وفى تفسير الشيخ يطيق من اطاق فلان اذا زالت طاقته والهمزة للسلب اى لا يقدرون على الصوم وهم الذين قدروا عليه فى حال الشباب ثم عجزوا عنه فى حال الكبر { فمن تطوع خيرا } اى من تبرع بخير فزاد فى الفدية او تطوع تطوعا خيرا { فهو } اى التطوع { خير له } وذكر فى الخير المتطوع ثلاثة اوجه . احدها ان يزيد على مسكين واحد فيطعم مكان كل يوم مسكينين او اكثر . وثانيها ان يطعم المسكين الواحد اكثر من القدر الواجب . وثالثها ان يصوم مع الفدية فهو خير كله { وان تصوموا } فى تأويل المصدر مرفوع بالابتداء اى صومكم ايها المرضى والمسافرون والذين يطيقونه { خير لكم } من الفدية { ان كنتم تعلمون } ما فى الصوم من الفضيلة وبراءة الذمة والجواب محذوف ثقة بظهوره اى اخترتموه

وفى الاشباه الصوم فى السفر افضل الا اذا خاف على نفسه او كان له رفقة اشتركوا معه فى الزاد واختاروا الفطر انتهى وانما فضل الصوم للمسافر لان الصوم عزيمة له والتأخير رخصة والاخذ بالعزيمة افضل واما ما روى ان النبى عليه السلام

(1/396)

« قال ليس من البر الصيام فى السفر » فمحمول على ما اذا كان الصوم يضعفه حتى يخاف عليه الهلاك كذا فى شرح المجمع لابن الملك

والسفر المبيح للفطر مسيرة ثلاثة ايام ولياليها عند ابى حنيفة رحمه الله

واعلم ان الله تعالى امرنا بصيام شهر كامل ليوافق عدد السنة فى الاجر الموعود بقوله { من جاء بالحسنة فله عشر امثالها } فالشهر الكامل ثلاثمائة وستة ايام شوال ستون يوما فان نقص يوم من عدد الشهر لم ينقص من الثواب روى ان رسول الله عليه السلام صام ثمانية رمضانات خمسة منها كانت تسعة وعشرين يوما والباقى ثلاثين يوما وافترض الصيام بعد خمس عشرة سنة من النبوة بعد الهجرة بثلاث سنين وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما بعث الله نبيه عليه السلام بشهادة ان لا اله الا الله فلما صدق زاد الصلاة فلما صدق زاد الزكاة فلما صدق زاد الصيام فلما صدق زاد الحج ثم الجهاد ثم اكمل لهم الدين واول ما فرض الصوم على الاغنياء لاجل الفقراء فى زمن الملك طهمورث ثالث ملوك بنى آدم وقع القحط فى زمانه فامر الاغنياء بطعام واحد بعد غروب الشمس وبامساكهم بالنهار شفقة على الفقراء وايثارا عليهم بطعام النهار وتعبدا وتواضعا لله تعالى

والصوم سبب للولوج فى ملكوت السموات وواسطة الخروج عن رحم مضايق الجسمانيات المعبر عنه بالنشأة الثانية كما اشير اليه بقول عيسى عليه السلام [ لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين ] بل مجاهدة الصوم رابطة مشاهدة اللقاء واليه يشير الحديث القدسى « الصوم لى وانا اجزى » يعنى انا جزاؤه لا حورى ولا قصورى ولهذا علق سبحانه نيل سعادة الرؤية بالجوع حيث قال فى مخاطبة عيسى عليه السلام ( تجوع ترانى ) : قال السعدى

ندارند تن بروران آكهى ... كه برمعده باشد زحكمت تهى

وانما اضيف الصوم الى الله فى « الصوم لى » لانه لا رياء فيه بل سر لا يعلمه الا الله وانما يكون الله سبحانه جزاء صومه اذا امسك قلبه وسره وروحه عما سواه تعالى وهو الصوم الحقيقى عند الخواص : قال فى المثنوى

هركرا دارد هو سها جان باك ... زود بيند حضرت وايوان باك

والاشارة فى قوله تعالى { يا ايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } ان الصوم كما يكون للظاهر يكون للباطن وباطن الخطاب يشير الى صوم القلب والروح والسر الذين آمنوا شهود انوار الحضور مع الله فصوم القلب صومه عن مشارب المعقولات وصوم الروح عن ملاحظة الروحانيات وصوم السر صونه عن شهود غير الله فمن امسك عن المفطرات فنهاية صومه اذا هجم الليل ومن امسك عن الاغيار فنهاية صومه ان يشهد الحق وفى قوله عليه السلام

(1/397)

« صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته » عند التحقيق انها عائدة الى الحق فينبغى ان يكون صوم العبد ظاهرا وباطنا لرؤية الحق وافطاره بالرؤية قوله تعالى كتب عليكم الصيام اى على كل عضو فى الظاهر وعلى كل صفة فى الباطن . فصوم اللسان عن الكذب والفحش والغيبة . وصوم العين عن النظر فى الغفلة والريبة . وصوم السمع عن استماع المناهى والملاهى وعلى هذا فقس الباقى . وصوم النفس عن التمنى والحرص والشهوات . وصوم القلب عن حب الدنيا وزخارفها . وصوم الروح عن نعيم الآخرة ولذاتها . وصوم السر عن رؤية وجود غير الله واثباته { كما كتب على الذين من قبلكم } هى اشارة الى ان اجزاء وجود الانسان من الجسمانية والروحانية قبل التركيب كانت صائمة عن المشارب كلها فلما تعلق الروح بالقالب صارت اجزاء القالب مستدعية للحظوظ الحيوانية والروحانية بقوة امداد الروح وصار الروح بقوة حواس القالب متمتعا من المشارب الروحانية والحيوانية فالآن كتب عليهم الصيام وهم مركبون كما كتب على الذين من قبلكم من المفردات { لعلكم تتقون } من مشارب المركبات وتصومون فيها مع حصول استعداد الشراب ليفطروا عن مشارب يشرب بها عباد الله اذ اسقاهم ربهم شرابا طهورا فيطهرك طهورية هذا الشراب من دنس استدعاء الحظوظ الحيوانية والروحانية كما قال ولكن يريد ليطهركم فلما افل كوكب استدعاء الحظوظ طلعت شمس استدعاء اللقاء من مطلع الالتقاء فحينئذ يتحقق انجاز ما وعد سيد الانبياء بقوله « للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه » ثم اخبر عن كمال لطفه مع العباد بتقليل الاعداد فى قوله { اياما معدودات } والاشارة فيها هو ان صومكم فى ايام قلائل معدودة متناهية وثمرات صومكم فى ايام غير معدودة ولا متناهية فلا يهولنكم سماع ذكره كذا فى التأويلات النجمية

(1/398)

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

{ شهر رمضان } متبدأ خبره ما بعده فيكون المقصود من ذكر هذه الجملة المنبهة على فضله ومنزلته الاشارة الى وجه تخصيصه من بين الشهور بان فرض صومه ثم اوجب صومه بقوله { فمن شهد منكم الشهر } لمعهود { فليصمه } وسمى الشهر شهرا لشهرته

ورمضان مصدر رمض اذا احترق فاضيف اليه الشهر وجعل المجموع علما ومنع من الصرف للتعريف والالف والنون

وانما سمى بذلك اما لارتماض الاكباد واحتراقها من الجوع والعطش واما لارتماض الذنوب بالصيام فيه او لوقوعه ايام رمض الحر اى شدة وقوعه على الرمل وغيره

قيل انهم نقلوا اسماء الشهور من اللغة القديمة فسموها بالازمنة التى وقعت هى فيها وقت التسمية فوافق هذا الشهر ايام رمض الحر فسمى به كما يسمى بربيع لموافقته الربيع وجمادى لموافقته جمود الماء

او رمضان اسم من اسماء الله تعالى والشهر مضاف اليه ولذلك روى « لا تقولوا جاء رمضان وذهب رمضان ولكن قولوا جاء شهر رمضان فان رمضان اسم من اسماء الله تعالى » { الذى انزل فيه القرآن } جملة الى بيت العزة فى السماء الدنيا ثم نزل به جبريل نجوما فى ثلاث وعشرين سنة حسبما تقتضيه المشيئة الربانية وعن النبى عليه السلام « نزلت صحف ابراهيم اول ليلة من رمضان وانزلت التوارة لست مضين منه والانجيل لثلاث عشرة والقرآن لاربع وعشرين » القرآن من القرء وهو الجمع لانه مجمع علم الاولين والآخرين { هدى للناس } اى انزل حال كونه هداية للناس الى سواء الصراط بما فيه من الاعجاز وغيره { وبينات من الهدى والفرقان } اى وحال كونه آيات واضحات مما يهدى الى الحق ويفرق بينه وبين الباطل بما فيه من الحكم والاحكام فالهدى على قسمين ما يكون بينا جليا ومالا يكون كذلك والاول افضل القسمين فذكر الجنس اولا ثم اردفه باشرف نوعيه بل بالغ فيه فكأنه قيل انه هدى بل هو بين من الهدى ولا شك انه فى غاية المبالغة لانه فى المرتبة الثالثة فالعطف فى وبينات من باب عطف التشريف { فمن } الفاء للتفريع والترتيب { شهد } اى حضر موضع الاقامة من المصر او القرية كائنا ذلك الحاضر { منكم الشهر } منصوب على الظرف اى فى الشهر دون المفعول به لان المقيم والمسافر يشهدان الشهر { فليصمه } اى فليصم فيه بحذف الجار وايصال الفعل الى المجرور اتساعا

والمراد بالشاهد العاقل البالغ الصحيح لان كل واحد من الصبى والمجنون يشهد موضع الاقامة فى الشهر مع انه لا يجب عليهما الصوم وهذا اى الحتم ينسخ التخيير بين الصوم والافطار والفداء { ومن كان مريضا } وان كان مقيما حاضرا فيه { أو على سفر } وان كان صحيحا وعلى بمعنى فى وحروف الصفات يقام بعضها مقام بعض { فعدة من ايام اخر } اى فعليه صيام ايام اخر واعاد تخيير المريض والمسافر وترخيصهما فى الافطار لان الله تعالى ذكر فى الآية الاولى تخيير المقيم المطيق والمسافر والمريض ونسخ فى الثانية تخيير المقيم بقوله { فليصمه } فلو اقتصر على هذا احتمل ان يعود النسخ الى تخيير الجميع فاعاد بعض النسخ بترخيص المسافر والمريض ليعلم انه باق على ما كان { يريد الله بكم اليسر } حيث اباح الفطر بالسفر والمرض واليسر ما تسهل { ولا يريد بكم العسر } اى مشقة بالصوم فى المرض والسفر لغاية رأفته وسعة رحمته

(1/399)

قال محمد بن على الترمذى قدس سره اليسر اسم الجنة لان جميع اليسر فيها والعسر اسم جهنم لان جميع العسر فيها معناه يريد الله بصومكم ادخال الجنة ولا يريد بكم ادخال النار

قال شيخنا العلامة الفضلى قدس سره فى الآية ان مراده تعالى بان يأمركم بالصوم يسر الدارين لا عسرهما اما اليسر فى الدنيا فالترقى الى الملكية والروحانية والوصول الى اليقظة والمعرفة واما العسر فيها فالبقاء مع البشرية والحيوانية والاتصاف بالاوصاف الطبيعية والنفسانية واما اليسر فى الآخرة فهو الجنة والنعمة والقربة والوصلة والرؤية واما العسر فيها فهو الجحيم وعذابها ودركاتها انتهى كلامه

وقال نجم الدين فى تأويلاته يعنى يريد الله بكم اليسر الذى هو مع العسر فلا تنظر فى امتثال الامر الى العسر ولكن انظر الى اليسر الذى هو مع العسر فان العاقل اذا سقاه الطبيب شرابا مرا أمر من بالء المرض موجبا للصحة فلا ينظر العاقل الى مرارة الشراب ولكن ينظر الى حلاوة الصحة ولا يبالى بمرارة الشراب فيشربه بقوة الهمة انتهى : قال السعدى قدس سره

وبالست دادن برنجور قند ... كه داروى تلخش بود سودمند

زعلت مدار اى خردمند بيم ... جوداروى تلخت فرستد حكيم

{ ولتكملوا العدة } اى وانما امرناكم بمراعاة العدة بعد ايجاب صوم رمضان كما قال تعالى { فعدة } اى فعليكم عدة ما افطرتم لتكملوا عدد ايام الشهر بقضاء ما افطرتم بسبب مرضكم او سفركم { ولتكبروا الله } اى انما علمناكم كيفية القضاء وهو المدلول عليه بقوله تعالى { من ايام اخر } مطلقا فانه يجوز ان يقضى على سبيل التوالى او التفريق لتعظموا الله حامدين { على ما هداكم } ما مصدرية اى على هدايته اياكم الى طريق الخروج عن عهدة التكليف { ولعلكم تشكرون } اى انما رخصنا لكم بالافطار لكى تشكروا الله على هذه النعمة باللسان والقلب والبدن وفى الحديث « من حافظ على ثلاث فهو ولى الله حقا ومن ضيعهن فهو عدو الله حقا الصلاة والصوم والغسل من الجنابة » وفى بعض الخبر « ان الجنان يشتقن الى اربعة نفر صائمى رمضان وتالى القرآن وحافظى اللسان ومطعمى الجيران وان الله يغفر للعبد المسلم عند افطاره ما مشت اليه رجلاه وما قبضت عليه يداه وما نظرت اليه عيناه وما سمعته اذناه وما نطق به لسانه وما حدث به قلبه »

(1/400)

وفى الحديث « اذا كان يوم القيامة وبعث من فى القبور اوحى الله الى رضوان انى اخرجت الصائمين من قبورهم جائعين عاطشين فاستقبلهم بشهواتهم من الجنان فيصيح ويقول أيها الغلمان والولدان عليكم باطباق من نور فيجتمع اكثر من عدد الرمل وقطرات الامطار وكواكب السماء واوراق الاشجار بالفاكهة الكثيرة والاشربة اللذيذة والاطعمة الشهية فيطعم من لقى منهم ويقول كلوا واشربوا هنيئا بما اسلفتم فى الايام الخالية » وعن النبى عليه السلام انه قال « رأيت ليلة المعراج عند سدرة المنتهى ملكا لم ار مثله طولا وعرضا طوله مسيرة الف الف سنة وله سبعون ألف رأس فى كل رأس سبعون الف وجه فى كل وجه سبعون الف لسان وعلى كل رأس الف ذؤابة من نور وعلى كل ذؤبة الف الف لؤلؤة معلقة بقدرة الله تعالى وفى جوف كل لؤلؤة بحر من نور وفى ذلك البحر حيتان طول كل حوت مقدار مائتى عام مكتوب على ظهرهن لا اله الا الله محمد رسول الله وذلك الملك واضع احدى يديه على رأسه والاخرى على ظهره وهو فى حظيرة القدس فاذا سبح اهتز العرش بحسن صوته فسألت عنه جبريل فقال هذا ملك خلقه الله تعالى قبل آدم بالفى عام فقلت اين كان هذا الى هذه الغاية فقال ان الله مرجا فى الجنة عن يمين العرش فكان هو فيه فامره الله فى ذلك المكان ان يسبح لك ولامتك بسبب صوم شهر رمضان فرأيت صندوقين بين يديه على كل صندوق الف قفل من نور وسألت جبريل عن الصندوقين فقال سل منه فسألته فقال ان فيهما براءة الصائمين من امتك من عذاب النار طوبى لك ولامتك »

اعلم انه لا بد من النية فى الاعمال خصوصا فى الصوم وهى ان يعلم بقلبه انه يصوم ولا يخلو مثلا عن هذا فى ليالى شهر رمضان والامساك قد يكون للعادة او لعدم الاشتهاء او للمرض او للرياضة او يكون للعبادة فلا يتعين له الا بالنية وهى شرط لكل يوم لان صوم كل يوم عبادة على حدة ألا يرى انه لو افسد صوم يوم لا يمنع صحة الباقى بخلاف التراويح فانه لا يلزم النية فى كل شفع لان الكل بمنزلة صلاة واحدة وهو الاصح وتجوز النية الى نصف النهار دفعا للحرج وما يروى من الاحاديث فى نفى الصوم الا بالتثبيت فمحمولة على نفى الفضيلة بخلاف القضاه والكفارات والنذر المطلق لان الزمان غير متعين لها فوجب التبييت نفيا للمزاحمة ويعتبر نصف النهار من طلوع الفجر الثانى فيكون الى الضحوة الكبرى فينوى قبلها الاكثر منويا فيكون له حكم الكل حتى لو نوى بعد ذلك لا يجوز لخلو الاكثر عن النية تغليبا للاكثر

(1/401)

والاحتياط فى النية فى التراويح ان ينوى التراويح او ينوى قيام الليل او ينوى سنة الوقت او قيام رمضان

والتراويح سنة مؤكدة واظب عليها الخلفاء الراشدون قال عليه السلام « ان الله فرض عليكم الصيام وسننت قيامه » واما قول عمر رضى الله عنه نعمت البدعة هذه يعنى قيام رمضان فمعناه ان النبى صلى الله عليه وسلم وان كان قد صلاها الا انه تركها ولم يحافظ عليها ولا جمع الناس اليها فمحافظة عمر عليها وجمع الناس اليها وندبهم بدعة لكنها بدعة محمودة ممدوحة كذا فى تفسير القرطبى عند قوله تعالى { بديع السموات والارض } فى الجزء الاول وكان النبى صلى الله عليه وسلم يبشر اصحابه بقدوم رمضان ويقول « قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك كتب الله عليكم صيامه تفتح فيه ابواب السماء وتغلق فيه ابواب الجحيم وتغل فيه الشياطين وفيه ليلة خير من الف شهر من حرم خيرها فقد حرم »

قال بعض العلماء هذا الحديث اصل فى تهنئة الناس بعضهم بعضا بشهر رمضان

قال السخاوى فى المقاصد الحسنة التهنئة بالشهور والاعياد مما اعتاده الناس وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما رفعه « من لقى اخاه عنده الانصراف من الجمعة فليقل تقبل الله منا ومنك » ويروى فى جملة حقوق الجار من المرفوع « ان اصابه خير هنأه او مصيبة عزاه او مرض عاده »

ومن آداب الصيام حفظ الجوارح الظاهرة وحراسة الخواطر الباطنة ولن يتم التقرب الى الله تعالى الا بترك ما حرم الله

قال ابو سليمان الدارانى قدس سره لأن اصوم النهار وافطر الليل على لقمة حلال احب الى من قيام الليل والنهار وحرام على شمس التوحيد ان تحل قلب عبد فى جوفه لقمة حرام ولا سيما فى وقت الصيام فليجتنب الصائم اكل الحرام فانه سم مهلك للدين

والسنة تعجيل الفطور وتأخير السحور فان صوم الليل بدعة فاذا اخر الافطار فكأنه وجد صائما فى الليل فصار مرتكبا للبدعة كذا فى شرح عيون المذاهب

ولنا ثلاثة اعياد عيد الافطار وهو عيد الطبيعة . والثانى عيد الموت حين القبض بالايمان الكامل وهو عيد كبير . والثالث عيد التجلى فى الآخرة وهو اكبر الاعياد وروى الترمذى وصححه عن زيد بن خالد « من فطر صائما كان له مثل اجره من غير ان ينقص من اجر الصائم شىء » وكان حماد بن سلمة الامام الحافظ يفطر فى كل ليلة من شهر رمضان خمسين انسانا واذا كانت ليلة الفطر كساهم ثوبا ثوبا وكان يعد من الابدال

واخرج السيوطى فى الجامع الصغير والسخاوى فى المقاصد عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما انه قال عليه السلام

(1/402)

« خيار امتى فى كل قرن خمسمائة والابدال اربعون فلا الخمسمائة ينقصون ولا الاربعون كلما مات رجل ابدل الله مكانه رجلا آخر » قالوا يا رسول الله دلنا على اعمالهم قال عليه السلام « يعفون عمن ظلمهم ويحسنون الى من اساءهم ويتواسون فيما اتاهم الله » وفى الحديث « من اشبع جائعا او كسا عاريا او آوى مسافرا اعاذه الله من اهوال يوم القيامة » وكان عبد الله بن المبارك ينفق على الفقرآء وطلبة العلم فى كل سنة مائة الف درهم ويقول للفضيل بن عياض لولاك واصحابك ما اتجرت وكان يقول للفضيل واصحابه لا تشتغلوا بطلب الدنيا اشتغلوا بالعلم وانا اكفيكم المؤونة

وكان يحيى البرمكى يجرى على سفيان الثورى كل شهر الف درهم وكان سفيان يدعو له فى سجوده ويقول اللهم ان يحيى كفانى امر الدنيا فاكفه امر آخرته فلما مات يحيى رآه بعض اصحابه فى النوم فقال ما صنع الله بك قال غفر لى بدعاء سفيان : قال الصائب

تيره روزان جهانرا بجراغى درياب ... تابس ازمرك ترا شمع مزارى باشد

جعلنا الله واياكم من العاملين بمقتضى كتابه ومدلول خطابه

(1/403)

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

{ واذا سألك عبادى عنى } وجه اتصال هذه الآية بما قبلها ان الله تعالى لما امرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبه بهذه الآية الدالة على انه تعالى خبير باحوالهم مطلع على ذكرهم وشكرهم سميع باقوالهم مجيب لدعائهم مجازيهم على اعمالهم تأكيدا له وحثا عليه

وسبب النزول ما روى ان اعرابيا قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقريب ربنا فنناجيه ام بعيد فنناديه فقال تعالى ايماء الى سرعة اجابة الدعاء منهم اذا سألك عبادى عنى { فانى قريب } اى فقل لهم انى قريب بالعلم والاحاطة فهو تمثيل لكمال علمه بافعال العباد واقوالهم واطلاعه على احوالهم بحال من قرب مكانه منهم فيكون لفظ قريب استعارة تبعية تمثيلية وانما لم يحمل على القرب الحقيقى وهو القرب المكانى لانه ممتنع فى حقه تعالى لانه لو كان فى مكان لما كان قريبا من الكل فان من كان قريبا من حملة العرش يكون بعيدا من اهل الارض ومن كان قريبا من اهل المشرق يكون بعيدا من اهل المغرب وبالعكس

قال ابو موسى الاشعرى لمّا توجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الى خيبر اشرف الناس على واد فرفعوا اصواتهم بالتكبير لا اله الا الله والله اكبر فقال صلى الله عليه وسلم « اربعوا على انفسكم انكم لا تدعون اصم ولا غائبا انكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم » وهذا باعتبار المشارب والمقامات واللائق بحال اهل الغفلات الجهر لقلع الخواطر كما ان المناسب لاهل الحضور الخفاء : قال السعدى

دوست نزديكتر ازمن بمنست ... وين عجبتركه من ازوى دورم

{ اجيب دعوة الداع اذا دعان } تقرير للقرب المجازى المراد فى هذا المقام وهو الحالة الشبيهة بالقرب المكانى وقد تقرر ان اثبات ما يلائم المستعار منه للمستعار له يرشح الاستعارة ويقررها وايضا وعد للداعى بالاجابة

فان قلت انا نرى الداعى يبالغ فى الدعوات والتضرع فلا يجاب قلت ان هذه الآية مطلقة والمطلق محمول على المقيد وهو قوله تعالى { بل ايها تدعون فيكشف ما تدعون اليه ان شاء } فالمعنى اجيب دعوة الداع اذا دعانى ان شئت او اذا وافق القضاء او اذا لم يسأل محالا او كانت الاجابة خيرا له والاجابة اعطاء ما سئل والله تعالى يقابل مسألة السائل بالاسعاف ودعاء الداعى بالاجابة وضرورة المضطرين بالكفاية { فليستجيبوا لى } اى فليجيبوا اذا دعوتهم للايمان والطاعة كما اجيبهم اذا دعونى لمهماتهم واستجابه واستجاب له واجابه واحد قطع مسألته بتبليغة مراده واصله من الجوب والقطع { وليؤمنوا بى } امر بالثبات على ما هم عليه

قال ابن الشيخ الاستجابة عبارة عن الانقياد والاستسلام والايمان عبارة عن صفة القلب وتقديمها على الايمان يدل على ان العبد لا يصل الى نور الايمان وقوته الا بتقديم الطاعات والعبادات .

(1/404)

ومعنى الفاء فيه انه تعالى قال انا اجيب دعاءك مع انى غنى عنك مطلقا فكن انت ايضا مجيبا لدعائى مع انك محتاج الى من كل الوجوه فما اعظم هذا الكرم { لعلهم يرشدون } راجين اصابة الرشد وهو الاهتداء لمصالح الدين والدنيا ومعنى الآية انهم اذا استجابوا وآمنوا اهتدوا لمصالح دينهم ودنياهم لان الرشيد من كان كذلك

اعلم ان عدم الدعاء بكشف الضر مذموم عند اهل الشريعة والطريقة لانه كالمقاومة مع الله ودعوى لمشاقه : وفى المثنوى

تافرود آيد بلا بى دافعى ... جون نباشد ازتضرع شافعى

فالتسبب واجب للعوام والمبتدئين فى السلوك والتوكل افضل للمتوسطين . واما الكاملون فليس يمكن حصر احوالهم فالتوكل والتسبب عندهم سيان روى ان ابراهيم الخليل عليه السلام لما القى فى النار لقيه جبريل فى الهواء فقال ألك حاجة فقال أما اليك فلا فقال فاسأل الله الخلاص فقال عليه السلام حسبى من سؤاله علمه بحالى وهذا مقام اهل الحقيقة من المكملين الفانين عن الوجود وما يتعلق به والباقين بالرب فى كل حال فأين انت من هذا فاسأل الله عفوه ومغفرته وقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يكلم الناس بقدر مراتبهم ولذا قال لاعرابى ارسل ابلا له توكلا عليه تعالى « اعقلها وتوكل على الله » امر بعقل الدابة لانه اراد بالتوكل التحرز عن الفوات وحث بعضهم على التوكل كتوكل الطير وذلك اذا لم يسكن الى سابق القضاء

ثم اجابة الدعاء وعد صدق من الله لا خلف فيه ومن دعا بحاجة فلم تقض للحال فذلك لوجوه . منها ان الاجابة حاصلة لا محالة فان اجابة الدعوة غير قضاء الحاجة وقضاء الحاجة غير اجابة الدعوة فان اجابة الدعوة هو ان يقول العبد يا رب فيقول الله تعالى له لبيك يا عبدى وهذا موعود موجود لكل متوجه راشد وقضاء الحاجة اعطاء المراد وايصال المرتاد وذلك قد يكون للحال وقد يكون بعد مدة وقد يكون فى الآخرة وقد يكون الخيرة له فى غيره . ومنها ان الاجابة ليست بجهة واحدة بل لها جهات وفى الحديث « دعوة المسلم لا ترد الا لاحدى ثلاث اما ان يدعو باثم او قطيعة رحم واما ان يدخر له فى الآخرة واما ان يصرف السوء عنه بقدر ما دعا » ومنها ان الاجابة مقيدة بالمشيئة كما سبق . ومنها انه شرط لهذه الاجابة اجابة العبد اياه فيما دعاه اليه لقوله تعالى { فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى } . ومنها ان للدعاء شرائط وآدابا وهى اسباب الاجابة فمن استكملها كان من اهل الاجابة ومن اخل بها كان من اهل الاعتداء فلا يستحق الجواب والاسباب منها ما يتعلق باهل العموم ويطول ذكرها ان استوفيت ههنا .

(1/405)

ومنها ما يتعلق بالخصوص وهى التزكية فالاجابة موقوفة على تزكية اداعى فعليه ان يزكى البدن اولا فيصلحه بلقمة الحلال وقد قيل الدعاء مفتاح باب السماء واسنانه لقمة الحلال وقال عليه السلام « الرجل يطيل السفر يمد يده الى السماء اشعث اغبر يقول يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فأنى يستحاب لذلك » حكى انه كان بالكوفة انا يستجاب دعاؤهم كلما دخل عليهم وال كانوا يدعون عليه فيهلك فدبر الحجاج الحيلة عليهم حين ولى عمل الكوفة من ابن مروان فدعاهم الى مأدبته فلما اكلوا قال امنت من دعائهم ان يستجاب حيث دخل فى بطونهم طعام حرام ويزكى الداعى نفسه ويطهرها من الاوصاف البشرية والاخلاق الذميمة لانها قاطعات لطريق الدعاء ويزكى قلبه عن رين التعلقات الانسانية من النفسانى والروحانى ويصفيه بالاذكار وينوره بنورالاخلاق فان هذه اسباب القربة بها يرفع الدعاء الى الله كما قال تعالى { اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } ويزكى الروح عن دنس الالتفات لغير الله ليتعرض لنفخات الطافه ويزكى السر عن وصمة الشرك بان يوجهه الى الحق فى الدعاء لطلب الحق لا لطلب غير الحق من الحق ليستجيب دعاءه ولا يخيب رجاءه كما قال « لا من طلبنى وجدنى ومن طلب غيرى لم يجدنى » وان الله وعد الاجابة على طلبه بالدعاء فقال { اجيب دعوة الداع اذا دعان } اى اذا طلبنى : قال السعدى

خلاف طريقت بود كاوليا ... تمنا كنند ازخدا جز خدا

فمن اخل ببعض هذه الشرائط لم يلزمه الاجابة كمن اخل بركن من اركان الصلاة لم يلزمه القبول الا ان الجبار يجبر كل خلل وكسر يكون فى اعمال العباد بفضله وكرمه وفى الحقيقة ان افضاله مع العباد مقدم على اعمالهم وانه يعطى قبل السؤال ويحقق مراد العبد بعد سؤاله بجميع النوال والدعاء على قسمين داع بالدعاء وقارئ للدعاء فللداعى يفتح ابواب السموات حتى يبلغ دعاؤه العرش وقارئ الدعاء لا يبلغ الا الاذن

قال الفنارى فى تفسير الفاتحة ثم لصحة التصور وجودة الاستحضار اثر عظيم فى الاجابة اعتبره النبى عليه الصلاة والسلام وحرض عليه عليا رضى الله تعالى عنه لماعلمه الدعاء وفيه اللهم اهدنى وسددنى فقال له اذكر بهدايتك هداية الطريق وبالسداد سداد السهم فامره باستحضار هذين الامرين وقت الدعاء فهذا هو سر اجابة دعاء الرسل والكمل والامثل فالامثل واستقامة التوجه حال الطلب والنداء عند الدعاء شرط قوى فى الاجابة فمن تصوره تصورا صحيحا من رؤية وعلم سابقين او حاضرين حال الدعاء ثم دعاه سيما بعد امره له بالدعاء والتزامه الاجابة فانه يجيبه لا محالة اما من زعم انه يقصد مناداة زيد وهو يستحضر غيره ثم لم يجد الاجابة فلا يلومن الا نفسه اذ لم يناد القادر على الاجابة وانما توجه الى ما انشأه من صفات تصوراته بالحالة الغالبة عليه اذ ذاك لكن سؤاله قد يثمر بشفاعة حسن ظنه بربه وشفاعة المعية الآلهية وحيطته فالمتوجه بالخطأ مصيب من وجه كالمجتهد المخطىء مأجور غير محروم بالكلية انتهى كلام الفنارى

(1/406)

وفى رسالة القشيرى فى الخبر المروى « ان العبد يدعو الله سبحانه وهو يحبه فيقول يا جبريل اخر حاجة عبدى فانى احب ان اسمع صوته » حكى انه وقع ببغداد قحط فامر الخليفة المسلمين بالخروج للاستسقاء فخرجوا واستسقوا فلم يسقوا فامر اليهود فخرجوا وسقوا فتحير الخليفة ودعا علماء المسلمين وسألهم فلم يفرجوا عنه فجاء سهل ابن عبد الله وقال يا امير المؤمنين انا معاشر المسلمين احبنا الله لدين الاسلام وهدانا ويحب دعاءنا وتضرعنا فلهذا لم يعجل اجابتنا وهؤلاء ابغضهم ولعنهم فلهذا عجل اجابتهم وصرفهم عن بابه قال عليه السلام « قوام الدنيا باربعة اشياء بعلم العلماء وعدل الامراء وسخاوة الاغنياء ودعوة الفقراء » وينبغى ان يسأل الله تعالى باسمائه الحسنى العظام والادعية المأثورة عن السلف الكرام وينبغى ان يتوسل الى الله تعالى بالانبياء والاولياء الصالحين

وللدعاء اماكن يظن فيها الاجابة مثلا عند رؤية الكعبة والمساجد الثلاثة وبين الجلالتين من سورة الانعام وفى الطواف وعند الملتزم وفى البيت وعند زمزم وعند شرب مائه وعلى الصفا والمروة وفى السعى وخلف المقام وفى عرفات والمزدلفة ومنى وعند الجمرات الثلاث وعند قبور الانبياء عليهم السلام وقيل لا يصح قبر نبى بعينه سوى قبر نبينا عليه الصلاة والسلام وقبر ابراهيم عليه السلام داخل السور من غير تعيين وجرب استجابة الدعاء عند قبور الصالحين بشروط معروف عند اهلها اللهم أفض علينا من بركات الصالحين

(1/407)

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

{ احل لكم } تقديم الظرف على القائم مقام الفاعل للتشويق فان ما حقه التقديم اذا اخر تبقى النفس مترقبة اليه فيتمكن عندها وقت وروده فضل تمكن اى ابيح لكم { ليلة الصيام } اى فى ليلة يوم الصوم وهى الليلة التى يصبح الرجل فى غداتها صائما { الرفث } اصل الرفث قول الفحش والتكلم بالقبح ثم جعل ذلك اسما لما يتكلم به عند النساء من معانى الافضاء ثم جعل كناية عن الجماع لان الجماع لا يخلو عن شىء من التصريح بما يجب ان يكنى عنه من الالفاظ الفاحشة وعن ابن عباس رضى الله عنهما الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة كالغمز والتقبيل { الى نسائكم } عدى الرفث بالى وان كان المشهور تعديته بالباء تقول رفثت بالمرأة لتضمنه معنى الافضاء قال تعالى { وقد افضى بعضكم الى بعض } اراد به الجماع وكان الرجل فى ابتداء الاسلام اذا امسى فى رمضان حل له الاكل والشرب والجماع الى ان يصلى العشاء الاخيرة او يرقد فاذا صلاها او رقد ولم يفطر حرم عليه الطعام والشراب والنساء الى القابلة ثم ان عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه واقع اهله بعد صلاة العشاء الاخيرة فلما اغتسل اخذ يبكى ويلوم نفسه فأتى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وقال يا رسول الله انى اعتذر الى الله واليك من نفسى هذه الخاطئة انى رجعت الى اهلى بعد العشاء فوجدت رائحة طيبة فسولت لى نفسى فجامعت اهلى فقال عليه السلام « ما كنت جديرا بذلك يا عمر » فقام رجال فاعترفوا بمثله فنزلت الآية وصارت زلته سببا للرحمة فى جميع الامة { هن لباس لكم وانتم لباس لهن } استئناف مبين لسبب الاحلال وهو صعوبة الصبر عنهن مع شدة المخالطة وكثرة الملابسة بهن وجعل كل من الرجل والمرأة لباسا للآخر لتجردهما عند النوم واعتناقهما واشتمال كل منهما على الآخر او لان كلا منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من الفجور وعما لا يحل كما جاء فى الحديث « من تزوج فقد احرز ثلثى دينه » او المعنى هن سكن لكم وانتم سكن لهن كما قال تعالى { وجعل منها زوجها ليسكن اليها } ولا يسكن شىء الى شىء كسكون احد الزوجين الى الآخر { علم الله } فى الازل { انكم كنتم تختانون انفسكم } تخونونها وتظلمونها بتعريضها للعقاب وتنقيص حظها من الثواب بمباشرة النساء فى ليالى الصوم والخيانة ضد الامانة وقد ائتمن الله العباد على امرهم به ونهاهم عنه فاذا عصوه فى السر فقد خانوه وقد قال الله تعالى { لا تخونوا الله والرسول وتخونوا اماناتكم } قال الصائب

ترابكوهر دل كردهاند امانت دار ... زدزد امانت حق را نكاه دار مخسب

{ فتاب عليكم } عطف على علم اى قبل توبتكم وتجاوز عنكم لما تبتم مما اقترفتموه { وعفا عنكم } اى محا اثره عنكم { فالآن } اى لما نسخ التحريم ظرف لقوله { باشروهن } اصله فعل بمعنى حان ثم جعل اسما للزمان الحاضر وعرف بالالف واللام وبقى على الفتحة والمباشرة الزاق البشرة بالبشرة كنى بها عن الجماع الذى يستلزمها وجميع ما يتبعه يدخل فيه وفيه دليل على جواز نسخ السنة بالكتاب ان كانت حرمة الاكل والشرب والجماع ثابتة بالسنة واما اذا كان ثبوت حرمتها بشريعة من قبلنا فلاعلى ما ذهب اليه بعضهم { وابتغوا ما كتب الله لكم } اى واطلبوا ما قدره الله تعالى واثبته فى اللوح المحفوظ من الولد وفيه ان المباشر ينبغى ان يكون غرضه الولد والتناسل فانه الحكمة فى خلق الشهوة وشرع النكاح لاقضاء الشهوة وحدها وفى الحديث

(1/408)

« تناكحوا تناسلوا تكثروا فانى اباهى بكم الامم يوم القيامة » { وكلوا واشربوا } ليالى الصوم عطف على قوله باشروهن { حتى يتبين } يظهر { لكم الخيط الابيض } هو اول ما يبدو من بياض النهار كالخيط الممدود دقيقا ثم ينتشر { من الخيط الاسود } هو ما يمتد من سواد الليل مع بياض النهار فان الصبح الصادق اذا بدا يبدوا كأنه خيط ممدود فى عرض الافق ولا شك انه يبقى مع بقية من ظلمة الليل بحيث يكون طرفها الملاصق لما يبدو من الفجر كأنه خيط اسود فى جنب خيط ابيض لان نور الصبح انما ينشق فى خلال ظلمة الليل فشبها بخيطين ابيض واسود { من الفجر } اى انشقاق عمود الصبح بيان للخيط الابيض واكتفى ببيانه عن بيان الاسود لدلالته عليه والتقدير حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الفجر من الخيط الاسود من الليل . قوله حتى يتبين غاية للامور الثلاثة اى المباشرة والاكل والشرب ففى تجوزير المباشرة الى الصبح دلالة على جواز تأخير الغسل اليه وصحة صوم من اصبح جنبا لان المباشرة اذا كانت مباحة الى انفجار الصبح لم يمكنه الاغتسال الا بعد الصبح بالضرورة والا لكانت المباشرة قبل آخر الليل بقدر ما يسع الاغتسال حراما وهو مخالف لكلمة حتى { ثم اتموا الصيام } اى اديموا الامساك عن المباشرة والاكل والشرب فى جميع اجزاء النهار { الى } غاية { الليل } وهو دخول الليل وذاك بغروب الشمس والاتمام اداؤه على التمام وفى الحديث « اذا اقبل الليل وادبر النهار وغابت الشمس فقد افطر الصائم » اى دخل وقت الافطار وانما ذكر الاقبال والادبار وان لم يكونا الا بغروب الشمس لبيان كمال الغروب كيلا يظن احد انه اذا غاب بعض الشمس جاز الافطار او لانه قد يكون فى واد بحيث لا يشاهد غروب الشمس فيحتاج الى ان يعمل بهما قالوا فيه دلالة على جواز النية بالنهار فى صوم رمضان وعلى نفى صوم الوصال اما الاول فلان الله تعالى لما ابح المباشرة والاكل والشرب الى الفجر تبين ان ابتداء الصوم يكون بعد الفجر والصوم ليس مجرد الامساك بل هو الامساك مع النية فيكون قوله ثم اتموا الصيام امرا بنية الصوم بعد الفجر واما الثانى فلان الله تعالى جعل الليل غاية الصوم وغاية الشىء مقطعه فيكون بعدها الافطار وينتفى الوصال قال بعضهم الليل غاية وجوب الصوم فاذا دخل الليل لا يجب الصوم واما ان الصوم لا يجوز بعد دخول الليل فلا دلالة للآية عليه ولان مثل هذه الاوامر اى باشروهن وكلوا واشربوا انما يكون للاباحة والرخصة لا للوجوب فلا تدل الآية على نفى صوم الوصال ولما ظن ان حال الاعتكاف كحال الصوم فى ان المباشرة تحرم فيه نهارا لا ليلا بين ان المباشرة تحرم على المعتكف نهارا وليلا معا فقال { ولا تباشروهن } اى لا تجامعوهن { وانتم } اى والحال انتم { عاكفون فى المساجد } مقيمون فيها بنية الاعتكاف وهو فى الشرع لزوم المسجد والمكث لطاعة الله فيه والتقرب اليه وهو من الشرائع القديمة قال تعالى

(1/409)

{ ان طهرا بيتى للطائفين والعاكفين } نزلت فيمن كان يعتكف فى المسجد فاذا عرضت له حاجة الى امرأته خرج فجامعها ثم اغتسل فرجع الى المسجد فنهوا عن ذلك فالجماع يحرم على المعتكف ويفسد الاعتكاف ولفظ المساجد يدل على جواز الاعتكاف فى كل مسجد الا ان المسجد الجامع افضل حتى لا يحتاج الى الخروج الى الجمعة

والاعتكاف من اشرف الاعمال اذا كان عن اخلاص لان فيه تفريغ القلب عما سوى الله تعالى

قال عطاء مثل المعتكف كرجل له حاجة الى عظيم فيجلس على بابه ويقول لا ابرح حتى يقضى حاجتى فكذلك المعتكف يجلس فى بيت الله ويقول لا ابرح حتى يغفر لى وفى الحديث « من مشى فى حاجة اخيه فكأنما اعتكف عشرين سنة ومن اعتكف يوما جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق كل خندق ابعد مما بين الخافقين » وفى الخلوة والانقطاع عن الناس فوائد جمة يسلم منه الناس وسلم هو منهم وفيها خمول النفس والاعراض عن الدنيا وهو اول طريق الصدق والاخلاص وفيها الانس بالله والتوكل والرضى بالكفاف فان المعاشر للناس والمخالط يتكلف فى معيشته البتة فاذا لا يفرق غالبا بين الحلال والحرام فيقع فى الهلاك ويسلم المتخلى ايضا من مداهنة الناس وغير ذلك من المعاصى التى يتعرض الانسان لها غالبا بالمخالطة

قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره التصوف عبارة عن الاجتناب عن كل ما فيه شائبة الحرمة وصون لسانه عن الكلام اللغو والخلوة والاربعون ليست الا هذا فانه وحدة فى الكثرة والمقصود من الخلوة ايضا ذلك ولكن ما يكون فى الكثرة على الوجه الذى ذكرنا اثبت واحكم لان ما يكون بالخلوة يزول اذا اختلط بين الناس وليس كذلك ما ذكر فطريقنا طريق النبى عليه السلام وطريق الاصحاب رضى الله تعالى عنهم والنبى عليه السلام لم يعين الاربعين بل الاعتكاف فى العشر الاخير من رمضان نعم فعل ذلك موسى عليه السلام قال تعالى

(1/410)

{ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة واتممناها بعشر } والخلوتية اخذوا من ذلك كذا فى واقعات الهدائى قدس سره { تلك } اى الاحكام التى ذكرت من اول آية الصيام الى هنا { حدود الله } جمع حد وهو الحاجز بين الشيئين وجعل ما شرعه الله تعالى لعباده من الاحكام حدودا لهم لكونها امورا حاجزة بين الحق والباطل ولكونها مانعة من مخالفاتها والتخطى عنها { فلا تقربوها } اى ان تنتهوا فلا تقربوها فضلا عن تجاوزها نهى ان يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل لئلا يدانى الباطل فضلا ان يتخطى كما قال عليه السلام « ان لكل ملك حمى وان حمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك ان يقع فيه » وهو ابلغ من قوله فلا تعتدوها ولما بين تعالى احكام الصوم على وجه الاستقصاء فى هذه الالفاظ القليلة بيانا شافيا قال بعده { كذلك } اى بيانا مثل هذا البيان الوافى الواضح فالكاف فى محل النصب على انه صفة مصدر محذوف { يبين الله آياته للناس } والآيات دلائل الدين ونصوص الاحكام والمقصود من تعظيم البيان هدايته ورحمته على عباده فى هذا البيان { لعلهم يتقون } مخالفة اوامره ونواهيه

والتقوى اتقاء الشرك . ثم بعده اتقاء المعاصى والسيآت . ثم بعده اتقاء الشهوات . ثم يدع بعده الفضلات وفى الحديث « لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس » قال السعدى قدس سره

ترا آنكه جشم ودهان داد وكوش ... اكر عاقلى در خلافش مكوش

جو باك آفريدت بهش باش وباك ... كه ننكست ن بالك رفتن بخاك

مرو زير بار كنه اى بسر ... كه حمال عاجز بود در سفر

مكن عمر ضايع بافسوس وحيف ... كه فرصت عزيزست والوقت سيف

جعلنا الله واياكم من اهل اليقظة واليقين

(1/411)

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

{ ولا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل } اى لا يأكل بعضكم مال بعض بالوجه الذى لم يبحه الله تعالى ولم يشرعه كالغصب والنهب والسرقة واليمين الكاذبة وكالاكساب الخبيثة كالقمار والرشى وحلوان الكاهن والمغنى والنائحة وكالحيلة ووجوه الخيانة قوله { بينكم } نصب على الظرفية فيتعلق بقوله { تأكلوا } ومعنى كون الاكل بينهم وقوع التداول والتناول لاجل الاكل بينهم وليس المراد بالاكل المنهى عنه نفس الاكل خاصة لان جميع التصرفات المتفرعة على الاسباب الباطلة حرام الا انه شاع فى العرف ان يعبر عن انفاق المال بأى وجه كان بالاكل لان الاكل معظم المقصود من المال وقوله { بالباطل } متعلق بالفعل المذكور اى لا تأكلوها بالسبب الباطل

نزلت فى رجلين تخاصما فى ارض بينهما فاراد احدهما ان يحلف على ارض اخيه بالكذب فقال النبى عليه السلام « انما انا بشر مثلكم يوحى الى وانتم تختصمون الى ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما اسمع منه فمن قضيت له شيأ من حق اخيه فانما اقضى له قطعة من نار » فبكيا وقال كل واحد منهما انا حل لصاحبى فقال « اذهبا فتوخيا ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه »

قوله ألحن بحجته اى اقوم بها واقدر عليها من صاحبه والتوخى قصد الحق والاستهام الاقتراع وفيه دلالة ظاهرة على ان حكم القاضى لا ينفذ باطنا كما عند الشافعى وحمله ابو حنيفة على الاموال والاملاك دون عقود النكاح وفسخها وموضع بيانه مشبعا كتاب القضاء فى الفقه { وتدلوا بها الى الحكام } عطف على المنهى عنه فيكون محزوما بلا الناهية المذكورة بواسطة العاطف والادلاء الالقاء وضمير بها للاموال بتقدير المضاف والباء فيه مثلها فى قوله تعالى { ولا تلقوا بايديكم الى التهلكة } والمعنى ولا تلقوا امر الاموال والحكومة فيها الى الحكام { لتأكلوا } بالتحاكم اليهم { فريقا } اى طائفة وبعضا { من اموال الناس بالاثم } الباء سببية متعلقة بقوله لتأكلوا اى بما يوجب اثما كشهادة الزور واليمين الكاذبة والصلح مع العلم بان المقضى له ظالم والمقضى به حق المقضى عليه وقيل ولا تلقوا بعضها الى امراء الظلم وقضاة السوء على وجه الرشوة { وانتم تعلمون } انكم على الباطل وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها اقبح وصاحبها احق بالتوبيخ ويقال الدنيا ثلاثة اشياء حلال وحرام وشبهة فالحرام يوجب العقاب والشبهة توجب العتاب والحلال يوجب الحساب : قال الحكيم السنايى

اين جهان برمشال مردار ست ... كر كسان اندرون هزار هزار

اين مرانرا همى زند مخلب ... وان مرين را همى زند منقار

آخر الامر بكذرند همه ... و ز همه باز ماند اين مردار

فعلى العاقل ان يجتنب عن حقوق العباد والمظالم حكى انه لما مات انوشروان كان يطاف بتابوته فى جميع مملكته وينادى مناد من له علينا حق فليأت فلم يوجد احد فى ولايته له عليه حق من درهم روى ان ابا حنيفة كان له على بعض المجوس مال فذهب الى داره ليطالبه به فلما وصل الى باب داره وقع نعله على نجاسة فنفض نعله فانقلعت النجاسة عن نعله ووقعت على حائط دار المجوسى فتحير ابو حنيفة رحمه الله وقال ان تركتها كان ذلك شيأ يقبح جدار ذلك المجوسى وان حككتها احفر التراب من الحائط فدق الباب فخرجت الجارية فقال لها قولى لمولاك ان ابا حنيفة بالباب فخرج اليه وظن انه يطالبه بالمال واخذ يعتذر فقال ابو حنيفة رحمه الله ههنا ما هو اولى بالاعتذار وذكر قصة الجدار وانه كيف السبيل الى التطهير فقال المجوسى فانا ابدأ بتطهير نفسى فأسلم فى الحال والنكتة ان ابا حنيفة لما احترز عن ظلم ذلك المجوسى فى ذلك القدر القليل فلأجل بركة ذلك اسلم المجوسى ونجا من شقاوة الابد فمن احترز عن الظلم نال سعادة الدارين ولا فقد وقع فى الخذلان حكى ان نصرانيا كان يحمل امرأته على حمار فأتى بعض قرى المسلمين فقطع واحد من الرنود ذنب حماره فوثب الحمار وسقطت المرأة وانكسرت يداها والقت حملها ايضا فذهب النصراني الى قاضى تلك القرية شاكيا فقال القاضى لذلك الرند خذ هذا الحمار وامسكه حتى ينبت ذنبه والمرأة حتى تحمل حملا وتصح عندك يداها فقال النصرانى أهكذا حكم شريعتكم ثم رفع رأسه الى السماء وقال آلهى انت حليم ولا صبر لى على هذا فاحكم يا ناظر الملهوفين ويا ناصر المظلومين فمسخ الله ذلك القاضى فصار حجرا من ساعته ففى هذه الحكاية شيأن .

(1/412)

الاول ان هذا القاضى بظلمه وقع فيما وقع من البلاء العظيم . والثانى انه يجب الاحتراز عن الظلم وان كان المظلوم كافرا فان دعاء الكافر يسمع

والاشارة فى الآية ان الاموال خلقت لمصالح قوام النفس وان النفس خلقت للقيام بمراسم العبودية لقوله { وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون } ليعلموا ان الاموال والانفس لله فلا يتصرفون فيهما الا بامر الله { ولا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل } بهوى النفس والحرص والشهوة والاسراف على الغفلة وكلوا بالحق والقناعة والتقوية على الطاعة والقيام بالعبودية { و } لا { تدلوا بها الى الحكام } وهى النفس الامارة بالسوء { لتأكلوا فريقا من اموال الناس } من الاموال التى خلقت للاستعانة بها على العبودية { بالاثم } اى بالقطيعة والغفلة مستعينين بها على المعصية كالحيوانات والبهائم فيكون حاصلكم ومرجعكم ومثواكم النار ويأكلون كما تأكل الانعام والنار مثوى لهم { وانتم تعلمون } حاصل الامر ولا تعملون به كذا فى التأويلات النجمية

(1/413)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

{ يسألونك عن الاهلة } روى ان معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الانصاريين قالا يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوى ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا اولا ولا يكون على حالة واحدة فأنزل الله تعالى { يسألونك عن الاهلة } وهى جمع هلال والهلال اول ما يظهر لك من نور القمر الى ثلاث ليال وسمى هلالا لان الناس يرفعون اصواتهم بالذكر عند رؤيته من قولهم استهل الصبى اذا صرخ حين يولد واهل القوم بالحج اذا رفعوا اصواتهم بالتلبية { قل } يا محمد { هى } الاهلة { مواقيت } جمع ميقات من الوقت والفرق بينه وبين المدة والزمان ان المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها الى منتهاها والزمان مدة مقسومة الى الماضى والحال والمستقبل والوقت الزمان المفروض لامر { للناس } اى لم يتعلق بهم من امور معاملاتهم ومصالحهم { والحج } واموره المتعلقة باوقات مخصوصة

فان قلت لما كانت الاهلة مواقيت يوقت بها الناس عامة مصالحهم علم منه كونها ميقاتا للحج لانه من جملة المصالح المتوقفة على الوقت فلم خصه بالذكر قلت الخاص قد يذكر بعد العام للتنبيه على مزيته فالحج من حيث انه يراعى فى ادائه وقضائه الوقت المعلوم بخلاف سائر العبادات التى لا يعتبر فى قضائها وقت معين وحاصل الخطاب ان الهلال يبدو دائما ويظهر لكم على حسب مصلحتكم لقربه وبعده من الشمس كما بين فى فن الهيئة

قال فى التيسير ثم الشمس على حالة واحدة لانها ضياء للعام وقوام لمصالح الناس والقمر يتغير لان الله علق به ما قلنا من المواقيت وذلك يعرف بهذه الاختلافات ودبر عز وجل هذا التدبير لحاجة الناس الى ذلك انتهى { وليس البر بان تأتوا البيوت من ظهورها } كان الانصار اذا احرم الرجل منهم بالحج او العمرة لم يدخل حائطا ولا بيتا ولا دارا من بابه فان كان من اهل المدر نقب نقبا فى ظهر بيته يدخل منه ويخرج او يتخذ سلما فيصعد منه وان كان من اهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى حيل من احرامه ويرون ذلك برا الا ان يكون من الحمس وهم قريش وسببه انهم ظنوا انه لا بد فى الاحرام من تغيير جميع العادات فغيروا عادتهم فى الدخول كما غيروا فى اللباس والتطيب وقالوا لا ندخل بيوتا من الابواب حتى ندخل بيت الله تعالى وكان منهم من لا يستظل بسقف بعد احرامه ولا يأقط الاقط ولا يجز الوبر وهذه اشياء وضعوها من عند نفوسهم من غير شرع فعرفهم الله تعالى ان هذا التشديد ليس ببر ولا قربة { ولكن البر } بر { من اتقى } المحارم والشهوات دون دخول البيت من ظهر

(1/414)

وفى الكشاف فان قلت ما وجه اتصاله بما قبله قلت كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الاهلة وعن الحكمة فى نقصانها وتمامها معلوم ان كل ما يفعله الله تعالى لا يكون الا حكمة بالغة ومصلحة لعباده فدعوا السؤال عنه وانظروا فى واحدة تفعلونها انتم مما ليس من البر فى شىء وانتم تحسبونها برا { وائتوا البيوت من ابوابها } حال الاحرام اذ ليس فى العدول بر { واتقوا الله } فى تغيير احكامه والاعتراض على افعاله { لعلكم تفلحون } اى لكى تظرفوا بالبر والهدى

وللآية تأويل آخر قاله الحسن قال كان فى الجاهلية من هم بسفر او امر يصنعه فمنع عن ذلك لم يدخل داره من الباب حتى يحصل له ذلك وكان قريش وقبائل العرب من خرج لسفر او حاجة ثم رجع ولم يظفر بذلك كان ذلك طيرة فنهاهم الله عن ذلك واخبر ان الطيرة ليس ببر والبر بر من لم يخف غيره وتوكل عليه حكى الجاحظ قال تحاورت انا وابراهيم بن سيار المعروف بالنظام حديث الطيرة فقال اخبرك انى جعلت حتى اكلت الطين وما صبرت على ذلك حتى قلبت قلبى أتذكر هل ثمة رجل اصيب عنده غداء او عشاء فقصدت الاهواز وهى من بلدان فارس وما اعرف بها واحدا وما كان ذلك الا شيأ امر به الضجر فوافيت الفرضة فلم اجد بها سفينة فتطيرت من ذلك ثم انى رأيت سفينة فى صدرها خرق وهشم فتطيرت ايضا فقلت للملاح ما اسمك قال « ديوزاده » بالفارسى وهو اسم الشيطان فتطيرت وركبت معه فلما قربنا من الفرضة صحت يا حمال ومعى لحاف سمل وبعض ما لا بد لى منه فكان اول حمال اجابنى اعور فازددت طيرة وقلت فى نفسى الرجوع اسلم ثم ذكرت حاجتى الى اكل الطين وقلت من لى بالموت فلما صرت الى الخان وانا حائر ما اصنع سمعت قرع باب البيت الذى انا فيه فقلت من هذا قال رجل يريدك فقلت من انا قال ابراهيم بن سيار النظام فقلت فى نفسى هذا عدو أو رسول سلطان ثم انى تحاملت وفتحت الباب فقال ارسلنى اليه ابراهيم بن عبد العزيز ويقول لك وان كنا اختلفنا فى المقالة فانا نرجع بعد ذلك الى حقوق الاخلاق والحرية وقد رأيتك حيث مررت على حال كرهتها وينبغى ان يكون برحت بك حاجة فان شئت فاقم مكانك مدة شهر أو شهرين فعسى نبعث لك ببعض ما يكفيك زمينا من دهرك وان اشتهيت الرجوع فهذه ثلاثون دينارا فخذها وانصرف وانت احق من عذر قال فورد على امور اذهلتنى اما واحدها فانى لم اكن ملك قط ثلاثة دنانير والثانى انه لم يطل مقامى وغيبتى عن اهلى والثالث ما تبين لى من الطيرة انها باطلة كذا فى شرح رسالة الوزير ابن زيدون فظهر انه قد يكون ما تكرهه النفس خيرا كما حكى انه وقع قحط فى زمن شيخ فعين لكل من طلبته على طريق التفاؤل مكسبا فجاء فى فال واحد منهم قطع الطريق فانتقل ذلك الرجل فلقى بعض الحرامية واجتمع بهم فنهبوا جماعة من التجار فبعد اخذ أموالهم ربطوا ايديهم وامروا هذا الرجل ان يذبحهم بعيدا عنهم فتفكر الرجل فخطر بباله ان يطلقهم ويعطيهم السلاح ويطهروا الطريق من القطاع ففعلوا وهم غافلون ثم سألوا عن هذا الرجل فحكى حاله فجاؤا الى شيخه وسلموا الاموال وصاروا من جملة احبائه فعليك بالتسليم والقبول لكى تنال المأمول : قال الصائب

(1/415)

جون سرودر مقام رضا استاده ام ... آسوده خاطرم زبهار وخزال خويش

ثم فى قوله { وليس البر } الآية اشارة الى ان لكل شىء سببا ومدخلا لا يمكن الوصول اليه ولا الدخول الا باتباع ذلك السبب والمدخل كقوله تعالى { وآتيناه من كل شىء سببا فاتبع سببا } فسبب الوصول الى حضرة الربوبية والمدخل فيها هو التقوى وهى اسم جامع لكل بر من اعمال الظاهر واحوال الباطن والقيام باتباع الموافقات واجتناب المخالفات وتصفية الضمائر ومراقبة السرائر فبقدر السلوك فى مراتب التقوى يكون الوصول الى حضرة المولى كقوله تعالى { ان اكرمكم عند الله اتقاكم } وقال عليه السلام « عليكم بتقوى الله فانه جماع كل خير » فقوله { وليس البر بان تأتوا البيوت من ظهورها } اى غر مدخلها بمحافضة ظواهر الاعمال من غير رعاية حقوق بواطنها بتقوى الاحوال { ولكن البر من اتقى } اى حق التقوى كقوله تعالى { اتقوا الله حق تقاته } قيل فى معناه ان يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر { وائتوا البيوت من ابوابها } اى ادخلوا الامور من مداخلها ثم ذكر مدخل الوصول وقال { واتقوا الله } اى اتقوا بالله عما سواه يقال فلان اتقى بترسه يعنى اجعلوا لله محرزكم ومتقاكم ومفركم ومفزعكم ومرجعكم منه اليه كما كان حال النبى عليه السلام يقول « اعوذ بك منك » { لعلكم تفلحون } لكى تنجوا وتتخلصوا من مهالك النفوس باعانة الملك القدوس كذا فى التأويلات النجمية

(1/416)

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)

{ وقاتلوا } جاهدوا { فى } نصرة { سبيل الله } واعزازه والمراد بسبيل الله دينه لانه طريق الى الله ومرضاته { الذين يقاتلونكم } يعنى قريشا وكان ذلك قبل ان امروا بقتال المشركين كافة المقاتلين منهم والمحاجزين لان هذه الآية اول اية نزلت فى القتال بالمدينة فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه اى يقاتل من واجهه للقتال وناجزه ويكف عن قتال من لم يناجز وان كان بينه وبينهم محاجزة وممانعة ويؤيده ما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ان هذه الآية نزلت فى صلح الحديبية وذلك ان النبى عليه السلام خرج مع اصحابه للعمرة فى ذى القعدة سنة ست من الهجرة وكانوا الفا واربعمائة فنزل فى الحديبية وهو موضع فى قرب مكة كثير المياه والاشجار وصدهم المشركون عن البيت الحرام فاقام شهرا وصالحه المشركون على ان يرجع ذلك العام ويأتى مكة فى العام المقبل ويعتمر فرضى بما قالوا وان يصدوهم عن البيت وكره الاصحاب قتالهم فى الشهر الحرام وفى الحرم فانزل الله تعالى { وقاتلوا } الآية { ولا تعتدوا } بابتداء القتال فى الحرم محرمين { ان الله لا يحب المعتدين } اى لا يريد بهم الخير

(1/417)

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)

{ واقتلوهم حيث ثقفتموهم } اين وجدتموهم فى الحرم والحل وفى الاشهر الحرم وهم الذين هتكوا حرمة الشهر والحرم بالبداية فجازوهم بمثله واصل الثقف الحذق فى ادراك الشىء علما كان او عملا فهو يتضمن معنى الغلبة { واخرجوهم من حيث اخرجوكم } اى من مكة لانهم اخرجوا المسلمين منها اولا واخرج عليه الصلاة والسلام منها ثانيا من لم يؤمن به منهم يوم الفتح { والفتنة } فى الاصل عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش ثم صار اسما لكل ما كان سببا للامتحان تشبيها بهذا الاصل اى المحنة التى يفتتن بها الانسان ويمتحن كالاخراج من الوطن { اشد من القتل } اصعب منه لدوام تعبها وتألم النفس بها فتكون هذه الجملة متعلقة بقوله { واخرجوهم من حيث اخرجوكم } تذييلا له وحثا على الاخراج والمعنى ان اخراجكم اياهم ليس اهون عليهم من القتل بل هو اشد من قتلكم اياهم فيصلح جزاء لاصرارهم على الكفر ومناجزتهم لحربكم وقتالكم

قيل لبعض الحكماء ما اشد من الموت قال الذىيتمنى فيه الموت جعل الاخراج من الوطن من الفتن والمحن التى يتمنى عندها الموت ويحتمل ان تكون متعلقة بقوله { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } فيكون المقصود حث المؤمنين على قتلهم اياهم فى الحرم اى لا تبالوا بقتلهم اينما وجدتموهم فان فتنتهم اى تركهم فى الحرم وصدهم اياكم عن الحرم اشد من قتلكم اياهم فيه { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } اى لا تفاتحوهم بالقتل هناك وهتك حرمة المسجد الحرام { حتى يقاتلوكم فيه } حتى يبدأوكم بالقتال فى الحرم وهذا بيان لشرط كيفية قتالهم فى هذه البقعة خاصة فيكون تخصيصا لقوله { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } { فان قاتلوكم } ثمة { فاقتلوهم } فيه ولا تبالوا بقتلاهم ثمة لانهم الذين هتكوا حرمته فاستحقوا اشد العذاب { كذلك } اى مثل ذلك الجزاء على ان الكاف فى محل الرفع بالابتداء { جزاء الكافرين } يفعل بهم مثل ما فعلوا بغيرهم

(1/418)

فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)

{ فان انتهوا } عن القتال وكذا عن الكفر فان الانتهاء عن مجرد القتال لا يوجب استحقاق المغفرة فضلا عن استحقاق الرحمة { فان الله غفور رحيم } يغفر لهم ما قد سلف

(1/419)

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

{ وقاتلوهم } اى المشركين { حتى لا تكون } الى ان لا توجد ولا تبقى { فتنة } اى شرك يعنى قاتلوهم حتى يسلموا فلا يقبل من الوثنى الا الاسلام فان أبى قتل { ويكون الدين لله } خالصا له ليس للشيطان نصيب فيه { فان انتهوا } بعد مقاتلتكم عن الشرك { فلا عدوان الا على الظالمين } اى فلا تعتدوا على المنتهين اذ لا يحسن ان يظلم الا من ظلم فحذف نفس الجزاء واقيمت علته مقامه والعلة لما كانت مستلزمة للحكم كنى بها عنه كأنه قيل فان انتهوا فلا تعدوا علهم لان العدوان مختص بالظالمين والمنتهون عن الشرك ليسوا بظالمين فلا عدوان عليهم وسمى ما يفعل بالكفار عدوانا وظلما وهو فى نفسه حق وعدل لكونه جزاء الظلم للمشاركة كقوله تعالى { فجزاء سيئة سيئة }

(1/420)

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

{ الشهر الحرام } يقابل { بالشهر الحرام } فى هتك الحرمة حيث صدهم المشركون عام الحديبية فى ذى القعدة وكان بين القوم ترامى بسهام وحجارة واتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه سنة سبع من الهجرة وكرهوا ان يقاتلوهم لحرمته فنزلت هذه الآية وقيل لهم هذا الشهر الحرام بذلك الشهر وهتكه بهتكه فلا تبالوا به { والحرمات قصاص } يعنى من هتك حرمة أى حرمة كانت من حرمة الشهر وحرمة الاحرام وحرمة الحرم اقتص منه فان مراعاة هذه الحرمات انما تجب فى حق من يراعيها واما من هتكها فانه يقتص منه ويعامل معه بمثل فعله والاوضح ان المراد بالحرمات كل حرمة وهى ما يجب المحافظة عليه نفسا كان او عرضا يجرى فيها القصاص فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد وهو عين التعرض للقتال فافعلوا بهم مثله وادخلوا عليهم عنوة اى قهرا وغلبة فان منعوكم فى هذه السنة عن قضاء العمرة بالمقاتلة ونحوها فاقتلوهم كما قال تعالى { فمن اعتدى عليكم } اى تجاوز بقتالكم فى الشهر الحرام { فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } اى بعقوبة مماثلة لجناية اعتدائه وهذا اعتداء على سبيل القصاص وهو اعتداء مأذون فيه لا على سبيل الابتداء فانه ظلم حرام وهو المراد بقوله تعالى فلا تعتدوا { واتقوا الله } اذا انتصرتم ممن ظلمكم فلا تظلموهم باخذ اكثر من حقكم ولا تعتدوا الى ما لم يرخص لكم { واعلموا ان الله مع المتقين } والمعية وهى القرب المعنوى تدل على انه تعالى يحرسهم ويصلح شؤونهم بالنصر والتمكين روى انه عليه السلام واصحابه دخلوا ذلك العام مكة وطافوا بالبيت ونحروا الهدى وكان المشركون شرطوا له بعد قضاء العمرة الاقامة بمكة ثلاثا وكان النبى عليه السلام تزوج ميمونة بنت الحارث فاحب المقام بمكة ليولم عليها فطالبوه بالخروج منها والوفاء بما عاهد ففعل واولم على ميمونة وبنى بها بسرف

واعلم ان الله تعالى امرنا بالغزو فى سبيله ليظهر من يدعى بذل الوجود فى سبيل الله وامرنا بالزكاة ببذل المال ليتبين من يدعى محبة الله فالغزو معيار المحبة الآلهية لان كل انسان جبل على حب الحياة والمال فامتحن بالغزو والزكاة فى سبيل الله قطعا لدعوى المدعين لان الكل يدعى محبة الله وهذا هو السر فى الجهاد ولهذا قال سيدنا على رضى الله تعالى عنه خير الخصال فى الفتى الشجاعة والسخاوة وهما توأمان فكل شجيع سخى وعن عبد الله بن عمر عن ابيه رضى الله تعالى عنهما قال سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما الاسلام قال « طيب الكلام واطعام الطعام وافشاء السلام » قيل فأى المسلمون افضل قال « من سلم الناس من لسانه ويده »

(1/421)

قيل فأى الصلاة افضل قال « طول القيام » قيل فأى الصدقة افضل قال « جهد من مقل » قيل فأى الايمان افضل قال « الصبر والسماحة » قيل فأى الجهاد افضل قال « من عقر جواده واهريق دمه » قيل فأى الرقاب افضل قال « اغلاها ثمنا » والجهاد جهادان ظاهر وباطن فالظاهر مع الكفار والباطن مع النفس والشيطان وهذا اصعب لان الكافر ربما يرجع اما بالمحاربة او بالصلح او ببذل النفس والمال بوجه من الوجوه والشيطان لا يرجع عنك دون ان يسلب الدين : وفى المثنوى

اى شهان كشتيم ماخصم برون ... ماند خصمى روبتر دراندرون

كشتن اين كار عقل وهوش نيست ... شير باطن سخره خركوش نيست

سهل شيرى دان كه صفها بشكند ... شير آنست آنكه خودرا بشكند

قال فى التأويلات القاشانية { وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم } من الشيطان وقوى النفس الامارة { ولا تعتدوا } فى قتالها بأن تميتوها عن قيامها بحقوقها والوقوف على حدودها حتى تقع فى التفريط والقصور والفتور { ان الله لا يحب المعتدين } لكونهم خارجين عن ظل المحبة والوحدة التى هى العدالة { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } اى ازيلوا حياتهم وامنعوهم عن افعالهم بهواها الذى هو روحها حيث كانوا { واخرجوهم من حيث } مكة الصدر عند استيلائهم عليها كما { اخرجوكم } منها باستنزالكم الى بقعة النفس واخراجكم من مقر القلب { والفتنة } التى هى عبادة هواها واصنام لذاتها وشهواتها { اشد } من قمع هواها واماتتها بالكلية او محنتكم وبلاؤكم بها عند استيلائها اشد عليكم { من القتل } الذى هو اماتتها ومحوها بالكلية او محنتكم لزيادة الضرر والالم هناك { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } الذى هو مقام القلب اى عند حضور القلبى اذا وافقوكم فى توجهكم فانهم اعوانكم على السلوك حينئذ { حتى يقاتلوكم } فيه وينازعوكم فى مطالبه ويجروكم عن حياة القلب ودين الحق الى مقام النفس ودينهم الذى هو عبادة العجل { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } من تنازعهم وتجاذب دواعيهم وتعبدهم الهوى { ويكون الدين كله لله } بتوجه جميعها الى جناب القدس ومشايعها للسر فى التوجه الى الحق الذى ليس للشيطان والهوى فيه نصيب { فان انتهوا فلا عدوان } عليهم { الا على الظالمين } على العادين المجاوزين عن حدودهم انتهى ما فى التأويلات النجمية

وقال الشيخ نجم الدين قدس سره فى قوله تعالى { الشهر الحرام } الآية الاشارة ان ما يفوتكم من الاوقات والاوراد بتوانى النفس وغلبات صفاتها فتداركوه الشهر بالشهر واليوم باليوم والساعة بالساعة والوقت بالوقت والاوراد بالاوراد واقضوا الفائت والحقوق فكل صفة من صفات النفس اذا استولت عليكم فعالجوها بضدها البخل بالسخاوة والغضب بالحلم والحرص بالترك والشهوة بالرياضة وعلى هذا القياس واتقوا الله فى افراط الاعتداء احتراز عن هلاك النفس بكثرة المجاهدات واعلموا ان الله مع المتقين بالنصرة على جهاد النفس

(1/422)

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

{ وانفقوا فى سبيل الله } الانفاق صرف المال الى وجوه المصالح والمراد بالسبيل الدين المؤدى الى ثواب الله ورحمته فكل ما امر الله به من الانفاق فى اعزاز الدين واقامته فهو داخل فى هذ الآية سواء كان فى اقامة الحج او العمرة او جهاد الكفار او صلة الارحام او تقوية الضعفاء من الفقراء والمساكين او رعاية حقوق الاهل والاولاد او غير ذلك مما يتقرب به الى الله تعالى امر تعالى بالجهاد بالمال بعد الامر به بالنفس اى واصرفوا اموالكم فى سبيل الله ولا تمسكوا كل الامساك { ولا تلقوا } الالقاء طرح الشىء حيث تراه ثم صار اسما لكل طرح عرفا وتعديته بالى لتضمنه معنى الانتهاء { بأيديكم } الباء زائدة فى المفعول به لان القى يتعدى بنفسه قال تعالى { فالقى موسى عصاه } ولا يقال القى بيده الا فى الشر والمراد بالايدى الانفس فان اليد لازم للنفس وتخصيص اليد من بين سائر الجوارح اللازمة لها لان اكثر الاعمال يظهر بالمباشرة باليد والمعنى لا تطرحوا انفسكم { الى التهلكة } اى الهلاك بالاسراف وتضييع وجه المعاش لتكون الآية نظير قوله تعالى { والذين اذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما } او بالكف عن الغزو والانفاق فى مهماته فان ذلك مما يقوى العدو ويسلطه عليكم ويؤيده ما روى عن ابى ايوب الانصارى رضى الله تعالى عنه انه قال ان الله تعالى لما اعز دينه ونصر رسوله قلنا فيما بيننا انا قد تركنا اهلنا واموالنا حتى فشا الاسلام ونصر الله نبيه فلو رجعنا الى اهلنا واموالنا فاقمنا فيها واصلحنا ما ضاع منا فانزل الله تعالى { وانفقوا فى سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة } اى الى ما يكون سببا لهلاككم من الاقامة فى الاهل والمال وترك الجهاد فما زال ابو ايوب يجاهد فى سبيل الله حتى كان آخر غزوة غزاها بقسطنطينية فى زمن معاوية فتوفى هناك ودفن فى اصل سور قسطنطينية وهم يستشفون به وفى الحديث « من مات ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق » { واحسنوا } اى تفضلوا على الفقراء { ان الله يحب المحسنين } اى يريد بهم الخير روى ان الحجاج لما ولى العراق كان يطعم فى كل يوم على الف مائدة يجمع على كل مائدة عشر انفس وكان يرسل الرسل الى الناس لحضور الطعام فكثر عليه ذلك فقال ايها الناس رسولى اليكم الشمس اذا طلعت فاحضروا للغداء واذا غربت فاحضروا للعشاء فكانوا يفعلون ذلك واستقل الناس يوما فقال ما بال الناس قد قلوا فقال رجل ايها الامير انك اغنيت الناس فى بيوتهم عن الحضور الى مائدتك فاعجبه ذلك وقال اجلس بارك الله عليك هذا كرم الحجاج واحسانه الى الحلق مع كونه اظلم اهل زمانه : قال السعدى قدس سره

(1/423)

كرم كن كه فردا كه ديوان نهند ... منازل بمقدار احسان نهند

وحكى الهدائى قال اقبل ركب من بنى اسد ومن قيس يريدون النعمان فلقوا حاتما وهو المشهور بالجود فقالوا تركنا قوما يثنون عليك خيرا وقد ارسلوا اليك رسالة فقال ما هى فانشد الاسديون شعرا للنابغة فيه فلما انشده قالوا انا نستحيى ان نسألك شيأ وان لنا لحاجة قال ما هى قالوا صاحب لنا قد أرجل يعنى فقدت راحلته فقال حاتم فرسى هذه فاحملوه عليها فاخذوها وربطت الجارية فلوها بثوبها فافلت يتبع امه وتبعته الجارية لترده فصاح حاتم ما يتبعكم فهو لكم فذهبوا بالفرس والفلو والجارية كذا فى شرح رسالة ابن زيدون الوزير قيل لما عرج النبى عليه السلام اطلع على النار فرأى حظيرة فيها رجل لا تمسه النار فقال عليه السلام ما بال هذا الرجل فى هذه الحظيرة لا تمسه النار فقال جبريل عليه السلام هذا حاتم طى صرف الله عنه عذاب جهنم بسخائه وجوده كذا فى انيس الوحدة وجليس الخلوة وفى الاحاديث القدسية « يا عيسى أتريد ان تطير على السماء مع الملائكة المقربين كن فى الشفقة كالشمس وفى الستر كاليل وفى التواضع كالارض وفى الحلم كالميت وفى السخاوة كالنهر الجارى »

قال بعض اهل الحقيقة وهو حسن جدا { وانفقوا فى سبيل الله } ارواحكم { ولا تلقوا بايديكم الى التهلكة } بمنعكم انفسكم عن الشهادة { فى سبيل الله } التى هى الحياة الابدية فتهلكوا يعنى بفوت هذه الحياة واحسنوا تسليم انفسكم الى الله فقد اشتراها منكم { ان الله يحب المحسنين } : وفى المثنوى

مرك بى مركى بود مارا حلال ... برك بى بركى بود مارا نوال

ظاهرش مرك وبباطن زندكى ... ظاهرش ابتر نهان بايندكى

جون مراسوى اجل عشق وهواست ... نهى لا تلقوا بايديكم مراست

زانكه نهى از دانة شيرين بود ... تلخ را خود نخى حاجت كى شود

دانه كش تلخ باشد مغز وبوست ... تلخى ومكروهيش خودنهى اوست

دانه مردن مرا شيرين شده است ... بل هم احياء بى من آمده است

قال فى التأويلات النجمية { وانفقوا فى سبيل الله } باموالكم وانفسكم ذلكم خير لكم { ولا تلقوا بايديكم الى التهلكة } بالامتناع عن تسليم المبيع فتهلكوا بمنع الثمن وهو الجنة وبافراط الاعتداء وتفريطه فى جهاد النفس بالافراط بان يبرز واحد على رهط وبالتفريط بان يفر واحد من اثنين فى جهاد الكفار { واحسنوا } مع نفوسكم بوقايتها من نار الشهوات ومع قلوبكم برعايتها عن ملاحظة المكونات ومع الخلق بدفع الاذيات واتصال الخيرات ومع الله بالعبودية فى المأمورات والمنهيات والصبر على المضرات والبليات والشكر على النعم والمسرات والتوكل عليه فى جميع الحالات وتفويض الامور اليه فى الجزئيات والكليات والتسليم للاحكام الازليات والرضى بالاقضية الاوليات والفناء عن الارادات المحدثات فى ارادته القديمة بالذات { ان الله يحب المحسنين } الذين هم فى العبادة بوصف المشاهدة انتهى ما فى التأويلات بانتخاب

(1/424)

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

{ واتموا الحج والعمرة } الحج فرض على من استطاع اليه سبيلا بالاتفاق والعمرة سنة عند ابى حنيفة رحمه الله لا تلزم الا بالشروع كنفل الصلاة والمعنى ان من شرع فى أى واحد منهما فليتمه قالوا ومن الجائز ان لا يكون الدخول فى شىء واجبا ابتداء الا انه بعد الشروع فيه يكون اتمامه واجبا { لله } متعلق بأتموا واللام لام المفعول مناجله وفائدة التخصيص به هنا ان العرب كانت تقصد الحج للاجتماع والتظاهر وحضور الاسواق وكل ذلك ليس لله فيه طاعة ولا قربة فامر الله بالقصد اليه لاداء فرضه وقضاء حقه والمعنى اكملوا اركانهما وشرائطهما وسائر افعالهما المعروفة شرعا لوجه الله تعالى من غير اخلال منكم بشىء منها واخلصوها للعبادة ولا تشوبوهما بشىء من التجارة والاغراض الدنيوية واجعلوا النفقة من الحلال واركان الحج خمسة الاحرام والوقوف بعرفة والطواف والسعى بين الصفا والمروة وحلق الرأس او التقصير فركن الحج ما لا يحصل التحلل الا بالاتيان به وواجباته هو الذى اذا ترك يجبر بالدم وسننه ما لا يجب بتركه شىء وكذا افعال العمرة تشتمل على هذه الامور الثلاثة فاركانها اربعة الاحرام والطواف بالبيت والسعى بين الصفا والمروة والحلق وللحج تحللان واسباب التحلل ثلاثة رمى جمرة العقبة يوم النحر وطواف الزيارة والحلق واذا وجد شيآن من هذه الاشياء الثلاثة حصل التحلل وبالثالث حصل التحلل الثانى وبعد التحلل الاول يستبيح جميع المحظورات اى محظورات الاحرام الا النساء وبالثانى يستبيح الكل واتفقت الامة على انه يجوز اداء الحج والعمرة على ثلاثة اوجه الافراد والتمتع والقران فصورة الافراد ان يحرم بالحج مفردا ثم بعد الفراغ منه يعتمر من الحل اى الذى بين المواقيت وبين الحرم وصورة التمتع ان يبتدئ باحرام العمرة فى اشهر الحج ويأتى بمناسكها ثم يحرم بالحج من مكة فيحج فى هذا العام وصورة القران ان يحرم بالحج والعمرة معا بان ينويهما بقلبه ويأتى بمناسك الحج وحينئذ يكون قد اتى بالعمرة ايضا لان مناسك العمرة هى مناسك الحج من غير عكس او يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل ان يفتتح الطواف فيصير قارنا ولو احرم بالحج ثم ادخل عليه العمرة ثم يدخل عليها الحج قبل ان يفتتح الطواف فيصير قارنا ولو احرم بالحج ثم ادخل عليه العمرة لم ينعقد احرامه بالعمرة والافضل عندنا من هذه الوجوه هو القران وفى الحديث « تابعوا بين الحج والعمرة فانهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفى الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحج المبرور جزاء الا الجنة » { فان احصرتم } اى منعتم وصددتم عن الحج والوصول الى البيت بمرض او عدو او عجز اوذهاب نفقة او راحلة او سائر العوائق بعد الاحرام باحد النسكين وهذا التعميم عند ابى حنيفة رحمه الله لان الخطاب وان كان للنبى واصحابه وكانوا ممنوعين بالعدو لكن الاعتبار لعموم اللفظ لا لخصوص السبب { فما استيسر } اى فعليكم ما تيسر { من الهدى } من اما تبعيضية او بيانية اى حال كونه بعض الهدى او الكائن من الهدى جمع هدية كتمر وتمرة وهو ما يهدى الى البيت تقربا الى الله من النعم ايسره شاة واوسطه بقرة واعلاه بدنة ويسمى هديا لانه جار مجرى الهدية التى يبعثها العبد الى ربه بان بعثها الى بيته والمعنى ان المحرم اذا احصر واراد ان يتحلل تحلل بذبح هدى تيسر عليه من بدنة او بقرة او شاة حيث احصر فى أى موضع كان عند الشافعى واما عندنا فيبعث به الى الحرم ويجعل للمبعوث على يده يوم ذبحه امارة اى علامة فاذا جاء اليوم وظن انه ذبح تحلل لقوله تعالى { ولا تحلقوا رؤسكم } اى لا تحللوا بحلق رؤسكم { حتى يبلغ الهدى محله } حتى تعلموا ان الهدى المبعوث الى الحرم بلغ مكانه الذى وجب ان ينحر فيه .

(1/425)

والمحل بالكسر من الحلول وهو النزول يطلق على الزمان والمكان فمحل الدين وقت وجوب قضائه ومحل الهدى المكان الذى يحل فيه ذبحه وهو الحرم عندنا لقوله تعالى { ثم محلها الى البيت العتيق } والمراد الحرم كله لان كله يتبع البيت وهذا الحكم عام لجميع الحاج من المفرد والقارن والمتمتع والمعتمر يعنى لا يجوز له ان يحلق رأسه الا ان يذبح هديه وان لم يحصر يعنى فى منى والحلق افضل من التقصير ولو حلق ربع الرأس يكتفى به لكن حلق كله اولى اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فى الحج واما فى غيره فكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يحلق رأسه الا قليلا بل هو معدود ويتركه فى اكثر الازمان وكان على رضى الله عنه يحلق رأسه منذ ما سمع قوله عليه السلام « تحت كل شعرة جنابة » { فمن } يجوز ان تكون شرطية وموصولة { كان منكم مريضا } مرضا محوجا الى الحلق حال الاحرام ومريضا خبر كان ومنكم حال منه لانه فى الاصل صفة له فلما تقدم عليه انتصب حالا { او به اذى } اى الم كائن { من رأسه } كجراحة او قمل او صداع او شقيقة والمعنى يثبت على احرامه من غير حلق حتى يذبح هديه الا ان يضطر الى الحلق فان حلق ضرورة { ففدية } اى فعليه فدية { من صيام } اى صيام ثلاثة ايام { او صدقة } على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من بر { او نسك } بضمتين جمع نسيكة وهى الذبيحة اعلاها بدنة واوسطها بقرة وادناها شاه واو للتخيير { فاذا امنتم } من خوفكم وبرئتم من مرضكم وكنتم فى حال امن وسعة لا فى حال احصار { فمن تمتع بالعمرة الى الحج } اى فمن انتفع بالتقرب الى الله تعالى بالعمرة قبل الانتفاع بتقربه بالحج فى اشهره او من استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الاحرام الى ان يحرم بالحج { فما استيسر من الهدى } اى فعليه دم تيسر عليه بسبب التمتع وهو هدى المتعة وهو نسك عند ابى حنيفة رحمه الله لا يذبحه الا يوم النحر ويأكل منه كالاضحية { فمن لم يجد } اى الهدى { فصيام ثلثة ايام } صيام مصدر اضيف الى ظرفه معنى وهو فى اللفظ مفعول به على الاتساع اى فعليه صيام ثلاثة ايام { فى الحج } اى فى وقته واشهره بين الاحرامين احرام العمرة واحرام الحج ان شاء متفرقة وان شاء متتابعة والاحب ان يصوم سابع ذى الحجة وثامنه وتاسعه فلا يصح يوم النحر وايام التشريق { وسبعة اذا رجعتم } اى نفرتم وفرغتم من اعمال الحج اطلق عليه الرجوع على طريق اطلاق اسم المسبب وارادة السبب الخاص وهو النفر والفراغ فانه سبب للرجوع { تلك } اى صيام ثلاثة وسبعة { عشرة } فذلكة الحساب وفائدتها ان لا يتوهم ان الواو بمعنى او كما فى قوله تعالى

(1/426)

{ مثنى وثلث ورباع } وان يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا وعلمان خير من علم فان اكثر العرب لا يحسنون الحساب فكان الرجل اذا خاطب صاحبه باعداد متفرقة جمعها له ليسرع فهمه اليها وان المراد بالسبعة هو العدد دون الكثرة فانه يطلق لهما { كاملة } صفة مؤكدة لعشرة فان الوصف قد يكون للتأكيد اذا افاد الموصوف معنى ذلك الوصف نحو آلهين اثنين والتأكيد انما يصار اليه اذا كان الحكم المؤكد مما يهتم بشأنه والمحافظة عليه والمؤكد ههنا هو رعاية هذا العدد فى هذا الصوم آكده لبيان ان رعايته من المهمات التى لا يجوز اهمالها البتة { ذلك } اشارة الى نفس التمتع عندنا والى حكم التمتع عند الشافعى وهو لزوم الهدى لمن يجده من المتمتع ولزوم بدله لمن لا يجده { لمن لم يكن اهله حاضرى المسجد الحرام } اى لازم للذى لا يسكن مكة واهل الرجل اخص الناس اليه وانما ذكر الاهل لان الغالب ان الانسان يسكن حيث يسكن اهله فعبر بسكون الاهل عن سكون نفسه وحاضروا المسجد الحرام عندنا هم امكة ومن كان منزله داخل المواقيت فلا متعة ولا قران لهم فمن تمتع او قرن منهم فعليه دم جناية لا يأكل منه وحاضروا المسجد الحرام ينبغى لهم ان يعتمروا فى غير اشهر الحج ويفرد واشهر الحج للحج والقارن والمتمتع الآفاقيان دمهما دم نسك يأكلان منه وعند الشافعى حاضروا المسجد الحرام اهل الحرم ومن هو على مسافة لا تقصر فيها الصلاة { واتقوا الله } فى المحافظة على اوامره ونواهيه وخصوصا فى الحج { واعلموا ان الله شديد العقاب } لمن لم يتقه كى يصدكم العلم به عن العصيان : قال السعدى قدس سره

(1/427)

مرو زير باركنه اى يسر ... كه حمال عاجز بود در سفر

توبيش ازعقوبت در عقوكوب ... كه سودى ندارد فغان زيرجوب

اعلم ان اتمام الحج كما يكون عن طريق الظاهر كذلك يكون عن طريق الباطن وعن بعض الصالحين انه حج فلما قضى نسكه قال لصاحبه هلم نتم حجنا ألم تسمع قول ذى الرمة

تمام الحج ان تقف المطايا ... على خرقاء واضعة اللثام

وخرقاء اسم حبيبة الشاعر واضعة اللثام اى مكشوفة الوجه مسفرة جعل الوقوف عليها كبعض مناسك الحج الذى لا يتم الا به وحقيقة ما قال هو انه كما قطع البوادى حتى وصل الى بيته وحرمه ينبغى ان يقطع اهواء النفس ويخرق حجب القلب حتى يصل الى مقام المشاهدة ويبصر آثار كرمه بعد الرجوع عن حرمه

قال فى التأويلات النجمية حج العوام قصد البيت وزيارته وحج الخواص قصد رب البيت وشهوده كما قال الخليل عليه السلام انى ذاهب الى ربى سيهدين وكما ان من قصد الله وطلبه وتوجه اليه بالكلية وفدى بنفسه وماله وولده فى الله واتخذ ما سواه عدوا كما قال { فانهم عدو لى الا رب العالمين } كان الخليل عليه الصلاة والسلام وهذا كله من مناسك الحج الحقيقى فلذلك جعله الله اول من بنى بيت الله وطاف وحج واذن فى الناس بالحج وسن المناسك وكان الحج صورة ومعنى مقامه عليه السلام وكما كان له مقام كان لنبينا عليه السلام حال والحال اتم من المقام لان المقامات من المنازل والاحوال من المواهب فيمكن سلوك المقامات بغير المواهب ولا يمكن المواهب بغير سلوك المقامات فلما كان الخليل من اهل المقامات قال { انى ذاهب الى ربى سيهدين } ولما كان النبى عليه الصلاة والسلام من اهل المواهب قيل فقيل له { فان احصرتم فما استيسر من الهدى } فاهدى باسمعيل ولما اسرى بالنبى عليه السلام وكان ذهابه بالله ما احصره شىء فقيل له { وأتموا الحج والعمرة لله } فأتم حجه بان دنا فتدلى فكان قاب قوسين او ادنى ثم اتى عمرته بان تجلى له اقمار المقصود عن كشوف التعزز بالشهود وانجلت عنانة المحبة عن شموس الوصلة وجرى بين المحبين ما جرى فأوحى الى عبده ما اوحى ثم نودى من سرادقات الجلال فى اتمام الحج والاكمال يوم الحج الاكبر عند وقوفه بعرفات فى حجة الوداع وهو آخر الحجات اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الاسلام دينا انتهى ما فى التأويلات

ثم اعلم ان كل قلب لا يصلح لمعرفة الرب ولا كل نفس تصلح لخدمة الرب ولا كل نفيس مال يصلح لخزانة الرب فتعجل ايها العبد فى تدارك حالك وكن سخيا بمالك فان لم يكن فبنفسك وان كان لك قدرة على بذلهما فبهما ألا يرى ان ابراهيم عليه السلام كيف اعطى ماله للضيفان وبدنه للنيران وولده للقربان وقلبه للرحمان حتى تعجب الملائكة من سخاوته فاكرمه الله بالخلة قال الله تعالى

(1/428)

{ واتخذ الله ابراهيم خليلا } قال مالك ابن دينار خرجت الى مكة فرأيت فى الطريق شابا اذا جن عليه الليل رفع وجهه نحو السماء وقال يا من تسره الطاعات ولا تضره المعاصى هب لى ما يسرك واغفر لى ما لا يضرك فلما احرم الناس ولبوا قلت له لم لا تلبى فقال يا شيخ وما تغنى التلبية عن الذنوب المتقدمة والجرائم المكتوبة والمعاصى السالفة اخشى ان اقول لبيك فيقا لى لا لبيك ولا سعديك لا اسمع كلامك ولا انظر اليك ثم مضى فما رأيته الا بمنى وهو يقول اللهم اغفر لى اللهم ان الناس قد ذبحوا وتقربوا اليك وليس لى شىء اتقرب به اليك سوى نفسى فتقبلها منى ثم شهق شهقة وخر ميتا اللهم عاملنا بكمال كرمك واوصلنا على حضرتك العليا وحرمك

(1/429)

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)

{ الحج } بحذف المضاف اى وقته لان الحج فعل والفعل لا يكون اشهرا { اشهر } هى شوال وذوالقعدة وعشر ذى الحجة عندنا وانما سمى شهران وبعض شهر أشهرا مع ان جمع القلة لا يطلق على ما هو اقل من الثلاثة اقامة للبعض مقام الكل او اطلاقا للجمع على ما فوق الواحد { معلومات } معروفات بين الناس لانهم توارثوا علمها والشرع جاء مقررا لما عرفوه ولم يغير وقته عما كان قبله وفائدة توقيت الحج بهذه الاشهر ليعلم ان من شأ من افعال الحج لا يصح لا فيها والاحرام وان كان ينعقد فى غيرها ايضا عند ابى حنفية الا انه مكروه يعنى ان الاحرام عنده من شرائط الحج فيجوز تقديمه على وقت ادائه كما يجوز تقديم الطهارة على اداء الصلاة . وقولهم وقت الحج اشهر ليس المراد به انها وقت احرامه بل المراد انها وقت ادائه بماشرة اعماله ومناسكه والاشهر كلها وقت لصحة احرامه لقوله تعالى { يسألونك عن الاهلة قل هى مواقيت للناس والحج } فجعل الاهلة كلها مواقيت للحج ومعلوم ان الاهلة كلها ليست مواقيت لصحة اداء احج فتعين ان المراد انها مواقيت لصحة الاحرام حتى من احرم يوم النحر لان يحج فى السنة القابلة يصح احرامه من غير كراهة عند ابى حنيفة كذا فى حواشى ابن الشيخ { فمن فرض فيهن الحج } اى اوجبه على نفسه بالتلبية او تقليد الهدى وذلك لان الحج عبادة لها تحليل وتحريم فلا يشرع بمجرد النية كالصلاة فلا بد من فعل يشرع به فيه وهو ما ذكرنا من التلبية او تقليد الهدى وهو جعل القلادة فى عنقه وسوقه { فلا رفث } اى فلا جماع وما دونه مما يفضى الى ذلك كالقبلة والغمز وهو محظور الاحرام فقبل الوقوف بعرفة مفسد وبعده موجب للبدنة وحرمت دواعيه لئلا يقع فيه والرفث وما يليه من الفسوق والجدال وان كانت على صورة النفى بمعنى ان شيأ منها لا يقع فى خلال الحج الا ان المراد بها النهى لان ابقاءها خبرا على ظاهرها يستلزم الخلف فى خبر الله للعلم بان هذه الاشياء كثيرا ما تقع فى خلال الحج وانما اخرجت على صورة الاخبار للمبالغة فى وجوب الانتهاء عنها كأن المكلف اذعن كونها منهيا عنها فاجتنب عنها فالله تعالى يخبر بانها لا توجد فى خلال الحج ولا يأتى بها احد منكم { ولا فسوق } ولا خروج من حدود الشرع بارتكاب المحظورات والفسق هو المعاصى بانواعها فيدخل فيه السباب والتنابز بالالقاب وغير ذلك { ولا جدال } اى لا مراء مع الخدم والرفقة والمكارين لانه يفضى الى التضاغن وزوال التأليف فاما الجدال على وجه النظر فى امر من امور الدين فلا بأس به { فى الحج } اى فى ايامه وانما امر باجتناب ذلك وهو واجب الاجتناب فى كلحال لانه مع الحج اقبح واشنع كلبس الحرير فى الصلاة والتطريب فى قراءة القرآن والمنهى عنه التطريب الذى تخرج الحروف به عن هيآتها كما يفعله بعض القرآء من الالحان العجيبة والانغام الموسيقية واما تحسين القراءة ومدها فهو مندوب اليه قال عليه السلام

(1/430)

« حسنوا القرآن باصواتكم » فان الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا والتطريب المقبول سبب للرقة واقبال النفس وبه قال ابو حنيفة رحمه الله وجماعة من السلف { وما } شرطية { تفعلوا من خير يعلمه الله } علم الله تعالى بما يفعله العبد من الخير كناية عن اثابته عليه . نهى عن ثلاثة اشياء من المعاصى ورغب فى كل الطاعات فهو حث على فعل الخير عقيب النهى عن الشر فيدخل فيه استعمال الكلام الحسن مكان القبيح والبر والتقوى مكان الفسوق والوفاق والاخلاق الجميلة مكان الجدال { وتزودوا } اى اجعلوا زادكم لمعادكم وآخرتكم اتقاء القبائح { فان خير الزاد التقوى } لا ما يتخذ من الطعام وتحقيق الكلام ان الانسان له سفران سفر فى الدنيا وسفر من الدنيا فالسفر فى الدنيا لا بد له من زاد وهو الطعام والشراب والمركب والمال والسفر من الدنيا لا بد له ايضا من زاد وهو معرفة الله ومحبته والاعراض عما سواه بالاشتغال فى طاعته والاجتناب عن مخالفته ومناهيه وهذا الزاد خير من زاد المسافر فى الدنيا لان زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم وزاد الدنيا فان وزاد الآخرة يوصلك الى لذات باقية خالصة . وقيل كان اهل اليمن لا يتزودون ويخرجون بغير زاد ويقولون نحن متوكلون ونحن نحج بيت الله أفلا يطعمنا فيكون كلا على الناس واذا قدموا مكة سألوا الناس وربما يفضى بهم الحال الى النهب والغصب فقال الله تعالى { وتزودوا } اى ما تتبلغون به وتكفون به وجوهكم من الكعك والزيت والسويق والتمر ونحوها واتقوا الاستطعام وابرام الناس والتثقيل عليهم { فان خير الزاد التقوى } من السؤال والنهب { واتقون يا اولى الالباب } فان قضية اللب خشية الله وتقواه حثهم على التقوى ثم امرهم بان يكون المقصود بها هو الله فيتبرأوا عن كل شىء سواه وهو مقتضى العقل المعرى عن شوائب الهوى فلذلك خص اولى الالباب بالخطاب فان من لم يتقه فكأنه لا لب له

فعلى العاقل تخليص العقل من الشوائب وتهذيب النفس وتكميلها بالوصول الى اعلى المراتب : قال الشاعر

ولم ار فى عيوب الناس شيأ ... كنقص القادرين على التمام

قال الامام اعلم ان الانسان فيه قوى ثلاث . قوة شهوانية بهيمية وقوة غضبية . سبعية شيطانية . وقوة وهمية عقلية ملكية والمقصود من جميع العبارات قهر القوات الثلاث اعنى الشهوانية والغضبية والوهمية فقوله { فلا رفث } اشارة الى قهر القوة الشهوانية وقوله { ولا فسوق } اشارة الى قهر القوة الغضبية التى توجب المعصية والتمدد وقوله { ولا جدال } اشارة الى قهر القوة الوهمية التى تحمل الانسان على الجدال فى ذات الله وصفاته وافعاله واحكامه واسمائه وهى الباعثة للانسان على منازعة الناس ومماراتهم والمخاصمة معهم فى كل شىء فلما كان الشر محصورا فى هذه الامور الثلاثة لا جرم قال { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج } اى فيمن قصد معرفة الله ومحبته والاطلاع على نور جلاله والانخراط فى سلك الخواص من عباده انتهى ما قال الامام

قالوا من سهل عليه المشى فى طريق الحج فهو الافضل فان كان يضعف ويؤدى ذلك الى سوء الخلق وقصور عن عمل فالركوب افضل كما ان الصوم افضل للمسافر والمريض ما لم يفض الى ضعف وسوء خلق قال ابو جعفر محمد الباقر ما يعبأ بمن يؤم هذا البيت اذا لم يأت بثلاث .

(1/431)

ورع يحجزه عن محارم الله . وحلم يكف به غضبه . وحسن الصحابة لمن يصحبه من المسلمين فهذه الثلاث يحتاج اليها المسافر خصوصا الى الحج فمن كملها فقد كمل حجه والا فلا : ونعم ما قال السعدى قدس سره

ازمن بكوى حاجىء مردم كزايرا ... كوبوستين خلق بآزار ميدرد

حاجى تونيستى شترست ازبراى آنك ... بيجار خار ميخورد وبار ميبرد

فينبغى ان يجتهد الحاج قبل مفارقة رفيقه والجمال فى ان يتحالوا من الظالم ان كانت جرت بينهم مثل غيبة ونميمة او اخذ عرض او تعرض لمال فما سلم من ذلك الا القيل واذا ذكر رفيقه فليثن عليه خيرا وليغض عما سوى ذلك فقد كان السلف بعد قفولهم اى رجوعهم من السفر لا يذكر احدهم صاحبه الا بخير وليحذر من نظفت صحيفة علمه من الذنوب بالغفران ان يرجع الى وسخ المعاصى

ثم الاشارة ان قصد القاصدين الى الله تعالى انما يكون فى اشهر معلومات من حياتهم الفانية فى الدنيا فاما بعد انقضاء الآجال فلا يفيد لاحد السعى كما لا ينفع للحاج القصد بعد مضى اشهر الحج قال تعالى { يوم يأتى بعض آيات ربك لا ينفع نفسا ايمانها } الآية وكما ان للحاج مواقيت معينة يحرمون منها فكذلك للقاصدين الى الله ميقات وهى ايام الشباب من بلاغية الصورة الى بلوغ الاربعين وهو حد بلاغية المعنى قال تعالى { حتى بلغ اشده وبلغ اربعين سنة } ولهذا قال المشايخ الصوفى بعد الاربعين نادر يعنى ان كان ظهور ارادته وطلبه يكون بعد الاربعين فوصوله الى المقصد الحقيقى يكون نادرا مع اركانه ولكن من يكون طلبه وصدقه فى الارادة قبل الاربعين وما امكنته الوصلة يقرب فى الاحتمال ان يكون بعد الاربعين حصول مقصوده بان يبذل غاية مجهوده بشرائطه وحقوقه وحدوده ومن فاته اوان الطلب فى عنفوان شبابه مستبعدة له الوصلة فى حال مشيبه فجرى منه عليه الحيف بان ضيع اللبن فى الصيف ولكن يصلح للعبادة التى آخرها الجنة ووقف بعض المشايخ على باب الجامع والخلق يخرجون منه فى ازدحام وغلبة وكان ينظر اليهم ويقول هؤلاء حشو الجنة وللمجالسة اقوام آخرون كذا فى التأويلات النجمية وقال القاشانى وقت الحج ازمنة وهو من وقت بلوغ الحلم الى الاربعين ثلاثة اعصر كل عصر بمثابة شهر .

(1/432)

عصر من سن النمو . وعصر من سن الوقوف . وبعض من سن الكهولة كما قال تعالى فى وصف البقرة { لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك } انتهى : قال الحافظ

عشق وشباب ورندى مجموعه مرادست ... جون جمع شدمعانى كوى بيان توان زد

(1/433)

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)

{ ليس عليكم جناح } اى اثم من الجنوح وهو الميل عن القصد { ان تبتغوا } اى فى ان تقصدوا وتطلبوا { فضلا من ربكم } اى عطاء ورزقا يريد الربح بالتجارة فى ايام الحج فان الآية نزلت ردا على من يقول لا حج للتاجر والجمال لكن الحق ان التجارة وان كانت مباحة فى الحج الا ان الاولى تركها فيه لقوله تعالى { وما امروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } والاخلاص ان لا يكون له حامل على الفعل سوى كونه طاعة وعبادة { فاذا افضتم من عرفات } الهمزة فى افضتم للتعدية والمفعول محذوف اى دفعتم انفسكم منها بكثرة بعد غروب الشمس ورجعتم بعد الوقوف بها

وفى التيسير وحقيقة الافاضة هنا هو اجتماع الكثير فى الذهاب والمسير . وعرفات علم للموقف وليس بجمع حقيقة بل هو من قبيل ما زيدت حروفه لزيادة معناه فانه للمبالغة فى الانباء عن المعرفة روى انه نعته جبريل لابراهيم عليهما السلام فلما ابصره عرفه فسمى ذلك الموضع عرفات او لان جبريل عليه الصلاة والسلام كان يدور به فى المشاعر اى مواضع المناسك ويقول عرفت فيقول عرفت فلما رآه قال عرفت او لان آدم عليه الصلاة والسلام لما اهبط الى الارض وقع بالهند وحوآء بجدة فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة وتعارفا او لغير ذلك كما ذكر فى التفاسير

وفيه دليل على وجوب الوقوف بعرفات لان الاضافة مأمور بها وهى موقوفة على الحضور فيها والوقوف بها وما لم يتم الواجب الا به فهو واجب فيكون الوقوف واجبا { فاذكروا لله } بالتلبية والتهليل والتسبيح والتحميد والثناء والدعوات { عند المشعر الحرام } قزح وهو الجبل الذى يقف عليه الامام وعلى الميقدة وفى المغرب الميقدة هو موضع بالمشعر الحرام على قزح كان اهل الجاهلية يوقدون عليها النار وتقييد محل الذكر والوقوف بقوله { عند المشعر الحرام } للتنبيه على ان الوقوف فيما يقرب من جبل قزح افضل من الوقوف فى سائر مواضع ارض مزدلفة وذلك لا ينافى صحة الوقوف فى جميع مواضعها كما ان عرفات كلها موضع الوقوف لكن الوقوف بقرب جبل الرحمة افضل واولى والمشعر العلم اى للعبادة . والشعائر العلامات من الشعار وهو العلامة ووصفه بالحرام لحرمته فلا يفعل فيه ما نهى عنه { واذكروه كما هداكم } اى كما علمكم كيف تذكرونه مثل كون الذكر ذكرا كثيرا وعلى وجه التضرع والخيفة والطمع ناشئا عن الرغبة والرهبة ومشاهدة جلال المذكور وجماله كما قال عليه السلام « الاحسان ان تعبد الله كأنك تراه » فالمقصود من الكاف مجرد التقييد لا التشبيه اى اذكروه على الوجه الذى هداكم اليه لا تعدلوا عما هديتم اليه كما تقول افعل كما علمتك وليس هذا تكرارا لقوله { فاذكروا الله عند المشعر الحرام } لان الاول لبيان محل الذكر والوقوف وتعليم النسك المناسك لذلك المحل واوجب بالثانى ان يكون ذكرنا اياه كهدايته ايانا اى موازيا لها فى الكم والكيف { وان } هى المخففة واللام هى الفارقة { كنتم من قبله } اى من قبل ما ذكر من هدايته اياكم { لمن الضالين } غير العالمين بالايمان والطاعة قال القاشانى ان الله تعالى هدى اولا الى الذكر باللسان فى مقام النفس .

(1/434)

ثم الى الذكر بالقلب وهو ذكر الافعال اى تصور آلاء الله ونعمائه ثم الى ذكر السر وهو معاينة الافعال ومكاشفة علوم تجليات الصفات . ثم الى ذكر الروح وهو مشاهدة انوار تجليات الصفات مع ملاحظة نور الذات . ثم الى ذكر الخفى وهو مشاهدة جمال الذات مع بقاء الاثنينية . ثم الى ذكر الذات وهو الشهود الذاتى بارتفاع البعد وان كنتم من قبل الهدى الى هذه المقامات لمن الضالين عن طريق هذه الاذكار انتهى

ولما امر بذكر الله تعالى اذا فعلت الافاضة امر بان تكون الافاضة من حيث افاض الناس مرتبا الامر الثانى على الاول بكلمة ثم فقال

(1/435)

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)

{ ثم افيضوا } اى ارجعوا { من حيث افاض الناس } اى من عرفة لا من المزدلفة كانت قريش وحلفاؤها هم الحمس يقفون بالمزدلفة ويقولون نحن اهل الله وسكان حرمه فلا نخرج من الحرم ويستعظمون ان يقفوا مع الناس بعرفات لكونها من الحل وسائر العرب كانوا يقفون بعرفات اتباعا لملة ابراهيم عليه السلام فاذا افاض الناس من عرفات افاض الحمس من المزدلفة فانزل الله هذه الآية فأمرهم ان يقفوا بعرفات وان يفيضوا منها كما يفعله سائر الناس والمراد بالناس العرب كلهم غير الحمس . والحمس فى الاصل جمع احمس وهو الرجل الشجاع والاحمس ايضا الشديد الصلب فى الدين والقتال وسميت قريش وكنانة وجديلة وقيس حمسا لتشددهم فى دينهم وكانوا لا يستظلون ايم منى ولا يدخلون من ابوابها وكذلك كان من حالفهم او تزوج منهم { واستغفروا الله } من جاهليتكم فى تغيير المناسك ومخالفتكم فى الموقف { ان الله غفور رحيم } يغفر ذنب المستغفر وينعم عليه فامر النبى عليه السلام ابا بكر رضى الله تعالى عنه ان يخرج بالناس جميعا الى عرفات فيقف بها روى ان الله تعالى يباهى ملائكته باهل عرفات ويقول « انظروا الى عبادى جاؤا من كل فج عميق شعثا غبرا اشهدوا انى غفرت لهم » ويروى ان الشيطان ما رؤى فى يوم هو أصغر واحقر واذل منه يوم عرفة وما ذلك الا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام اذ يقال ان من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الا الوقوف بعرفة وفى الحديث « اعظم الناس ذنبا من وقف بعرفة فظن الله تعالى لا يغفر له » والحجة الواحدة افضل من عشرين غزوة فى سبيل الله

وقيل ان البعير اذا حج عليه مرة بورك فى اربعين من امهاته واذا حج عليه سبع مرات كان حقا على الله ان يرعاه فى رياض الجنة ومصداق ذلك ما قال النهرانى رحمه الله بلغنى ان وقاد تنور حمام اتى بسلسلة عظام حمل ليوقدها قال فألقيتها فى المستوقد فخرجت منه فألقيتها فعادت فخرجت فعدت فألقيتها الثالثة فعادت فخرجت بشدة حتى وقعت فى صدرى واذا بصوت هاتف يقول ويحك هذه عظام جمل قد سعى الى مكة عشر مرات كيف تحرقها بالنار واذا كانت هذه الرأفة والرحمة بمطية الحاج فكيف به

ثم ان الفضل على ثلاثة اقسام بالنسبة الى احوال العبد فان التنوع راجع الى تغيير احوال العباد لا الى تغيير صفة من صفات الحق تعالى . فالاول منها ما يتعلق بالمعاش الانسانى من المال والجاه ونوع يتعلق بالغذاء واللباس الضرورى وهذا الفضل مفسر بالرزق قال الله تعالى { وابتغوا من فضل الله } والثانى منها ما يتعلق بالمصالح الاخروية للعبد وهو نوعان ما يتعلق باعمال البدن على وفق الشرع ومتابعة الشارع ومجانبة طريق الشيطان المنازع قال تعالى

(1/436)

{ يبتغون فضلا من الله ورضوانا } وما يتعلق باعمال القلب وتزكية النفس قال تعالى { ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من احد ابدا } والقسم الثالث منها ما يتعلق بالله تعالى وهو نوعان ما يتعلق بمواهب القربة قال تعالى { وبشر المؤمنين بان لهم من الله فضلا كبيرا } اى قربا كبيرا فانه اكبر من الدنيا والآخرة وما يتعلق بمواهب الوصلة قال تعالى { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } يعنى فضل مواهب الوصلة اعظم من الكل ولكل قسم من هذه الاقسام الثلاثة مقام فى الابتغاء . اما الذى يتعلق بالمصالح الاخروية وهو فضل الرحمة فمقام ابتغائه بترك الموجود وبذل المجهود وهو فى السير الى عرفات . واما الذى يتعلق بالله وهو فضل المواهب فمقام ابتغائه عند الوقوف بعرفات وعرفات اشارة الى المعرفة وهى معظم اركان الوصلة . واما الذى يتعلق بالمصالح الدنيوية وهو فضل الرزق فمقام ابتغائه بعد استكمال الوقوف بعرفات المعرفة عند الاضافة . ففى الآية تقديم وتأخير اى اذا افضتم من عرفات فليس عليكم الخ وذلك لان حال اهل السلوك فى البداية ترك الدنيا والتجريد عنها . وفى الوسط التوكل والتفريد . وفى النهاية المعرفة والتوحيد فلا يسلم الشروع فى المصالح الدنية ويملأها نورا بالالطاف الخفية فلا اعتبار للدنيا وشهواتها ونعيم الآخرة ودرجاتها عند الهمم العالية فلا يتصرفون فى شىء منها وتصرفهم بالله وفى الله ولله لا لحظوظ النفس بل لمصالح الدين واصابة الخير الى الغير كذا فى التأويلات النجمية : قال فى المثنوى

كارباركانرا قياس ازخودمكير ... كرجه ماند در نوشتن شير شير

اللهم اجعل ههممنا مقصورة على جنابك آمين

(1/437)

فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)

{ فاذا قضيتم مناسككم } اى اتممتم عباداتكم الجاهلية التى امرتم بها فى الحج وفرغتم منها { فاذكروا الله كذكركم آباءكم } يعنى فاتركوا عادة الجاهلية واتبعوا سنن الاسلام واشتغلوا بذكر رب الانام وكانت العرب اذا قضوا مناسكهم وقفوا بمنى بين المسجد والجبل ويذكرون مفاخر آبائهم ومحاسن ايامهم يريد كل واحد منهم بذلك حصول الشهرة والترفع له بمآثر سلفه فناهم الله عن ذلك وامرهم بان يجعلوا بدل ذكرهم آباءهم ذكر الله تعالى وتمجيده والثناء عليه اذ الخير كله من عنده وآباؤهم عبيده ونالوا ما نالوا بافضاله : قال السعدى قدس سره

كراز حق نه توفيق خيرى رسد ... كى ازبنده خيرى بغيرى رسد

{ او اشد ذكرا } مجرور معطوف على الذكر بجعله ذاكرا على المجاز اى اذكروه ذكرا كان مثل ذكرككم المتعلق بآبائكم او كذكر هو اشد منه وابلغ ذكرا او تحقيقه ان فعل انما يضاف الى ما بعده اذا كان من جنس ما قبله كقولك وجهك احسن وجه اى احسن الوجوه فاذا نصب ما بعده كان غير الذى قبله كقولك زيد افره عبدا فالفراهة للعبد لا لزيد والمذكور قبل اشد هنا هو الذكر والذكر لا يذكر حتى يقال اشد ذكرا انما قياسه ان يقال للذكر اشد ذكر جرا اضافة فوجه النصب انه يجعل الذكر ذاكرا مجازا ويجوز نسبة الذكر الى الذكر بان يسمع انسان الذكر فيذكر فكأن الذكر قد ذكر لحدوثه بسببه { فمن الناس } اى من الذين يشهدون الحج { من يقول } فى ذكره مقتصرا على طلب الدنيا { ربنا آتنا فى الدنيا } اى ايتاءنا ومنحتنا فى الدنيا خاصة من الجاه والغنى والنصرة على الاعداء وما هو من الحظوظ العاجلة وهم المشركون لانهم لا يسألون فى حجهم الا الدنيا { وما له فى الآخرة من خلاق } اى نصيب وحظ لان همه مقصور على الدنيا حيث سأل فى اعز المواقف احقر المطالب واعرض عن سؤال النعيم الدائم والملك العظيم

(1/438)

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)

{ ومنهم } اى من الذين يشهدون الحج { من يقول } فى ذكره طالبا خير الدارين { ربنا آتنا فى الدنيا حسنة } هي الصحة والكفاف والتوفيق للخير

وفى التيسير الحسنة جامعة لكل الخيرات فى الدارين { وفى الآخرة حسنة } هى الثواب والرحمة

قال الشيخ ابو القاسم الحكيم حسنة الدنيا عيش على سعادة وموت على شهادة وحسنة الآخرة بعث من القبر على بشارة وجواز على الصراط على سلامة { وقنا } اى احفظنا { عذاب النار } بالعفو والمغفرة

وعن على كرم الله وجهه ان الحسنة فى الدنيا المرأة الصالحة وفى الآخرة الحوراء وعذاب النار المرأة السوء : قال السعدى

جو مستور باشد زن خوب روى ... بديدار اودر بهشتست سوى

وتلخيصه اكثروا ذكر الله وسلوه سعادتكم فى داريه وترك ذكر من قصر دعاءه على طلب الآخرة فقط لان طالب الآخرة فقط بحيث لا يحتاج الى طلب حسنة من الدنيا لا يوجد فى الدنيا

(1/439)

أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)

{ اولئك } اشارة الى الفريق الثانى وهم الداعون الحسنتين لانه تعالى ذكر حكم الفريق الاول بقوله وماله { فى الآخرة من خلاق } { لهم نصيب مما كسبوا } من للتبعيض اى لهم نصيب عظيم كائن من جنس ما كسبوا من الاعمال الحسنة وهو الثواب الذى هو المنافع الحسنة او من اجل ما كسبوا لانهم استحقوا ذلك الثواب الحسن بسبب اعمالهم الحسنة ومن اجلها فتكون من ابتدائية لان العلة مبدأ الحكم ثم اومأ الى قدرته محذرا من الموت وحاثا على اعمال الخير بقوله { والله سريع الحساب } والحساب يراد به نفس الجزاء على الاعمال فان الحساب سبب للاخذ والعطاء واطلاق اسم السبب على المسبب جائز شائع اى يحاسب العباد على كثرتهم وكثرة اعمالهم فى مقدار لمحة لعدم احتياجه الى عقد يد او وعى صدر او نظر وفكر فاحذروا من الاخلال بطاعة من هذا شأن قدرته او يوشك ان يقيم القيامة ويحاسب الناس وفى خطبة بعض المتقدمين ولت الدنيا حذاء ولم يبق الا صبابة كصبابة الاناء فليبادر المؤمن الى الطاعات واكتساب الحسنات والذكر فى كل الحالات

قال الحسن البصرى اذكرونى بما يذكر الصغير اباه فانه اول ما يتكلم يقول يا اب يا اب

فعلى كل مسلم ان يقول يا رب يا رب وعن النبى عليه السلام « اغبط اوليائى عندى مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من الصلاة احسن عبادة ربه واطاعه فى السر وكان غامضا فى الناس لا يشار اليه بالاصابع وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك » ثم نقر بيده فقال « هكذا عجلت منيته قلت بواكيه قل ثراؤه » وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر ان يقول ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار

والاشارة فاذا قضيتم مناسك وصلتكم وبلغتم مبلغ الرجال البالغين من اهل الكمال فلا تأمنوا مكر الله ولا تهملوا وظائف ذكر الله فاذكروا الله كما تذكرون فى حال طفوليتكم آباءكم للحاجة والافتقار بالعجز والانكسار وفى حال رجوليتكم للحجة والافتخار بالمحبة والاستظهار فاذكروا الله افتقارا وافتخارا او اشد ذكرا واكد فى الافتخار لانه يمكن للطفل الاستغناء عن الله بولى وكذلك البالغ يحتمل ان يفتخر بغير الله ولكن العباد ليس لهم من دون الله من ولى ولا واق فمن الناس من اهل الطلب والسلوك من يقول بتسويل النفس وغرورها بحسبان الوصول والكمال عند النسيان وتغير الاحوال ربنا آتنا فى الدنيا حسنة يعنى تميل نفسه الى الدنيا وتنسى المقصد الاصلى ويظن الطالب الممكور انه قد استغنى عن الاجتهاد فاهمل وظائف الذكر ورياضة النفس ومخاطرة القلب ومراقبة السر فاستولت عليه النفس وغلب عليه الهوى واستهوته الشياطين فى الارض حيران حتى اوقعته فى اودية الهجران والفراق وماله فى الآخرة من خلاق ومنهم اى من اهل الوصول وارباب الفتوة من يقول ربنا آتنا فى الدنيا حسنة نعمة من النعم الظاهرة كالعافية والصحة والسعة والفراغة والطاعة واستطاعة البدن والوجاهة والارشاد والاخلاق وفى الآخرة حسنة نعمة من النعم الباطنة هى الكشوف والمشاهدات وانواع القربات والمواصلات وقنا عذاب النار اى نار القطيعة وحرقة الفراق اولئك لهم نصيب اى لهؤلاء البالغين الواصلين نصيب وافر مما كسبوا من المقامات والكرامات ومما سألوا من ايتاء الحسنات والله سريع الحساب لكلا الفريقين فيما سألوه اى يعطيهم بحسب نياتهم على قد هممهم وطوياتهم كذا فى التأويلات النجمية

(1/440)

وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

{ واذكروا الله } اى كبروه اعقاب الصلوات وعند ذبح القرابين ورمى الجمار وغيرها { فى ايام معدودات } فى ايام التشريق هى ثلاثة ايام بعد يوم النحر . اولها يوم القر وهو الحادى عشر من ذى الحجة يستقر الناس فيه بمنى . والثانى يوم النفر الاول لان بعض الناس يفنرون فى هذا اليوم من منى . والثالث يوم النفر الثانى وهذه الايام الثلاثة مع يوم النحر ايام رمى الجمار وايام التكبير ادبار الصلوات وفى الحديث « كبر دبر كل صلاة من يوم عرفة الى آخر ايام التشريق » وسميت معدودات لقلتهن كقوله تعالى { دراهم معدودة } اى قليلة . والايام المعلومات فى قوله تعالى { ويذكروا اسم الله فى ايام معلومات } فى سورة الحج عشر ذى الحجة آخرهن يوم النحر وفى الكواشى معدودات جمع معدودة وايام جمع يوم ولا ينعت المذكر بمؤنث فلا يقال يوم معدودة وقياسه فى ايام معدودة لان الجمع قد ينعت بالمؤنث كقوله تعالى { لن تمسنا النار الا اياما معدودة } قالوا ووجهه انه اجرى معدودات على لفظ ايام وقابل الجمع بالجمع مجازا انتهى { فمن تعجل } اى استعجل وطلب الخروج من منى { فى يومين } فى تمام يومين بعد يوم النحر واكتفى برمى الجمار فى يومين من هذه الايام الثلاثة فلم يمكث حتى يرمى فى اليوم الثالث { فلا اثم عليه } بهذا التعجيل وهو مرخص له فعند ابى حنيفة رحمه الله ينفر قبل طلوع الفجر من اليوم الثالث ومحصله ان على الحاج ان يبيت بمنى الليلة الاولى والثانية من ايام التشريق ويرمى كل يوم بعد الزوال احدى وعشرين حصاة عند كل جمرة سبع حصيات ورخص فى ترك البيتوتة لرعاء الابل واهل سقاية الحاج ثم كل من رمى اليوم الثانى من ايام التشريق واراد ان ينفر بعد البيتوتة فى الليلة الاولى والثانية من ايام التشريق ورمى يوميهما فذلك له واسع لقوله تعالى { فمن تعجل فى يومين فلا اثم عليه } ومن لم ينفر حتى غربت الشمس فعليه ان يبيت حتى يرمى اليوم الثالث ثم ينفر { ومن تأخر } عن الخروج حتى رمى فى اليوم الثالث قبل الزوال او بعده ثم يخرج اذا فرغ من رمى الجمال كما يفعل الناس الآن وهو مذهب الشافعى والامامين { فلا اثم عليه } بترك الترخص والمعنى انهم خيرون بين التعجيل والتأخير

فان قلت أليس التأخير بافضل قلت بلى ويجوز ان يقع التخيير بين الفاضل والافضل كما خير المسافر بين الصوم والافطار وان كان الصوم افضل وانما اورد بنفى الاثم تصريحا بالرد على اهل الجاهلية حيث كانوا فريقين منهم من جعل المتعجل آثما ومنهم من جعل المتأخر آثما فورد القرآن بنفى الاثم عنهما جميعا { لمن اتقى } خبر مبتدأ محذوف اى الذى ذكر من التخيير ونفى الاثم عن المتعجل والمتأخر لمن اتقى اى مختص بمن اتقى المناهى لانه الحاج على الحقيقة والمنتفع به لانه تعالى قال

(1/441)

{ انما يتقبل الله من المتقين } ومن كان ملوثا بالمعاصى قبل حجه وحين اشتغاله به لا ينفعه حجه وان كان قد ادى الفرائض ظاهرا { واتقوا الله } اى حال الاشتغال باعمال الحج وبعده ليعتد باعمالكم فان المعاصى تأكل الحسنات عند الموازنة { واعلموا انكم اليه تحشرون } اى تبعثون وتجمعون للجزاء على اعمالكم وهو تأكيد للامر بالتقوى وموجب للامتثال به فان علم بالحشر والمحاسبة والجزاء كان ذلك من اقوى الدواعى الى ملازمة التقوى وكانوا اذا رجعوا من حجهم يجترئون على الله بالمعاصى فشدد فى تحذيرهم

قال ابو العالية يجيء الحاج يوم القيامة ولا اثم عليه اذا اقتى فيما بقى من عمره فلم يرتكب ذنبا بعدما غفر له فى الحج والمذنب المصر اذا حج فلا يقبل منه لعوده الى ما كان عليه فعلمة الحج المبرور ان يرجع زاهدا فى الدنيا راغبا فى الآخرة فاذا رجع من الحج المبرور رجع وذنبه مغفور ودعاؤه مستجاب فلذلك يستحب تلقيه بالسلام وطلب الاستغفار منه

والحج المبرور مثل حج ابراهيم بن ادهم مع رفيقه الصالح الذى صحبه من بلخ فرجع من حجه زاهدا فى الدنيا راغبا فى الآخرة وخرج عن ملكه وماله واهله وعشيرته وبلاده واختار بلاد الغربة وقنع بالاكل من عمل يده اما من الحصاد او من نظارة البساتين قال بعضهم الحر الكريم لا ينقض العهد القديم واذا دعتك نفسك الى نقض عهد مولاك فقل لها معاذ الله ان ربى احسن مثواى : وفى المثنوى

نقض ميثاق وشكست توبها ... موجب لعنت شود در انتها

جون تراروى توكز بودودغا ... راست جون جويى ترازوى جزا

وعن بعضهم قدمت من الحج مع قوم فدعتنى نفسى الى امر سوء فسمعت هاتفا ناحية البيت يقول ويلك ألم تحج ويلك ألم تحج فعصمنى الله الى الساعة ولا شك ان بعض الاعمال يكون حجابا للمرء اذا استند اليه واعتمد عليه حكى ان بعض الاتراك كان يلازم مجلس شيخ الاسلام احمد النامقى الجامى قدس سره ويرى فوق قفاه نورا كالترس فاتفق له ان يحج فلما رجع زالت عنه تلك الحال فسأل الشيخ عن سببه فقال انك كنت قبل الحج صاحب تضرع ومسكنة والآن غرك حجك واعطيت نفسك قدرا ومنزلة فلذا نزلت عن رتبتك ولم تر النور . ومما يجب على الحاج اتقاؤه المحارم ولان لا يجعل نفقته من كسب حرام فان الله لا يقبل الا الطيب وحكى عن بعض من حج انه توفى فى الطريق فى رجوعه فدفنه اصحابه ونسوا الفأس فى قبره فنبشوه ليأخذوا الفأس فاذا عنقه ويداه قد جمعتا فى حلقة الفأس فردوا عليه التراب ثم ردعوا الى اهله فسألوهم عن حاله فقالوا صحب رجلا فاخذ ماله فكان يحج منه وفى الحديث

(1/442)

« من حج بيت من كسب الحلال لم يخط خطوة الا كتب الله له بها سبعين حسنة وحط عنه سبعين خطيئة ورفع له سبعين درجة » ذكره فى الخالصة واذا أراد أن يحج بمال حلال ليس فيه شبهة فانه يستدين للحج ويقضى دينه من ماله

وعن ابى القاسم الحكيم انه كان يأخذ جائزة السلطان فكان يستقرض لجميع حوائجه وما يأخذه من السلطان كان يقضى به ديونه وعن ابى يوسف قال هذا جواب ابيح فى مثل هذا كذا فى خزانة الفتاوى

(1/443)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)

{ ومن الناس من يعجبك قوله } اى تستحسن ظاهر قوله وتعده حسنا مقبولا فان الاعجاب استحسان الشىء والميل اليه والتعظيم له قال الراغب التعجب حيرة تعرض للانسان عند الجهل بسبب الشىء وحقيقة اعجبنى كذا ظهر لى ظهورا لم اعرف سببه { فى الحيوة الدنيا } متعلق بالقول اى يسرك ما يقوله فى معنى الدنيا وحقها لان دعواه محبتك انما هو لطلب حظ من الدنيا فكلامه اذا فى الدنيا لا فى الآخرة او يعجبك قوله فى الدنيا بحلاوته وفصاحته لا فى الآخرة لما انه يظهر هناك كذبه وقبحه { ويشهد الله على ما فى قلبه } اى يقول الله شاهد أن ما فى قلبى من المحبة والاسلام موافق لما فى لسانى { وهو ألد الخصام } اى اشد فى العداوة والخصومة للمسلمين على ان الخصام مصدر كالقتال والجدال واضافة الألد اليه بمعنى فى . واللدد شدة الخصومة

نزلت فى الاخنس بن شريف الثقفى وكان حسن المنظر حلو المنطق يوالى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ويدعى الاسلام ودعوى المحبة والخلوص بدون المواطأة من فعل الملاحدة والزنادقة والمحب لا يفعل الا ما يحب محبوبه قال الشاعر

تعصى الاله وانت تظهر حبه ... هذا لعمرى فى الفعال بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته ... ان المحب لمن أحب مطيع

قال الحافظ

بصدق كوش كه خورشيد زايد ازنفست ... كه ازدروغ سيه روى كشت صبح نخست

(1/444)

وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)

{ واذا تولى } اى أدبر وانصرف عن مجلسك او اذا غلب وصار واليا { سعى فى الارض } السعى سير سريع بالاقدام وقد يستعار للجد فى العمل والكسب وانما جيىء بقوله فى الارض مع ان السعى على كلا المعنيين لا يكون الا فى الارض للدلالة على كثرة فساده فان لفظ الارض عام يتناول جميع اجزائها وعموم الظرف يستلزم عموم المظروف فكأنه قيل أى مكان حل فيه من الارض افسد فيه فيلزم كثرة فساده { ليفسد فيها } علة لسعى { ويهلك } الاهلاك الاشاعة { الحرث } اى الزرع { والنسل } ما خرج من كل انثى من اجناس الحيوان يقال نسل ينسل اذا خرج منفصلا والحرث والنسل وان كانا فى الاصل مصدرين فالمراد بهما ههنا معنى المفعول فان الولد نسل ابويه اى مخرج منفصل منهما وذلك كما فعله الاخنس بثقيف اذ بيتهم اى اتاهم ليلا واهلك مواشيهم وزرعهم لانه كان بينه وبينهم عداوة او كما يفعله ولاة السوء بالقتل والاتلاف او بالظلم حتى يمنع الله بشؤمه القطر فيهلك الحرث والنسل وفى الحديث « لما خلق الله تعالى اسباب المعيشة جعل البركة فى الحرث والنسل » فاهلاكهما غاية الافساد وفى الحديث « يجاء بالوالى يوم القيامة فينبذ به على جسر جهنم فيرتج به الجسر ارتجاجه لا يبقى منه مفصل الا زال عن مكانه فان كان مطيعا لله فى عمله مضى وان كان عاصيا انخرق به الجسر فيهوى به فى جهنم مقدار خمسين عاما » { والله لا يحب الفساد } اى لا يرتضيه ويبغضه ويغضب على من يتعاطاه فان قيل كيف حكم الله تعالى بانه لا يحب الفساد وهو بنفسه مفسد للاشياء قيل الافساد فى الحقيقة اخراج الشىء من حالة محمودة لا لغرض صحيح وذلك غير موجود فى فعل الله تعالى ولا هو آمر به ولا محب له وما نراه من فعله ونظنه بظاهره فسادا فهو بالاضافة الينا واعتبارنا له كذلك فاما بالنظر الآلهى فكله صلاح

(1/445)

وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)

{ واذا قيل له } اى لهذا المنافق والمفسد على نهج العظة والنصيحة { اتق الله } خف من الله فى صنعك السوء واترك ما تباشره من الفساد والنفاق { اخذته العزة بالاثم } اى حملته الانفة التى فيه وحميته الجاهلية على الاثم والذنب الذى نهى عنه او على رد قول الواعظ لجاجا وعنادا من قولك اخذته بكذا اذا حملته عليه وألزمته اياه فالباء للتعدية وصلة الفعل الذى قبلها { فحسبه جهنم } مبتدأ وخبر اى كافيه دخول النار والخلود فيها على ما عمله وهو وعيد شديد { ولبئس المهاد } اى والله لبئس الفراش جهنم

قال ابن مسعود رضى الله تعالى عنه من اكبر الذنب عند الله ان يقال للعبد اتق الله فيقول عليك نفسك

وقيل لعمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه اتق الله فوضع خده على الارض تواضعا لله تعالى

ثم انه تعالى لما وصف فى الآية المتقدمة حال من يبذل دينه لطلب الدنيا ذكر فى هذه الآية من يبذل دنياه ونفسه لطلب الدين وما عند الله يوم الدين فقال

(1/446)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)

{ ومن الناس من يشرى نفسه } اى يبيعها ويبذلها فان المكلف لما بذل نفسه فى طاعة الله من الصوم والصلاة والحج والجهاد والزكاة وتوصل بذلك الى وجدان ثواب الله صار المكلف كأنه باع نفسه من الله تعالى بما نال من ثوابه وصار تعالى كأنه اشترى منه نفسه بمقابلة ما اعطاه من ثوابه وفضله { ابتغاء مرضاة الله } اى طلبا لرضاه { والله رؤف بالعباد } ولذلك يكلفهم التقوى ويعرضهم للثواب ومن جملة رأفته بعباده ان ما اشتراه منهم من انفسهم واموالهم انما هو خالص ملكه وحقه ثم انه تعالى يشترى منهم ملكه الخالص المحصور بما لا يعد ولا يحصى من فضله ورحمته رحمة واحسانا وفضلا واكراما

وقيل نزلت فى صهيب بن سنان الرومى خرج من مكة يريد الهجرة الى النبى عليه الصلاة والسلام بالمدينة وهو ابن مائة سنة اتبعه نفر من مشركى قريش وقتلوا نفرا كانوا معه وكان معه كنانة فيها سهامه وكان راميا مصيبا فقال يا معشر قريش لقد علمتم انى من ارماكم رجلا والله لا اضع سهمى الا فى قلب رجل وايم الله لا تصلون الى حتى ارمى بكل سهم فى كنانتى ثم اضرب بسيفى ما بقى فى يديى ثم افعلوا ما شئتم ولن ينفعكم كونى فيكم فانى شيخ كبير ولى مال فى دارى بمكة فارجعوا وخذوه وخلونى وما انا عليه من الاسلام ففعلوا وسار هو الى المدينة فلما دخلها لقيه ابو بكر فقال له ربح البيع يا صهيب فقال وما ذاك يا ابا بكر فأخبره بما نزل فيه ففرح بذلك صهيب . فيشرى حينئذ بمعنى يشترى لجريان الحال على صورة الشراء لانه اشترى نفسه من المشركين ببذل ماله لهم

واعلم ان المؤمنين باعوا باختيارهم انفسهم فكان ثمن نفس المؤمن الجنة اما الاولياء فانهم باعوا باختيارهم انفسهم فكان ثمن نفس الاولياء مرضاة الله تعالى وبينهما فروق كثيرة فعلى السالك ان يخرج من اوطان البشرية ويغترب عن ديار الاقران حتى يكون مجاهدا حقيقيا وشهيدا معنويا قال عليه الصلاة والسلام « طوبى للغرباء » وقال ايضا « من مات غريبا فقد مات شهيدا » يشير بذلك الى الانقطاع من الخلق الى الخالق وذلك لا يكون الا بمخالفة الجمهور فى العادات والشهوات وفى الحديث « يا انس ان استعطت ان تكون ابدا على وضوء فافعل فان ملك الموت اذا قبض روح العبد وهو على وضوء كتب له شهادة » وذلك لان الوضوء واشارة الى الانفصال عما سى الله تعالى كما ان الصلاة اشارة الى الاتصال بالله تعالى وفى الحديث ايضا « دم على الطهارة يوسع عليك الرزق » فالطهارة الصورية سبب لتوسيع الرزق الصورى وكذا طهارة الباطن سبب لتوسيع الرزق المعنوى من المعارف والالهامات والواردات وعند ذلك يحيى القلب بالحياة الطيبة وتموت النفس عن صفاتها وليس ذلك الا اثر الجهاد الحقيقى فمن تخلص من قيد النفس ومات بالاختيار فهو حى ابدا : وفى المثنوى

(1/447)

اى بسا نفس شهيد معتمد ... مرده دردنيا وزنده مى رود

ولا بد للعبد من العروج من الخلق الى الخالق ومن الحاجة التامة لنفسه الى الغنى التام بالحق فى تحصيل كل الخيرات ودفع كل الآفات فاذا فر الى الله ووصل الى جماله وغرق فى مشاهدة جلاله شاهد سر قوله تعالى { قل الله ثم ذرهم } واول الامر ترك الاموال ثم ترك الاولاد ثم ترك النفس . فعند الاول يتجلى توحيد الافعال . وعند الثانى يتجلى توحيد الصفات . وعند الثالث يتجلى توحيد الذات وهو اعلى الدرجات فعلى العاقل اكثار ذر الله فانه سبب لتصفية الباطن وصقالة القلب قال تعالى { واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } ولا فلاح اعظم من ان يصل الطالب الى المطلوب اللهم اجعلنا مفلحين

(1/448)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)

{ يا ايها الذين آمنوا } بألسنتهم على ان الخطاب للمنافقين { ادخلوا فى السلم كافة } اى استسلموا لله تعالى واطيعوه جملة ظاهرا وباطنا . فالسلم بمعنى الاستسلام والطاعة وكافة حال من ضمير الفاعل فى ادخلوا او هذه حال تؤكد معنى العموم فى ضمير الجمع فان قولك قام القوم كافة بمنزلة قاموا كلهم وتاء كافة وقاطبة وعامة ليست للتأنيث وان كان اصلها ان تدل عليه بل انما دخلت لمجرد كون الكلمة المنقولة الى معنى كل وجميع او المعنى ادخلوا فى الاسلام بكليته ولا تخلطوا به غيره فالخطاب لمؤمنى اهل الكتاب فانهم كانوا يراعون بعض احكام دينهم القديم كما روى ان عبد الله بن سلام واصحابه كان يتمسكون ببعض شرائع التوراة من تعظيم السبت وتحريم لحم الابل وألبانها واشياء كانوا يرون الكف عن ذلك مباحا فى الاسلام وان كان واجبا فى شريعتهم فثبتوا على ذلك مع اعتقادهم حلها استيحاشا من مفارقة العادة وقالوا يا رسول الله ان التوارة كتاب الله فدعنا فلنقرأ منها فى صلاتنا بالليل فقال عليه السلام « لا تتمسكوا بشىء مما نسخ ودعوا ما الفتموه ولا تستوحشوا من النزوع عنه » فانه لا وحشة مع الحق وانما هو من تزيين الشيطان { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } جمع خطوة بالضم والسكون وهو ما بين القدمين اى لا تسلكوا مسالكه ولا تطيعوه فيما دعاكم اليه من السبل الزائغة والوساوس الباطلة { انه لكم عدو مبين } ظاهر العداوة يريد ان يفسد عليكم بهذه الوساوس اسلامكم

(1/449)

فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)

{ فان زللتم } الزلل فى الاصل عثرة القدم ثم يستعمل فى العدول عن الاعتقاد الحق والعمل الصائب فالمعنى اخطأتم الحق وتعديتموه علما كان او عملا { من بعد ما جاءتكم البينات } اى الحجج والشواهد على ان ما دعيتم الى الدخول فيه هو الحق { فاعلموا ان الله عزيز } غالب على امره لا يعجزه الانتقام منكم { حكيم } لا ينتقم الا بالحق

وفى الآية تهديد بليغ لاهل الزلل عن الدخول فى السلم فان الوالد اذا قال لولده ان عصيتنى فانت عارف بى وبشدة سطوتى لاهل المخالفة يكون قوله هذا ابلغ فى الزجر من ذكر الضرب وغيره وكما انها مشتملة على الوعيد منبئة عن الوعد ايضا من حيث انه تعالى اتبعه بقوله حكيم فان اللائق الحكمة ان يميز بين المحسن والمسيىء فكما يحسن ان ينتظر من الحكيم تعذيب المسيىء فكذلك ينتظر منه اكرام المحسن واثابته بل هذا أليق بالحكمة واقرب الى الرحمة

(1/450)

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

{ هل ينظرون } استفهام فى معنى النفى ونظر بمعنى انتظر اى ينتظر من يترك الدخول فى السلم ويتبع خطوات الشيطان { الا ان يأتيهم الله } اى الا اتيان الله اى عذابه على حذف المضاف لان الله تعالى منزه عن المجيئ والذهاب المستلزمين للحركة والسكون لان كل ذلك محدث فيكون كل ما يصح عليه المجيئ والذهاب محدثا مخلوقا له والاله القديم يستحيل ان يكون كذلك . وسئل على رضى أين كان تعالى قبل خلق السموات والارض قال أين سؤال عن المكان وكان الله تعالى ولا مكان وهو اليوم على ما كان ومذهب المتقدمين فى هذه الآية وما شاكلها ان يؤمن الانسان بظاهرها ويكل علمها الى الله لانه لا يأمن فى تعيين مراد الله تعالى من الخطأ فالاولى السكوت ومذهب جمهور المتكلمين ان لا بد من التأويل على سبيل التفصيل { فى ظلل } كائنة { من الغمام } والظلل جمع ظلة وهى ما أظلك والغمام السحاب الابيض الرقيق سمى غماما لانه يغم اى يستر ولا يكون السحاب ظلة الا اذا كان مجتمعا متراكما فالظلل من الغمام عبارة عن قطع متفرقة كل قطعة تكون فى غاية الكثافة والعظم وكل قطعة ظلة { والملائكة } اى ويأتيهم الملائكة فانهم وسائط فى اتيان امره تعالى بل هم الآتون بأسه على الحقيقة . وتلخيصه قد قامت الحجج فلم يبق الا نزول العذاب

فان قلت لم لم يأتهم العذاب فى الغمام كما فعل بقوم يونس وقوم عاد وقوم شعيب قلت لان الغمام مظنة الرحمة فاذا نزل منه العذاب كان الامر افظع وأهول لان الشر اذا جاء من حيث لا يحتسب كان اغم كما ان الخير اذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسر فكيف اذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقع الخير اى الغيث ومن ثمه اشتد على المتفكرين فى كتاب الله تعالى قوله { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } فان تفسيره على ما قالوا عملوا اعمالا حسبوها حسنات فاذا هى سيآت وذلك لتجويزهم ان يكون عملهم كذلك فيجيئهم الشر من حيث يتوقعون الخير فخافوا من ذلك روى أن محمد بن واسع تلا هذه الآية فقال آه آه الى ان فارق الدنيا { وقضى الامر } اى تم امر اهلاكهم وفرغ منه وهو عطف على يأتيهم داخل فى حيز الانتظار وانما عدل الى صيغة الماضى دلالة على الحقيقة فكأنه قد كان { والى الله } لا الى غيره { ترجع الامور } اى امور الخلق وامالهم هو القاضى بينهم يوم القيامة والمثيب والمعاقب فينبغى للمؤمن ان يكون فى جانب الانقياد ويحترز عن الهوى وخطوات الشيطان وعن النبى عليه السلام انه قال

(1/451)

« ان الله تعالى اظهر الشكاية من امتى » وقال « انى طردت الشيطان لاجلهم فهم يعصوننى . ويطيعون الشيطان » قال السعدى قدس سره

كجا سر بر آريم ازين عاروننك ... كه با او بصلحيم وباحق بجنك

نظر دوست نادر كند سوى تو ... جو در روى دشمن بود روى تو

ندانى كه كمتر نهد دوست باى ... جو بيندكه دشمن بود در سراى

فمن أعظم الطاعات طرد الشيطان وأن يتهم النفس دائما

كما روى ان رجلا صام اربعين سنة ثم دعا الحاجة ومع ذلك لم تجب دعوته وذم نفسه وقال يا مأوى الشر ذلك من شرك فاوحى الى نبى ذلك الزمان قل له ان قتلك لنفسك احب الى من صيام اربعين سنة : قال السعدى

خورندهكه خيرى برآيد زدست ... به از صائم الدهر دنيا برست

واعلم ان فى قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا فى السلم } معنى عاما ومعنى خاصا فالعام خطاب عام مع جميع من آمن اى ادخلوا فى شرائط الاسلام فى الباطن كما فى الظاهر ومن شرائطه ما قال النبى عليه السلام « المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس »

واما المعنى الخاص فخطاب خاص مع شخص الانسان وجميع اجزائه الظاهرة والباطنة فينبغى ان يدخل أركانه فى الاسلام بالفعل . فالعين بالنظر . والاذن بالسمع . والفم بالاكل . والفرج بالشهوة . واليد بالبطش . والرجل بالمشى ودخول واحد منها فى الاسلام بأن يستسلم لاوامر الحق ويجتنب نواهيه بل يترك ما لا يعنيه أصلا ويقع على ما لا بد له منه . ودخول جميع اجزائه الظاهرة فى شرائع الاسلام ميسر للمنافق . فاما ادخال اجزائه الباطنة فمعركة ابطال الدين ومنزلة الرجال البالغين فدخول النفس فى الاسلام بخروجها عن كفر صفاتها الذميمة وترك مألوفاتها واطمئنانها بالعبودية ليستحق بها دخول مقام العباد المخصوصين به بخطابه تعالى اياها كقوله تعالى { يا أيتها النفس المطمئنة } الآية . ودخول القلب فى الاسلام بتصفيته عن رذائل اخلاق النفس وتحليته بشمائل أخلاق الروح . ودخول الروح فى الاسلام بتخلقه بأخلاق الله وتسليم الاحكام الازلية وقطع النظر والتعلق عما سوى الله بتصرف جذبات الالوهية . ودخول السر فى الاسلام بفنائه فى الله وبقائه بالله { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } اى لا تكونوا على سيرته وصفته وهى الاباء والاستكبار فانه ضد الاسلام { انه لكم عدو مبين } لعداوته الغريزية لكم لاختلاف جبلته وجبلتكم وقصوره عن نور فطرتكم لكونه نارى الخلقة لا يطلب منكم الا ان تكونوا ناريين مثله لا نوريين فهو عدو فى الحقيقة فى صورة المحب { فان زللتم } اى زلت اقدامكم عن صراط الاسلام الحقيقى { من بعد ما جاءتكم البينات } دلائل تجليات أفعال الصفات { فاعلموا ان الله عزيز } فلعزته لا يهدى اليه لك ذليل دنى الهمة قصير النظر { حكيم } يهدى من يشاء الى سرادقات عزته { هل ينظرون الا ان يأتيهم الله فى ظلل من الغمام } الا ان يتجلى الله فى ظل صفات قهرية من جملة تجليات الصفات الساترة لشمس الذات وهو ملائكة القوى السماوية { وقضى } فى اللوح { الامر } امر اهلاكهم { والى الله ترجع الامور } بالفناء كذا فى التأويلات النجمية

(1/452)

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)

{ سل } أمر للرسول عليه السلام بالسؤال او لكل أحد يصلح ان يخاطب { بنى اسرائيل } يعنى هؤلاء الموجودين فى عصرك من رؤساء بنى اسرائيل { كم آتيناهم } اى آتينا آبائهم واسلافهم { من آية بينة } اى معجزة ظاهرة على ايدى انبيائهم لا يخفى على المتفكر أنها من عند الله كالعصا واليد البيضاء وانزال المن والسلوى وغيرها او المراد آيات كتبهم الشاهدة على صحة دين الاسلام . قوله كم آتيناهم محل هذه الجملة النصب او الخفض على انها مفعول ثان للسؤال فانه يتعدى الى مفعولين الى الول بنفسه والى الثانى بحرف الجر اما عن واما الباء نحو سألته عن كذا وبكذا قال الله تعالى { فاسأل به خبيرا } وقد يحذف حرف الجر فمن ثمة جاز فى محل كم النصب والخفض بحسب التقديرين وتمييزكم من آية بينة والاحسن اذا فصل بين كم ومميزها ان يؤتى بمن وهذا السؤال سؤال تقريع وتبكيت كما يسأل الكفرة يوم القيامة وتقرير لمجيئ البينات فكم استفهامية خبرية وليس المراد حقيقة الاستفهام { ومن يبدل } التبديل تصيير الشىء على غير ما كان عليه اى يغير { نعمة الله } التى هى آياته الباهرة فانها سبب للهدى الذى هو أجل النعم وتبديلهم اياه أن الله اظهرها لتكون اسباب هداهم فجعلوها اسباب ضلالتهم فكفروا بها وتركوا الشكر عليها { من بعد ما جاءته } اى من بعد ما وصلت اليه وتمكن من معرفتها والتصريح بذلك مع ان التبديل لا يتصور قبل المجيئ للاشعار بانهم قد بدلوها بعد ما وقفوا على تفاصيلها { فان الله شديد العقاب } تعليل للجواب كأنه قيل ومن يبدل نعمة الله عاقبه أشد عقوبة فانه شديد العقوبة لمن بدل النعمة فى الدنيا والآخرة وقد عاقبهم فى الدنيا بالقتل وذلك فى بنى قريظة وبالاجلاء وذلك فى بنى النضير ويوم القيامة يعذبون فى السعير

قال ابن التمجيد وتبديل النعمة جرم بغير علم ومع العلم اشد جرما ولذلك كان وعيد العلماء المقصرين أشد من الجاهلين بالاحكام لان الجهل قد يعذر به وان كان الاعتذار به غير مقبول فى باب التكاليف

(1/453)

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)

{ زين للذين كفروا الحيوة الدنيا } اى حسنت فى اعينهم واشربت محبتها فى قلوبهم حتى تهالكوا عليها وتهافتوا فيها معرضين عن غيرها والتزيين من حيث الخلق والايجاد مستند الى الله تعالى اذ ما من شىء الا وهو خالقه وكل من الشيطان والقوى الحيوانية وما فى الدنيا من الامور البهية والاشياء الشهية مزين بالعرض { ويسخرون من الذين آمنوا } اى يستهزئون بالفقراء من المؤمنين كعبد الله بن مسعود وعمار وصهيب وحبيب وبلال وغيرهم رضى الله تعالى عنهم ويسترذلونهم ويقولون تركوا لذات الدنيا وعذبوا انفسهم بالعبادات وفوتوا الراحات وكراماتها وهو عطف على زين ومن للابتداء فكأنهم جعلوا السحرية مبتدأة منهم { والذين اتقوا } يعنى اطاعوا الله واختاروا الفقر من المؤمنين وانما ذكروا بعنوان التقوى للايذان بان اعراضهم عن الدنيا للاتقاء عنها لكونها مخلة بتبلهم الى جناب القدس شاغلة لهم وللاشارة الى انه لا يسعد عنده الا المؤمن المتقى { فوقهم يوم القيمة } يعنى فوق المشركين لانهم فى اعلى عليين وهم فى اسفل سافلين فتكون الفوقية حقيقة او لانهم فى اوج الكرامة وهم فى حضيض الذل والمهانة فتكون الفوقية مجازا . ويوم منصوب بالاستقرار الذى تعلق به فوقهم { والله يرزق من يشاء } اى فى الدارين { بغير حساب } كثير « بى اندازه » لانه تعالى لا يخاف نفاد ما عنده لانه غنى لا نهاية لمقدوراته فالله تعالى يوسع بحسب الحكمة والمشيئة على عباده فمنهم من تكون التوسعة عليه استدراجا كهؤلاء الكفرة وقارون واضرابهم ومنهم من تكون كرامة كاغنياء المؤمنين وسليمان وامثالهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « وقفت على باب الجنة فرأيت اكثر اهلها المساكين ووقفت على باب النار فرأيت اكثر أهلها النساء » واذا اهل الجسد محبوسون الا من كان منهم من اهل النار فقد امر به الى النار : قال الحافظ

ازين رباط دودر جون ضرورتست رحيل ... رواق وطاق معيشت جه سر بلند وجه بست

بهست ونيست مر نجان ضمير وخوش دل باش ... كه نيستعيست سرانجام هر كمال كه هست

ببال و برمرو ازره كه تير برثابى ... هوا كرفت زمانى ولى بخاك نشست

يحكى ان عيسى عليه السلام سافر ومعه يهودى فكان مع عيسى ثلاثة اقراص فأعطاها اليهودى فقدم قرصين فقال اين ثالثها فقال اليهودى لم تكن اكثر من هذا فمشيا حتى شاهد من عيسى عجائب فأقسم عليه عيسى لذلك حتى يقر بالقرص الثالث فلم يقر فلحقا بثلاث لبنات من الذهب فقال اليهودى اقسم ذلك فقال عيسى واحدة لى وواحدة لك وواحدة لمن اكل القرص الثالث فقال اليهودى انا اكلت القرص الثالث فقال عيسى ابعد عنى فقد شاهدت قدرة الله ولم تقر به والآن قد اقررت بالدنيا فترك اللبنات عند اليهودى ومشى وجاء ثلاثة من اللصوص وقتلوا اليهودى واخذوا للبنات ثم بعثوا من جملتهم واحدا ليأتى لهم بطعام فلما غاب عنهما تشاوروا فى قتله وقالا اذا رجع قتلناه واخذنا نصيبه فذهب واشترى سما فطرحه فى الطعام الذى اشتراه حتى يأكل ذلك الطعام صاحباه فيموتا ويأخذ اللبنات فلما قدم عليهما قاما وقتلاه ثم اكلا الطعام فماتا فعبر عليهم عيسى فوجد اليهودى وهؤلاء الثلاثة مقتولين فتعجب من ذلك فنزل جبريل واخبر بالقصة

(1/454)

فينبغى للعاقل ان لا يغتر بكثرة الدنيا وان لا يهتم فى جمعها بل يزرع فيها بذر العمل كى يحصد فى الآخرة لان الدنيا مزرعة الآخرة ولا ينبغى للاغنياء ان يحقروا الفقراء بالغرور بكثرة دنياهم ولا يسخروا منهم لان هذه الصفة من صفات الكفرة : قال السعدى

جو منعم كند سفله را روركار ... نهد بردل تنك درويش بار

جوبام بلندش بودخود برست ... كندبول وحاشاك بربام بست

والاشارة فى الآية ان الله اذا فتح باب الملكوت على قلب عبد من خواصه يريه آياته فى الملك والملكوت فان تغير باحواله او تعجب بكماله فيقبل على شىء من مرادات النفس ويبدل نعمته بموافقة النفس ورضاها { فان الله شديد العقاب } بان يغير عليه احواله ويسلب عنه كماله ويشهده قوله تعالى { ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم } ومن شدة عقابه انه اذا اذنب عبد ذنبا صغيرا ولم يتب منه وأصر عليه ان يعاقبه بالابتداء بكبيرة مثل تبدل النعمة ليعاقبه بزوال النعمة فى الدنيا ودوام النقمة فى العقبى . وايضا من شدة عقابه ان { زين للذين كفروا الحيوة الدنيا } ويمكر بهم حتى يغلب عليهم حب الدنيا { ويسخرون من الذين آمنوا } من فقرائهم وكبرائهم حملهم شدة العقوبة على الوقيعة فى اوليائه واستحقار احبابه وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء } من درجات أعلى عليين ودركات أسفل سافلين { بغير حساب } بغير نهاية الى أبد الآباد فان ما لا نهاية له لا مدخل له تحت الحساب وفيه معنى آخر بغير حساب يعنى ما يرزق العبد فى الدنيا من الدنيا فلحرامها عذاب ولحلالها حساب وما يرزق العبد فى الآخرة من النعيم المقيم فبغير حساب كذا فى التأويلات النجمية

(1/455)

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

{ كان الناس امة واحدة } اى جماعة واحدة متفقين فى الايمان واتباع الحق من وقت آدم الى مبعث نوح عليهما السلام وكان بينهما عشرة قرون كل قرن ثمانون سنة كما عند الاكثر { فبعث الله النبيين } اى فاخلتفوا فبعث الخ بدلالة قوله تعالى { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } { مبشرين } بالثواب لمن آمن وأطاع { ومنذرين } محذرين بالعقاب لمن كفر وعصى { وأنزل معهم الكتاب } أى كتاب او مع كل واحد منهم ممن له كتاب كتابه الخاص لا مع كل واحد منهم على الاطلاق اذ لم يكن لبعضهم كتاب وانما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم وعموم النبيين لا ينافى خصوص الضمير العائد اليه بمعونة المقام { بالحق } اى حال كون ذلك الكتاب ملتبسا بالحق والعدل والصدق وشاهدا به { ليحكم } اى الله تعالى { بين الناس فيما اختلفوا فيه } اى فى الحق الذى اختلفوا فيه بعد الاتفاق { وما اختلف فيه } اى فى الحق { الا الذين أوتوه } اى الكتاب المنزل لازالة الاختلاف والتعبير عن الانزال بالايتاء للتنبيه من اول الامر على كمال تمكنهم من الوقوف على ما فى تضاعيفه من الحق فان الانزال لا يفيد تلك الفائدة اى عكسوا الامر حيث جعلوا ما انزل لازالة الاختلاف سببا لاستحكامه ورسوخه { من بعد ما جاءتهم البينات } اى رسخت فى عقولهم ومن متعلق بما اختلف ولم تمنع الا من ذلك كقولك ما قام الا زيد يوم الجمعة { بغيا بينهم } مفعول له لقوله وما اختلف فالاستثناء متعلق بثلاثة اشياء والتقدير وما اختلف فيه الا الذين الخ وما اختلفوا فيه الا من بعد الخ وما كان الاختلاف الا للبغى والتهالك على الدنيا وللحسد والظلم كما فعل قابيل بهابيل وما قتله لاشكال الحق عليه بل حسدا منه على اخيه وهكذا فى كل عصر وهذا فعل الرؤساء ثم العامة اتباعا لهم وفعلهم مضاف اليهم فتبين ان الاختلاف فى الحق امر متقادم فى الاسلام { فهدى الله الذين آمنوا } بالكتاب { لما اختلفوا فيه } متعلق بهدى وما موصولة ومعناه هدى الى ما اختلفوا فيه { من الحق } بيان لما { بأذنه } اى بأمره وتيسيره ولطفه وارادته ورحمته حتى ابصروا الحق بنور التوفيق من الباطل { والله يهدى من يشاء الى صراط مستقيم } لا يضل سالكه

(1/456)

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

{ أم حسبتم ان تدخلوا الجنة } خاطب به النبى عليه السلام والمؤمنين بعد ما ذكر اختلاف الامم على الانبياء بعد مجئ الآيات تشجيعا لهم على الثبات على المصابرة على مخالفة الكفرة فان عاقبة الامر النصر . وأم منقطعة الاخبار المتقدم الى الانكار المدلول عليه بهمزة الاستفهام اى ما كان ينبغى ان تحسبوا ذلك فتقدر ببل والهمزة قيل اضراب عن وتظنوا او لم حسبتموه { ولما يأتكم } اى والحال لم يجئكم { مثل الذين خلوا } اى صفة الذين مضوا { من قبلكم } من الانبياء ومن معهم من المؤمنين ولم تبتلوا بعد بما ابتلوا به من الاحوال الهائلة التى هى مثل فى الفظاعة والشدة وهو متوقع ومنتظر { مستهم البأساء } بيان له على الاستئناف كأنه قيل كيف ن ن مثلهم وحالهم العجيبة فقيل مستهم البأساء اى الشدة من الخوف والفاقة { والضراء } اى الآلام والامراض { وزلزلوا } اى ازعجوا ازعاجا شديدا بما اصابهم من الشدائد { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه } اى انتهى امرهم من الشدة الى حيث اضطبرهم الضجر الى ان يقول الرسول وهو اعلم الناس بشؤون الله واوثقهم بنصره والمؤمنون المقتدون بآثاره المستضيئون بانواره { متى } اى يأتى { نصر الله } الذى وعدناه طلبا وتمنيا له واستطالة لمدة الشدة والعناء فان الشدة وان قصر فهو طويل فى عين المبتلى بها فلا محالة يستطبئ النصر فاجابهم الله بقوله { ألا ان نصر الله قريب } اسعافا لهم الى طلبتهم من عاجل النصر اى أنا ناصر أوليائى لا محالة نصرى قريب منهم فان كل آت قريب ولما كان الجواب بذكر القرب دل ذلك على ان السؤال كان واقعا عن زمان النصر أقريب هو أم بعيد ولو كان السؤال عن وقوع أصل النصر بمعنى انه هل يوجد أو لا لما كان الجواب مطابقا للسؤال

وفى الآية اشارة الى ان الوصول الى الله والفوز بالكرامة عنده برفض الهوى واللذات ومكابدة الشدائد والرياضات كما قال عليه السلام « حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات » كذا فى تفسير القاضى : ونعم ما قيل

فلك مشام كسى خوش كند ببوى مراد ... كه خاك معركه باشد عبير وعنبراو

وعن خباب بن الارت رضى الله تعالى عنه قال لما شكونا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نلقى من المشركين قال « ان من كان قبلكم من الامم كانوا يعذبون بانواع البلاء فلا يصرفهم ذلك عن دينهم حتى ان الرجل كان يوضع على رأسه المنشار فيشق فلقتين ويمشط الرجل بأمشاط الحديد بما دون العظم من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه وايم الله ليتمن الله هذا الامر حتى يسير الراكب منكم من صنعاء الى حضرموت لا يخشى الا الله والذئب على غنمه ولكنكم تعجلون »

(1/457)

قالوا كل نبى بعث الى امته اجهد حتى قال متى نصر الله ووقع ذلك للرسول عليه السلام حين وقع له ضجر شديد قبل فتح مكة فقال فى يوم الاحزاب حيث لم يبق لاصحابه صبر حتى ضجوا وطلبوا النصرة فارسل الله ريحا وجنودا وهزم الكفار بهما . ومن شدائده عليه السلام غزوة الخندق حين اصاب المسلمين ما اصابهم من الجهد وشدة الخوف والبرد وضيق العيش وانواع الاذى كما قال تعالى { وبلغت القلوب الحناجر } ولو اطلعت على ما اصابهم من عداوة اليهود واسرار النفاق واذى القوم يمينا وشمالا ببذل المجهود حين هاجروا الى المدينة لكفى ذلك عبرة فى هذا الباب فنحن اولى بمقاساة امثال هذه الشدائد خصوصا فى هذا الزمان الذى لا تجد بدا من طعن الناس واذاهم اذا البلاء على الانبياء ثم على الاولياء ثم الامثل فالامثل

غبار لازمه آسيا بود صائب ... امان ز حادثه آسمان جه ميخواهى

قال فى التأويلات النجمية عند قوله تعالى { كان الناس امة واحدة } الآية الخصال الذميمة التى عليها اكثر الناس كلها عارضة لهم فانهم كانوا حين أشهدهم الله على انفسهم امة واحدة وولدوا على الفطرة لقوله عليه السلام « كل مولود يولد على فطرة الاسلام فأبواه يهودانه أو ينصرانه او يمجسانه » وما قال عليه السلام او يسلمانه لمعنيين . احدهما ان الكفر يحصل بالتقليد ولكن الايمان الحقيقى لا يحصل به . والثانى ان الابوين الاصلين هما الانجم والعناصر فعلى التقديرين الولد بتربية الآباء والامهات يضل عن سبيل الحق ويزل قدمه عن الصراط المستقيم التوحيد والمعرفة ولو كان نبيا يحتاج الى هاد يهدى الى الحق كما قال تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم { ووجدك ضالا فهدى } ولكل من السعادة والشقاوة كتاب كما قال عليه السلام « ما من نفس الا وقد كتب فى كتابها من اهل الجنة او النار وكتب شقية او سعيدة » فقالوا أفلا نتكل على كتابنا يا رسول الله وندع العمل قال « اعملوا فكل ميسر لما خلق له اما اهل الشقاوة فييسرون لعمل اهل الشقاوة واما اهل السعادة فييسرون لعمل اهل السعادة » فلا بد من مقاساة بأساء الترك والتجريد والفقر والافتقار حتى يحصل دخول جنة الجمال ودار القرار فلم يضجروا من طول مدة الحجاب وكثرة الجهاد فى الفراق وعيل صبرهم عن مشاهدة الجمال وذوق الوصال وطلبوا نصر الله بالتجلى على قمع صفات النفوس مع قوم مصابرتهم وحسن تحملهم لما يقول المحببو ويريد بهم حتى جاء نصر الله فرفع الحجاب وظهر انوار الجمال

(1/458)

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

{ يسألونك ماذا ينفقون } اى أى شىء يتصدقون به من اصناف اموالهم

نزلت حين حث النبى عليه السلام على التصدق فى سبيل الله وسأل عمرو بن الجموح وهو شيخ همّ أى فان وله مال عظيم فقال ماذا ننفق يا رسول الله من اموالنا واين نضعها { قل ما انفقتم من خير } اى أى شىء انفقتم من أى خير كان وهو بيان للمنفق والمال يسمى خيرا لان حقه ان يصرف الى جهة الخير فصار بذلك كأنه نفس الخير { فللوالدين }

قان قلت كيف طابق الجواب السؤال وهم قد سألوا عن بيان ما ينفقون واجيبوا ببيان المصرف قلت قد تضمن قوله { ما انفقتم من خير } بيان ما ينفقونه وهو كل خير وبنى الكلام على ما هو أهم وهو بيان المصرف لان النفقة لا يعتد بها الا ان تقعع موقعها { والاقربين واليتامى } اى المحتاجين { والمساكين وابن السبيل } ولم يتعرض للسائلين والرقاب اما اكتفاء بما ذكر فى المواقع الاخر واما بناء على دخولهم تحت عموم قوله تعالى { وما } اى أى شىء { تفعلوا من خير } فانه شامل لكل خير واقع فى أى مصرف كان { فان الله به عليم } اى ان تفعلوا خيرا فان الله يعلم كنهه ويوفى ثوابه . والمراد بهذه الآية الحث على بر الوالدين وصلة الارحام وقضاء حاجة ذى الحاجة على سبيل التطوع ولا ينافيه ايجاب الزكاة وحصر مصارفها فى الاصناف الثمانية كما ذكر فى قوله تعالى { انما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل }

(1/459)

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)

{ كتب } اى فرض { عليكم القتال } اى قتال الكفرة والجمهور على ان الجهاد فرض على الكفاية مثل صلاة الجنازة ورد السلام { وهو } اى والحال ان القتال { كره لكم } شاق عليكم مكروه فالكره مصدر بمعنى الكراهة نعت به للمبالغة كأن القتال فى نفسه كراهة لفرط كراهتهم له وهذه الكراهة من حيث نفور الطبع منه لما فيه من مؤونة المال ومشقة النفس وخطر الروح لا انهم كرهوا امر الله تعالى وكراهة الطبع لا توجب الذم بل تحقق معنى العبودية اذا فعل ذلك اتباعا للشرع مع نفرة الطبع فاما كراهة الاعتقاد فهى من صفات المنافقين { وعسى ان تكرهوا شيأ } وهو جميع ما كلفوه من الامور الشاقة التى من جملتها القتال { وهو خير لكم } لان فى الغزو احدى الحسنيين اما الظفر والغنيمة واما الشهادة والجنة . وعسى كلمة تجرى مجرى لعل وهى من العباد للترجى ومن الله للترجية { وعسى ان تحبوا شيأ } وهو جميع ما نهوا عنه من الامور المستلذة التى من جملتها القعود عن الغزو { وهو شر لكم } لما فيه من فوات الغنيمة والاجر وغلبة الاعداء وتخريب الديار { والله يعلم } ما هو خير لكم دينا ودنيا فلذا يأمركم به { وانتم لا تعلمون } ذلك ولذلك تكرهونه : قال فى المثنوى

ما التصوف قال وجدان الفرح ... فى الفؤاد عند اتيان الترح

جمله در زنجير بيم و ابتلا ... ميروند اين ره بغير اوليا

يعنى ان المقلد يجرى الى الحضرة بالاضطرار بخلاف الولى

قال ذو النون المصرى رحمه الله انما دخل الفساد على الخلق من ستة اشياء . الاول ضعف النية بعمل الآخرة . والثانى صارت ابدانهم رهينة لشهواتهم . والثالث غلب عليهم حلول الامل مع قرب الاجل . والرابع آثروا رضى المخلوقين على رضى الخالق . والخامس اتبعوا اهواءهم ونبذوا سنة نبيهم وراء ظهورهم . والسادس جعلوا قليل زلات السلف حجة انفسهم ودفنوا كثير مناقبهم

فعلى العاقل ان يجاهد مع النفس والطبيعة ليرتفع الهوى والشهوات والبدعة ويتمكن فى القلوب حب العمل بالكتاب والسنة

قال ابراهيم الخواص رحمه الله كنت فى جبل لكام فرأيت رمانا فاشتهيته فدنوت فأخذت منه واحدة فشققتها فوجدتها حامضة فمضيت وتركتها فرأيت رجلا مطروحا قد اجتمع عليه الزنابير فقلت السلام عليك فقال وعليك السلام يا ابراهيم فقلت كيف عرفتنى فقال من عرف الله لا يخفى عليه شىء فقلت له ارى لك حالا مع الله فلو سألته ان يحميك ويقيك الاذى من هذه الزنابير فقال وارى لك حالا مع الله فلو سألته ان يقيك شهوة الرمان فلدغ الرمان يجد الانسان ألمه فى الآخرة ولدغ الزنابير يجد ألمه فى الدنيا فتركته ومشيت : قال السعدى قدس سره

مبر طاعت نفس شهوت برست ... كه هر ساعتش قبله ديكرست

كند مردرا نفس اماره خوار ... اكرهوا شمندى عزيزش مدار

(1/460)

وفى التأويلات القاشانية { كتب عليكم القتال } قتال النفس والشيطان { وهو كره } مكروه { لكم } مر أمر من طعم العلقم واشد من ضغم الضيغم . وحقيقة الجهاد رفع الوجود المجازى فانه الحجاب بين العبد والرب كما قيل وجودك ذنب لا يقاس عليه ذنب آخر وكما قال ابن منصور

بينى وبينك انى قد يزاحمنى ... فارفع بجودك لى انى من البين

{ وعسى ان تكرهوا شيأ وهو خير لكم } لاحتجابكم بهوى النفس وحب اللذة العاجلة عما فى ضمنه من الخير الكثير واللذة العظيمة الروحانية التى تستحقر تلك الشدة السريعة الانقضاء بالقياس الى ذلك الخير الباقى واللذات السرمدية { وعسى ان تحبوا شيأ } من اللذات الجسمانية وتمتعات النفس { وهو شر لكم } للنفس بحرمانها من اللذات الروحانية { والله يعلم } ان فى كراهة النفوس ما اودع من راحة القلوب { وانتم لا تعلمون } ان حياة القلوب فى موت النفوس وفى حياة النفوس موت القلوب كما قال قدس سره

اقتلونى اقتلونى يا ثقات ان فى قتلى حياتا فى حيات خنجر وشمشير شدريحان من ... مرك من شدبزم ونركسدان من

(1/461)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)

{ يسألونك عن الشهر الحرام } روى ان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش وهو ابن عمته صلى الله عليه وسلم اخت ابيه فى جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين على رأس سبعة عشر شهرا من مقدمه المدينة وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين سعد بن ابى وقاص الزهرى وعكاشة بن محصن الاسدى وعتبة بن غزوان السلمى وابا حذيفة بن ربيعة وسهيل بن بيضاء وعامر بن ربيعة وواقد بن عبد الله وخالد بن بكير وكتب لاميرهم عبد الله بن جحش كتابا وقال « سر على اسم الله ولا تنظر فى الكتاب حتى تسير يومين فاذا نزلت فافتح الكتاب واقرأه على اصحابك ثم امض لما امرتك ولا تكرهن احدا من اصحابك على السير معك » فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب فاذا فيه « بسم الله الرحمن الرحيم اما بعد فسر على بركة الله بمن تبعك من اصحابك حتى تنزل بطن نخلة فترصد بها عير قريش لعلك ان تأتينا منها بخير » فلما نظر فى الكتاب قال سمعا وطاعة ثم قال لاصحابه ذلك وقال انه نهانى ان اكره احدا منكم فمن كان يريد الشهادة فلينطلق ومن كره فليرجع ثم مضى ومضى معه اصحابه لم يتخلف عنه منهم احد حتى كاد يقعد فوق القزع بموضع من الحجاز يقال له بحران فاضل سعد بن ابى وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما يعتقبانه فتخلفا فى طلبه ومضى بقية اصحابه حتى نزلوا بطن نخلة بين مكة والطائف فبينما هم كذلك مرت عير قريش تحمل زبيبا وادما وتجارة من تجارة الطائف فيهم عمرو بن الحضرمى والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة واخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان فلما رأوا اصحاب رسول الله هابوهم فقال عبد الله ابن جحش ان القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم فحلقوا رأس عكاشة ثم اشرف عليهم فقال قوم غمار لا بأس عليكم فأمنوا وكان ذلك فى آخر يوم من جمادى الآخرة وكانوا يرونه من جمادى وهو من رجب فتشاور القوم وقالوا ان تركتموهم الليلة ليدخلن الحرم فليمنعن منكم فاجمعوا امرهم فى مواقعة القوم فرمى واقد بن عبد الله السهمى عمرو ابن الحضرمى بسهم فقتله وكان اول قتيل من المشركين وهو اول قتيل فى الهجرة واستأسروا الحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله وكان اول اسيرين فى الاسلام وافلت نوفل على فرس له فاعجزهم واستاق المؤمنون العير والاسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قريش قد استحل محمد الشهر الحرام شهرا يأمن فيه الخائف وينذعر فيه الناس لمعايشهم اى يتفرقون فى البلاد فسفك فيه الدماء واخذ الجرائب وعير بذلك اهل مكة من كان بها من المسلمين وقالوا يا معشر الصباة استحللتم الشهر الحرام وقاتلتم فيه وبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال عليه السلام لابن حجش واصحابه

(1/462)

« ما امرتكم بالقتال فى الشهر الحرام » ووقف العير والاسيرين اى جعلها وموقوفة وما قسمها بين الغانمين وابى ان يأخذ شيأ من ذلك ينتظر الاذن من الله فعظم ذلك على اصحاب السرية وظنوا ان قد هلكوا وسقط فى ايديهم وقالوا يا رسول الله انا قتلنا ابن الحضرمى ثم امسينا فنظرنا الى هللا رجب فلا ندرى أفى رجب اصبناه ام فى جمادى فاكثر الناس فى ذلك فانزل الله هذه الآية فاخذ رسول الله العير فعزل منها الخمس وكان اول خمس فى الاسلام وقسم الباقى بين اصحاب السرية وكانت اول غنيمة فى الاسلام وبعث اهل مكة فى فداء اسيريهم فقال بل نقفهما حتى يقدم سعد وعتبة وان لم يقدما قتلناهما بهما فلما قدما فاداهما فاما الحكم بن كيسان فاسلم واقام مع رسول الله بالمدينة فقتل يوم بئر معونة شهيدا واما عثمان بن عبد الله فرجع الى مكة فمات بها كافرا واما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الاحزاب ليدخل الخندق فوقع فى الخندق مع فرسه فتحطما جميعا وقتله الله فطلب المشركون جيفته بالثمن فقال صلى الله تعالى عليه وسلم خذوه فانه خبيث خبيث الجيفة والدية . والمعنى يسألك المسلمون استعلاما او الكفار تعنتا عن الشهر الحرام اى رجب سمى به لتحريم القتال فيه { قتال فيه } بدل اشتمال من الشهر لان الشهر مشتمل على القتال { قل } يا محمد فى جوابهم { قتال فيه كبير } اثم عظيم عند الله وقتال مبتدأ خبره كبير وجاز الابتداء بالنكرة لانها وصفت بفيه . والاكثر ان هذه الآية مفسوخة بقوله تعالى { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } { وصد عن سبيل الله } مبتدأ قد تخصص بالعمل فيما بعد اى ومنع عن الاسلام الموصل للعبد الى الله تعالى { وكفر به } اى بالله تعالى { والمسجد الحرام } عطف على سبيل الله وحيث كان الصد عن سبيل الله فردا من افراد الكفر به تعالى لم يقدح العطف المذكور فى حسن هذا العطف لانه ليس باجنبى محض اى منع المسلمين عن دخول مكة وزيارة بيت الله { واخراج اهله } اى اهل المسجد وهو النبى عليه السلام والمؤمنون { منه } اى من المسجد الحرام وهو عطف على وكفر به وجعل المسلمين اهل المسجد وان كانوا خارجين عن مكة لانهم قائمون بما يجب عليهم من حقه لانهم يصيرون اهلا له فى العاقبة فسماهم باسم العاقبة ولم يسم الكفار اهل المسجد وان كانوا بمكة لان مقامهم بمكة عارض { اكبر عند الله } خبر للاشياء المعدودة اى هذه الاشياء الاربعة اكر اثما وعقوبة من قتل المسلين ابن الحضرمى فى الشهر الحرام لان القتال يحل بحال والكفر لا يحل بحال ولانهم كانوا متأولين فى القتال لانهم شكوا فى اليوم ولا تأويل للكفار فى الكفر { والفتنة } اى ما ارتكبوه من الاخراج والشرك وصد الناس عن الاسلام ابتداء وبقاء { اكبر من القتل } اى افظع من قتل الحضرمى فى الشهر الحرام فلما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن انيس الى مؤمنى مكة اذا عيركم المشركون بالقتال فى الشهر الحرام فعيروهم انتم بالكفر واخراج رسول الله من مكة ومنعهم المسلمين عن البيت { ولا يزالون يقاتلونكم } بيان لاستحكام عداوتهم واصرارهم على الفتنة فى الدين اى لا يزال الكفار عن قتالكم ايها المؤمنون { حتى يردوكم عن دينكم } اى كى يصرفوكم عن دينكم الحق الى دينهم الباطل { ان استطاعوا } اشارة الى تصلبهم فى الدين وثبات قدمهم فيه كأنه قيل وأنى لهم ذلك وهو كقول الرجل لعدوه ان ظفرت بى فلا تبق على ولا ترحمنى وهو واثق بانه لا يظفر به وهو تطييب لقلوب المؤمنين { ومن يرتدد منكم عن دينه } اظهار التضعيف لسكون الدال الثانية وبالفتح والادعام على التحريك لالتقاء الساكنين باخف الحركات والارتداد النكوص وهو تحذير من الارتداد اى من يفعل ذلك باضلالهم واغوائهم { فيمت وهو كافر } بان لم يرجع الى الاسلام .

(1/463)

وفيه ترغيب فى الرجوع الى الاسلام بعد الارتداد الى حين الموت { فاولئك } المصرون على الارتداد الى حين الموت { حبطت } بطلت وتلاشت { اعمالهم } التى كانوا عملوها فى حالة الاسلام حبوطا لا تلافى له قطعا { فى الدنيا } وهو قطع حياته وقتله عند الظفر به لارتداده وفوات موالاة المسلمين ونصرهم والثناء الحسن وزوال النكاح وحرمانه من مواريث المسلمين ونحو ذلك مما يجرى على نفس المرتد واهله وماله { والآخرة } وهو الثواب وحسن المآب لان عبادتهم لم تصح فى الدنيا فلم يجازوا عليها فى الآخرة وليس المراد من احباط العمل ابطال نفس العمل لان الاعمال اعراض كما توجد تفنى وتزول واعدام المعدوم محال بل المراد به ما ذكر من ان الردة الحادثة تزيل ثواب الايمان السابق وثواب ما سبق من ثمراته . وظاهر الآية يقتضى ان تكون الوفاة على الردة شرطا لثبوت الاحكام المذكورة وهى حبوط الاعمال فى الدنيا والآخرة وكون صاحبها من اصحاب النار خالدا فيها وان لا يثبت شىء من هذه الاحكام ان اسلم المرتد بعد ردته ولهذا احتج الشافعى بهذه الآية على ان الردة لا تحبط الاعمال حتى يموت صاحبها عليها وعند ابى حنيفة رحمه الله ان الردة تحبط الاعمال مطلقا اى وان رجع مسلما تمسكا بعموم قوله تعالى { ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } وقوله { ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله }

(1/464)

ويتفرع عليه مسألتان . الاولى ان جماعة من المتكلمين قالوا شرط صحة الايمان والكفر حصول الوفاة عليهما فلا يكون الايمان ايمانا الا اذا مات المؤمن عليه وايضا لا يكون الكفر كفرا الا اذا مات الكافر عليه والمسألة الثانية ان المسلم اذا صلى ثم ارتد والعياذ بالله ثم اسلم فى الوقت قال الشافعى لا اعادة عليه . وقال ابو حنيفة يلزمه قضاء ما ادى وكذا الكلام فى الحج { واولئك اصحاب النار } ملازموها { هم فيها خالدون } كدأب سائر الكفرة فلا بد للمؤمن من العمل الصالح ومن الصون عما يبطله وسبب الارتداد عدم اليقين والا فكيف يحوم حول الموحد الحقيقى شيطان وشرك وهو قد تخلص من البرازخ والقيود ووصل الى الرب المعبود والعمل الصالح هو ما اريد به وجه الله فان غيره فاسد لا ينفع لصاحبه اصلا : قال الحافظ

فرداكه بيشكاه حقيقت شود بديد ... شرمنده رهروى كه عمل برمجاز كرد

واحسن الحسنات التوحيد لانه اس الكل ولذلك لا يوزن قال عليه السلام « ان كل حسنة تعملها توزن يوم القيامة الا شهادة ان لا اله الا الله فانها لا توضع فى ميزان لانها لو وضعت فى ميزان من قالها صادقا ووضعت السموات والارضون السبع ما فيهن كان لا اله الا الله ارجح من ذلك » وجميع الاعمال الصالحة يزيد فى نور الايمان . فعليك بالطاعة والحسنات والوصول الى المعارف الآلهية فان العلم بالله افضل الاعمال ولذلك لما قيل يا رسول الله أى الاعمال افضل قال « العلم بالله » فقيل نسأل عن العمل وتجيب عن العلم فقال « ان قليل العمل ينفع مع العلم وان كثير العمل لا ينفع مع الجهل » وذلك انما يحصل بتصفية الباطن مع صيقل التوحيد وانواع الاذكار ولا يعقلها الا العالمون : قال فى المثنوى

ذكر حق كن بانك غولانرا بسوز ... جشم نركس را ازين كركس بدوز

قال الشيخ الحسن محمد بن السراج سعمت الجنيد قدس سره يقول رأيت ابليس فى المنام كأنه عريان فقلت ألا تستحيى من الناس فقال لو كان هؤلاء من الناس لما اتلاعب بهم كما يتلاعب الصبيان بالكرة فقلت ومن الناس فقال قوم فى المسجد الشونيزى قد انحلوا جسمى واحرقوا قلبى كلما هممت بهم اشاروا الى الله تعالى فاكاد احرق بنور ذكرهم قال فانتبهت وجئت الى المسجد الشونيزى بليل فلما دخلت المسجد اذا انا بثلاث انفس جلوس ورؤسهم مغطاة بمرقعاتهم فلما أحسوا بى اخرج واحد رأسه فقال يا ابا القاسم انت كلما قيل بشىء صرت تقبله وتسمعه انظر الى اجتهادهم فى طاعة الله وصفاء اسرارهم عما سواه تعالى فهم من اهل الاسلام الحقيقى

يقول الفقير ناظم هذه الدرر قال لى شيخى العلامة ابقاه الله بالسلامة فى قوله عليه السلام « بدا الاسلام غريبا وسيعود غريبا » المراد بالاسلام هو الاسلام الحقيقى وصاحبه لا يرتد ابدا وكونه غريبا ان لا يوجد له انيس : قال فى المثنوى

بود كبرى درزمان بايزيد ... كفت اورا يك مسلمان سعيد

كه جه باشد كرتو اسلام آورى ... تا بيابى صد نجات سرورى

كفت اين اسلام اكرهست اى مريد ... آنكه دارد شيخ عالم بايزيد

مؤمن ايمان اويم درنهان ... كرجه مهرم هست محكم بر دهان

باز ايمان كرخود ايمان شماست ... نى بدان ميلستم و نى مشتهاست

آنكه صدميلش سوى ايمان بود ... جون شمارا ديد زآن فاترشود

زانكه نامى بيندو معنبش نى ... جون بيابانرا مفازه كفتنى

(1/465)

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

{ ان الذين آمنوا } نزلت فى السرية فان الله تعالى لما فرج عنهم بالآية السابقة ما كانوا فيه من الغم الشديد بقتالهم فى الشهر الحرام طمعوا فيما عند الله من ثوابه فقالوا يا رسول الله لا عقاب علينا فيما فعلنا فهل نعطى اجرا او ثوابا ونطمع ان يكون سفرنا هذا سفر غزو وطاعة فأنزل الله تعالى هذه الآية لانهم كانوا مؤمنين مهاجرين وكانوا بسبب هذه المقاتلة مجاهدين والمعنى ثبتوا على ايمانهم فلم يرتدوا { والذين هاجروا } اى فارقوا منازلهم واهلهم { وجاهدوا } المجاهدة استفارغ ما فى اوسع اى حاربوا المشركين { فى سبيل الله } فى طاعته لاعلاء دينه { اولئك يرجون } بمالهم من مبادى الفوز { رحمة الله } اى ثوابه ولا يحبط اعمالهم كاعمال المرتدين اثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجو للايران بانهم عالمون بان العمل غير موجب للاجر وانما هو بطريق التفضل منه تعالى لا لان فى فوزهم اشتباها { والله غفور } مبالغ فى مغفرة ما فرط من عباده خطأ { رحيم } يجزل لهم الاجر والثواب

قال قتادة هؤلاء خيار هذه الامة ثم جعلهم الله اهل رجاء كما تسمعون وانه من رجا طلب ومن خاف هرب روى انه مر ابو عمر البيكندى يوما بسكة فرأى اقواما ارادوا اخراج شاب من المحلة لفساده وامرأة تبكى قيل انها امه فرحمها ابو عمر فشفع له اليه وقال هبوه منى فى هذه المرة فان عاد الى فساده فشأنكم فوهبوه منه فمضى ابو عمر فلما كان بعد ايام اجتاز بتلك السكة فسمع بكاء العجوز من ورآء ذلك الباب فقال فى نفسه لعل الشاب عاد الى فساده فنفى من المحلة فدق عليها الباب وسألها عن حال الشاب فقالت انه مات فسأله عن حاله فقالت لما قرب اجله قال لا تخبرى الجيران بموتى فلقد آذيتهم فانهم سيشتموننى ولا يحضرون جنازتى فاذا دفنتنى فهذا خاتم لى مكتوب عليه بسم الله الرحمن الرحيم فادفنيه معى فاذا فرغت من دفنى فتشفعى لى الى ربى ففعلت وصيته فلما انصرفت عن رأس القبر سمعت صوته يقول انصرفى يا اماه فقد قدمت على رب كريم ونعم ما قيل ببهانه ميدهد ببها نميدهد قيل ان الحجاج لما احضرته الوفاة كان يقول اللهم اغفر لى فان الناس يزعمون انك لا تفعل ومات بواسط سنة خمس وتسعين وهى مدينته التى انشأها وكان يوم موته يسمى عرس العراق ولم يعلم بموته حتى اشرفت جارية من القصر وهى تبكى وتقول ألا ان مطعم الطعام ومفلق الهام قد مات ثم دفن ووقف رجل من اهل الشام على قبره فقال اللهم لا تحرمنا شفاعة الحجاج وحلف رجل من اهل العراق بالطلاق ان الحجاج فى النار فاستفى طاووس فقال يغفر الله لمن يشاء وما اظنها الا طلقت فيقال انه استفتى الحسن البصرى فقال اذهب الى زوجتك وكن معها فان لم يكن الحجاج فى النار فما يضركما انكما فى الحرام فقد وقفت من هذا المذكور على ان الله تعالى غفور رحيم يغفر لعبده وان جاء بمثل زبد البحر ذنبا فاللازم للعباد الرجاء من الله تعالى

(1/466)

قال الراغب وهذه المنازل الثلاثة التى هى الايمان والمهاجرة والجهاد هى المعنية بقوله { اتقوا الله وابتغوا اليه الوسيلة وجاهدوا فى سبيله } ولا سبيل الى المهاجرة الا بعد الايمان ولا الى جهاد الهوى الا بعد هجران الشهوات ومن وصل الى ذلك فحق له ان يرجو رحمته

واعلم ان الهجرة على قسمين . صورية وقد انقطع حكمها بفتح مكة كما قال عليه السلام « لا هجرة بعد الفتح » ومعنوية وهى السير عن موطن النفس الى الله لفتح كعبة القلب وتخليصها من اصنام الشرك والهوى فيجرى حكمها الى يوم القيامة . وكذا الجهاد فى سبيل الله على قسمين . اصغر وهو الجهاد مع الكفار . واكبر وهو الجهاد مع النفس وانما كان هذا الجهاد اكبر لان غاية الاول اصلاح الظاهر وغاية الثانى اصلاح الباطن وهو اصعب واقوى . وايضا غاية الاول الوصول الى الجنة والرحمة . وغاية الثانى الوصول الى مشاهدة الحق والجمال المطق . وايضا غاية الاول الشهادة . وغاية الثانى الصديقية والصديقون اعلى منزلة من الشهداء كما قال تعالى { فاولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء } فقدم ذكر الصديقين على ذكر الشهداء فاذا وصل المرء الى صلاح النفس بالجهاد الاكبر الذى هو اعز من الكبريت الاحمر يرحم العباد ولا يقصد لهم الضرر حكى ان بعضهم جاء الى بعض المشايخ وخدمه وقال له اريد ان تعلمنى الاسم الاعظم فقال له وفيك اهلية له قال نعم قال اذهب الى باب البلد ثم اخبرنى بما جرى فيه فذهب وجلس على باب البلد فاذ بشيخ حطاب معه حطب على حمار فضربه جندى واخذ حطبه ظلما فلما رجع الرجل الى الشيخ واخبره بالقصة قال له الشيخ لو كنت تعلم الاسم الاعظم ما تصنع بالجندى قال كنت ادعو عليه بالهلاك فقال له الشيخ اعلم ان الحطاب هو الذى علمنى الاسم الاعظم واعلم ان الاسم الاعظم لا يصلح الا لمن يكون على هذه الصفة من الصبر والرحمة على الخلق والشفقة عليهم : قال السعدى قدس سره

مكن تاتوانى دل خلق ريش ... وكرميكنى ميكنى بيخ خويش

ثم ان قلة الكلام من انفع الاشياء فى اصلاح النفس كما ان اللقمة الطيبة انفع فى اصلاح الطبيعة وصفاء القلب : قال فى المثنوى

طفل جان ازشير شيطان بازكن ... بعد ازانش باملك انباز كن

تاتو تاربك وملول وتيره ... دانكه با ديو لعين همشيره

لقمة كونور افزود وكمال ... آن بود آورده از كسب حلال

روغنى كايد جراغ ما كشد ... آب خوانش جون جراغى راكشد

(1/467)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

{ يسألونك } قال ابن عباس رضى الله عنهما ما رأيت قوما كانوا خيرا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سألوه الا عن ثلاث عشرة مسألة كلها فى القرآن ما كانوا يسألونه الا عما ينفعهم وينفع المسلمين { عن الخمر } اى عن حكم تعاطيها بقرينة الجواب لان الحل والحرمة والاثم والطاعة انما هى من عوارض افعال المكلفين ولا اثم فى ذوات الاشياء واعيانها ويدخل فى تعاطى الخمر البيع والشراء وغيرهما مما يدخل تحت التصرف على خلاف الشرع . والخمر مصدر خمره اى ستره كما سميت سكرا لانها تسكرهما اى تحجزهما { و } عن تعاطى { الميسر } مصدر ميمى من يسر كالموعد والمرجع يقال يسرته اذا قمرته واشتقاقه اما من اليسر لانه اخذ المال بيسر من غير كد وتعب واما من اليسار لانه سلب له ويدخل فيه جميع انواع القمار والشطرنج وغيرهما حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب { قل فيهما } اى فى تعاطى الخمر والميسر واستعمالهما { اثم كبير } لما ان الاول مسلبة للعقول التى هى قطب الدين والدنيا مع كون كل منهما متلفة للاموال { ومنافع للناس } من كسب الطرب والمغالاة بثمن الخمر اذا جلبوها من الاطراف وفيها تقوية الضعيف وهضم الطعام والاعانة على الباءة اى الجماع وتسلية المحزون وتشجيع الجبان وتسخية البخيل وتصفية اللون وانطاق الفتى العى وتهييج الهمة . ومنافع الميسر اصابة المال من غير كد ولا تعب وانتفاع الفقراء بلحم الجزور فانهم كانوا يفرقونها على المحتاجين

قال الواقدى وربما قمر الواحد منهم فى مجلس مائة بعير فيصيب مالا عظيما بلا نصب ولا ثمن ثم يعطيه المحتاجين فيكتسب المدح والثناء { واثمهما اكبر من نفعهما } وفى الخمر ايقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهى تسفه الحليم ويصير شاربها بحيث يلعب ببوله وعذرته وقيئه كما ذكر ابن ابى الدنيا انه مر على سكران وهو يبول فى يده ويمسح به وجهه كهيئة المتوضىء ويقول الحمد الله الذى جعل الاسلام نورا والماء طهورا . وفى الميسر انه اذا ذهب ماله من غير عوض ساءه ذلك فعادى صاحبه وقصده بالسوء

قال المفسرون تواردت فى الخمر اربع آيات نزلت بمكة { ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا } فطفق المسلمون يشربونها وهى لهم حلال يومئذ ثم ان عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة رضى الله تعالى عنهم قالوا افتنا يا رسول الله فى الخمر فانها مذهبة للعقل فنزلت { يسألونك عن الخمر والميسر } الآية فشربها قوم وقالوا نأخذ منفعتها ونترك اثمها وتركها آخرون وقالوا لا حاجة لنا فيما فيه اثم كبير ثم ان عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه دعا ناسا منهم فشربوا وسكروا فام احدهم فقرأ قل يا ايها الكافرون اعبد ما تعبدون الى آخر السورة بدون لا فى لا اعبد فنزلت

(1/468)

{ لا تقربوا الصلوة وانتم سكارى } الآية فقل من يشربها وقالوا لا خير فى شىء يحول بيننا وبين الصلاة وشربها قوم فى غير حين الصلاة حتى كان الرجل يشربها بعد صلاة العشاء فيصبح وقد زال عنه السكر ويشرب بعد الصبح فيصحوا اذا جاء وقت الظهر ثم اتخذ عتبان بن مالك ضيافة ودعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن ابى وقاص رضى الله عنه وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى سكروا منها ثم انهم افتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الاشعار فانشد سعد قصيدة فيها هجاء الانصار وفخر لقومه فاخذ رجل لحى البعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة فانطلق سعد الى رسول الله وشكا اليه الانصارى فقال عمر اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا فنزل { انما الخمر والميسر } فى المائدة الى قوله { فهل انتم منتهون } فقال عمر انتهينا يا رب . وحرمت الخمر فى السنة الثالثة من الهجرة بعد غزوة الاحزاب بايام

قال القفال والحكمة فى وقوع التحريم على هذا الترتيب انه تعالى علم ان القوم كانوا ألفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم به كثيرا وعلم انه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم فلا جرم استعمل فى التحرم هذا التدريج وهذا الرفق ثم لما نزل التحريم اريقت الخمر

قال ابن عمر رضى الله عنهما خرجنا بالحباب الى الطريق فمنا من كسر حبه ومنا من غسله بالماء والطين ولقد غودرت ازقة المدينة بعد ذلك حينا كلما مطرت استبان فيها لون الخمر وفاحت منها ريحا وحرمت الخمر ولم يكن يومئذ للعرب عيش اعجب منها وما حرم الله عليهم شيأ اشد من الخمر روى ان جبريل عليه السلام قال للنبى عليه السلام ان الله تعالى شكر لجعفر الطيار رضى الله عنه اربع خصال كان عليها فى الجاهلية وهو عليها فى الاسلام فسأل النبى عليه الصلاة والسلام جعفرا عن ذلك فقال يا رسول الله لولا ان الله اطلعك عليها لما اخبرتك بها ما شربت الخمر قط لانى رأيتها تزيل العقل وانا الى ان ازيد فيه احوج منى الى ان ازيله . وما عبدت صنما قط لانى رأيته لا يضر ولا ينفع . وما زنيت قط لغيرتى على اهلى . وما كذبت قط لانى رأيته دناءة

قال عمرو ابن الادهم من اكابر سادة بنى تميم ذاما للخمر لو كان العقل يشترى ما كان شىء انفس منه فالعجب لمن يشترى الحمق بماله فيدخله فى رأسه فيقىء فى جيبه ويسلح فى ذيله

وعن على رضى الله عنه لو وقعت قطرة فى بئر فبنيت فى مكانها منارة لم اوذن عليها ولو وقعت فى بحر ثم جف فنبت فيه الكلأ لم ارعه

وعن ابن عمر رضى الله عنهما لو ادخلت اصبعى فيها لم تتبعنى وهذا هو الايمان والتقى حقا فينبغى للمسلم ان لا يخطر بباله شرب الخمر فضلا عن شربها وينقطع شاربها فانه اذا خالط شارب الخمر يخاف عليه ان يصيبه من عثاره : قال الحسين الواعظ الكاشى

(1/469)

ترار حمان همى كويدكه اى مؤمن مخورباده ... ترا ترسا همى كويدكه درصفرا مخور حلوا

نمى مانى زنا باكى براى كفته رحمان ... بمانى شهد وشكررا براى كفته ترسا

وعن بعض الصحابة انه قال من زوج ابنته لشارب الخمر فكأنما ساقها الى الزنى معناه ان شارب الخمر يقع منه الطلاق وهو لا يشعر . فالذى يجب على الولى ان لا يزوج ابنته ولا اخته من فاسق ولا ممن يتعاطى المنكرات

واعلم ان خل الخمر حلال ولو بعلاج كالقاء الماء الحار او الملح او الخبز ولا يكره تخليلها وفى الحديث « خير خلكم خل خمركم » هذا هو البيان فى الخمر

واما الميسر فهو القمار والياسر القامر وكان اصل الميسر فى الجزور وذلك ان اهل الثروة من العرب كانوا يشترون جزور او يضمنون ثمنه ولا يؤدونه ليظهر بالقمار انه على من يجب فينحرونها ويجزئونها عشرة اجزاء وقيل ثمانية وعشرين ثم يسهمون عليها بعشرة قداح يقال لها الازلام والاقلام سبعة منها لها انصباء الفذ وله نصيب واحد والتوأم وله نصيبان والرقيب وله ثلاثة والحلس وله اربعة والنافس وله خمسة والمسبل وله ستة والمعلى وله سبعة وثلاثة منها لا انصباء لها وهى المنيح والسفيح والوغد ثم يجعلون القداح فى خريطة تسمى الربابة ويضعونها على يدى عدل عندهم يسمى المجيل والمفيض ثم يجيلها ويجلجلها اى يحركها باليد ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحا قدحا فمن خرج له قدح من ذات الانصباء اخذ النصيب المعين له ومن خرج له قدح مما لا نصيب له وهو الثلاثة لم يأخذ شيأ وغرم ثمن الجزور وكانوا يدفعون تلك الانصباء الى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لا يدخل فيه ويسمونه البرم وهو اللئيم العديم المروءة والكرم فهذا اصل القمار الذى كانت العرب تفعله فنهى المسلمون عنه

واختلف فى الميسر هل هو اسم لذلك القمار المعين او هو اسم لجميع انواع القمار

فقال بعض العلماء المراد من الآية جميع انواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما

وروى أن رجلا خاطر رجلا على ان يأكل كذا كذا بيضة على كذا كذا من المال فقال على رضى الله عنه هذا قمار

وعن ابن سيرين كل شىء فيه خطر فهو من الميسر وعن النبى عليه السلام « اياكم وهاتين الكعبتين المشئومتين فانهما من مياسر العجم » يريدان النرد والشطرنج ميسر يشير به الى انهما حرام

(1/470)

واما السبق فى الخف والحافر والنشاب فخص بدليل : قال السعدى قدس سره

كهل كشتى و همجنان طفلى ... شيخ بودىو همجنان شابى

توببازى نشسته درجب وراست ... ميرسد نير جرخ برتابى

جاى كريه است برمصيبت بير ... كه توكودك هنوز لعابى

والاشارة فى الآية ان خمر الظاهر كما يتخذ من اجناس مختلفة من العنب والتمر والزبيب والحبوب كالحنطة والشعير والذرة فكذلك خمر الباطل من اجناس مختلفة كالغفلة والشهوة والهوى وحب الدنيا وامثالها وهذه خمور تسكر منها النفوس والعقول الانسانية وفيها اثم كبير ولهذا كل مسكر حرام وما يسكر كثيره فقليله حرام . ومنها ما يسكر القلوب والارواح والاسرار فهو شراب الواردات فى اقداح المشاهدات من ساقى تجلى الصفات فاذا دارت على النفوس وانخمدت شهواتها وسكرات القلوب بالمواجيد عن المواحيد والارواح بالشهود عن الوجود والاسرار بلحظ الجمال عن ملاحظة الكمال فهذا شراب نافع للناس حلال فالعجب كل العجب ان قوما اسكرهم وجود الشراب وقوما اسكرهم شهود الساقى كقولهم

فاسكر القوم دور كأس ... وكان سكرى من المدير

وفى المثنوى

ما اكر قلاش اكر ديوانه ايم ... مست آن ساقى و آن بيمانه ايم

مست مى هشيار كردد ازدبور ... مست حق نايد بخود ازنفخ صور

جرعه جون ريخت ساقئ الست ... برسراين شوره خاك زير دست

جوش كرد آن خاك وما زان جوششيم ... جرعه ديكر كه بس بى كوششيم

واتم الاعراض عن كؤس الوصال فى النهاية اكبر من نفع الطالب الف سنة فى البداية وكما ان سكران الخمر ممنوع من الصلاة فسكران الغفلة والهوى محجوب عن المواصلات واما اثم الميسر فهو ان آثار القمار هى شعار اكثر الديار فى سلوك طريق الحيل والخداع بالفعل والكذب والفحش فى المقال وانه كبير عند الاخيار بعيد عن خصال الابرار واما نفعه فعدم الالتفات الى الكونين وبزل نقوش العالمين فى فردانية نقش الكعبتين واثمهما اكبر من نفعهما لان اثمهما للعوام ونفعهما للخواص والعوام اكثر من الخواص وقليل ما هم كذا فى التأويلات النجمية قدست نفسه الزكية { ويسألونك ماذا ينفقون } هو كما يصلح سؤالا عن جنس المنفق يصلح سؤالا عن كميته وقدره فانه لما نزل قوله تعالى { قل ما انفقتم من خير فللوالدين } قال عمرو بن الجموح ما انفق فنزل قوله { قل العفو } اى انفقوا العفو وهو نقيض الجهد وهو المشقة ونقيضه اليسر والسهولة فكأنه قيل قل انفق ما سهل وتيسر ولم يشق عليك انفاقه فالعفو من المال ما يسهل انفاقه والجهد من المال ما يعسر انفاقه والقدر المنفق انما يكون انفاقه سهلا اذا كان فاضلا عن حاجة نفسه وعياله ومن عليه مؤونته { كذلك } اى مثل ما بين ان العفو اصلح من الجهد والكاف فى محل النصب صفة لمصدر محذوف اى تبيينا مثل هذا التبيين وافراد حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين باعتبار القبيل او الفريق او القوم مما هو مفرد اللفظ ومجموع المعنى { يبين الله لكم الآيات } الدالة على الاحكام الشرعية لا بيانا ادنى منه وتبيين الآيات تنزيلها مبينة الفحوى واضحة المدلول لا انه تبيينها بعد ان كانت مشتهبة وملتبسة { لعلكم تتفكرون فى الدنيا والآخرة } اى لكى تتفكروا فى امور الدارين فتأخذوا بما هو اصلح لكم واسهل فى الدنيا وانفع فى العقبى وتتجنبوا عما يضركم فى العقبى

(1/471)

قال البغوى يبين الله لكم الآيات فى امر الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون فى زوال الدنيا وفنائها فتزهدوا وفى اقبال الآخرة وبقائها فترغبوا فيها وهذه الآية ترغب فى التصدق لكن بشرط ان يكون ذلك من فضل المال وعفوه وعن النبى عليه السلام ان رجلا اتاه ببيضة من ذهب اصابها فى بعض المغازى فقال يا رسول الله خذها منى صدقة فوالله لقد اصبحت ما املك غيرها فاعرض عنه رسول الله فاتاه من الجانب الايمن فقاله مثله فاعرض عنه ثم اتاه من الجانب الايسر فاعرض عنه فقال « هاتها » مغضبا فاخذها منه فحذفها حذفا لو اصابه لشجه او عقره ثم قال « يجيئ احدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس انما الصدقة عن ظهر غنى خذها فلا حاجة لنا فيها » وفى لفظ العفو اشارة الى ان ما يعطيه المرء ينبغى ان يعفو اثره عن قلبه عند الانفاق يعنى بطيب القلب لان اصل العفو المحو والطمس ثم الاخراج عن فاضل الاموال على قدر الكفاية طريقة الخواص . فاما خاص الخاص فطريقهم الايثار وهو ان يؤثر غيره على نفسه وبه فاقه الى ما يخرج وان كان صاحبه الذى يؤثر به غنيا قال الله تعالى { ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة } وعن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه قال امرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ان نتصدق ووافق ذلك مالا عندى فقلت اليوم اسبق ابا بكر رضى الله عنه فجئت بنصف مالى فتصدقت به فقال لى رسول الله « ما ابقيت لاهلك يا عمر » قلت نصف مالى يا رسول الله ثم قال لابى بكر « ما ابقيت لاهلك » قال ابقيت لهم الله ورسواله فقلت لا اسابقك بشىء بعدها روى ان النبى عليه السلام قال عند ذلك « ما بينكما ما بين كلاميكما » ومنه يعرف فضل ابى بكر على عمر لكن الفاضلية من وجه لا تنافى المفضولية من وجه آخر فان الكامل ليس يلزمه ان يكون كاملا فى جميع الامور وانما التقدم والتأخر بالنظر الى العلم بالله

قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره كان ابو بكر غالب المعرفة وعمر غالب الشريعة وعثمان غالب الطريقة وعلى غالب الحقيقة وان كانوا كاملين فى المراتب الاربع انتهى كلامه : قال الحسين الواعظ الكاشى

(1/472)

مايه توفيق كرم كردن است ... كنج يقين ترك درم كردن است

زادره مرك زنان دادن است ... زندكى عشق زجان دادن است

فسخاوة العوام اعطاى المال وسخاوة الخواص بذل الروح وهو قليل

هست جوانمرد درم صد هزار ... كار جو باجان فتد آنست كار

وحث النبى عليه السلام اصحابه على الصدقة فجعل الناس يتصدقون وكان ابو امامة الباهلى جالسا بين يديه عليه السلام وهو يحرك شفتيه فقال له النبى عليه السلام « ماذا تقول حيث تحرك شفتيك » قال انى ارى الناس يتصدقون وليس معى شىء اتصدى به فاقول فى نفسى سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر فقال صلى الله تعالى عليه وسلم « هؤلاء الكلمات خير لك من مد ذهبا تتصدق به على المساكين »

تازنده ايم ذكر لبش در زبان ماست ... يا دش انيس ومونس جان وروان ماست

يروى ان اول من قال سبحان الله جبريل عليه السلام وذلك انه لما خلقه الله وقع نظره على العرش وعظمته فقال سبحان الله فمن قالها نال ثواب جبريل . واول من قال الحمد لله آدم الصفى عليه الصلاة والسلام حين نفخ فيه الروح فمن قالها نال نصيبا من فضل آدم . واول من قال لا اله الا الله نوح النجى عليه السلام حين مشاهدة الطوفان وشدة البلاء فمن قالها اخذ حظا وافرا من ثواب نوح . واول من قال الله اكبر ابراهيم الخليل عليه السلام حين شاهد فداء اسماعيل وهو الكبش فمن قالها نال فيضا من فيض ابراهيم اللهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين آمين يا رب العالمين { ويسألونك عن اليتامى } اى عن مخالطتهم لان السؤال عن الشىء ينصرف الى ما هو معظم المقصود منه وهو ههنا المخالطة والكفالة وذلك بعد نزول قوله تعالى { ان الذين يأكلون اموال اليتامى ظلما } فتركوا مخالطتهم ومؤاكلتهم حتى لو كان عند رجل يتيم يجعل له بيتا على حدة وطعاما على حدة وعزلوا اموال اليتامى عن اموالهم وكان يصنع لليتيم طعام فيفضل منه شىء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد فاشتد ذلك عليهم فقال عبد الله بن رواحة يا رسول الله ما لكلنا منازل يسكنها اليتامى ولا كلنا نجد طعاما وشرابا نفردهما لليتيم فزلت هذه الآية { قل اصلاح لهم } اى مداخلتهم على وجه الاصلاح لهم ولاموالهم { خير } من مجانبتهم وترك الخلطة والنظر عليهم . واصلاح مصدر حذف فاعله تقديره واصلاحكم لهم خير للجانبين اى جانبى المصلح والمصلح له اما الاول فلما فيه من الثواب واما الثانى فلما فيه من توافر اموال اليتامى والتزايد { وان تخالطوهم } وتعاشروهم على وجه ينفعهم { فاخوانكم } اى فهم اخوانكم فى الدين الذى هو اقوى من العلاقة النسبية ومن حق الاخ ان يخالط الاخ بالاصلاح والنفع

قال ابن عباس رضى الله عنهما المخالطة ان تأكل من تمره ولبنه وقصعته وهو يأكل من تمرك ولبنك وقصعتك وهذا اذا اصاب من مال اليتيم بقدر عمله له او دونه فلا يزيد على اجر مثله وقد قال تعالى

(1/473)

{ ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } وقد تكون المخالطة بخلط المال وتناول الكل منه وهو منهى شرعا

قال ابو عبيد هذه الآية عندى اصل لما يفعله الرفقاء فى الاسفار فانهم يتخارجون النفقات بينهم بالسوية وقد يتفاوتون فى قلة المطعم وكثرته وليس كل من قل مطعمه تطيب نفسه بالتفضل على رفيقه فلما كان هذا فى اموال اليتامى واسعا كان فى غيرهم اوسع ولولا ذلك لخفت ان يضيق فيه الامر على الناس وقد حملت المخالطة على المصاهرة وهو ان يكون ابنا فيزوجه ابنته او تكون بنتا فيزوجها ابنه فتتأكد الالفة ويخلطه بنفسه وبعشيرته ايناسا لوحشته وازالة لوحدته وهو مروى عن الحسن { والله يعلم } بمعنى المعرفة المتعدية الى واحد { المفسد } لمال اليتيم { من المصلح } لماله اى لا يخفى على الله من داخلهم بافساد واصلاح فيجازيه على حسب مداخلته فاحذروه ولا تتحروا غير الاصلاح وفى تقديم المفسد مزيد تهديد ومن لتضمين العلم معنى التمييز اى يعلم من يفسد فى امورهم عند المخالطة مميزا له ممن يصلح فيها { ولو شاء الله } اعناتكم وهو الحمل على ولا يطيقه { لاعنتكم } لحملكم على العنت وهو المشقة فلم يطلق لكم مداخلتهم يقال عنت فلان اذا وقع فى امر يخاف منه التلف { ان الله عزيز } غالب يقدر على الاعنات { حكيم } يحكم ما تقتضيه الحكمة وتسع له الطاقة وهو دليل على ما يفيده لمة لو من انتفاء مقدمها

واعلم ان مخالطة الايتام من اخلاق الكرام وفى الترحم عليهم فوائد جمة قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم « من وضع يده على رأس يتيم ترحما عليه كانت له بكل شعرة تمر عليها يده حسنة » وفى الحديث « ثلاثة فى ظل عرش الله يوم القيامة امرأة مات عنها زوجها وترك عليها يتامى صغارا فخطبت فلم تتزوج وقالت اقيم على اليتامى حتى يغنيهم الله او يموت » يعنى اليتيم « او هى ورجل له مال صنع طعاما فاطاب صنيعه واحسن نفقته فدعا اليه اليتيم والمسكين وواصل الرحم يوسع له فى رزقه ويمد له فى اجله ويكون تحت ظل عرشه » قال الله تعالى ( يا موسى كن لليتيم كالاب الرحيم وكن للارامل كالزوج الشفيق وكن للغريب كالاخ الرفيق اكن لك كذلك ) : قال الحافظ

تميار غريبان سبب ذكر جميلست ... جانا مكراين قاعده درشهر شمانيست

وفى الحديث « انا وكافل اليتيم » اى القائم بمصالحه سواء كان من مال نفسه ام من مال اليتيم وسواء كان اليتيم قريبا ام لا

(1/474)

« كهاتين فى الجنة » واشار بالسبابة والوسطى يعنى ان كافل اليتيم يكون فى الجنة مع حضرة النبى عليه الصلاة والسلام لا ان درجته تبلغ درجته : قال الشيخ سعدى قدس سره

جو بينى يتيمى سرافكنده ييش ... مده بوسه برروى فرزند خويش

ألا تانكريد كه عرش عظيم ... بلرزد همى جون بكريد يتيم

ويجتنب كل الاجتناب عن اخلال حق من حقوقه واكل حبة من ماله وعن ظلمه وقهره يحكى ان رستم بن زال بارز مع اسنفديار فلم يقدر عليه مع زيادة قوته وكان اسفنديار يجرحه فى كل حمل دون رستم وكان بدن اسفنديار كجلد السمك لا يعمل فيه شىء ثم ان رستم تشاور مع ابيه زال فى ذلك فقال له ابوه انك لا تقدر عليه الا ان تعمل سهما ذا فقارين وتصيب به عينى اسفنديار ففعل ذلك فرمى فاصاب فغلب عليه بذلك فيحكى فى سبب ذلك ان اسفنديار كان قد ضرب فى شبيبته يتيما بغصن ففقأ به عينه وابكاه ثم ان اليتيم اخذ ذلك الغصن وغرسه فلما صار شجرا اخذ رستم غصنا من اغصانه ونحت منه سهمه الذى اصاب به عينى اسنفديار

ويؤدب اليتيم الذى فى حجره كتأديبه ولده فانه مسئول عنه يوم القيامة ويصلح حاله

والتأديب على انواع . منها الوعيد . ومنها الضرب . ومنها حبس المنافع والعطية والبر فان بين النفوس تفاوتا فنفس تخضع بالغلظة والشدة ولو استعملت معها الرفق والبر لافسدها ونفس بالعكس وقد جعل الله الحدود والتعزير لتأديب العباد على قدر ما يأتون من المنكر فادب الاحرار الى السلطان وادب المماليك والاولاد الى السادات والآباء وهو مأجور على التأديب ومسئول عنه قال الله تعالى { قوا انفسكم واهليكم نارا } وفى الحديث « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته » وفى قوله تعالى { وان تخالطوهم فاخوانكم } اشارة الى ان المرء ينبغى ان يتعود الاكل مع الناس فان شر الناس من اكل وحده وفى الحديث « ان من احب الطعام الى الله ما كثرت عليه الايدى » ذكره فى العوارف وذكر فى المصابيح ان اصحاب النبى عليه السلام قالوا يا رسول الله انا نأكل ولا نشبع قال « لعلكم تفترقون » قالوا نعم قال « فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله تعالى » ومن اللطائف ما يحكى انه قيل لجمين صاحب النوادر أتغديت عند فلان قال لا ولكن مررت ببابه وهو يتغدى فقيل كيف علمت قال رأيت غلمانه بايديهم قسى البنادق يرمون الطير فى الهواء قيل لبخيل من اشجع الناس فقال من يسمع وقع اضراس الناس فلا تنشق مرارته وفى الحديث « من اضاف مؤمنا فكأنما اضاف آدم ومن اضاف اثنين فكانما اضاف آدم وحواء » كذا فى الرسالة العلية لحسين الواعظ

(1/475)

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

{ ولا تنكحوا } بفتح التاء اى لا تتزوجوا { المشركات } اى الحربيات فان الكتابيات وان كانت من المشركات الا انه يجوز تزوجها عند الجمهور استدلالا بقوله تعالى فى سورة المائدة { والمحصنات من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم } وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شىء اصلا { حتى يؤمن } اى يصدقن بالله وبمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم روى انه عليه السلام بعث مرثدا الغنوى الى مكة ليخرج منها اناسا من المسلمين سرا فاتته عتاق وكان يهواها فى الجاهلية فقالت ألا تخلو فقال ان الاسلام حال بيننا فقالت هل لك ان تتزوج بى فقال نعم ولكن استأمر رسول الله عليه السلام فاستأمره فنزلت { ولأمة مؤمنة } مع ما بها من خساسة الرق وقلة الخطر { خير } بحسب الدين والدنيا { من مشركة } اى امرأة مشركة مع مالها من شرف الحرية ورفعة الشأن { ولو اعجبتكم } تلك المشركة بجمالها ومالها ونسبها وبغير ذلك من مبادى الاعجاب وموجبات الرغبة والواو للحال ومعنى كونها للحال كونها عاطفة لمدخولها على حال محذوفة قبلها والتقدير خير من مشركة على كل حال ولو فى هذه الحالة والمقصود من مثل هذا التركيب استقصاء الاحوال

وفى تفسير الكواشى لو هنا بمعنى ان وكذا كل موضع وليها الفعل الماضى وكان جوابها مقدما عليها والمعنى وان كانت المشركة تعجبكم وتحبونها فان المؤمنة خير لكم { ولا تنكحوا } بضم التاء من الانكاح { المشركين } اى الكفار اعم من الوثنى وغيره اى لا تزوجوا منهم المؤمنات سواء كن حرائر ام اماء { حتى يؤمنوا } ويتركوا ما هم عليه من الكفر

قال ابن الشيخ فى حواشيه اى لا تزوجوهم الصغيرات من نباتكم ومن فى حكمهن ممن هو تحت ولايتكم ولا تزوج البالغات من المؤمنات منهم انفسهم فقوله ولا تنكحوا من قبيل تغليب الذكور على الاناث ولا خلاف فى هذا الحكم فان المشرك هنا باق على همومه ولا يحل تزويج المؤمنة من الكافر البتة على اختلاف انواع الكفر { ولعبد مؤمن } مع ما به من ذل المملوكية { خير من مشرك } مع ما به من عز المالكية { ولو اعجبكم } بماله وجماله وخصاله { اولئك } المذكورون من المشركين والمشركات { يدعون } من يقارنهم ويعاشرهم { الى النار } اى الى ما يؤدى اليها من الكفر والفسوق فلا بد من الاجتناب عن مقارنتهم ومقاربتهم { والله } اى واولياؤه يعنى المؤمنين حذف المضاف واقام المضاف اليه مقامه تفخيما لشأنهم { يدعوا الى الجنة والمغفرة } اى الى الاعتقاد الحق والعمل الصالح الموصلين اليهما فهم الاحقاء بالمواصلة { باذنه } متعلق بيدعو اى يدعو ملتبسا بتوفيقه الذى من جملته ارشاد المؤمنين لمقارنيهم الى الخير ونصيحتهم اياهم { ويبين آياته } المشتملة على الاحكام الفائقة والحكم الرائقة { للناس لعلهم يتذكرون } اى لكى يتذكروا ويعملوا بما فيه فيفوزوا بما دعوا اليه من الجنة والغفران وايراد التذكر ههنا للاشعار بانه واضع لا يحتاج الى التفكر كما فى الاحكام السابقة ففى الآية نهى مواصلة الكفار وترغيب فى مواصلة المؤمنين ولا ينبغى للمؤمن ان تعجبه المشركة بمالها وجمالها فان من المسلمات من تدفع التعجب

(1/476)

وفى المحيط مسلم رأى نصرانية سمينة وتمنى ان يكون هو نصرانيا حتى يتزوجها يكفر وهذا من حماقته فان السمان الحسنة كثيرة فى الملة الحنيفية ولكن علة الضم هى الجنسية كما قال تعالى { الزانى لا ينكح } الا زانية او مشركة وميل الطباع القذرة الى الدنيا العذرة قال تعالى { الخبيثات للخبيثين والطيبات للطيبين } ونعم ما قيل

همه مرغان كندبا جنس يرواز ... كبوتر با كبوتر بازباباز

ومن بلاغات الزمخشرى لا ترض لمجالستك الا اهل مجانستك اى لا ترض ان يكون لك جليس من غير جنسك فان العذاب الشديد ليس الا هو

قال فى اسئلة الحكم واما اختلاف الاخلاق فمن تعارف الارواح بعضها ببعض فى عالم الارواح قبل تلاقى الاشباح فى عالم الشهادة فمن تعارف روحه بروح صالح صلح بتعارفه الازلى فمن هنا اختلاف الاخلاق صلاحها وفسادها فلا بد من مناسبة اما من الجهة الجسمانية او من الجهة الروحانية فالجهة الجسمانية راجعة الى قابلية الطين والطبيعة الروحانية راجعة الى المناسبة الروحانية السابقة انتهى

قال الامام السخاوى فى المقاصد الحسنة عند قوله عليه السلام « لارواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف » سبب ورود هذا الحديث ما روته عائشة رضى الله عنها ان امرأة كانت بمكة تدخل على نساء قريش تضحكهن فلما هاجرن ووسع الله تعالىدخلت المدينة قالت عائشة فدخلت على فقلت لها فلانة الى من قدمت قالت اليكن قلت فأين نزلت قالت على فلانة امرأة كانت تضحك بالمدينة قالت عائشة ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال « فلانة المضحكة عندكم » قالت عائشة نعم قال « فعلى من نزلت » قالت على فلانة المضحكة قال « الحمد لله ان الارواح » الخ : قال بعضهم

بينى وبينك فى المحبة نسبة ... مستورة عن سر هذا العالم

نحن اللذان تحاببت ارواحنا ... من قبل خلق الله طينة آدم

انتهى كلام السخاوى : قال الحسين الكاشفى

جاذب هر جنس راهم جنس دان ... جنس برجنس است عاشق جاودان

وفى المثنوى

تلخ باتلخان يقين ملحق شود ... كىدم باطل قرين حق شود

طيبات آمد بسوى طيبين ... مر خبيثين را خبيثا تست هين

واعلم انه ركز فى العقول الميل الى الخير ومخالفة الشر فللعاقل ان يتذكر فان من كان بصيرا بنفسه ومتأملا فى حاله ينقطع عن اخوانه الداعين الى خلاف الحق ويصيخ الى داعى الهوى وقد قال بعض كتار العجم ( الله بسى باقى هوس ) قال تعالى { انا جعلنا ماعلى الارض زينة لها لنبلوهم ايهم احسن عملا } والمقربون قد فروا الى الله تعالى من جميع ما فى ارض الوجود ولم يلتفتوا الى شىء سوى وجهه الكريم ولم يريدوا من المولى غير المولى فكانوا احسن نية وعملا وهذا صراط مستقيم اللهم الهمنا رشدنا واعدنا من شر نفسنا انك انت المجيب

(1/477)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)

{ ويسألونك } لعل حكاية الاسئلة الثلاثة بالواو وحكاية ما عداها بغير عطف انهم سألوا عن هذه الحوادث فى وقت واحد فكأنه قيل يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر والسؤال عن الانفاق والسؤال عن كذا وعن كذا بخلاف ما عداها فانهم سألوها فى اوقات متفرقة { عن المحيض } مصدر كالمجيئ والمبيت والحيض هو اللوث الخارج من الرحم فى وقت معتاد والسؤال فيه نوع ابها الا انه تبين بالجواب ان سؤالهم كان عن مخالطة النساء فى حالة الحيض { قل هو اذى } اى الحيض شىء مستقذر مؤذ من يقربه نفرة منه وكراهة له روى ان اهل الجاهلية كانوا لا يساكنون الحيض ولا يؤاكلوهن كدأب المجوس واليهود واستمر الناس على ذلك الى ان سأل عن ذلك ابو الدحداح فى نفر من الصحابة فقال يا رسول الله كيف نصنع بالنساء اذا حضن أنقربهن ام لا فنزلت { فاعتزلوا النساء فى المحيض } المحيض هنا اسم لمكان ظهور الحيض وهو الفرج اى فاجتنبوا مجامعتهن لما روى ان المسلمين اخذوا بظاهر الاعتزال فأخرجوهن من بيوتهم فقال ناس من الاعراب يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة فان آثرناهن هلك سائر اهل البيت وان استأثرنا بها هلكت الحيض فقال صلى الله عليه وسلم « انما امرتم ان تعتزلوا مجامعتهن اذا حضن ولم يأمركم باخراجهن من البيوت كفعل الاعاجم » وهو الاقتصاد بين افراط اليهود وتفريط النصارى فانهم كانوا يجامعوهن ولا يبالون بالحيض { ولا تقربوهن } بالجماع { حتى يطهرن } من الحيض او ينقطع دمهن فذهب ابو حنيفة رحمه الله الى ان له ان يقربها اذا كانت ايامها عشرة بعد انقطاع الدم وان لم تغتسل وفى اقل الحيض لا يقربها حتى تغتسل او يمضى عليها وقت صلاة { فاذا تطهرن } اى اغتسلن فان التطهر هو الاغتسال { فائتوهن من حيث امركم الله } اى من المأتى الذى حلله لكم وهو القبل { ان الله يحب التوابين } من الذنوب { ويحب المتطهرين } المتنزهين عن الفواحش والاقذار كمجامعة الحائض والاتيان فى غير المأتى

(1/478)

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

{ نساؤكم حرث لكم } اى مواضع حرث لكم شبهن بها لما بين ما يلقى فى أرحامهن من النطف وبين البذور من المشابهة من حيث ان كلا منهما مادة لما يحصل منه . والفرق بين الحرث والزرع ان الحرث القاء البذر وتهيئة الارض والزرع مراعاته وانباته ولهذا قال تعالى { افرأيتم ما تحرثون ءانتم تزرعونه ام نحن الزارعون } فأثبت لهم الحرث ونفى عنهم الزرع { فائتوا حرثكم } لما عبر عنهن بالحرث عبر عن مجامعتهن بالاتيان { أنى شئتم } أنى هنا بمعنى كيف اى كيف شئتم ومن أى شق وجهة اردتم بعد ان يكون المأتى واحدا وهو موضع الحرث لان الدبر ليس موضع الحرث فلم يمكن حمل قوله أنى شئتم على التخيير فى الامكنة حتى يجوز اتيان النساء فى ادبارهن فيكون محمولا على التخيير فى الكيفيات ويدل على هذا ما روى فى سبب نزول الآية من ان اليهود كانوا يزعمون ان من اتى امرأته فى قبلها من دبرها يأتى ولده احول فذكر ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت الآية ردا عليهم ببيان ان المقصود من عقد النكاح هو اتيان موضع الحراثة على أى كيفية كانت وفى الحديث « ملعون من اى امرأته فى دبرها » وهو اللواطة الصغرى والاتيان فى دبر الذكر اكبر لواطة منه

قال الامام من قبل غلاما بشهوة فكأنما زنى بامه سبعين مرة ومن زنى مع امه مرة فكأنما زنى بسبعين بكرا ومن زنى مع البكر مرة فكانما زنى بسبعين الف امرأة وحكم اللواطة التعزير والحبس فى السجن حتى يتوب وعندهما يحد حد الزنى فيجلد ان لم يكن محصنا ويرجم ان كان محصنا { وقدموا لانفسكم } من الاعمال الصالحة ما يكون الثواب الموعود له ذخيرة محفوظة لكم عند الله ليوم احتياجكم اليه ولا تكونوا فى قربانهن على قيد قضاء الشهوة بل كونوا فى قيد تقديم الطاعة مع ملاحظة الحكم المقصود من شرع النكاح وهو الولد { واتقوا الله } بالاجتناب عن معاصيه التى من جملتها ما عد من الامور { واعلموا انكم ملاقوه } الهاء راجع الى الله تعالى فلا بد من حذف مضاف اى ملاقوا جزائه فتزودوا ما لا تفضحون به { وبشر } يا محمد { المؤمنين } الذين تلقوا ما خوطبوا به من الاوامر والنواهى بحسن القبول والامتثال بما يقصر عنه البيان من الكرامة والنعيم المقيم

درامان خانه ايمان بنشين ايمن باش ... كرامان بايدت البته مروزين مأمن

فالعلامة فى ذلك ان الذى يكون ايمانه عطاء يمنعه ايمانه من الذنوب ويرغبه فى الطاعات والذى هو رعاية لا يمنعه من الذنوب ولا يرغبه فى الطاعات اى لا يحثه على الطاعات لانه لا تدبير له فى مكان هو فيه عارية اى لا يستقر الايمان فى مكان هو فيه عارية وفى قوله تعالى { واعلموا انكم ملاقوه } اشارة الى ان على المرء ان يتذكر مرجعه ومصيره ويتدارك ما ينتفع به فى معاده من الاعمال الصالحة واقل المرتبة العمل للآخرة .

(1/479)

واما اعلى المراتب وافضل المقاصد والمطالب فالله تعالى كما قال تعالى { قل الله ثم ذرهم فى خوضهم يلعبون } وذلك لان العمل لله تعالى لا لطلب الجنة ولا لخوف النار

وفى التأويلات النجمية كما ان للنساء محيضا فى الظاهر وهو سبب نقصان ايمانهن لمنعهن عن الصلاة والصوم فكذلك للرجال محيض فى الباطن هو سبب نقصان ايمانهم لمنعهم عن حقيقة الصلاة وهى المناجاة وعن حقيقة الصوم وهى الامساك عن مشتهيات النفس وكما ان المحيض هو سيلان الدم من الفرج فكذلك الهوى هو غلبات دواعى الصفات البشرية والحاجات الانسانية فكلما غلب الهوى تكدر الصفا وحصل الاذى وقد قيل قطرة من الهوى تكدر بحرا من الصفا فحينئذ منعت النفس عن الصلاة والصوم فى الحقيقة وان كانت مشغولة بهما . وطبقات المؤمنين ثلاث العوام والخواص وخاص الخاص . اما العوام فلما كانوا اهل الغيبة عن الحقيقة ابيح لهم السكون الى اشكالهم اذا كان على وصف الاذن وقيل لهم { نساؤكم حرث لكم فائتوا حرثكم } انى شئتم واما الخواص فلما كانوا بوصف الحضور يلزم عليهم المساكنة الى امثالهم وقيل لهم { قل الله ثم ذرهم } فهم سلكوا مسالك التفريد حتى وصلوا الى كعبة التوحيد . واما خاص الخاص فهم الرجال البالغون الواصلون الى عالم الحقيقة المتصرفون فيما سوى الله بخلافة الحق فهم رجال الله وما دون الله نساؤهم فقيل لهم { نساؤكم حرث لكم فائتوا حرثكم انى شئتم } فهم الانبياء وخواص الاولياء فكما ان الدنيا مزرعة الآخرة لقوم فالدنيا والآخرة مزرعتهم ومحرثهم يحرثون فيها انى شاؤوا وكيف شاؤا وما يشاؤن الا ان يشاء الله فقد فنيت مشيئتهم فى مشيئة الله وبقيت قدرة تصرفهم بتقويته فيقدمون لانفسهم لا بانفسهم بل هو المقدم لما يقدمون وهو المؤخر لما يؤخرون ثم قال { واتقوا الله واعلموا انكم ملاقوه } يعنى يا خواص الاولياء المتصرفين فى حرث الدنيا والآخرة اتقوا الله بالله فانكم ملاقوا الله لا يحجبكم عنه شىء { وبشر المؤمنين } بأنهم ملاقوا الله ايضا ان اتقوا الله بالله يعنى مرتبة الخواص الاولياء ميسرة للمؤمنين اذا عسوا فى طلبها حق سعيها : قال الحافظ

جمال يا رندارد نقاب وبرده ولى ... غبار ره بنشان تانظر توانى كرد

(1/480)

وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)

{ ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم ان تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس } روى ان بشير ابن نعمان الانصارى كان قد طلق زوجته التى هى اخت عبد الله بن رواحة واراد ان يتزوجها بعد ذلك وكان عبد الله قد حلف على ان لا يدخل على بشير ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين اخته فاذا قيل له فى ذلك قال قد حلفت بالله ان لا افعل ولا يحل لى الا ان لا احفظ يمينى وابر فيه فانزل الله تعالى هذه الآية . والعرضة فعلة بمعنى المعروض جعل اسما لما يعرض دون الشىء اى يجعل قدامه بحيث يصير حاجزا ومانعا منه من عرض العود على الاناء اى جعل العود على الاناء وستره به بحيث يكون حاجزا وحائلا بين الاناء وما يتوجه اليه والمعنى لا تجعلوا ذكر الله والحلف به مانعا لما حلفتم عليه من انواع الخير كالبر والاتقاء والاصلاح فان الحلف بالله لا يمنع ذلك فيكون لفظ الايمان مجازا مرسلا عن الخيرات المحلوف عليها سمى المحلوف عليه يمينا لتعلق اليمين به واللام فى لأيمانكم متعلق بقوله عرضة تعلق المفعولية لا تعلق العلية لان العرضة ما عرضته دون الشىء فاعترضه اى ما تجعله انت قدام شىء آخر فيقع قدامه فيكون المعنى لا تجعلوا الحلف بالله شيأ عرض او وقع قدام المحلوف عليه الذى هو البر والخير ويصير مانعا من الاتيان به وان تبروا عطف بيان لايمانكم اى للامور المحلوف عليها التى هى البر والتقوى والاصلاح { والله سميع } لايمانكم { عليم } بنياتكم حتى ان تركتم الحلف تعظيما لله واجلالا له من ان تستشهدوا باسمه الكريم فى الاغراض العاجلة يعلم ما فى قلوبكم ونيتكم فحافظوا على ما كلفتموه وفى المثنوى

ازبى آن كفت حق خودرا سميع ... تاببندى لب زكفتار شنيع

ازبى آن كفت حق خودرا بصير ... كه بود ديدويت هردم نذير

امبى آن كفت حق خودرا عليم ... تانينديشى فسادى توزبيم

والآية عامة فى كل من كان يحلف بالله ان لا يحسن لاحد ولا يتقى من العصيان فيعمل ما اشتهت نفسه وان لا يصلح بين الناس اذا وقع فيهم العداوة والبغضاء فكانه قال تعالى كل ذلك خير وطاعة لا يمنعها حلفكم فان حلفتم عليها فلتكفروا عن حلفكم ولتفعلوا تلك الخيرات من البر والتقوى والاصلاح بين الناس ولا تقولوا نحن حلفنا بالله فنخاف من اليمين به ان نفعله فنحنث فى يميننا فالحنث اولى من البر فيما يتعلق بالبر والتقوى والاصلاح قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم « من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذى هو خير »

(1/481)

والكفارة قبل اليمين غير جائزة وبعد الحنث واجبة اتفاقا . ولا تجوز قبل الحنث بعين اليمين عند اسحق رحمه الله

وفى الشرعة ولا يروج سلعته اى متاعه بالحلف لا صادقا ولا كاذبا لانه ان كان كاذبا فقد جاء باليمين الغموس وهى من الكبائر التى تزر الديار بلاقع وان كان صادقا قد جعل الله عرضة لايمانه واساء فيه اذ الدنيا اخس من ان يقصد تروجها بذكر الله من غير ضرورة ومن حلف بالله فى كل قليل وكثير انطلق لسانه بذلك ولا يبقى اليمين فى قلبه فلا يؤمن اقدامه على الايمان الكاذبة فيختل ما هو الغرض الاصلى من اليمين وفى الخبر « ويل للتاجر من بلى والله ولا والله »

وفى بستان العارفين ويكره ان يصل على النبى عليه السلام فى عرض السلعة فيقول صلى الله على محمد ما اجود هذا وقال عليه السلام « التجار هم الفجار » قيل ولم يا رسول الله وقد أحل الله البيع فقال « لانهم يحلفون ويأثمون ويتحدثون فيكذبون » ولا يحلف على الله بشىء نحو ان يقول والله ليفعلن الله كذا ولو اقسم ولى الله مثل القسم المذكور لا يراه الله وصدقه فى يمينه كرامة له

وكان ابو حفص رحمه الله يمشى ذات يوم فاستقبله رستاقى مدهوش فقال له ابو حفص ما اصابك قال ضل حمارى ولا املك غيره فوقف ابو حفص وقال وعزتك لا اخطو خطوة ما لم ترد حماره فظهر الحمار فى الوقت كذا فى شرح المشارق

(1/482)

لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

{ لا يؤاخذكم الله باللغو } اللغو ما سقط من الكلام عن درجة الاعتبار يقال لغا لغوا اذا قال باطلا { فى ايمانكم } جمع يمين وهو الحلف وسميت بها لمعنيين . احدهما انها من اليمين التى هى اليد اليمنى وكانوا اذا تحالفوا فى العهود تصافحوا بالايمان فسميت بذلك . والثانى ان اليمين هى القوة قال تعالى { لأخذنا منه باليمين } وسميت به لان الحالف يتقوى بيمينه على حفظ ما حلف عليه من فعل او ترك والمراد باللغو فى الايمان ما لا عقد معه ولا قصد وهو ان يحلف الرجل بالله على شىء يظن انه صادق فيه وليس كذلك سواء كان الذى يحلف عليه ماضيا او غيره فليس له اثم ولا كفارة هذا عند ابى حنيفة واما عند الشافعى فلغو اليمين ما سبق اليه اللسان بلا قصد الحلف نحو لا والله وبلى والله مما يوكدون به كلامهم من غير اخطار الحلف بالبال ولو قيل لواحد منهم سمعتك تحلف فى المسجد الحرام لانكر ذلك ولعله قال لا والله الف مرة . وفى الآية معنيان احدهما لا يعاقبكم الله باللغو فى ايمانكم ظنا انكم صادقون فيه { ولكن يؤاخذكم } المؤاخذة مفاعلة من الاخذ وهى المعاقبة ههنا { بما كسبت قلوبكم } انطوت عليه واقترفت قلوبكم من قصد الاثم بالكذب فى اليمين وهو ان يحلف الرجل على ما يعلم انه خلاف ما يقوله وهى اليمين الغموس وسميت بالغموس لانغماس لانغماس صاحبها فى الاثم بها . وثانيهما لا تلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذى لا قصد معه ولكن تلزمكم الكفارة بما نوت قلوبكم وقصدت من اليمين لا بكسب اللسان وحده

وفى التيسير ان هذه الآية فى مؤاخذة الآخرة فاما المؤاخذة المذكورة فى قوله تعالى { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان } فهى المؤاخذة بالكفارة لكنها فى اليمين المعقودة فالآيتان فى مؤاخذتين مختلفتين { والله غفور } حيث لم يؤاخذكم باللغو مع كونه ناشئا عن قلة المبالاة { حليم } حيث لم يعجل بالمؤاخذة وفيه ايذان بان المؤاخذة المعاقبة لا ياجاب الكفارة اذ هى التى تتعلق بها المغفرة والحلم دونه

والفرق بين الحليم والصبور انه الذى لا يشمئز من الامر ثم لا يستفزه غضب ولا يعتريه غيظ ولا يحمله على المسارعة الى الانتقام مع غاية الاقتدار عجلة وطيش كما قال الله تعالى { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة } وحظ العبد من وصف الحليم ظاهر فالحلم من محاسن خصال العباد وفى الحديث « ان الرجل المسلم ليدرك بالحلم مرتبة الصائم القائم » قال الحسين الواعظ الكاشفى

علم باحلم حال روى بود ... علم بى حلم خاك كوى بود

بردبارى جوزينت خردست ... هركرا حلم نيست زيور يست

ثم انه قال قال العلماء اذا حلف بشىء فحنث ان كان مستقبلا فعليه كفارة وهو اليمين المنعقدة وان كان ماضيا فان كان الحالف عالما بالواقع وحلف على خلافه فاليمين كبيرة ولا كفارة عند ابى حنيفة فى الكبائر وعند الشافعى تجب الكفارة فيه وهو اليمين الغموس وان كان الحالف جاهلا بالواقع ويرى انه صادق فيه وليس كذلك فلا كفارة فيه وهو يمين اللغو عند ابى حنيفة واليمين الغموس عند الشافعى ويحكم فيه بالكفارة واليمين بالله او باسم من اسمائه او بصفة من صفاته فاليمين بالله ان يقول والذين اصلى له والذى نفسى بيده واليمين باسمائه كقوله والله والرحمن ونحوه واليمين بصفته كقوله وعزة الله وعظمته وجلال الله وقدرته ونحوها ومن حلف بغير الله مثل ان قال والكعبة وبيت الله ونبى الله او حلف بابيه ونحوه فلا يكون يمينا ولا تجب به الكفارة اذا خالف وهى يمين مكروهة قال الشافعى واخشى ان تكون معصية وفى الحديث

(1/483)

« من حلف بغير الله فقد أشرك بالله » معناه من حلف بغير الله تعالى معتقدا تعظيم ذلك الغير فقد أشرك المحلوف به مع الله فى التعظيم المختص به ولو لم يكن على قصد التعظيم والاعتقاد به فلا بأس به كقوله لا وابى ونحو ذلك كما جرت به العادة

قال على الرازى اخاف الكفر على من قال بحياتى وبحياتك وما اشبهه ولولا ان العامة يقولونه ولا يعلمونه لقلت انه الشرك لانه لا يمين الا بالله ولا يحلف بالبراءة من الاسلام فمن فعل ذلك صادقا لن يرجع الى الاسلام سالما وان كان كاذبا خيف عليه الكفر وفى الحديث « من حلف بملة غير الاسلام كاذبا فهو كما قال » وظاهر الحديث يدل على ان المسلم ان قال ان افعل كذا فانا يهودى ففعل يكفر وبه عمل الشافعى وقال الحنفية لا يكفر فحملوا الحديث على التهديد واما ان علقه بالماضى كقوله ان فعلت كذا فانا يهودى وقد فعل فقد اختلفت الحنفية والصحيح انه لا يكفر ان كان يعلم انه يمين وان كان عنده انه يكفر بالحلف يكفر لانه رضى بالكفر وهو محمل الحديث عند الاكثر

وفى الفتاوى البزازية والفتوى على انه يمين يلزم عليه الكفارة

والاشارة فى الآية ان ما يجرى على الظواهر من غير قصد ونية فى البواطن ليس له كثير خطر فى الخير والشر ولا زيادة اثر ولو كان له اثر فى الخير لما عاب على قوم { يقولون بالسنتهم ما ليس فى قلوبهم } وكذا ما يجرى على اللسان بنية القلب بلا فعل الجوارح لو كان مؤثرا فى القبول لما عاب قوما بقوله { كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون } ولو كان له اثر فى البر لما وسع على قوم بقوله { لا يؤاخذكم الله باللغو فى ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم }

(1/484)

وما عفا عن قوم بقوله { الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان } وذلك لان القلب كالارض للزراعة والجوارح كالآلات للحراثة والاعمال والاقوال كالبذر فالبذر ما لم يقع فى الارض المربية للزراعة لا ينبت وان كان فى آلة من آلات الحراثة فافهم جدا

واما ان كان لما يجرى على الظواهر من الخير ادنى آثار فى القلب ولو كان مثقال ذرة فان الله من كمال فضله وكرمه لا يضيعه حتى يكون القليل كثيرا والصغير عظيما وان كان لما يجرى على الظواهر من الشر ادنى اثر فى القلب فان الله تعالى من غاية لطفه واحسانه لا يؤاخذ العبد به بل يحلم عنه ويتوب عليه ويغفر له كما قال { والله غفور حليم } كذا فى التأويلات النجمية

(1/485)

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)

{ للذين يؤلون من نسائهم } الايلاء الحلف وحقه ان يستعمل بعلى لكن لما ضمن هذا القسم معنى البعد عدى بمن اى للذين يبعدون من نسائهم مؤلين { تربص اربعة اشهر } اى انتظار هذه المدة واضافته الى الظرف على الاتساع فى الظرف بجريه مجرى المفعول به كما يقال بينهما مسيرة يوم اى مسيرة فى يوم اى لهم ان ينتظروا فى هذه المدة من غير مطالبة بفىء او طلاق . والايلاء من الزوجة ان يقول الرجل والله لا اقربك اربعة اشهر فصاعدا على التقييد بالاشهر او لا اقربك على الاطلاق ولو حلف على ان لا يطأها اقل من اربعة اشهر لا يكون مؤليا بل هو حالف اذا وطئها قبل مضى تلك المدة يجب عليه كفارة يمين على الاصح . وللايلاء حكمان حكم الحنث وحكم البر . فحكم الحنث وجوب الكفارة بالوطئ فى مدة الايلاء ان كان اليمين بالله ولزوم الجزاء من نحو الطلاق او العتاق او النذر المسمى ان كان القسم بذلك وحكم البر وقوع طلقة بائنة عند مضى مدة الايلاء وهى اربعة اشهر ان كانت المنكوحة حرة وان كانت المنكوحة امة الغير تبين بمضى شهرين

قال قتادة كان الايلاء طلاقا لاهل الجاهلية

وقال سعيد بن المسيب كان ذلك من ضرار اهل الجاهلية كان الرجل لا يحب امرأته ولا يحب ان يتزوجها غيره فيحلف ان لا يقربها ابدا فيتركها لا ايما ولا ذات بعل وكانوا فى ابتداء الاسلام يفعلون ذلك ايضا فازال الله ذلك الضرر عنهن وضرب للزوج مدة يتروى فيها ويتأمل فان رأى المصلحة فى ترك هذه المضارة فعله وان رأى المصلحة فى المفارقة فارقها { فان فاؤوا } اى ان رجعوا عما حلفوا عليه من ترك الجماع { فان الله غفور رحيم } يغفر للمولى بفيئته التى هى كتوبته اثم حنثه عند تكفيره او ما قصد بالايلاء من ضرار المرأة

(1/486)

وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

{ وان عزموا الطلاق } اصل العزم او العزيمة عقد القلب على امضاء شىء تريد فعله اى حققوه واكدوه بان ثبتوا فى المدة على ترك القربان حتى مضت المدة { فان الله سميع } لطلاقهم { عليم } بغرضهم فيه

والاشارة فى تحقيق الآيتين ان يعلم العبد ان الله لا يضيع حق احد من عباده لا على نفسه ولا على غيره فلما تقاصر لسان الزوجة لكونها اسيرة فى يد الزوج فالله تعالى تولى الامر بمراعاة حقها فامر الزوج بالرجوع اليها او تسريحها فاذا كان حق صحبة الاشكال محفوظا عليك حتى لو اخللت به اخذك بحكمه فحق الحق احق بان يجب مراعاته

وفى تعيين تربص اربعة اشهر فى الفيىء اشارة عجيبة وهى انها مدة تعلق الروح بالجنين كما قال عليه السلام « ان احدكم يجمع خلقه » اى يحرز ويقر مادة خلقه « فى بطن امه » اى فى رحمها من قبيل ذكر الكل وارادة الجزء « اربعين يوما » وعن ابن مسعود رضى الله عنه ان النطفة اذا وقعت فى الرحم فاراد الله ان يخلق منها تنشر فى بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعرة فتمكث اربعين ليلة ثم تنزل دما فى الرحم فذاك جمعها « ثم تكون علقة » وهى قطعة دم غليظ جامد « مثل ذلك » اربعين يوما « ثم تكون مضغة » وهى قطعة لحم قدر ما تمضغ « مثل ذلك ثم يرسل الله اليه الملك فينفخ فيه الروح » وهذا يدل على ان التصوير يكون فى الاربعين الثالثة « ويؤمر باربع كلمات » يعنى يؤمر الملك بكتابة اربع قضاها وهو معطوف على قوله تكون علقة لان الكتابة فى الاربعين الثانية « يكتب رزقه » روى على صيغة المجهول والمعلوم « واجله » وهو يطلق على مدة الحياة كلها وهو المراد هنا وعلى منتهاها ومنه قوله تعالى { فاذا جاء اجلهم } وعمله وشقى وهو من وجبت له النار او سعيد وهو من وجبت له الجنة قدم ذكر الشقى لانه اكثر الناس كذا قال القاضى المراد بكتبه هذه الاشياء اظهارها للملك ولا فقضاؤه تعالى سابق على ذلك . فاذا تمهد هذا فمن وقع له من اهل القصد وقفة او فترة فى اثناء السلوك من ملالة النفس او نفرة الطبع فعلى الشيخ وعلى الاصحاب ان لا يفارقوه فى الحقيقة وان يتعاونوا بالهمم العلية لاستجلابه ويتربصوا اربعة اشهر الرجوع فان فاء الى صدق الطلب ورعاية حق الصحبة واستغفر مما جرى منه ونفخ فيه روح الارادة مرة اخرى اقبلوا عليه وعفوا عما لديه فان هذا ربيع لا يرعاه الا المهزولون وربع لا يسكنه الا المعزولون ومنهل لا يرده الا اللاهون وباب لا يقرعه الا الماكثون بل هذا شراب لا يذوقه الا العارفون وغناء لا يطرب عليه الا العاشقون وان عزموا بعد مضى اربعة اشهر طلاق منكوحة المواصلة واصروا على ذنب المفارقة فلهم التمسك بعروة هذا فراق بينى وبينك فان الله سميع بمقالتهم عليم بحالتهم : قال السعدى قدس سره

(1/487)

نه مارا درميان عد و وفا بود ... جفا كردى وبد عهدى نمودى

هنوزت كرسر صلحست بازآى ... كزان محبوبتر باشى كه بودى

قال اوحد المشايخ فى وقته ابو عبد الله الشيرازى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المنام وهو يقول من عرف طريقا الى الله فسلكه ثم رجع عنه عذبه الله بعذاب لم يعذب به احدا من العالمين كذا فى لواقح الانوار القدسية فى مناقب العلماء والصوفية

(1/488)

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

{ والمطلقات } المراد بها ذوات الاقراء من الحرائر المدخول بهن لانه لا عدة على غير المدخول بها وان عدة من لا تحيض لصغر او كبر او حمل بالاشهر ووضع الحمل وان عدة الامة قرءان او شهران واصل التطليق رفع القيد اى المخليات من حبال ازواجهن { يتربصن } خبر فى معنى الامر اى ليتربصن وينتظرن { بانفسهن } الباء للتعدية اى يحملن انفسهن على التربص ويجعلنها متربصة { ثلثة قروء } نصب على الظرفية اى مدة ثلاثة قروء فلا تتزوجن الى انقضائها . والقروء جمع قرء وهو من الاضداد فى كلام العرب يقع على الطهر والحيض والمشهور انه حقيقة فيهما كالشفق اسم للحمرة والبياض جميعا . ذهب ابو حنيفة واصحابه الى ان القروء هى الحيض لان الله تعالى جعل الاعتداد بالاشهر بدلا من الاعتداد بالقرء كما قال { واللائى يئسن من المحيض من نسائكم فعدتهن ثلثة اشهر } فلما شرع ذلك عند ارتفاع الحيض دل على ان الاصل كان هو الحيض وتمسك الشافعى بقوله تعالى { فطلقوهن لعدتهن } على ان المراد بالقروء الاطهار لان اللام فى لعدتهن للوقت ووقت العدة لا يجوز ان يكون وقت الحيض لانه تعالى امر بالطلاق والطلاق فى وقت الحيض منهى عنه . وجوابه ان معناه فطلقوهن مستقلات لعدتهن وهى الحيض الثلاث فالطلاق يقع ثم تأخذ المرأة وتشرع فى العدة وليس معنى الآية ان الطلاق واقع فى العدة وفائدة الخلاف بين الشافعى وابى حنيفة ان مدة العدة عند الشافعى اقصر وعند ابى حنيفة اطول حتى لو طلقها فى حال الطهر يحسب بقية الطهر قرأ وان حاضت عقيبه فى الحال فاذا شرعت فى الحيضة الثالثة انقضت عدتها وعند ابى حنيفة ما لم تطهر من الحيضة الثالثة ان كان الطلاق فى حال الطهر او من الحيضة الرابعة ان كان الطلاق فى حال الحيض لا يحكم بانقضاء عدتها { ولا يحل لهن ان يكتمن } اى يخفين { ما خلق الله فى ارحامهن } من الحبل والحيض بان تقول المرأة لست بحامل او لست بحائض وهى حائض لتبطيل حق الزوج من الولد والرجعة وذلك اذا ارادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها ان تضع وربما اسقطت الحمل خوفا ان يعود ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها او كتمت حيضها استعاجلا للطلاق لان الطلاق السنى انما يكون فى الطهر . وفيه دليل على قبول قولهن فى ذلك نفيا واثباتا { ان كن يؤمن بالله واليوم الآخر } اى فلا يجترئن على ذلك فان قضية الايمان بالله واليوم الآخر الذى يقع فيه الجزاء والعقوبة منافية له قطعا . وفيه تهديد شديد على النساء وليس المراد ان ذلك النهى مشروط بكونها مؤمنة لان المؤمنة والكافرة فى هذا الحكم سواء { وبعولتهن } جمع بعل والبعلة المرأة واصل البعل السيد والمالك سمى الزوج بعلا لقيامه بامر زوجته كانه مالك لها ورب والتاء فى البعولة لتأنيث الجمع فان الجمع لكونه بمعنى الجماعة فى حكم المؤنث والتاء زائدة لتأكيد التأنيث ودلت تسمية الزوج بعلا بعد طلاقها الصريح على ان النكاح قائم والحل ثابت والضمير لبعض افراد المطلقات لان هن عام شامل للمطلقة بالطلاق الرجعى والبائن ولا حق لازواج البوائن فى النكاح والرجعة { احق بردهن } الى النكاح والرجعة اليهن { فى ذلك } اى فى زمان التربص فان حق الرجعة انما يثبت للزوج ما دامت فى العده واذا انقضى وقت العدة بطل حق الرد والرجعة .

(1/489)

وافعل هنا بمعنى الفاعل والمعنى ان ازواجهن حقيقون بردهن اذ لا معنى للتفضيل هنا فان غير الازواج لا حق لهم فيهن البتة ولا حق ايضا للنساء فى ذلك حتى لو ابت من الرجعة لم يعتد بذلك { ان ارادوا } اى الازواج بالرجعة { اصلاحا } لما بينهم وبينهن واحسانا اليهن ولم يريدوا مضارتهن كما كانوا يفعلونه فى الجاهلية كان الرجل يطلق امرأته فاذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم بعد مدة طلقها يقصد بذلك تطويل العدة عليها وليس المراد به شرطية قصد الاصلاح بصحة فان الرجعة صحيحة وان راجعها مضارا بها بل هو الحث عليه والزجر عن قصد الضرار ثم انه تعالى لما بين ان المقصود من الرجعة اصلاح حالها لا ايصال الضرر اليها بين ان لكل واحد من الزوجين حقا على الآخر فقال { ولهن } عليهم من الحقوق { مثل الذى } لهم { عليهن بالمعروف } قوله بالمعروف متعلق بما تعلق به لهن من الاستقرار اى استقر لهن بالمعروف اى بالوجه الذى لا ينكر فى الشرع وعادات الناس فلا يكلفهن ما ليس لهم ولا يعنف احد الزوجين صاحبه ووجه المماثلة بين الحقين هو الوجوب واستحقاق المطالبة لا الاتحاد فى جنس الحقوق مثلا اذا استحقت المرأة على الزوج المهر والنفقة والمسكن لا يستحق هو عليها ايضا جنس هذه الحقوق { وللرجال عليهن درجة } اى زيادة فى الحق وفضل فيه وفضل الرجل على المرأة فى العقل والدين وما يتفرع عليهما مما لا شك فيه وفضله المناسب بهذا المقام امران . الاول كون ما يستحق هو عليها افضل وازيد مما تستحق هى عليه فانه مالك لها مستحق لنفسها لا تصوم تطوعا الا باذنه ولا تخرج من بيتها الا باذنه وقادر على الطلاق فاذا طلقها فهو قادر على مراجعتها شاءت المرأة او ابت . واما المرأة فلا تملك شيأ من هذه الامرو وانما حقها فيه المهر والكفاف وترك الضرار . والثانى ما اشار اليه الزجاج بقوله معناه ان المرأة تنال من الرجل من اللذات المتفرعة على النكاح مثل ما ينال الرجل منها وله الفضية عليها بنفقته والقيام عليها فالفضيلة على هذا فضيلة ما التزمه فى حقها مما يتعلق بالرحمة والاحسان كالتزام المهر والنفقة والمسكن والذب عنها والقيام بمصالحها ومنعها عن مواقع الآفات عن ابى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1/490)

« لو كنت آمرا لاحد ان يسجد لاحد غير الله لامرت المرأة ان تسجد لزوجها » لما عظم الله من حقه عليها قال تعالى { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما انفقوا من اموالهم } فكان قيام المرأة بخدمة الرجل آكد وجوبا لهذه الحقوق الزائدة { والله عزيز } يقدر على الانتقام ممن يخالف احكامه { حكيم } تنطوى شرائعه على الحكم والمصالح واعلم ان مقاصد الزوجية لا تتم الا اذا كان كل واحد من الزوجين مراعيا حق الآخر مصلحا لاحواله مثل طلب النسل وتربية الولد ومعاشرة كل واحد منهما الآخر بالمعروف وحفظ المنزل وتدبير ما فيه وسياسة ما تحت ايديهما الى غير ذلك مما يستحسن شرعا ويليق عادة وفى الحديث « جهاد المرأة حسن التبعل » يقال امرأة حسنة التبعل اذا كانت تحسن عشرة زوجها والقيام بما عليها فى بيت الزوج وفى الحديث « ايما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة » كما فى رياض الصالحين . ومن الحقوق التزين قال ابن عباس رضى الله عنهما انى لا اتزين لامرأتى كما تتزين لقوله تعالى { ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف } ويقال ان المرأة مثل الحمامة اذا انبت لها جناح طارت كذا الرجل اذا زين امرأته بالثياب فلا تجلس بالبيت . وقال رجل ما دخل دارى شر قط فقال حكيم ومن اين دخلت امرأتك : قال السعدى قدس سره

دلارام باشد زن نيك خواه ... ولى اززن بد خدايا بناه

وقال بعضهم

عصمت زن را بمقام جمال ... جلوه حرامست مكريا حلال

حكى انه كان فى بنى اسرائيل رجل صالح وكان له امرأة يحبها حبا شديدا فبعث الله اليه ان يسأله ثلاث حوائج فقال لامرأته حوائجى كثيرة لا ادرى ما اعمل فقالت امرأته اسأل حاجة لى وحاجتين لك قال ما تريدين قالت اسأل ربك ان يصيرنى فى صورة ما كانت صورة احسن منها واجمل فسأل ربه فاضاء البيت من حسنها وجمالها فقامت لتخرج من بيتها فقال زوجها الى اين تذهبين قالت الى بعض السلاطين انا لا اضيع حسنى وجمالى بمثلك ومنع الزوج خروجها ثم بلغ الخبر الى بعض السلاطين فجاء اعوانه واخذوها من زوجها جبرا فقال الرجل اللهم بقى لى عندك حاجتان اجعلها قردة فمسخها الله تعالى قردة فردها الملك من عنده فجاءت الى زوجها ثم قال الرجل اللهم ردها كما كانت اولا فذهبت الحوائج كلها عبثا لاهى افلحت ولا هو

والاشارة ان المطلقات لما امرن بالعدة وفاء لحق الصحبة وان كان الانقطاع من الزوج لا من الزوجة امرن ان لا يقين غير مقامه بالسرعة ويصبرون حتى يمضى مقدار من المدة الى آخر العدة وكلها دلالات على وفاء الربوبية فى رعاية العبودية فان الله تعالى من كمال كرمه يرخى زمام الفضل بالاصطناع وان كان من العبد الفصل والانقطاع ويمهل العبد الى انقضاء عدة الجفاء ولا يعرض عنه سريعا لاقامة شرط الوفاء لعل العبد فى مدة العدة يتنبه من نوم الغفلة وتتحرك داعيته فى ضمير قلبه من نتائج محبة ربه وان ابتلاه بمحنة الفرقة فيقرع باصبع الندامة باب التوبة ويقوم على قدم الغرامة فى طلب الرجعة والاوبة فيقال من كمال الفضل والنوال يا قارع الباب دع نفسك وتعال من طلب منا فلاحا فليلزم عتبتنا مساء وصباحا

(1/491)

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)

{ الطلاق } اى التطليق الرجعى المتقدم ذكره الذى قال تعالى فيه { وبعولتهن احق بردهن } { مرتان } اى دفعتان وذلك لا يكون الا على سبيل التفريق فان من اعطى الى آخر درهمين لم يجز أن يقال اعطاه مرتين حتى يعطيه اياهما دفعتين فالجمع بين الطلقتين والثلاث فى الايقاع حرام عند ابى حنيفة رحمه الله الا انه سنى الوقوع لا سنى الايقاع فالطلاق الذى يثبت فيه للزوج حق الرجعة البتة ولا تحل له المرأة الا بعد زوج آخر ثم قوله { الطلاق مرتان } وان كان ظاهره الخبر فان معناه الامر لان حمله على ظاهره يؤدى الى وقوع الخلف فى خبر الله تعالى لانه قد يوجد ايقاع الطلاق على وجه الجمع ولا يجوز الخلف فى خبر الله فكان المراد منه الامر كأنه قيل طلقوهن مرتين اى دفعتين { فامساك } اى فالحكم بعد هاتين الطلقتين امساك لهن { بمعروف } وهو ان يراجعها لا على قصد المضارة بل على قصد الاصلاح وحسن المعاشرة { او تسريح } اى تخلية { باحسان } بان يترك المراجعة حين تبين بانقضاء العدة . ومعنى الاحسان فى التسريح انه اذا تركها ادى اليها حقوقها المالية ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها وجملة الحكم فى هذ الباب ان الحر اذا طلق زوجته طلقة او طلقتين بعد الدخول بها يجوز له ان يراجعها من غير رضاها ما دامت فى العدة وان لم يراجعها حتى تنقضى عدتها او طلقها قبل الدخول بها او خالعها فلا تحل له الا بنكاح جديد باذنها واذن وليها فان طلقها ثلاثا فلا تحل له ما لم تنكح زوجا غيره واما العبد اذا كانت تحته امة فطلقها طلقتين فانها لا تحل له الا بعد نكاح زوج آخر والاعتبار بالمرأة فى عدد الطلاق عند ابى حنيفة رحمه الله فيملك العبد على زوجته الحرة ثلاث طلقات ولا يملك الحر على زوجته الامة الا طلقتين { ولا يحل لكم } روى ان جميلة بنت عبد الله بن ابى بن سلول كانت تبغض زوجها ثابت بن قيس فاتت رسول الله عليه السلام وقالت فى الاسلام ما اطيقه بعضا انى رفعت جانب الخباء فرأيته اقبل فى عدة فاذا هو اشدهم سوادا واقصرهم قامة واقبحهم وجها فنزلت فاختلعت منه بحديقة اصدقها اى سماها ثابت صداقا لها يعنى لما قالت جميلة ما قالت قال ثابت يا رسول الله مرها فلترد على الحديقة التى اعطيتها فقال عليه السلام لها « ما تقولين » قالت نعم وازيده فقال عليه السلام « لا حديقته فقط » ثم قال لثابت « خذ منها ما اعطيتها وخل سبيلها » ففعل وكان ذلك اول خلع فى الاسلام .

(1/492)

والخطاب فى لكم مع الاحكام ليطابق قوله تعالى { فان خفتم } فانه خطاب مع الحكام والحكام وان لم يكونوا آخذين ومؤتين حقيقة الا انهم هم الذين يأمرون بالاخذ والايتاء عند الترافع اليهم فكأنهم هم الذين يأخذون ويؤتون { ان تأخذوا مما آتيتموهن } اى تأخذوا منهن بمقابلة الطلاق ما اعطيتموهن من المهور { شيأ } اى نزرا يسيرا فضلا عن استرداد الكثير { الا ان يخافا } اى الزوجان { ألا يقيما حدود الله } اى ان لا يراعيا مواجب الزوجية . قوله { الا ان يخافا } استثناء مفرغ وان يخافا محله النصب على انه مفعول من اجله مستثنى من العام المحذوف تقديره ولا يحل لكم ان تأخذوا بسبب من الاسباب شيأ الا بسبب خوف عدم اقامة حدود الله { فان خفتم } ايها الحكام { ألا يقيما حدود الله } اى الحقوق التى اثبتها النكاح وذلك بمشاهدة بعض الامارات والمخايل { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } اى فيما اعطته المرأة من بدل الخلع لا على الزوج فى اخذ ما فدت به نفسها ولا عليها فى اعطائه اياه هذا اذا كان النشوز من قبل المرأة لانها ممنوعة عن اتلاف المال بغير حق اما اذا كان النشوز من قبل الزوج فلا يحل له ان يأخذ شيأ مما آتاها لقوله تعالى { فلا تأخذوا منه شيأ } ولا يضيق عليها ليلجئها الى الافتدء فان ذلك منهى عنه قال تعالى فى سورة النساء { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } وعموم قوله تعالى { فيما افتدت به } يشعر بجواز المخالعة على قدر المقبوض من الزوج وعلى الازيد والاقل وعليه جمهور الفقهاء ثم ان ظاهر الآية انه لا يباح الخلع الا عند الغضب والخوف وجمهور المجتهدين على جوازه فى حالة الخوف وفى غير حالة الخوف فلا بد حينئذ ان يجعل قوله { الا ان يخافا } استثناء منقطعا كما فى قوله تعالى { وما كان لمؤمن ان يقتل مؤمنا الا خطأ } اى لكن ان قتل خطأ فدية مسلمة الى اهله

قال البغوى ويجوز الخلع فى غير حال النشوز غير انه يكره لما فيه من قطع الوصلة بلا سبب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ان من ابغض الحلال الى الله الطلاق » { تلك } اى الاحكام المذكورة { حدود الله } اوامره ونواهيه { فلا تعتدوها } اى لا تتجاوزوا عنها بالمخالفة والرفض { ومن يتعد حدود الله فاولئك } المتعدون { هم الظالمون } اى لانفسهم بتعريضها لسخط الله وعقابه

اعلم ان المرأة اذا برئت من مواقع الخلل واتصفت بالعفة فعلى الزوج ان يعاشرها بالمعروف ويصبر على سائر اوضاعها وسوء خلقها ويتأدب بآداب النبى صلى الله عليه وسلم وكان عليه السلام يحسن المعاشرة مع ازواجه المطهرة فحسن معاشرتهن والصبر عليهن مما يحسن الاخلاق فلا جرم يعد الصابر من المجاهدين فى سبيل الله روى ان بعض المتعبدين كان يحسن القيام على زوجته الى ان ماتت وعرض عليه التزويج فامتنع وقال الوحدة اروح لقلبى قال فرأيت فى المنام بعد جمعة من وفاتها كأن ابواب السماء قد فتحت وكأن رجالا ينزلون ويسيرون فى الهواء يتبع بعضهم بعضا فكلما نظر الى واحد منهم يقول لمن وراءه هذا هو المشئوم فيقول الآخر نعم ويقول الثالث كذلك فخفت ان اسألهم الى ان مر بى آخرهم فقلت له من هذا المشئوم قال انت قلت ولم قال كنا نرفع عملك مع اعمال المجاهدين فى سبيل الله تعالى فمنذ جمعة امرنا ان نضع عملك مع المخالفين فلا ندرى ما احدثت فقال لاخوانه زوجونى فلم يكن يفارقه زوجتان او ثلاث : قال الكاشفى

(1/493)

مردى كمان مبركه بزورست وبردلى ... بانفس اكر جهاد كنى مرد كاملى

ولا يتيسر هذا الا لواحد بعد واحد كما قيل وللحروب رجال وان انت تريد الطلاق فطلق نفسك : كما قيل

هركه زن نفس شوم را داد طلاق ... جفتش نبود بزير اين نيلى طاق

از مزبله نفس قدم بيرون نه ... تاروحت كند تسم وصل استنشاق

وما دام عجوز نفسك تشوش باطنك وتخرب بيت قلبك فالعروس التى هى تجلى الروح لا تتراءى من وراء نقاب السر ولا تجيىء بيت مشاهدتك رحم الله امرأ عرف قدره ولم يتعد طوره

والاشارة فى الآية ان اهل الصحبة لا يفارقون بجريمة واحدة صدرت من الرفيق الشفيق والصديق الصدوق ولا بجريمتين بل يتجاوزون مرة او مرتين . وفى الثالثة { فامساك بمعروف او تسريح باحسان } اما صحبة جميلة او فرقة جميلة كما تجاوز الخضر عن موسى عليهما السلام مرتين وفى الثالثة قال { هذا فراق بينى وبينك } واما الصحبة من غير تعظيم وحرمة وذهاب لذة العمر بالاخلاق الذميمة واضاعة الوقت فى تحصيل المقت فغير مرضية فى الطريقة ولا محمودة فى الشريعة بل قاطعة طريقة الحق وليس لاهل الصحبة اذا اتفقت المفارقة ان يستردوا خواطرهم من الرفقاء بالكلية ويقطعوا رحم الاخوة فى الدين ويأخذوا منهم قلوبهم بعدما آتوهم الهمم العلية فان العائد فى هبته كالعائد فى قيئه { الا ان يخافا الا يقيما حدود الله } فى رعاية حقوق الصحبة { فان خفتم ان لا يقيما حدود الله } بان تؤدى الى مداهنة او اهمال فى حق حقوق الدين { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } من الحظوظ لرعاية الحقوق { تلك حدود الله } من الحظوظ والحقوق { فلا تعتدوها } بترك الحقوق لنيل الحظوظ كذا فى التأويلات النجمية قدس الله تعالى نفسه الزاكية القدسية

(1/494)

فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

{ فان طلقها } اى بعد الطلقتين السابقتين { فلا تحل } تلك المرأة { له } لزوجها { من بعد } اى من بعد الطلقة الثالثة لا بطريق الرجعة ولا بتجديد العقد { حتى تنكح } زوجا فسماه باسم العاقبة والنكاح هنا العقد دون الوطئ وبه اخذ سعيد بن المسيب واللفظ يشهد له لا يقال حتى تطأ المرأة الزوج فان المرأة موطوءة لا واطئة فالآية وان كانت مطلقة لانها انما تدل على ان عدم حلها له يمتد الى ان تتزوج بزوج آخر وينعقد بينهما عقد النكاح من غير تقييد ذلك العقد بكونه مؤديا الى جماع الزوج الثانى لكنها مقيدة بالسنة فالاجماع على اشتراط الاصابة لما روى ان امرأة رفاعة جاءت النبى عليه الصلاة والسلام فقالت ان رفاعة طلقنى فبت طلاقى اى قطعه حيث طلقنى ثلاثا وان عبد الرحمن بن الزبير تزوجنى وان ما معه اى ذكره ليس باغنى عنى من هذه اى الهدبة واخذت من جلبابها فتبسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقال « أتريدين ان ترجعى الى رفاعة » قالت نعم فقال « لا حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك » والمراد بالعسيلة الجماع شبه لذة الجماع بالعسل { فان طلقها } اى الزوج الثانى بعد الدخول بها { فلا جناح عليهما } اى لا اثم على الزوج الاول والمرأة { ان يتراجعا } اى يرجع كل منهما الى صاحبه بعقد جديد { ان ظنا ان يقيما حدود الله } اى ان كان فى ظنهما انهما يقيمان حدود الله اى ما حده الله وشرعه من حقوق الزوجية ولم يقل ان علما لان العواقب غير معلومة والانسان لا يعلم ما فى الغد وانما يظن ظنا { وتلك } اشارة الى الاحكام المذكورة الى هنا { حدود الله } اى احكامه المعينة المحمية من التعرض لها بالتغيير والمخالفة { يبينها } بهذا البيان { لقوم يعلمون } اى يفهمون ويعملون بمقتضى العلم وتخصيصم بالذكر مع عموم الدعوة والتبليغ لما انهم المنتفعون بالبيان والجاهل اذا بين له لا يحفظ ولا يتعاهد

نكته كفتن بيش كزفهمان زحكمت بيكمان ... جوهرى جند از جواهر ريختن ييش خرست

ثم ان الحكمة فى اشتراط اصابة الزوج الثانى فى التحليل وعدم كفاية مجرد العقد فيه الردع عن المسارعة الى الطلاق فان الغالب ان يستنكر الزوج ان يستفرش زوجته رجل آخر وهذا الردع انما يحصل بتوقف احل على الدخول واما مجرد العقد فليس منه زيادة نفرة وتهييج غيرة فلا يصلح توقف الحل عليه رادعا وزاجرا عن التسرع الى الطلاق والنكاح المعقود بشرط التحليل وهو ان يشترط فى النكاح ان يقتصر على قدر التحليل ولا يستديم زوجيتها فاسد عند الاكثر وجائز عند ابى حنيفة مع الكراهة وعنه انهما ان اضمرا التحليل ولم يصرحا به فلا كراهة

(1/495)

وفى شرح الزيلعى لو خافت المرأة المطلقة ثلاثا ان لا يطلقها المحلل فقالت زوجتك نفسى على ان امرى بيدى اطلق نفسى كلما اردت فقبل جاز النكاح وصار الامر بيدها

وفيه ايضا ومن لطائف الحيل فيه ان تزوج المطلقة من عبد صغير تتحرك آلته ثم تملكه بسبب من الاسباب بعدما وطئها فيفسخ النكاح بينهما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم « لعن الله المحلل والمحلل له » المحلل بكسر اللام والمراد به الزوج الثانى والمحلل له بفتح اللام والمراد به الزوج الاول

فان قلت ما معنى لعنهما قلت معنى اللعن على المحلل لانه نكح على قصد الفراق والنكاح شرع للدوان وصار كالتيس المستعار والتيس هو الذكر من الغنم وقد يستعيره الناس لاستيلاد الغنم واللعن على المحلل له لانه صار سببا لمثل هذا النكاح والمتسبب شريك المباشر فى الاثم والثواب . او المراد من اللعن اظهار خساستهما اما خساسة المحلل فلمباشرته مثل هذا النكاح بدليل قوله عليه السلام « الا أنبئكم بالتيس المستعار » واما خساسة المحلل له فلمباشرة ما ينفر عنه الطبع السليم من عودها اليه بعد مضاجعة غيره اياها واستمتاعه بها لا حقيقة اللعن اذ هو لا يليق بمنصب الرسالة فى حق الامة لانه عليه الصلاة والسلام لم يبعث لعانا

والاشارة فى الآية ان اهل الصحبة لما تجاوزوا عن زلة الاخوان مرة ومرتين ثم فى الثالثة ان سلكوا طريق الهجران وخرجوا عن مصاحبة الاخوان فلا يحل للاخوان ان يواصلوا الخوان حتى يصاحب الخائن صديقا مثله فان ندم بعد ذلك على افعاله وسئم من ذلك الصديق وامثاله وترك صحبته وخرج عن خصاله ورجع الى صحبة اخوانه واشكاله { فلا جناح عليهما ان يتراجعا ان ظنا ان يقيما } شرائط العبودية والصحبة فى الله وتلك طرق قربات الله والسائرين الى الله يبينها بالتصريح والتعريض والعبارات والاشارات { لقوم يعلمون } المعاريض ويفهمون الاشارات كذا فى التأويلات النجمية

قال احمد بن حضرويه الطريق واضح والدليل لائح والداعى قد اسمع فما التحير بعد هذا الا من العمى : قال الحافظ

وصف رخساره خورشيد زخفاش مبرس ... كه درين آينه صاحب نظران حيرانند

(1/496)

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)

{ واذا طلقتم النساء } اى نساءكم { فبلغن اجلهن } اى آخر عدتهن وشارفن منتهاها ولم يرد حقيقة انقضاء العدة لان العدة اذا انقضت لم يكن للزوج امساكها بالمعروف

نزلت فى رجل من الانصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى اذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها بقصد مضارتها { فامسكوهن بمعروف } اى راجعوهن من غير طلب اضرار لهن بالرجعة . والمعروف ما الفته العقول واستحسنته النفوس شرعا وعرفا وعادة والمراد به هنا حسن المعاشر { او سرحوهن بمعروف } او خلوهن حتى تنقضى عدتهن من غير تطويل { ولا تمسكوهن ضرارا } اى ولا تراجعوهن ارادة الاضرار بهن بتطويل العدة والحبس على ان يكون انتصاب ضرارا على العلة او مضارين على الحال

فان قلت لا فرق بين قوله { امسكوهن بمعروف } وبين قوله { لا تمسكوهن ضرارا } لان الامر بالشىء نهى عن ضده فما الفائدة فى التكرار قلت ان الامر لا يفيد التكرار ولا يدل على كون امتثال المأمور به مطلوبا فى كل الاوقات فدل لا تمسكوهن على المبالغة فى التوصية بالامساك بالمعروف لدلالته على ان الامساك المذكور مطلوب منه فى جميع الاوقات { لتعتدوا } متعلق بضرار اذ المراد تقييده اى لتظلموهن بالالجاء الى الافتداء { ومن يفعل ذلك } اى ما ذكر من الامساك المؤدى الى الظلم { فقد ظلم نفسه } فى ضمن ظلمه لهن بتعريضها للعقاب { ولا تتخذوا آيات الله } المنطوية على الاحكام المذكورة او جميع آياته وهى داخلة فيها دخولا اوليا { هزوا } اى مهزوا بها بالاعراض عنها والتهاون فى العمل بما فيها والنهى كناية عن الامر بضده لان المخاطبين مؤمنون ليس من شأنهم الهزؤ بآيات الله اى جدوا فى الاخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها : قال الحكيم السنانى قدس سره

دانشت هست وكاربستن كو ... خنجرت هست وصف شكستن كو

ولما رغبهم فى رعاية التكاليف والعمل بها بالتهديد على التهاون بها اكد ذلك الامر بذكر نعم الله عليهم بان يشكروها ويقوموا بحقوقها فقال { واذكروا نعمت الله } كائنة { عليكم } حيث هداكم الى ما فيه سعادتكم الدينية والدنيوية اى قابلوها بالشكر والقيام بحقوقها وقيل واذكروا انعام الله عليكم بان خلقكم رجالا وجعل لكم ازواجا تسكنون اليها وجعل النكاح والطلاق والرجعة بايديكم ولم يضيق عليكم كما ضيق على الاولين حين احل لهم امرأة واحدة ولم يجوز لهم بعد موت المرأة نكاح اخرى { وما انزل عليكم } عطف على نعمة الله اى وما انزله الله عليكم { من الكتاب والحكمة } اى القرآن والسنة افردهما بالذكر اظهارا لشرفهما { يعظكم به } اى بما انزل عليكم حال من فاعل انزل وهو ضمير انزل اى اذكروا نعمة الله وما انزله عليكم واعظا به لكم ومخوفا { واتقوا الله } فى شأن المحافظة عليه والقيام بحقوقه الواجبة { واعلموا ان الله بكل شىء عليم } فلا يخفى عليه شىء مما تأتون وما تذرون فيؤاخذكم بافانين العذاب

(1/497)

والاشارة فى الآية ان الاذية والمضارة ليست من الاسلام ولا من آثار الايمان ولا من شعار المسلمين عموما كما قال عليه السلام « المؤمن من امنه الناس » وقال « المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده » ويتضمن حسن المعاشرة مع الخلق جميعا . فاما الزوجان ففيهما خصوصية بالامر بحسن المعاشرة معهن وترك اذيتهن والمغايظة معهن على وجه اللجاج فاما تخلية سبيل من غير جفاء او قيام بحق الصحبة على شرائط الوفاء بلا اعتداء { ومن يفعل ذلك } اى من الاذية والمضارة والاعتداء بالجفاء { فقد ظلم نفسه } لان الله تعالى يجازى الظالم والمظلوم يوم القيامة بان يكافىء المظلوم من حسنات الظالم ويجازى الظالم من سيآت المظلوم والظالم اذا اساء الى غيره صارت نفسه مسيئة واذا احسن صارت نفسه محسنة فترجع اساءة الظالم الى نفسه لا الى نفس غيره حقيقة فانه ظلم نفسه لا غيره ولهذا قال تعالى { ان احسنتم احسنتم لانفسكم وان اسأتم فلها } قال السعدى قدس سره

مكن تا توانى دل خلق ريش ... وكر ميكنى ميكنى بيخ خويش

{ ولا تتخذوا آيات الله هزوا } اى بتلاوة ظاهرها من غير تدبر معانيها وتفهم اشاراتها وتحقق اسرارها وتتبع حقائقها والتنور بانوارها والاتعاظ بمواعظها وحكمها يقال ان الوعظ كالشاهين فانما يقع على الحى لا على الميت فمن مات قلبه ونعوذ بالله من ذلك لم يتأثر بالمواعظ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم « انتم اليوم على بينة من ربكم » يعنى على بيان قد بين لكم طريقكم « ما لم تظهر فيكم السكرتان سكرة العيش وسكرة الجهل » روى انه ضلت راحلة الحسن البصرى فى طريق الحج فلقيه صبى فسأله فعرفها فلما وجد الراحلة سأله الصبى يا شيخ ما تأكل وما تلبس قال آكل خبز الشعير والبس الصوف لاكسر شهوتى بهما قال الصبى كل ما شئت والبس كذلك بعد ان يكونا حلالين قال واين تبيت قال فى الخص وهو بيت من القصب قال لا تظلم وبت حيث شئت فقال الحسن لولا صباك لكسبت منك ما تكلمت به فتبسم الصبى وقال اراك غافلا اخبرتك بالدنيا فقبلت واخبرتك بالدين فتأنف من كلامى ارجع الى منزلك فلا حج لك : قال السعدى قدس سره

مرد بايد كه كيرد اندر كوش ... ور نوشته است يند بر ديوار

(1/498)

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

{ واذا طلقتم النساء فبلغن اجلهن } اى استوفين عدتهن فالبلوغ هنا عبارة عن حقيقة الانتهاء لان المذكور بعده النكاح ولا يكون ذلك الا بعد الانقضاء العدة { فلا تعضلوهن } العضل المنع والحبس والتضييق . والمخاطب بالخطاب الاول هو الازواج . وبالثانى هو الاولياء لما روى ان الآية نزلت فى معقل ابن يسار حين منع اخته جميلة ان ترجع الى زوجها الاول البداح عبيد الله بن عاصم فانه جاء يخطبها بعد انقضاء العدة وارادت المرأة الرجوع فلما سمع مقل الآية قال ارغم انفى وازوج اختى واطيع ربى فالمعنى اذا طلقتم النساء ايها الازواج فلا تعضلوهن ايها الاولياء وهذا وان كان مما لا يخفى ركاكته الا ان جملة الخلائق من حيث حضورهم فى علمه تعالى لما كانت بمثابة جماعة واحدة صح توجيه احد الخطابين الواقعين فى كلام واحد الى بعض وتوجيه الخطاب الآخر الى البعض الآخر ولعل التعريض لبلوغ الاجل مع جواز تزوج الاول قبله ايضا لدفع العضل المذكور حينئذ وليس فيه دلالة على ان ليس للمرأة ان تزوج نفسها والا لاحتيج الى نهى الاولياء عن العضل لما ان النهى لدفع الضرر عنهن فانهن وان قدرن على تزويج انفسهن لكنهن يحترزن عن ذلك مخافة اللوم والقطيعة . وقيل الخطابان للازواج حيث كانوا يعضلون مطلقاتهم ولا يدعونهن يتزوجن من شئن من الازواج ظلما وقسرا واتباعا لحمية الجاهلية { ان ينكحن } اى لا تمنعوهن من ان يتزوجن وفيه دلالة على صحة النكاح بعبارتهن { ازواجهن } ان اريد بهم المطلقون فالزوجية اما باعتبار ما كان واما باعتبار ما يكون والا فبالاعتبار الاخير على معنى ان ينكحن انفسهن ممن شئن ان يكونوا ازواجا لهن { اذا تراضوا } اى الخطاب والنساء ظرف لقوله ان ينكحن اى ان ينكحن وقت التراضى { بينهم } ظرف للتراضى مفيد لرسوخه واستحكامه { بالمعروف } حال من فاعل تراضوا اى اذا تراضوا ملتبسين بالمعروف من العقد الصحيح والمهر الجائز والتزام حسن المعاشرة وشهود عدول . والمعروف ما يعرف الشرع وتستحسنه المروءة وفيه اشعار بان المنع من التزوج بغير كفؤ وبما دون مهر المثل ليس من باب العضل { ذلك } اشارة الى ما مضى ذكره اى الامر الذى تلى عليكم من ترك العضل ايها الاولياء او الازواج وتوحيد كاف الخطاب مع كون المخاطب جمعا اما على تأويل القبيل او كل واحد او لكون الكاف لمجرد توجيه الكلام الى الحاضر مع قطع النظر عن كونه واحدا او جمعا { يوعظ به } اى ينهى ويؤمر به { من كان يؤمن بالله واليوم الآخر } لانه المتعظ به والمنتفع { ذلكم } اى الاتعاظ به والعمل بمقتضاه { ازكى لكم } انمى لكم وانفع من زكا الزرع اذا نما فيكون اشارة الى استحقاق الثواب { واطهر } من ادناس الآثام واوضار الذنوب والمفضل عليه محذوف للعلم اى من العضل { والله يعلم } ما فيه من النفع والصلاح والتفضيل { وانتم لا تعلمون } لقصور علمكم فان المكلف وان كان يعلم وجه الصلاح فى هذه التكاليف على سبيل الاجمال الا ان التفصيل غير معلوم له واما الله تعالى فانه العالم بتفاصيل الحكم فى كل ما امر به ونهى عنه وبينه لعباده

فدعوا رأيكم وامتثلوا امره تعالى ونهيي فى كل ما تأتون وما تذرون وذلك كما ان الوالد يحمى ولده عن بعض الاطعمة صونا له عن انحراف مزاجه فذلك محض اصلاح له لما انه يعلم ما لا يعلمه فقد وعظنا الله فى الكتاب بكل ما هو خير وصواب ونهانا عن كل ما يؤدى الى هلاك وتباب ولكن سماع النصيحة لا يتيسر الا لاولى الالباب كما قال الامام الغزالى قدس سره العالى النصيحة سهل والمشكل قبولها لانها فى مذاق متبع الهوى مر اذ المناهى محبوبة فى قلوبهم فالواعظ انما ينفع المؤمن الحقيقى وهو ما وصفه الله فى كتابه فقال

(1/499)

{ انما المؤمنون الذين اذا ذكر الله وجلت قلوبهم } وعن ابن مسعود رضى الله عنه السعيد من وعظ بغيره ومثالكم فى استماعكم ما قيل ان رجلا اصطاد طيرا فقال له لا تذبحنى فأى فائدة لك بل خلنى واعلمك ثلاث حكم تنفعك كلها . الاولى لا تترك الفائدة المعلومة بالمظنونة . والثانية لا تصدق الشىء المستحيل . والثالثة لا تمدن يدك الى ما لم تبلغه فلما خلاه وطار قال ان فى حوصلتى جوهرة كبيرة لو استخرجتها لفزت فأخذ يدنو منه والطير يتباعد منه فقال يا احمق ما اسرع ما نسيت الحكم تركت الفائدة المعلومة بالمظنونة حيث خليتنى والآن تمد يدك الى ما لم تنل وصدقتنى فى المستحيل فان حوصلتى لا تسع الا حبة او حبتين فكيف يحتمل فيها الجوهرة الكبيرة فكذلك انتم فى استماعكم روى ان شقيق البلخى قدس سره كان تاجرا فى اول امره يتجر فى بلاد النصارى فقال له امير النصارى فى أى مدة تجئ وتذهب فقال اجئ فى ثلاثة اشهر واشترى السلع فى ثلاثة واذهب فى ثلاثة وابيع السلع فى ثلاثة فقال الملك فهذه الشهور السنة فما تعبد ربك فتأثر قلبه من هذا الكلام فقام عن التجارة واشتغل بالعبادة فان كان التوفيق رفيق عبد لا يزال يقطع المسافات وان مسه الآفات الى ان الى المقصود واذا وكل الى نفسه لا يفيده ملام ولا يؤثر فيه كلام . ومن النصائح التى نصح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم امته قوله عليه الصلاة والسلام « علامة اعراض الله عن العبد اشتغاله بما لا يعنيه وان امرأ ذهبت ساعة من عمره فى غير ما خلق له لجدير ان تطول عليه حسرته ومن جاوز الاربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز الى النار » وفى هذه النصيحة كفاية لاهل العلم : قال السعدى قدس سره

بكوى آنجه دانى سخن سودمند ... و كر هيج كس را نيايد بسند

كه ردا بشيمان بر آرد خروش ... كه آوخ جراحق نكردم بكوش

اللهم اجعلنا من المتعظين بمواعظ كلمك

(1/500)

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

{ والوالدات } اى جميع الوالدات مطلقات كن او مزوجات لان اللفظ عام وما قام دليل التخصيص فوجب تركه على عمومه { يرضعن } خبر فى معنى الامر اى ليرضعن والرضع مص الثدى للبن { اولادهن } جمع ولد وهو المولود ذكرا كان او انثى ومعنى الامر الندب ووجه الندب ان تربية الطفل بلبن الام اصلح له من سائر الالبان وان شفقة الام اتم من شفقة غيرها ثم ان حكم الندب انما هو على تقدير ان لا يضطر الولد الى لبن امه اما اذا بلغ حالة الاضطرار بان لا يوجد غير الام او لا يرضع الطفل الا منها او عجز الوالد عن الاستئجار فحينئذ يجب عليها الارضاع عند ذلك كما يجب على كل احد مواساة المضطر فى الطعام

واعلم ان حق الارضاع لهن الى ان يتزوجن بغير آباء الاولاد ان كانت مطلقات لانهن يشتغلن بخدمة الازواج فلا يتفرغن لحضانتهم على الوجه الاليق ولان الربيب يتضرر بالراب فانه ينظر اليه شزرا وينفق عليه نزرا { حولين } سنتين اصله من حال الشىء يحول اذا انقلب والحول منقلب من الوقت الاول الى الثانى { كاملين } تامين اكده بصفة الكمال لانه مما يتسامح فيه فيقال اقمت عند فلان حولين بمكان كذا وانما اقام فيه حولا وبعض الحول { لمن اراد ان يتم الرضاعة } بيان للذى توجه اليه حكم الارضاع كأنه قيل هذا الحكم لمن فقيل لمن اراد ان يتم الرضاعة ومن يحتمل ان يراد بها الوالدات فقط او هن والآباء معا

واعلم ان مدة الرضاع عند ابى حنيفة حولان ونصف وعندهما حولان فقط استدلالا بهذه الآية ولا يباح ارضاع بعد هذا الوقت المخصوص على الخلاف لان اباحته ضرورية لانه جزء الآدمى فيتقدر بقدر الضرورة وقال ابو حنيفة هذه الآية محمولة على مدة استحقاق الاجرة فان الاجماع على ان مدت الرضاع فى استحقاق اجر الرضاع على الاب مقدرة بحولين حتى ان الاب لا يجبر على اعطاء اجرة بعد الحولين قال تعالى { فان ارادا فصالا عن تراض } الآية ولو حرم الرضاع بعد الحولين لم يكن لقوله { عن تراض منهما وتشاور } فائدة فالرضاع الذى ثبت به الحرمة هو ما يكون فى ثلاثين شهرا عنده ولا يحرم ما يكون بعدها وعندهما هو ما يكون فى الحولين ولا يحرم ما يكون بعد الحولين وهو مذهب الشافعى ايضا ثم ان اتمام الحولين غير مشروط عند ابى حنيفة للآية اى لان فى قوله تعالى { لمن اراد ان يتم الرضاعة } دلالة على جواز النقص ولو اردات التكميل لها مطالبة النققة واذا نقصت من غير اضرار لا تجبر على الكمال يعنى اذا فطم قبل مضى العدة واستغنى بالطعام لم تكن رضاعا وان لم يستغن يثبت به الحرمة وهو رواية عن ابى حنيفة وعليه الفتوى ذكره الزيلعى ثم انه تعالى كما وصى الام برعاية جانب الطفل فى قوله والولدات الخ وصى الاب برعاية جانب الام حتى تتقوى على رعاية مصلحة الطفل فامره بان يرزقها ويكسوها بالمعروف سواء كان ذلك المعروف محدودا بشرط وعقد ام لا وقد يكون غير محدود الا من جهة العرف لانه اذا قام بما يكفيها من طعامها وكسوتها فقد استغنى عن تقدير الاجرة فقال { وعلى المولود له } اى وعلى الذى يولد له وهو الوالد وانما لم يقل على الوالد ليعلم ان الاولاد للآباء لان الزوجة انما تلد الولد للزوج ولذلك ينسبون اليهم لا الى الامهات روى ان المأمون بن الرشيد لما طلب الخلافة عابه حشام ابن على فقال بلغنى انك تريد الخلافة وكيف تصلح لها وانت ابن امة فقال كان اسماعيل عليه السلام ابن امة .

(2/1)

واسحق ابن حرة فاخرج الله من صلب اسماعيل خير ولد آدم صلى الله عليه وسلم وانشد

لا تزرين بفتى من ان يكون له ... ام من الروم او سوداء دعجاء

فانما امهات الناس اوعية ... مستودعات وللابناء آباء

مكن زنهاراصل عودجوبست ... به بيه دودش جو مستثنى وخوبست

{ رزقهن وكسوتهن } اى رزق الامهات اذا ارضعن اولادهم ولباسهن وكذا اجر الرضاع للاظئار لانهن يحتجن الى ما يقمن به ابدانهن لان الولد انما يغتذى باللبن وانما يحصل لها ذلك بالاغتذاء وتحتاج هى الى التستر فكان هذا من الحوائج الضرورية { بالمعروف } حسبما يراه الحاكم ويفى به وسعه

فان قيل اذا كانت الزوجية باقية فهى مستحقة للنفقة والكسوة بسبب النكاح سواء ارضعت الولد أو لم ترضعه فما وجه تعلق هذا الاستحقاق بالارضاع

قلنا النفقة والكسوة تجبان فى مقابلة التمكين فاذا اشتغلت بالحضانة والارضاع لم تتفرغ لخدمة الزوج فربما يتوهم متوهم ان نفقتها وكسوتها تسقطان بالخلل الواقع فى خدمة الزوج فقطع الله ذلك الوهم بايجاب الرزق والكسوة وان اشتغلب المرأة بالارضاع هذا ما قال الواحدى فى البسيط { لا تكلف نفس الا وسعها } التكليف الالزام ومعنى تكلف الامر اظهار اثره وقوله وسعها مفعول ثان لان كلف يتعدى الى اثنين كأنه قيل لم لم تجب مؤونة الامهات على انفسهن ولم قيدت تلك المؤون بكونها بالمعروف فاجيب بانهن غير قادرات على الكسب لضعف بنيتهن واحتباسهن لمنفعة الازواج فلو اوجب مؤنهن على انفسهن لزم تكليف العاجز وكذا لو اوجب تلك المؤن على الازواج على خلاف المعروف { لا تضار والدة بولدها } نهى اصله لا تضارر بكسر الرآء الاولى فتكون المرأة هى الفاعلة او بفتح الراء الاولى فتكون المرأة هى المفعول بها الضرار وعلى الاول يكون المعنى لا تفعل المرأة الضرار بالاب بولدها اى بسبب ايصال الضرر الى الولد وذلك بان تمتنع المرأة من ارضاعه مع ان الاب يوسع عليها فى النفقة والكسوة فتلقى الولد عليه { ولا مولود له بولده } اى لا يفعل الاب الضرار بالام بان ينزع الولد منها مع رغبتها فى امساكه وشدة محبتها له وعلى الوجه الثانى لا يفعل الاب الضرار بالام بان ينزع الولد منها ولا مولود له بولده اى ولا تفعل الام الضرار بالاب بان تلقى الولد عليه والمعنيان يرجعان الى شىء واحد وهو ان يغيظ احدهما صاحبه بسبب الولد واضافة الولد الى كل منهما لاستعطافهما اليه لانه ليس باجنبى من كل واحد منهما فالحق ان يشفق عليه كل منهما وللتنبيه على انه جدير بان يتفقا على استصلاحه ولا ينبغى ان يضرا به او يتضارا بسببه { وعلى الوارث } وهو الذى لو مات الصبى ورثه اى وارث الصبى عند عدم الاب ممن كان ذا رحم محرم منه بحيث لا يجوز النكاح على تقدير ان يكون احدهما ذكرا والآخر انثى لا كل وارث سوآء كان ذا رحم محرم منه او لم يكن وسوآء كان من الرجال او النساء { مثل ذلك } اى مثل ما وجب على الاب من الرزق والكسوة واجر الرضاع ونفقة المحارم تجب عندنا بهذه الآية { فان ارادا } اى الولدان { فصالا } وهو الفطام سمى فصالا لانه انما يكون بفصل الطفل عن الاغتذاء بلبن امه الى غيره من الاقوات اى فطاما للصغير عن الرضاع قبل تمام الحولين صادرا { عن تراض منهما } اى من الوالدين لا من احدهما فقط لاحتمال اقدامه على ما يضر بالولد بان تمل المرأة الارضاع ويبخل الاب باعطاء الاجرة وربما يضر الفطام بجمسه بقطع غذائه قبل وقت فصاله { وتشاور } فى شأن الولد وتفحص عن احواله واجماع منهما على استحقاقه للفطام .

(2/2)

والتشاور من المشورة وهى استخراج الرأى من المستشار وانما اعتبر اتفاق الوالدين لما فى الاب من الولاية وفى الام من الشفقة وهى اعلم بحال الصبى { فلا جناح عليهما } فى ذلك ولا حرج لما ان تراضيهما انما يكون بعد استقرار رأيهما واجتهادهما فى ان صلاح الولد فى الفطام وقلما يتفقان على الخطأ فالحاصل سواء زادا على الحولين الى ثلاثين شهرا او نقصا فلا جناح عليهما فى ذلك بعد استقرار رأيهما الى ما هو خير للصبى { وان اردتم } ايها الآباء { ان تسترضعوا } المراضع { اولادكم } فالمفعول الاول محذوف واسترضع يتعدى الى اثنين بنفسه يقال رضع الولد امه وارضعت المرأة ولدها واسترضعتها الولد وقيل يتعدى الى الثانى بحرف الجر والتقدير لاولادكم اى اذا طلبتم ان تأخذوا ظئر الارضاع اولادكم { فلا جناح عليكم } اى لا اثم عليكم فى الاسترضاع . وفيه دلالة على ان للاب ان يسترضع الولد ويمنع الام من الارضاع { اذا سلمتم } اى الى المراضع { ما آتيتم } اى ما اردتم ايتاءه كما فى قوله تعالى

(2/3)

{ فاذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } { بالمعروف } متعلق بسلمتم اى بالوجه المتعارف المستحسن شرعا وليس التسليم بشرط للصحة والجواز بل هو ندب الى ما هو الاليق والاولى فان المراضع اذا اعطين ما قدر لهن ناجزا يدا بيد كان ذلك ادخل فى اصلاح شؤون الاطفال . وقيل المراد من المعروف ان يكون الاجر من الحلان لان المرضع اذا اكلت الحلال كان اللبن انفع للصبى واقرب الى صلاحه قالوا العادة جارية ان من ارتضع امرأة فالغالب عليه اخلاقها من خير وشر ولذا قيل انه ترضعه امرأة صالحة كريمة الاصل فان لبن المرأة الحمقاء يسرى واثر حمقها يظهر يوما ما وفى الحديث « الرضاع يغير الطباع » ومن ثمه لما دخل الشيخ ابن محمد الجوينى بيته ووجد ابنه الامام ابا المعالى يرتضع ثدى غير امه اختطفه منها ثم نكس رأسه ومسح بطنه وادخل اصبعه فى فيه ولم يزل يفعل ذلك حتى خرج ذلك اللبن قائلا يسهل على موته ولا تفسد طباعه بشرب لبن غير امه ثم لما كبر الامام كان اذا حصلت له كبوة فى المناظرة يقول هذه من بقايا تلك الرضعة { واتقوا الله } فى شأن مراعاة الاحكام المذكورة فى امر الاطفال والمراضع { واعلموا ان الله بما تعملون بصير } فيجازيكم بذلك . وفيه من الوعيد والتهديد ما لا يخفى : قال الحسين الكاشى

كر برهنه بره برون آيى ... زود در تهمت جنون آيى

جامه ظاهرى كه نيست ببر ... توفضيحت شوى ميان بشر

فكر آن كن كه بى لباس ورع ... جه كنى در مقام هول وفزع

خويشتن در لباس تقوى دار ... تاشوى دردوكون بر خوردار

والآية مشتملة على تمهيد قواعد الصحبة وتعظيم محاسن الاخلاق فى احكام العشرة بل انها اشتملت على شيوع الرحمة والشفقة على البرية فان من لا يرحم لا يرحم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لمن ذكر انه لمن يقبل اولاده « ان الله لا ينزع الرحمة الا من قلب شقى » وفى الحديث « اربع نفقات لا يحسب العبد بهن يوم القيامة نفقة على ابويه ونفقة على افطاره ونفقة على سحوره ونفقة على عياله » واللطف والمرحمة ممدوح جدا عموما وخصوصا وفى الحديث « ان امرأة بغيا رأت كبا فى يوم حار يطيف ببئر قد ادلع لسانه من العطش فنزعت له فغفر لها » قال البخارى فنزعت خفها فاوثقته اى احكمته بخمارها فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك والحديث يدل على غفران الكبيرة من غير توبة وهو مذهب اهل السنة وعلى ان من اطعم محتاجا الى الغذاء يستحق المثوبة والجزاء . فعلى العاقل العمل بالكتاب والسنة

(2/4)

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)

{ والذين يتوفون منكم } اى يموتون ويقبض ارواحهم بالموت . وقرىء بفتح الياء اى يستوفون آجالهم واعمارهم . واصل التوفى اخذ الشىء وافيا كاملا يقال توفى الشىء واستوفاء فمن مات فقد اخذ عمره وافيا كاملا واستوفاه { ويذرون ازواجا } اى يتركون نساء من بعدهم وهو جمع زوج والمنكوحة تسمى زوجا وزوجة والتذكير اغلب قال تعالى { اسكن انت وزوجك الجنة } ويجمع ازواجا على لغة التذكير وزوجات على لغة التأنيث { يتربصن بانفسهن } الباء للتعدية اى يجعلنها متربصة منتظرة بعد موتهم لئلا يبقى المبتدأ بلا عائد { اربعة اشهر وعشرا } اى فى تلك المدة فلا يتزوجن الى انقضاء العدة قوله عشرا اى عشرة ايام وتأنيث العشر باعتبار الليالى لان التاريخ عند العرب بالليلة بناء على انها اول الشهر واليوم تبع لها ولعل الحكمة فى تقدير عدة الوفاة باربعة اشهر وعشر ان الجنين اذا كان ذكرا يتحرك غالبا لثلاثة اشهر وان كان انثى يتحرك لاربعة فاعتبر اقصى الاجلين وزيد عليه العشر استظهارا اى استعانة بتلك الزيادة على العلم بفراغ الرحم اذ ربما تضعف الحركة فى المبادى فلا يحس بها وكانت عدة الوفاة فى اول الاسلام سنة فنسخت بهذه الا الحوامل فان عدتها بوضع الحمل قال تعالى { واولات الاحمال اجلهن ان يضعن حملهن } والا الاماء فان عدة المتوفى عنها زوجها اذا كانت امة شهران وخمسة ايام نصف عدة الحرة باجماع السلف وقوله تعالى { والذين يتوفون منكم } خطاب مع المؤمنين فدل على ان الخطاب بهذه الفروع مختص بالمؤمنين فقط فلا وجه لايجاب العدة المذكورة على الكتابية { فاذ بلغن اجلهن } اى انقضت عدتهن { فلا جناح عليكم } الخطاب للحكام وصلحاء المسلمين لانهن ان تزوجن فى مدة العدة وجب على كل واحد منعهن عن ذلك ان قدر عليه وان عجز وجب عليه ان يستعين بالسلطان { فيما فعلن فى انفسهن } من التزين والتعرض للخطاب وسائر ما حرم على المعتدة { بالمعروف } حال من فاعل فعلن اى فعلن ملتبسات بالوجه الذى لا ينكره الشرع { والله بما تعملون خبير } فيجازيكم عليه فلا تعملون خلاف ما امرتم به

هركه عاصى شود بامر خدا ... بيخ اورابكند قهر خدا

واعلم ان المراد بالتربص هنا الامتناع عن النكاح والامتناع عن الخروج من المنزل الذى توفى عنها زوجها فيه والامتناع عن التزين وهذا اللفظ كالمجمل لانه ليس فيه بيان انها تتربص فى أى شىء الا انا نقول الامتناع عن النكاح مجمع عليه واما الامتناع عن الخروج من المنزل فواجب الا عند الضرورة والحاجة واما ترك التزين فهو واجب لما روى عن عائشة وحفصة رضى الله عنهما ان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال « لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ان تحد على ميت فوق ثلاث ليال الا على زوجها اربعة اشهر وعشرا »

(2/5)

وانما وجب الحداد لانه لما حرم عليها النكاح فى العدة امرت بتجنب الزينة حتى لا تكون بصفة الملتمسة للازواج ولاظهار التأسف على فوت نعمة النكاح الذى كان سبب مؤونتها وكفايتها من النفقة والسكنى وغير ذلك . والحداد على الميت ثلاثة ايام وتمس المرأة الطيب فى الثالث لئلا يزيد الحداد على ثلاثة ايام فانها لو مسته فى الرابع لازداد الحداد من اليوم الرابع . وهو حرام ومن السنة ان يتوقى رسوم الجاهلية من شق الجيوب وضرب الخدود وحلق الشعر كما كان عادة العرب وكذا قطعه كما كان عادة العجم وكذا رفع الصوت بالبكاء والنوح وقد برىء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ممن يفعل شيأ من ذلك لانها عادات الجاهلية واكثر اهالى هذا الزمان فى اكثر البلدان مبتلون بامثال هذه العادات لا سيما النساء فانهن يلبسن الالبسة السود الى ان تمضى ايام بل شهور كثيرة وربما ترى رجلا لا يلبس لباس الجمع والاعياد فلو سئل فيه لاجاب بقوله مات ابى او امى او غيرهما وذلك بعد ما مضى من زمان الوفاة شهور . وكذا الرافضة قد تغالت فى الحزن لمصيبة الحسين رضى الله عنه واحدت عليها حيث اتخذوا يوم عاشوراء مأتما لقتله رضى الله عنه فيقيمون فى مثل هذا اليوم العزاء ويطيلون النوح والبكاء ويظهرون الحزن والكآبة ويفعلون فعل غير اهل الاصابة ويتعدون الى سب بعض الصحابة وهذا عمل اهل الضلال المستوجبين من الله الخزى والنكال كأنهم لم يسمعوا ما ورد فى النهى عن الحداد ومن الله الرشاد

والاشارة فى الآية ان موت المسلم لم يكن فراقا اختياريا للزوج فكانت مدة وفاته اطول فكذا العبد الطالب فان حال الموت بينه وبين مطلوبه من غير اختياره فالوفاء بحصول مطلوبه فى مدة كرم محبوبه كما قال تعالى { ومن يخرج من بيته مهاجرا الى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع اجره على الله } ففى هذا تسلية قلوب المؤمنين لئلا يقطع عليهم طريق الطلب وساوس الشيطان وهو رجس النفس بان طلب الحق امر عظيم وشأن خطير وانت ضعيف والعمر قصير فان منادى الكرم من سرادقات الفضل ينادى ألا من طلبنى وجدنى فان الطلاب فى طلبى كذا فى التأويلات النجمية قدس الله تعالى نفسه الزاكية القدسية المرضية

(2/6)

وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

{ ولا جناح عليكم } علم الله تعالى ان المرأة اذا مات زوجها قد يكون لها مال او جمال او معنى يرغب الناس فيها فاطلق للراغب ان يعرض بالخطبة فى العدة فقال تعالى ولا جناح عليكم { فيما عرضتم به } التعريض افهام المعنى الشىء المحتمل له ولغيره { من خطبة النساء } الخطبة بالكسر التماس النكاح وبالضم الكلام المشتمل على الوعظ والزجر من الخطاب الذى هو الكلام يقال خطب المرأة اى خاطبها فى امر النكاح وبالضم الكلام المشتمل على الوعظ والزجر من الخطاب الذى هو الكلام يقال خطب المرأة اى خاطبها فى امر النكاح والمراد بالنساء المعتدات للوفاة واما النساء اللاتى لا تكون منكوحة الغير ولا معتدته من طلاق رجعى فان خطبهن جائزة تصريحا وتعريضا الا ان يخطبها رجل فيجاب بالرضى صريحا فههنا لا يجوز لغيره ان يخطبها لقوله عليه السلام « لا يخطبن احدكم على خطبة اخيه » وان اجيب بالرد صريحا فههنا يحل لغيره ان يخطبها وان لم يوجد صريح الاجابة ولا صريح الرد ففيه خلاف والتى هى معتدة عن الطلاق الثلاث والبائن باللعان والرضاع ففى جواز التعريض بخطبتها خلاف واما البائن التى يحل لزوجها نكاحها فى عدتها كالمختلعة والتى انفسخ نكاحها بعيب او عنة او اعسار نفقة فههنا يجوز لزوجها التعريض والتصريح واما غير الزوج فلا يحل له التصريح والتعريض لانها معتدة يحل للزوج ان يستبيحها فى عدتها لا يحل له التعريض بخطبتها كالرجعية ثم التعريض بالخطبة ان يقول لها فى العدة انك لجميلة صالحة ومن غرضى ان اتزوج او اشتهى امرأة مثلك او انا محتاج الى امرأة صفتها كذا أو يقول انى حسن الخلق كثير الانفاق جميل العشرة محسن الى النساء فيصف نفسه ليرغب فيه او يقول رب راغب فيك وحريص عليك ونحو ذلك مما يوهم انه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه ان رغبت فيه ولا يصرح بالنكاح بان يقول انى اريد ان انكحك او اتزوجك او اخطبك او غير ذلك فانه كما لا يجوز ان ينكحها فى عدتها لا يجوز له ان يخطبها صريحا فيها { او اكننتم فى انفسكم } مفعول اكننتم محذوف وهو الضمير الراجع الى ما الموصولة فى قوله فيما عرضتم اى او اكننتموه فى انفسكم اى اضمرتم فى قلوبكم مننكاحهن فلم تذكروه صريحا ولا تعريضا . الآية الاولى لاباحة التعريض فى الحال وتحريم التصريح فى الحال وهذه الآية اباحة لان يعقد قلبه على انه سيصرح بذلك بعد انقضاء زمان العدة ثم انه تعالى ذكر الوجه الذى لاجله اباح ذلك فقال { علم الله انكم ستذكرونهن } لا محالة ولا تنفكون عن النطق برغبتكم فيهن فالمقصود بيان وجه اباحة الخطبة بطريق التعريض { ولكن لا تواعدوهن سرا } نصب على انه مفعول ثان لتواعدوهن وهو استدراك عن محذوف دل عليه ستذكرونهن اى فاذكروهن واظهروا لهن رغبتكم ولكن لا تواعدوهن نكاحا بل اكتفوا بما رخص لكم من التعريض والتعبير عن النكاح بالسر لان مسببه الذى هو الوطئ مما يسر به { الا ان تقولوا قولا معروفا } استثناء مفرغ مما يدل عليه النهى اى لا تواعدوهن مواعدة ما الا مواعدة غير منكرة شرعا وهى ما تكون بطريق التعريض والتلويح { ولا تعزموا } العزم عبارة عن عقد القلب على فعل من الافعال يتعدى بنفسه وبعلى

قال الراغب ودواعى الانسان الى الفعل على مراتب السانح ثم الخاطر ثم التفكر فيه ثم الارادة ثم الهمة ثم العزم فالهمة اجماع من النفس على الامر والعزم هو العقد على امضائه { عقدة النكاح } اى لا تعزموا عقد عقدة النكاح لان العزم عبارة عن عقد القلب على فعل فلا يتعلق الا بالفعل والاضافة فى قوله عقدة النكاح بيانية فلا تكون العقدة بمعنى ربط المكلف اجراء التصرف بل المراد به الحاصل بالمصدر وهو الارتباط الشرعى الحاصل بعقد العاقدين والمقصود النهى عن تزوج المعتدة فى زمان عدتها الا انه نهى عن العزم على عقد النكاح للمبالغة فى النهى عن النكاح فى زمان العدة فان العزم على الشىء متقدم عليه والنهى عن مقدمات الشىء يستلزم النهى عن ذلك الشىء بطريق الاولى { حتى يبلغ الكتاب اجله } الكتاب بمعنى المكتوب وهو المفروض والمعنى حتى تبلغ العدة المفروضة آخرها { واعلموا ان الله يعلم ما فى انفسكم } من العزم على ما لا يجوز { فاحذروه } بالاجتناب عن العزم ابتداء واقلاعا عنه بعد تحققه { واعلموا ان الله غفور } لمن عزم ولم يفعل خشية من الله تعالى { حليم } لا يعاجلكم بالعقوبة فلا تستدلوا بتأخيرها على ان ما نهيتم عنه من العزم ليس مما يستتبع المؤاخذة فاجتنبوا اسباب العقوبة واعملوا بما أمركم به ربكم واغتنموا زمان الحياة حتى لا تتأسفوا كما قال المفرطون المتحسرون

(2/7)

جون توانستم ندانستم جه سود ... جون بدانستم توانستم نبود

وقد وبخ الله تعالى من مال الى شهواته وهوى نفسه فى هذه الآيات من غير ان يكون له رخصة شرعية فلا بد للعاقل ان يختار رضى الله تعالى على رضى نفسه ولا يكون له مطلب اعلى من مال او امرأة او غيرهما الا الله تعالى قال عليه الصلاة والسلام « من كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها او امرأة يتزوجها فهجرته الى ما هاجر اليه » فتأمل كيف جعل جزاء كل مؤمّل ما امله وثواب كل قاصد ما قصده واعتبر كيف لم يكرر ذكر الدنيا اشعارا بعدم اعتبارها لخساستها ولان وجودها لعب ولهو فكأنه كلا وجود وانظر الى قوله عليه السلام

(2/8)

« فهجرته الى ما هاجر اليه » وما تضمن من ابعاد ما سواه تعالى وتدبر هذا الامر اذ ذكر الدنيا والمرأة مع انها منها يشعر بان المراد كل شىء فى الدنيا من شهوة او مال وان المراد بالحديث الخروج عن الدنيا بل وعن كل شىء لله

قال ابو سليمان الدارانى قدس سره ثلاث من طلبهن فقد ركن الى الدنيا طلب معاش او تزوج امرأة او كتب الحديث

واعلم انه ينبغى لطالب الحق ان يحصل من العلوم الشرعية ما يفرق به بين الحق والباطل ويشتغل بالعلوم الرسمية والقوانين المتداولة قدر ما يقدر على استخراج الحديث والتفسير من غير تعمق فى الفلسفيات وغوامض العلوم فانه زائد على قدر الكفاية منهى عنه على اصول اهل الشريعة والطريقة فهذا اول الامر فى هذا الباب . واما امر النهاية وهو ما بعد التحصيل والتكميل فان السالك بقدر اشتغاله بالعلوم الظاهرة زاد بعدا عن درك الحق لان السلوك يبتنى على التخلى والانقطاع وترك الكلام والاستماع وتفريغ الباطن من العلائق ولو كانت علوما وطرح المشاغل الخارجية والداخلية من البين خصوصا وعموما فقول بعضهم بنفى الاشتغال لاهل السلوك يبتنى على هذا المعنى لا على الترك من الاصل كما يزعمه جهلة الصوفية نعوذ بالله من هذا فان العلم مطلقا هو النور وبه يهتدى السالك الى مسالكه . واما ارباب النهاية من اهل السلوك فلا يمكن حصر احوالهم فانهم لا يحتجبون لا بالكثرة عن الوحدة ولا بعكسها اذ هم تجاوزوا عن مقام الاغيار بل شاهدوا أينما قلبوا الاحداق الانوار بل حققوا بالحقيقة فلا اغيار عندهم لا حقيقة ولا اعتبار ولذا حبب الى النبى عليه السلام النساء وذلك لان محبته عليه السلام ليست كما يعرفها الناس بل سرها مستور لا يطلع عليه الا من فاز بالوراثة الكبرى

يقول الفقير جامع هذه المجالس النفيسة انما بسطت الكلام فى هذا المقام لئلا يظن احد ان قوله فيما سبق او كتب من خرافات الصوفية بل له محمل على ما اشرت اليه ومن لم يسلك هذا الطريق لم يعرف قدر خطوات اهل التحقيق والتدقيق

(2/9)

Advertisement